الأحد، 30 ديسمبر 2012

موسوعة إعراب القرآن الكريم : اللغة العربية والتفسير

اللغة العربية والتفسير


إنّ القرآن الكريم نزل باللغة العربية ( 1 ) ، قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرين * بِلسان عَربىّ مُبِين ) ومعرفة اللغة العربية فرع معرفة علم النحو والاشتقاق والصرف.
فبعلم النحو يميز الفاعل عن المفعول ، والمفعول عن التمييز ، إلى غير ذلك من القواعد التي يتوقف عليها فهم معرفة اللغة.
وأمّا الاشتقاق فهو الذي يُبين لنا مادة الكلمة وأصلها حتى نرجع في تبيين معناها إلى جذورها ، وهذا أمر مهم زلّت فيه أقدام كثير من الباحثين ، وهذا هو المستشرق « فوجل » مؤلف « نجوم الفرقان في أطراف القرآن » الذي جعله كالمعجم لألفاظ القرآن الكريم وطبع لأوّل مرة عام ١٨٤٢ م ، فقد التبس عليه جذور الكلمات في موارد كثيرة ، ذكر فهرسها محمد فؤاد عبد الباقي مؤلف « المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم » في أوّل معجمه.
حيث زعم انّ قوله : « وقرن » في قوله سبحانه مخاطباً لنساء النبيّ : ( وَقرن في بُيوتِكُنَّ ) مأخوذ من قَرَن مع أنّه مأخوذ من « قرَّ » فأين القَرْن من القرّ والاستقرار؟! كما زعم انّ المرضى في قوله سبحانه : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ) مأخوذ من رضي مع أنّه مأخوذ من مرض فأين الرضا من المرض؟! و قس على ذلك غيره.
وأمّا علم الصرف فبه يعرف الماضي عن المضارع وكلاهماعن الأمر والنهي إلى غير ذلك ، وما ذكرنا من الشرط ليس تفسيراً لخصوص القرآن الكريم بل هو شرط لتفسير كلّ أثر عربي وصل إلينا
معاني المفردات
إنّ الجملة تتركّب من مفردات عديدة يحصل من اجتماعها جملة مفيدة للمخاطب ، فالعلم بالمفردات شرط لازم للتفسير ، فلولا العلم بمعنى « الصعيد » كيف يمكن أن يُفسر قوله سبحانه : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً )
وقد قام ثلّة من الباحثين بتفسير مفردات القرآن ، و في طليعتهم أبو القاسم حسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهاني ( المتوفّى عام ٥٠٢ هـ ) فألّف كتابه المعروف ب‍ « المفردات » و هو كتاب قيّم ، وأعقبه في التأليف مجد الدين أبو السعادات مبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير ( ٥٤٤ ـ ٦٠٦ هـ ) فألّف كتابه « النهاية في غريب الحديث والأثر » وهو و إن كان يفسر غريب الحديث لكن ربما يستفيد منه المفسر في بعض المواد.
نعم ما ألّفه المحقّق فخر الدين بن محمد بن علي الطريحي ( المتوفّى عام ١٠٨٥ هـ ) باسم « مجمع البحرين ومطلع النيرين » يعمّ غريب القرآن والحديث معاً ، و هذا لا يعني عدم الحاجة إلى الرجوع إلى سائر المعاجم ، كالصحاح للجوهري ( المتوفّى ٣٩٣ هـ ) ، ولسان العرب لابن منظور الافريقي ( المتوفّى عام ٧٠٧ هـ ) ، والقاموس للفيروز آبادي ( المتوفّى عام ٨٣٤ هـ ).
وفي المقام أمر مهمّ ، وهو أن يهتمّ المفسِّر بأُصول المعاني التي يشتق منها معان أُخرى ، فانّ كلام العرب مشحون بالمجاز والكنايات ، فربما يستعمل اللفظ لمناسبة خاصة في معنى قريب من المعنى الأوّل فيبدو للمبتدئ انّ المعنى الثاني هو المعنى الأصلي للكلمة يفسر بها الآية مع أنّها معنى فرعيّ اشتق منه لمناسبة من المناسبات.
قال الشاطبي - رحمه الله -: "وعلى النَّاظرِ في الشريعةِ والمتكلم فيها أصولاً وفروعًا أمران؛ أحدهما: ألا يتكلَّمَ في شيء من ذلك حتى يكون عربيًّا أو كالعربي؛ في كونِه عارفًا باللِّسان العربي، بالغًا فيه مبلغ العرب؛ قال الشَّافعي - رحمه الله -: فمن جهل هذا من لسانها - وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة - فتكلَّفَ القول في علمِها، تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبتْ معرفتُه، كانت موافقته للصواب - إن وافقه - غيرَ محمودة، والله أعلم، وكان بخطئه غيرَ معذورٍ؛ إذ نطق فيما لا يحيطُ علمه بالفرقِ بين الخطأ والصواب فيها"  ( 2 )

وأبان عن هذه الأهميةِ أهلُ اللغة أنفسهم؛ يقول الزمخشري: "وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلومِ الإسلامية فقهها وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علمِ الإعراب" .

وما ذكره الزمخشري صحيحٌ؛ وذلك لتوقُّفِ معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتابِ والسنة، وأقوالِ أهلِ العقد والحل من الأمة على معرفة موضوعاتها لغة من جهة: الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحذف والإضمار، والمنطوق والمفهوم، والاقتضاء والإشارة، والتنبيه والإيماء، وغير ذلك مما لا يعرفُ في غيرِ علم العربية .

وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "أهلكتهم العجمةُ؛ يتأولونه على غيرِ تأويله" .

وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "لا بُدَّ في تفسيرِ القرآن والحديث من أن يُعرَف ما يدلُّ على مرادِ الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يُفهَم كلامُه؟ فمعرفةُ العربيةِ التي خُوطبنا بها ممَّا يُعين على أن نفقه مرادَ اللهِ ورسولِه بكلامِه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظِ على المعاني؛ فإنَّ عامَّة ضلالِ أهل البدع كان بهذا السبب، فإنَّهم صاروا يحملون كلامَ اللهِ ورسولِه على ما يَدَّعون أنَّه دالٌّ عليه، ولا يكون الأمر كذلك" .

وقال أبو حيان في معرضِ ثنائه على سيبويه - رحمه الله -: "فجدير لمن تاقت نفسُه إلى علمِ التفسير، وترقَّتْ إلى التحريرِ والتحبير، أن يعتكفَ على كتابِ سيبويه؛ فهو في هذا الفنِّ المعوَّل عليه، والمستند في حلِّ المشكلات إليه"

وقال الزركشي: "واعلم أنَّه ليس لغيرِ العالم بحقائقِ اللغة وموضوعاتها تفسير شيء من كلامِ الله، ولا يكفي في حقِّه تعلم اليسير منها؛ فقد يكونُ اللَّفظُ مشتركًا وهو يعلم أحدَ المعنيين والمراد المعنى الآخر" .

ولهذا السبب يقول مالك - رحمه الله -: "لا أُوتَى برجلٍ غير عالم بلغةِ العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً" ، ولهذا أيضًا نجد التفاسيرَ مشحونةً بالرِّواياتِ عن سيبويه والأخفش والكسائي والفراء وغيرهم، فالاستظهارُ لبعضِ معاني القرآن الكريم وأسرارِه نابعٌ من الاستعانةِ بأقاويلهم، والتشبث بأهدابِ فسْرهم وتأويلهم؛ كما قال الزمخشري في "المفصَّل" .

وروى أبو عبيد في فضائلِ القرآن عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "لأن أعرب آيةً أحب إليَّ من أن أحفظَ آية" ؛ وذلك لأنَّ فهمَ الإعراب يعينُ على فهمِ المعنى، والقرآن نزل للتدبرِ والعمل.

ومما يجب فهمه بالنسبة للمفسر لكتاب الله ما يلي:
1- معرفةُ أوجهِ اللغة؛ وهو أمرٌ ضروري في اختيارِ ما يناسب النص، وقَصْر المعنى على الوجهِ المراد، ومن ذلك على سبيل المثال قوله - تعالى -: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7]، فإنَّ لفظة: (الضلال) تقعُ على معانٍ كثيرة، فتوهَّم البَعْضُ أنَّه أراد بالضَّلالِ الذي هو ضد الهدى، وزعموا أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان على مذهبِ قومه أربعين سنة، وهذا خطأ فاحش؛ فقد طهَّرَه الله تعالى لنبوتِه، وارتضاه لرسالته، ومن سيرته  - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما يرد على مزاعمِهم؛ إذ سُمِّي في الجاهليةِ الأمين، وكانوا يرتضونه حكمًا لهم وعليهم، والله - سبحانه وتعالى - إنما أراد بالضَّلالِ الذي هو الغفلة، كما قال في مواضعَ أخرى: ﴿ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52]؛ أي: لا يغفل  - سبحانه وتعالى.

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هو ضلاله وهو في صغرِه في شعابِ مكة، ثم ردَّهُ الله إلى جدِّه عبد المطلب، وقيل: ضلاله من حليمةَ السعدية مرضعته، وقيل: ضلَّ في طريقِ الشَّامِ حين خرج به عمه أبو طالب" .

2- معرفة الصِّيغ وما تدل عليه من معنى؛ لئلا يؤدِّي ذلك إلى تفسيرِ القرآن الكريم بما لا يليق، أو فهم المعنى غير المراد؛ ومن ذلك على سبيل المثال: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وغير ذلك من الآياتِ التي ورد فيها نفي الظلم عن الله - سبحانه وتعالى - بصيغة (فعَّال)، ففي هذه الآيةِ وما أشبهها وردت لفظةُ (ظلاَّم) بصيغةِ المبالغة، ومعلومٌ أنَّ نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصلِه؛ مثال ذلك قولك: زيد ليس بنحَّارٍ للإبل، لا ينفي إلا مبالغته في النَّحر، ولا ينفي أنه ربما نَحَر بعضَ الإبل، ومعلوم أنَّ المرادَ بنفي المبالغة في الآياتِ هو نفي الظلم من أصلِه عن الله - سبحانه وتعالى.

وأُجيب عن ذلك بناءً على فهمِ اللغة العربية؛ وهو أنَّ المراد نفي نسبة الظلمِ إليه - سبحانه - لأنَّ صيغة (فعَّال) قد جاءت في اللغةِ العربية مرادًا بها النسبة فأغنت عن ياء النَّسب، ومثاله في لغةِ العرب قول امرئ القيس:
وَلَيْسَ بِذِي رُمْحٍ فَيَطْعُنَنِي بِهِ
وَلَيْسَ بِذِي سَيْفٍ وَلَيْسَ بِنَبَّالِ[64]

أي: ليس بذي نَبْلٍ، وعلى هذا أجمعَ المحقِّقون من المفسِّرين واللغويين

3- معرفةُ الأوجه الإعرابية: فمما يجبُ معرفتُه على المفسر معرفة أوجه الإعراب؛ لأنَّ المعنى يتغيرُ بتغير الإعراب، ويختلف باختلافِه، وعلى سبيلِ المثال لو أنَّ قارئًا قرأ: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4] برفع (كفو) ونصب (أحد) لكان قد أثبتَ كفوًا لله - تعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا - بل إنَّ الحركةَ لها دورٌ في المعنى ولو لم تكن إعرابًا، ويدلُّ على ذلك لزوم كسر الخاء في قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]، وكسر الواو في قوله - تعالى -: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]، فإنَّ فتحَها يؤدِّي إلى الكفر.

4- ومما يحتاجُه طالبُ علم التفسير المعرفة بلغات العرب؛ إذ من المعلومِ أنَّ لكلِّ قبيلة لغتها، وأفصح اللغاتِ لغة قريش، إلا أنَّ هناك بعضَ الكلمات في القرآن جاءت على غيرِ لغة قريش، فقد أشكل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معنى قوله - تعالى -: ﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ [النحل: 47]، فقام في المسجدِ فسأل عنها، فقامَ إليه رجلٌ من هذيل، فقال معناها: "على تنقصٍ"؛ أي: شيئًا فشيئًا، ودليلُه قولُ شاعرنا الهذلي يصفُ سرعةَ ناقتِه:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا
كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ [66]

أي: أخذ الرحل يحتكُّ بسنامِ النَّاقة من سرعتها، حتى كاد ينقص كما يبري البحَّار عود السفينة بالسِّكين لينقصَ

قال الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم» (إبراهيم، 14/4)..
وقال تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (الشعراء، 26/93-195)
اللغة العربية لها أهمية بالغة في فهم القرآن الكريم؛ لأنه نزل بلسان عربي مبين. وقد كثر  اليوم التطبيقات الخاطئة لقواعد اللغة العربية. والآية السابقة خير مثال على ذلك. حيث إن المفسرين قالوا في تفسيرها " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء (اضلاله) ويهدي من يشاء (هدايته) وهو العزيز الحكيم " أي: إن المشيئة من الله فقط ، ولا دخل للعباد في موضوع الهداية والضلالة. وهنا علينا أن نطرح سؤالا؛ وهو إذا كان الأمر هكذا، فلماذا  أرسل الله كل رسول بلسان قومه ليبين لهم، وما هو الفائدة في بيان الرسول لهم بلسانه؟ وهل يصح هذا الأمر التناقضي في كلام الله تعالى؟ وهو العزيز الحكيم ( 3 )
ومصدر التضاد ارجاع الضمير المستتر في «يشاء» إلى لفظ الجلالة، وهذا مخالف للقواعداللغوية. والصحيح أن الضمير المستتر في «يشاء يعود إلى «من» القريب. ولإعادة الضميرإلى البعيد لا بد من القرينة ولا يوجد هنا قرينة. فالتفسير الصحيح للآية: " وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء (الضلالة) ويهدي منيشاء (الهداية). أي أنّ العبد هو الذي يختار الهداية أو الضلالة. والله تعالى خلقالناس واعطى لهم حرية الاختيار، لذا يستحقون الثواب أو العذاب على ما يختارون. قال الله تعالى: «هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً . إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً . إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً. إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) المناهج التفسيرية فى علوم القرآن
( 2 ) أهمية اللغة العربية ومميزاتها صادق بن محمد الهادى
( 3 ) أهمية اللغة العربية فى تفسير القرآن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ