الجمعة، 15 فبراير 2013

آية قرآنية تجمع أسس بناء الدولة بقلم دكتور أحمد كلحى

آية قرآنية تجمع أسس بناء الدولة


يقول تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) هذه الآية الكريمة فى سورة الأنبياء آية رقم 7
معانى الذكر هنا تتمحور حول
ذكر اللَّه : حمده ...
وأثنى عليه ، سبحه ، مجده .
ذكر اسمه : جرى على لسانه ، انطلق به . ( يَذْكُرُ اسْمَ اللهِ )
ذكر الدرس : حفظه في ذهنه ، ذكر النعمة : شكرها .
ذكر الأمر : فطن له ، ذكر الأمر ذكرا وذكرى وتذكارا : اِستحضره في ذهنه بعد مرور وقت على حدوثه ، ذَكر حق جاره : حفظه ولم يضيعه ، ذكر له واقعة من أيّام طفولته : استحضرها وقالها له ، يذكره بِالخير : يتكَلم عنه خيرا .
عمل يُذْكَر : خليق بأَن يتحدث عنه ويشار إِليه ، عمل لا يُذْكَر : لا شأن له ، لا يلتفت إليه ، ذكر الشيء له : أعلمه به .
الذكر : هو القرآن كما فى قوله تعالى ( إِنًا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) هذا لأن القرآن الكريم فوق أنه عبادة يتم بها الذكر فانه أيضا كتاب جامع لكل تخصص ولكل علم ولكل فن وكيف لا وهو المعجزة الخالدة
والفعل ( اسألوا ) للأمر ، وصيغة الجمع تدل على سريان الحكم على الجميع بلا استثناء
تتحدث الآية عن وجوب المعرفة وضرورة العلم والتعلم ورسم معالم أسس الدولة فى البناء والنهضة ، فالفعل اسألوا جاء بصيغة الأمر ووجوبه متعلق بعدم المعرفة وأيضا بمستوى المعرفة بمعنى قد يوجد أمر له أكثر من وجه فيجب على المسلم التحرى فى معرفة أفضل الوجوه فى مسألة ما
تفتح الآية موضوعا فى غاية الأهمية يجهله أو يتجاهله الكثيرون
فاذا كانت الآية قد نزلت ردا على منكرى صفة البشرية على الأنبياء وحثهم آنذاك على سؤال أهل الذكر من أهل الكتاب من النصارى واليهود فلا يختلف أحد على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
سؤال فاقد العلم فى امر ما أو من يجب عليهم السؤال يعرفهم البعض بأنهم العامة او العوام الذين يجب عليهم بسؤال العلماء ووجوب تقليدهم
 لانهم لا يملكون أدوات المعرفة من النصوص وأدلة الاستنباط وعدم مقدرتهم على تبيان أمر ما من التحليل ولتحريم
هذا بالطبع تحليل ينقصه الدقة ، لأننا ان حللنا الآية وشرحناها بعموم لفظها الذى يقرره علماء أصول الفقه نجد أن الآية فى عدم المعرفة ووجوب السؤال من أهل الإختصاص تشمل العلماء كما تشمل عوام الناس
لنسمع ما قاله ابن عطية عن الآية
 ( وأهل الذكر عام في كل من يعزى إليه علم. فأهل الذكر هم أهل الاختصاص في كل فن )
فلا يوجد انسان يلم بجميع العلوم والفنون فكل عالم هو جاهل بعلم غيره وعليه يجب السؤال عما غاب عنه 
 بل إننا نجد أن فى العلم الواحد من العلوم هناك تخصصات
 ففى العلوم الشرعية هناك علم الفقه واصوله وهناك علم الحديث وعلوم اللغة وعلوم القرآن وهكذا
 وحتى فى العلوم الشرعية فهى تحتاج فى فتاوها المعاصرة إلى السؤال فى تخصصات كالطب وغيره من العلوم 
 اذا فكل انسان هو من العوام فى غير اختصاصه
بل إننا نلمس الاعجاز القرآنى فى كلمة ( لا تعلمون ) ولم يقل تعالى ان كنتم جاهلون او تجهلون ، لان علمك بالشئ له درجات وتقييمك لشئ له مستويات ، فمثلا قد يكون هناك راى تقييمه جيد لكن احتياجك للرأى فى مستواه الامتيازى امر لازم لذلك شرع الله الشورى وامر بها وحث على الحوار وبنى أسسه 
 بل ان تقدم العلوم يعتمد اعتمادا لا شك فيه على الاراء المختلفة والنظريات فايهما يتقدم فى بيان الامر يجب الاخذ به
وفى المجال السياسى والحكم الرشيد لم يقف القرآن فى رسم معالم العلاقة بين الحاكم ورعيته موقف الحث على استماع رأى المواطن والرعية بشكل عام بل نجد الآية تتعدى ذلك إلى وجوب أن يطلب الحاكم معرفة الراى من اهل الاختصاص فى كل مجال ، فيذهب الحاكم طالبا بنفسه المشورة والا اصبح آثما لأنه يضيع على الأمة فائدة الراى السليم من اهل الذكر والاختصاص
لذلك لم يمنع النبى علمه وفقهه وعظمته وهو المشرع المنزل عليه القرآن من أن يأخذ برأى الحباب بن المنذر فى غزوة بدر بل لم يمنعه ذلك من ان يطلب من صحابته المشورة قبل الخروج فيقول حبيبنا النبى ( أشيروا على ايها الناس ) ولاحظوا كلمة الناس
فانه صلى الله عليه وسلم لم يقل ( المسلمين ) بل قال ( ايها الناس ) وكأنها اشارة نبوية الى ضرورة استعانة الحاكم باراء رعيته من اهل الاختصاص حتى وان كانوا على غير الدين ولذلك استعان نبينا بمشرك اثناء الهجرة لا لشئ سوى لأنه من اهل الاختصاص
انها عظمة ديننا الذى كون امة سادت مشارق الأرض ومغاربها حينما فقهوا دينهم ، هذا الدين وهذا التشريع الذى رسم لأوروبا اسس بناء دولهم فاسسوها على الحر ية والديموقراطية واحترام الرأى والراى الاخر واستخدام اليات الحوار والاستعانة بمجالس استشارية للحكم وفتح ارضية للحوار والتى هى اصلا قواعد اسلامنا التى صدرناها للاخرين ولم نطبقها على اراضينا
الآية تحدثنا أولا عن دور العلم والبحث عنه ولا تبنى الأمم على الجهل
والآية تحثنا على نبذ أعداء التعلم والعلم كالحياء والكبر ( فاسألوا ) 
والسؤال هنا جاء بصيغة الأمر وبصيغة الجمع لتعم وتشمل الجميع
توضح لنا الآية من الناحية السياسية أعلى درجات الحوار المجتمعى والديموقراطية والشورى ، اذ أن الآية لم تكتف باستماع الحاكم لآراء معارضيه واراء شعبه بل أنها تعدتها لتجبر الحاكم أن يذهب هو طالبا النصح والسؤال 
تبين لنا الآية أن للعلم درجات وللآراء وجهات نظر مختلفة ويكأنها أطر يجب أن يركن إليها ويعتمد عليها الباحثون والفلاسفة والسياسيون على حد سواء
توضح لنا الآية الكريمة أن اسلامنا يعتمد فى استنباط احكامه الفقهية والتى هى منبر العيش فى المجتمع الإسلامى فانها تعتمد أيضا على المذاهب الفقهية وضرورة احترام الرأى الفقهى الاخر فكلنا من العوام فيما لم تصله عقولنا فيه الى درجة التميز والإبداع
وأخيرا تبين الآية الكريمة المساواة وحرية الرأى والفكر فكلنا يحتاج إلى السؤال وكلنا لا نملك الحقيقة المطلقة وكلنا على درجة واحدة وهى اننا من العوام فيما نجهله بل فيما لا نبدع فيه حتى وان كنا على درجة معينة ومستوى معين من العلم وكلنا فيما لا نعلم تحت مظلة الجهل به حتى نسأل ونتعلم
اذا فالآية تشمل أهمية العلم وضرورة التعلم وبيان أسس بناء الدولة من الحرية والمساواة والتعددية والشورى والعدل والعلم فماذا تحتاج الدول بعد ذلك ؟
انها عظمة التشريع الاسلامى التى يغفل عنها البعض إما جهلا أو تجاهلا

بقلم /  د أحمد كلحى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ