وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الصَّمد، ثنا زياد بن مسلم أبو عمر، ثنا أبو الأشعث الصنعانيّ قال: بعثنا يزيد بن معاوية إلى ابن الزُّبير فلمَّا قدمت المدينة دخلت على فلان نسي زياد اسمه، فقال: إنَّ النَّاس قد صنعوا ما صنعوا فما ترى ؟
قال: أوصاني خليلي أبو القاسم إن أدركت شيئاً من هذه الفتن فاعمد إلى أُحد فاكسر به حدَّ سيفك ثمَّ أقعد في بيتك فإن دخل عليك أحد البيت فقم إلى المخدع فإن دخل عليك المخدع فاجثو على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النَّار وذلك جزاء الظَّالمين، فقد كسرت سيفي وقعدت في بيتي.
هكذا وقع إيراد هذا الحديث في مسند محمد بن مسلمة عند الإمام أحمد ولكن وقع إبهام اسمه وليس هو لمحمد بن مسلمة بل صحابي آخر فإنَّ محمد بن مسلمة رضي الله عنه لا خلاف عند أهل التَّاريخ أنَّه توفي فيما بين الأربعين إلى الخمسين، فقيل: سنة اثنتين، وقيل ثلاث، وقيل سبع وأربعين، ولم يدرك أيَّام يزيد بن معاوية وعبد الله بن الزبير بلا خلاف فتعيَّن أنَّه صحابي آخر خبره كخبر محمد بن مسلمة. (ج/ص:6/235)
وقال نعيم بن حماد في (الفتن والملاحم): حدَّثنا عبد الصَّمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة، ثنا أبو عمرو السلميّ، عن بنت أهبان الغفاري أنَّ علياً أتى أهبان فقال: ما يمنعك أن تتبعنا ؟
فقال: أوصاني خليلي وابن عمك صلَّى الله عليه وسلَّم أن ستكون فرقة وفتنة واختلاف فإذا كان ذلك فاكسر سيفك واقعد في بيتك واتخذ سيفاً من خشب.
وقد رواه أحمد: عن عفَّان وأسود بن عامر ومؤمل ثلاثتهم، عن حماد بن سلمة به وزاد مؤمل في روايته بعد قوله: واتخذ سيفاً من خشب واقعد في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة، أو منيَّة قاضية.
ورواه الإمام أحمد أيضاً، والتّرمذيّ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبيد الديليّ: عن عديسة بنت أهبان بن صيفيّ عن أبيها به.
وقال التّرمذيّ: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عبيد كذا قال وقد تقدَّم من غير طريقه.
وقال البخاريّ: ثنا عبد العزيز الأويسيّ، ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة بن عبد الرَّحمن أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، من تشَّرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به)).
وعن ابن شهاب حدَّثني أبو بكر ابن عبد الرَّحمن بن الحارث عن عبد الرَّحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل ابن معاوية مثل حديث أبي هريرة.
هذا وقد روى مسلم حديث أبي هريرة من طريق إبراهيم بن سعد كما رواه البخاري، وكذلك حديث نوفل بن معاوية بإسناد البخاري ولفظه.
ثمَّ قال البخاريّ: ثنا محمد بن كثير، أخبرني سفيان عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ستكون أثرة وأمور تنكرونها)).
فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا ؟
قال: ((تؤدُّون الحقّ الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)).
ورواه مسلم من حديث الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا روح، ثنا عثمان الشحام، ثنا سلمة ابن أبي بكرة عن أبي بكرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنها ستكون فتنة ثمَّ تكون فتنة ألا فالماشي فيها خير من السَّاعي إليها والقاعد فيها خير من القائم فيها ألا والمضطجع فيها خير من القاعد، ألا فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ألا ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ألا ومن كانت له إبل فليلحق بإبله)).
فقال رجل من القوم: يا نبي الله جعلني الله فداك أرأيت من ليست له غنم ولا أرض ولا إبل كيف يصنع ؟
قال: ((ليأخذ سيفه ثمَّ ليعمد به إلى صخرة ثمَّ ليدقَّ على حدِّه بحجر ثمَّ لينج إن استطاع النجاء اللَّهم هل بلغت)).
إذ قال رجل: يا رسول الله جعلني الله فداك أرأيت إن أخذ بيدي مكرهاً حتى ينطلق بي إلى أحد الصَّفين، أو إحدى الفئتين - شكَّ عثمان - فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني ماذا يكون من شأني ؟
قال: ((يبوء بإثمك وإثمه ويكون من أصحاب النَّار)).
وهكذا رواه مسلم من حديث عثمان الشحام بنحوه. (ج/ص:6/236)
وهذا إخبار عن إقبال الفتن وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى هذا.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن إسماعيل، ثنا قيس قال: لمَّا أقبلت عائشة - يعني: في مسيرها إلى وقعة الجمل - وبلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب فقالت: أي ماء هذا ؟
قالوا: ماء الحوأب.
فقالت: ما أظنني إلا راجعة.
فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم.
قالت: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لنا ذات يوم: ((كيف بإحداكنَّ تنبح عليها كلاب الحوأب؟))
ورواه أبو نعيم بن حماد في (الملاحم): عن يزيد بن هارون عن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم به.
ثمَّ رواه أحمد: عن غُنْدَر عن شعبة، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم أنَّ عائشة لمَّا أتت على الحوأب فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لنا: ((أيتكن ينبح عليها كلاب الحوأب؟))
فقال لها الزُّبير: ترجعين عسى الله أن يصلح بك بين النَّاس وهذا إسناد على شرط الصَّحيحين ولم يخرِّجوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى عن عصام بن قدامة البجليّ، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ليت شعري أيتكنَّ صاحبة الجمل الأديب؟ تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن يسارها خلق كثير)).
ثمَّ قال: لا نعلمه يروى عن ابن عبَّاس إلا بهذا الإسناد.
وقال الطَّبرانيّ: ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهانيّ، ثنا إسماعيل بن عمرو البجليّ، ثنا نوح بن دراج عن الأجلح بن عبد الله، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن ابن الحسين، عن ابن عبَّاس قال: لما بلغ أصحاب علي حين ساروا إلى البصرة أنَّ أهل البصرة قد اجتمعوا لطلحة والزبير شقَّ عليهم ووقع في قلوبهم فقال علي: والذي لا إله غيره ليظهرنَّه على أهل البصرة وليقتلنَّ طلحة والزُّبير وليخرجنَّ إليكم من الكوفة ستة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلاً، أو خمسة آلاف وخمسمائة وخمسون رجلاً - شكَّ الأجلح - قال ابن عبَّاس: فوقع ذلك في نفسي فلمَّا أتى الكوفة خرجت فقلت: لأنظرنَّ فإن كان كما يقول فهو أمر سمعه وإلا فهو خديعة الحرب، فلقيت رجلاً من الجيش فسألته فوالله ما عتم أن قال: ما قال علي.
قال ابن عبَّاس: وهو ما كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يخبره. (ج/ص:6/237)
وقال البيهقيّ: أنَّا عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد، ثنا أحمد بن نصر، ثنا أبو نعيم الفضل، ثنا عبد الجبَّار بن الورد عن عمَّار الذَّهبيّ، عن سالم ابن أبي الجعد، عن أم سلمة قالت: ذكر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة فقال لها: ((انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت)) ثمَّ التفت إلى علي وقال: ((يا علي إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها)) وهذا حديث غريب جداً وأغرب منه ما رواه البيهقيّ أيضاً عن الحاكم، عن الأصمّ، عن محمد بن إسحاق الصنعانيّ عن أبي نعيم، عن عبد الجبَّار بن العبَّاس الشَّامي، عن عطاء بن السَّائب، عن عمر بن الهجيع، عن أبي بكرة قال: قيل له: ما يمنعك أن لا تكون قاتلت على نصرتك يوم الجمل ؟
فقال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يخرج قوم هلكى لا يفلحون قائدهم امرأة قائدهم في الجنَّة)) وهذا منكر جداً.
والمحفوظ ما رواه البخاريّ من حديث الحسن البصري: عن أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبلغه أنَّ فارس ملَّكوا عليهم امرأة كسرى.
فقال: ((لن يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة)).
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن الحكم سمعت أبا وائل قال: لمَّا بعث علي عمَّاراً والحسن إلى الكوفة يستنفرهم خطب عمَّار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدُّنيا والآخرة لكنَّ الله ابتلاكم لتتبعوه أو إيَّاها.
ورواه البخاري: عن بندار عن غُنْدَر وهذا كله وقع في أيَّام الجمل، وقد ندمت عائشة رضي الله عنها على ما كان من خروجها على ما سنورده في موضعه وكذلك الزُّبير بن العوَّام أيضاً، تذكَّر وهو واقف في المعركة أنَّ قتاله في هذا الموطن ليس بصواب فرجع عن ذلك.
قال عبد الرَّزاق: أنَّا معمر عن قتادة قال: لمَّا ولي الزُّبير يوم الجمل بلغ علياً فقال: لو كان ابن صفية يعلم أنَّه على حق ما ولى وذلك أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لقيهما في سقيفة بنى ساعدة فقال: ((أتحبه يا زبير؟))
فقال: وما يمنعني ؟
قال: فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له ؟
قال: فيرون أنَّه إنما ولى لذلك، وهذا مرسل من هذا الوجه. (ج/ص:6/238)
وقد أسنده الحافظ البيهقيّ من وجه آخر فقال: أنَّا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا أبو عمرو بن مطر، أنَّا أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشميّ الكوفي، ثنا منجاب بن الحرث، ثنا عبد الله بن الأجلح، ثنا أبي عن يزيد الفقير، عن أبيه قال: وسمعت فضل بن فضالة يحدِّث أبي عن أبي حرب ابن أبي الأسود الدؤليّ، عن أبيه دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه قال: لمَّا دنا علي وأصحابه من طلحة والزُّبير ودنت الصُّفوف بعضها من بعض خرج علي وهو على بغلة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنادى: إدعوا لي الزُّبير بن العوَّام فأتى علي فدعي له الزُّبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما، فقال علي: يا زبير ناشدتك بالله أتذكر يوم مرَّ بك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكان كذا وكذا فقال: ((يا زبير تحبّ علياً؟))
فقلت: ألا أحبّ ابن خالي وابن عمي، وعلى ديني ؟
فقال: ((يا علي أتحبَّه؟))
فقلت: يا رسول الله ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني ؟
فقال: ((يا زبير أما والله لتقاتلنَّه وأنت ظالم له)).
فقال الزُّبير: بلى والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ ذكرته الآن والله لا أقاتلك.
فرجع الزُّبير على دابته يشقّ الصُّفوف فعرض له ابنه عبد الله ابن الزبير فقال: مالك ؟
فقال: ذكَّرني علي حديثاً سمعته من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سمعته وهو يقول: ((لتقاتلنَّه وأنت ظالم له)) فلا أقاتلنه.
فقال: وللقتال جئت؟ إنَّما جئت تصلح بين النَّاس ويصلح الله هذا الأمر.
قال: قد حلفت أن لا أقاتله.
قال: فأعتق غلامك خير وقف حتى تصلح بين النَّاس فأعتق غلامه ووقف فلمَّا اختلف أمر النَّاس ذهب على فرسه.
قال البيهقيّ: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا الإمام أبو الوليد، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا قطن بن بشير، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا عبد الله بن محمد الرقاشيّ، ثنا جدِّي وهو عبد الملك بن مسلم عن أبي وجرة المازني قال: سمعت علياً والزُّبير وعلي يقول له: ناشدتك الله يا زبير أما سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّك تقاتلني وأنت لي ظالم)) ؟
قال: بلى ولكني نسيت.
وهذا غريب كالسِّياق الذي قبله.
وقد روى البيهقيّ من طريق الهذيل بن بلال - وفيه ضعف - عن عبد الرَّحمن بن مسعود العبديّ، عن علي قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((من سرَّه أن ينظر إلى رجل يسبقه بعض أعضائه إلى الجنَّة فلينظر إلى زيد بن صوحان)).
قلت: قتل زيد هذا في وقعة الجمل من ناحية علي.
وثبت في الصَّحيحين من حديث همام بن منبه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تقوم السَّاعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة)).
ورواه البخاري أيضاً عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة مثله.
ورواه البخاريّ أيضاً عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. (ج/ص:6/239)
وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وأصحاب صفِّين فإنَّهما جميعاً يدعون إلى الإسلام، وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرَّعايا، وكان ترك القتال أولى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصَّحابة كما سنذكره.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو اليمان، ثنا صفوان بن عمرو قال: كان أهل الشَّام ستين ألفاً فقتل منهم عشرون ألفاً، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفاً فقتل منهم أربعون ألفاً، ولكن كان علي وأصحابه أدنى الطَّائفتين إلى الحقِّ من أصحاب معاوية وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم.
كما ثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: حدَّثني من هو خير مني - يعني: أبا قتادة - أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لعمار: ((تقتلك الفئة الباغية)).
ورواه أيضاً من حديث ابن علية عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يقتل عمَّارا الفئة الباغية)).
وفي رواية: ((وقاتله في النَّار)).
وقد تقدَّم الحديث بطرقه عند بناء المسجد النبويّ في أول الهجرة النَّبوية وما يزيده بعض الرَّافضة في هذا الحديث من قولهم بعد: لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة فليس له أصل يعتمد عليه.
وقد روى البيهقيّ من حديث أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مولاة لعمَّار قالت: اشتكى عمَّار شكوى أرق منها فغشي عليه فأفاق ونحن نبكي حوله فقال: ما تبكون أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه تقتلني الفئة الباغية وأنَّ آخر زادي من الدُّنيا مذقة لبن.
وقال الإمام أحمد: حدَّثني وكيع، ثنا سفيان عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قال عمَّار يوم صفِّين: إئتوني بشربة لبن فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((آخر شربة تشربها من الدُّنيا شربة لبن)).
فشربها ثمَّ تقدَّم فَقُتِل.
وحدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهدي عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري أنَّ عمَّار بن ياسر أُتى بشربة لبن فضحك وقال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لي: ((آخر شراب أشربه لبن حين أموت)).
وروى البيهقيّ من حديث عمَّار الدَّهني عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن مسعود سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إذا اختلف النَّاس كان ابن سمية مع الحقّ)).
ومعلوم أنَّ عماراً كان في جيش علي يوم صفِّين وقتله أصحاب معاوية من أهل الشَّام وكان الذي تولى قتله رجل يقال له: أبو الغادية رجل من أفناد النَّاس، وقيل: إنَّه صحابي. (ج/ص:6/240)
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البرّ وغيره في (أسماء الصَّحابة) وهو أبو الغادية مسلم، وقيل: يسار بن أزيهر الجهني من قضاعة، وقيل: مزني وقيل: هما إثنان، سكن الشَّام ثمَّ صار إلى واسط روى له أحمد حديثاً وله عند غيره آخر.
قالوا: وهو قاتل عمَّار بن ياسر وكان يذكر صفة قتله لعمَّار لا يتحاشى من ذلك، وسنذكر ترجمته عند قتله لعمَّار أيَّام معاوية في وقعة صفِّين وأخطأ من قال: كان بدرياً.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يزيد بن هارون، ثنا العوَّام، حدَّثني ابن مسعود عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينا أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمَّار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته.
فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما لصاحبه نفسا: فإني سمعت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((تقتله الفئة الباغية)).
فقال معاوية: ألا نحِّ عنَّا مجنونك يا عمرو فما بالك معنا.
قال: إنَّ أبي شكاني إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقال: ((أطع أباك ما دام حياً ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفِّين بينه وبين عمرو بن العاص.
فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة أما سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول لعمَّار: ((ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية)).
قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا ؟
فقال معاوية: لا يزال يأتينا نهيه أونحن قتلناه؟ إنَّما قتله من جاءوا به.
ثمَّ رواه أحمد: عن أبي نعيم عن الثوري، عن الأعمش، عن عبد الرَّحمن ابن أبي زياد فذكر مثله، فقول معاوية: إنما قتله من قدَّمه إلى سيوفنا تأويل بعيد جداً، إذ لو كان كذلك لكان أمير الجيش هو القاتل للذين يقتلون في سبيل الله حيث قدَّمهم إلى سيوف الأعداء.
وقال عبد الرَّزاق: أنَّا ابن عيينة، أخبرني عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة قال عمرو لعبد الرَّحمن ابن عوف: أما علمت أنَّا كنَّا نقرأ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78].
في آخر الزَّمان كما جاهدتم في أوله ؟
فقال عبد الرَّحمن بن عوف: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟
قال: إذا كان بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. (ج/ص:6/241)
ذكره البيهقيّ ههنا وكأنَّه يستشهد به على ما عقد له الباب بعده من ذكر الحكمين وما كان من أمرهما فقال:
ما جاء في إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن الحكمين اللذين بعثا في زمن علي:
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة ابن سعيد عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار، عن سويد بن غفلة قال: إنِّي لأمشي مع علي بشطِّ الفرات فقال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا من اتِّبعهما وإنَّ هذه الأمَّة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين ضلا وأضلا من اتَّبعهما، هكذا أورده ولم يبيِّن شيئاً من أمره وهو حديث منكر جداً وآفته من زكريا بن يحيى هذا - وهو الكنديّ الحميريّ الأعمى -.
قال يحيى بن معين: ليس بشيء والحكمان كانا من خيار الصَّحابة وهما عمرو بن العاص السَّهميّ من جهة أهل الشَّام، والثَّاني أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعريّ من جهة أهل العراق، وإنَّما نصِّبا ليصلحا بين النَّاس ويتَّفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم، وكذلك وقع ولم يضِّل بسببهما إلا فرقة الخوارج حيث أنكروا على الأميرين التَّحكيم وخرجوا عليهما وكفَّروهما حتَّى قاتلهم علي ابن أبي طالب وناظرهم ابن عبَّاس فرجع منهم شرذمة إلى الحقِّ واستمرَّ بقيتهم حتَّى قتل أكثرهم بالنَّهروان وغيره من المواقف المرذولة عليهم كما سنذكره
إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخوارج وقتالهم:
قال البخاري: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهريّ قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرَّحمن أنَّ أبا سعيد الخدريّ قال: بينما نحن عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة - وهو رجل من بني تميم - فقال: يا رسول الله إعدل.
فقال: ((ويلك ومن يعدل؟ قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل)).
فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه.
فقال: ((دعه فإنَّ له أصحاباً يحقِّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيّهم يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرَّمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثمَّ ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثمَّ ينظر إلى نضبه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء ثمَّ ينظر إلى قذذه فلم يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدَّم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من النَّاس)).
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأشهد أنَّ علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرَّجل فالتمس فأتى به حتَّى نظرت إليه على نعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي نعته.
وهكذا رواه مسلم من حديث أبي سعيد. (ج/ص:6/242)
ورواه البخاري أيضاً من حديث الأوزاعيّ: عن الزهريّ، عن أبي سلمة والضَّحاك، عن أبي سعيد.
وأخرجه البخاريّ أيضاً من حديث سفيان بن سعيد الثوريّ عن أبيه.
ومسلم عن هناد، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن سعيد بن مسروق، عن عبد الرَّحمن بن يعمر، عن أبي سعيد الخدريّ به.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث داود ابن أبي هند، والقاسم بن الفضل.
وقتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تمرق مارقة عند فرقة المسلمين يقتلها أولى الطَّائفتين بالحق)).
ورواه أيضاً من حديث أبي إسحاق الثَّوريّ عن حبيب ابن أبي ثابت، عن الضَّحاك المشرقيّ، عن أبي سعيد مرفوعاً.
وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن ابن مسهر، عن الشَّيبانيّ، عن يُسَيْر بن عمرو قال: سألت سهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يذكر هؤلاء الخوارج ؟
فقال: سمعته وأشار بيده نحو المشرق، وفي رواية نحو العراق يخرج قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرَّمية محلَّقة رؤوسهم.
وروى مسلم من حديث حميد بن هلال عن عبد الله ابن الصَّامت عن أبي ذر نحوه، وقال: سيماهم التَّحليق شرّ الخلق والخليقة.
وكذلك رواه محمد بن كثير المصيصيّ عن الأوزاعيّ، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعاً وقال: سيماهم التَّحليق شرُّ الخلق والخليقة.
وفي الصَّحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، عن علي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يخرج قوم في آخر الزَّمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم إلى يوم القيامة)).
وقد روى مسلم عن قتيبة عن حماد، عن أيوب، عن محمد بن عبيدة، عن علي في خبر مؤذن اللَّيل وهو ذو الثَّدية، وأسنده من وجه آخر عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي وفيه أنَّه حلَّف علياً على ذلك فحلف له أنَّه سمع ذلك من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ورواه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرَّزاق، عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن زيد بن وهب، عن علي بالقصَّة مطوَّلة، وفيه قصَّة ذي الثَّدية.
ورواه من حديث عبيد الله ابن أبي رافع عن علي.
ورواه أبو داود الطَّيالسيّ: عن حماد بن زيد عن حميد بن مرة، عن أبي الوضيّء والسَّحيميّ عن علي في قصَّة ذي الثدية. (ج/ص:6/243)
ورواه الثَّوريّ عن محمد بن قيس، عن أبي موسى - رجل من قومه - عن علي بالقصَّة.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا الحميديّ، ثنا سفيان، حدَّثني العلاء ابن أبي العبَّاس أنَّه سمع أبا الطّفيل يحدِّث عن بكر بن قرقاش، عن سعيد ابن أبي وقَّاص قال: ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذا الثَّدية فقال: ((شيطان الردهة كراعي الخيل يحذره رجل من بجيلة يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب، علامة في قوم ظلمة)).
قال سفيان: فأخبرني عمَّار الذَّهبيّ أنَّه جاء به رجل منهم يقال له: الأشهب أو ابن الأشهب.
قال يعقوب بن سفيان: وحدَّثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهمدانيّ سمعت سعد بن مالك يقول: قتل علي ابن أبي طالب شيطان الرُّدهة - يعني: المخدج يريد - والله أعلم قتلة أصحاب علي.
وقال علي بن عياش: عن حبيب، عن سلمة قال: لقد علمت عائشة أنَّ جيش المروة وأهل النِّهروان ملعونون على لسان محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال ابن عيَّاش: جيش المروة قتلة عثمان، رواه البيهقيّ.
ثمَّ قال البيهقيّ: أنَّا الحاكم، أنَّا الأصمّ، ثنا أحمد بن عبد الجبَّار، حدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله)).
فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله ؟
قال: ((لا)).
فقال عمر: أنا هو يا رسول الله ؟
قال: ((لا ولكن خاصف النَّعل)) - يعني: علياً -.
وقال يعقوب بن سفيان: عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن جرير، عن لاحق قال: كان الذين خرجوا على علي بالنَّهروان أربعة آلاف في الحديد فركبهم المسلمون فقتلوهم ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط وإن شئت فاذهب إلى أبي برزة فإنَّه يشهد بذلك.
قلت: الأخبار بقتال الخوارج متواترة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ ذلك من طرق تفيد القطع عند أئمة هذا الشَّأن ووقوع ذلك في زمان علي معلوم ضرورة لأهل العلم قاطبة، وأما كيفية خروجهم وسببه ومناظرة ابن عبَّاس لهم في ذلك ورجوع كثير منهم إليه فسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. (ج/ص:6/244)
إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم بمقتل علي ابن أبي طالب فكان كما أخبر:
قال الإمام أحمد: ثنا علي بن بحر، ثنا عيسى بن يونس، ثنا محمد بن إسحاق، حدَّثني زيد بن محمد بن خيثم المحاربي عن محمَّد بن القرظي عن محمَّد كعب بن خيثم، عن عمَّار بن ياسر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لعليّ حين ولي غزوة العثيرة: ((يا أبا تراب - لما يرى عليه من التُّراب - ألا أحدِّثك بأشقى النَّاس رجلين؟))
قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: ((أحيمر ثمود الذي عقر النَّاقة والذي يضربك يا علي على هذه - يعني: قرنه - حتى يبلَّ هذه - يعني: لحيته -)).
وروى البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النضر، عن محمد بن راشد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فضالة ابن أبي فضالة الأنصاريّ - وكان أبوه من أهل بدر - قال: خرجت مع أبي عائداً لعليّ ابن أبي طالب في مرض أصابه فثقل منه قال: فقال أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا فلو أصابك أجلك لم يكن إلا أعراب جهينة تحملك إلى المدينة، فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلَّوا عليك.
فقال علي: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عهد إليَّ أن لا أموت حتى تخضب هذه - يعني: لحيته - من دم هذه - يعني: هامته - فقتل، وقتل أبو فضالة مع علي يوم صفِّين.
وقال أبو داود الطَّيالسيّ: ثنا شريك عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب قال: جاء رأس الخوارج إلى علي فقال له: إتق الله فإنَّك ميت.
فقال: لا والذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسمة ولكن مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه، وأشار بيده إلى لحيته، عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى.
وقد روى البيهقيّ بإسناد صحيح: عن زيد بن أسلم عن أبي سنان المدركيّ، عن علي في إخبار النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقتله.
وروى من حديث هيثم عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزديّ، عن علي قال: إنَّ ممَّا عهد إليَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ الأمَّة ستغدر بك بعدي.
ثمَّ ساقه من طريق قطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحماميّ قال: سمعت علياً يقول: إنَّه لعهد النَّبيّ الأمي إليَّ إنَّ الأمَّة ستغدر بك بعدي.
قال البخاريّ: ثعلبة هذا فيه نظر، ولا يتابع على حديثه هذا.
وروى البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن محمَّد بن إسحاق الصنعانيّ، عن أبي الأجوب الأحوص بن خبَّاب، عن عمَّار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب ابن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال: قال علي: والذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسمة لتخضبنَّ هذه من هذه للحيته من رأسه، فما يحبس أشقاها.
فقال عبد الله بن سبيع: والله يا أمير المؤمنين لو أنَّ رجلاً فعل ذلك لأثرنا عشيرته.
فقال: أنشدك بالله أن لا تقتل بي غير قاتلي.
قالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف ؟
قال: ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
قالوا: فما تقول لربِّك إذا تركتنا هملاً؟ قال: أقول اللَّهم استخلفتني فيهم ما بدا لك ثمَّ قبضتني وتركتك فيهم فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم. (ج/ص:6/245)
وهكذا روى البيهقيّ هذا وهو موقوف وفيه غرابة من حيث اللَّفظ ومن حيث المعنى، ثمَّ المشهور عن علي أنَّه لمَّا طعنه عبد الرَّحمن بن ملجم الخارجيّ وهو خارج لصلاة الصُّبح عند السِّدة فبقي علي يومين من طعنته، وحبس ابن ملجم وأوصى عليّ إلى ابنه الحسن بن علي كما سيأتي بيانه وأمره أن يركب في الجنود وقال له: لا يجر علي كما تجر الجارية فلمَّا مات قتل عبد الرَّحمن بن ملجم قوداً، وقيل: حداً والله أعلم، ثمَّ ركب الحسين بن علي في الجنود وسار إلى معاوية كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك مقتل الحسين
وسيادة ولده الحسن بن علي في تركه الأمر من بعده وإعطائه لمعاوية:
قال البخاري في (دلائل النُّبوة): حدَّثنا عبد الله بن محمد، ثنا يحيى بن آدم، ثنا حسين الجعفيّ عن أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: أخرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذات يوم الحسن بن علي فصعد به على المنبر فقال: ((إنَّ ابني هذا سيد ولعلَّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين)).
وقال في كتاب (الصّلح): حدَّثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان عن أبي موسى قال: سمعت الحسن يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية ابن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنِّي لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها.
فقال له معاوية: فكان والله خير الرَّجلين: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور النَّاس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟
فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرَّحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز فقال: إذهبا إلى هذا الرَّجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه.
فأتياه فدخلا عليه فتكلَّما وقالا له وطلبا إليه.
فقال لهما الحسن بن علي: إنَّا بنو عبد المطَّلب قد أصبنا من هذا المال وإنَّ هذه الأمة قد عاثت في دمائها.
قالا: فإنَّه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك.
قال: فمن لي بهذا ؟
قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئا إلا قالا: نحن لك به فصالحه.
فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على النَّاس مرَّة وعليه أخرى ويقول: ((إنَّ ابني هذا سيد ولعلَّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)).
وقال البخاريّ: قال لي علي بن عبد الله: إنَّما ثبت لنا سماع الحسن ابن أبي بكرة بهذا الحديث. (ج/ص:6/246)
وقد رواه البخاري أيضاً في فضل الحسن، وفي كتاب (الفتن) عن علي بن المدينيّ، عن سفيان بن عيينة، عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن موسى ابن أبي إسحاق -.
ورواه أبو داود والتّرمذيّ من حديث أشعث.
وأبو داود أيضاً والنَّسائيّ من حديث علي بن زيد بن جدعان، كلهم عن الحسن البصري، عن أبي بكرة به.
وقال التّرمذيّ: صحيح وله طرق عن الحسن مرسلاً، وعن الحسن، وعن أم سلمة به.
وهكذا وقع الأمر كما أخبر به النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم سواء، فإنَّ الحسن بن علي لمَّا صار إليه الأمر بعد أبيه وركب في جيوش أهل العراق وسار إليه معاوية فتصافَّا بصفِّين على ما ذكره الحسن البصريّ فمال الحسن بن علي إلى الصُّلح وخطب النَّاس، وخلع نفسه من الأمر وسلَّمه إلى معاوية وذلك سنة أربعين فبايعه الأمراء من الجيشين واستقلَّ بأعباء الأمَّة فسمِّي ذلك العام عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد وسنورد ذلك مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقد شهد الصَّادق المصدوق للفرقتين بالإسلام فمن كفَّرهم أو واحداً منهم لمجرد ما وقع فقد أخطأ وخالف النص النَّبويّ المحمَّديّ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، وقد تكمَّل بهذه السَّنة المدَّة التي أشار إليها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنها مدَّة الخلافة المتتابعة بعده.
كما تقدَّم في حديث سفينة مولاه أنَّه قال: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمَّ تكون ملكاً)).
وفي رواية ((عضوضاً)).
وفي رواية عن معاوية أنَّه قال: رضينا بها ملكاً.
وقد قال نعيم بن حماد في كتابه (الفتن والملاحم): سمعت محمد بن فضيل عن السري بن إسماعيل، عن عامر الشِّعبيّ، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت الحسن بن علي يقول: سمعت علياً يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا تذهب الأيَّام واللَّيالي حتى يجتمع أمر هذه الأمَّة على رجل واسع القدم ضخم البلغم، يأكل ولا يشبع وهو عري)).
وهكذا وقع في هذه الرِّواية.
وفي رواية بهذا الإسناد: ((لا تذهب الأيَّام واللَّيالي حتى تجتمع هذه الأمَّة على معاوية)).
وروى البيهقيّ من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر - وهو ضعيف - عن عبد الملك بن عمَّار قال: قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لي: ((يا معاوية إن مُلِّكت فأحسن)).
ثمَّ قال البيهقيّ: وله شواهد من ذلك حديث عمرو بن يحيى عن سعيد بن العاص، عن جدِّه سعيد أنَّ معاوية أخذ الأداوة فتبع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنظر إليه فقال: ((يا معاوية إن ولِّيت أمراً فاتق الله واعدل)).
قال معاوية: فما زلت أظنّ أني مبتلى بعمل لقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومنها حديث الثَّوريّ عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد الدَّاري، عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّك إن اتبعت عورات النَّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)).
ثمَّ يقول أبو الدَّرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فنفعه الله بها، رواه أبو داود.
وروى البيهقيّ من طريق هشيم عن العوام بن حوشب، عن سليمان ابن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الخلافة بالمدينة والملك بالشَّام)). (ج/ص:6/247)
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسحاق بن عيسى، ثنا يحيى بن حمزة عن زيد بن واقد، حدَّثني بشر بن عبيد الله، حدَّثني أبو إدريس الخولانيّ عن أبي الدَّرداء قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((بينا أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب رفع واحتمل من تحت رأسي، فظننت أنَّه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشَّام، ألا وإن الإيمان - حين تقع الفتن - بالشَّام ههنا)).
رواه البيهقيّ من طريق يعقوب بن سفيان عن عبد الله بن يوسف، عن يحيى بن حمزة السلميّ به.
قال البيهقيّ: وهذا إسناد صحيح، وروي من وجه آخر ثمَّ ساقه من طريق عقبة بن علقمة عن سعيد بن عبد العزيز الدِّمشقيّ، عن عطية بن قيس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إني رأيت أن عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا نور ساطع عمد به إلى الشَّام، ألا إنَّ الإيمان إذا وقعت الفتن بالشَّام)).
ثمَّ أورده البيهقيّ من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر نحوه، إلا أنَّه قال: ((فأتبعته بصري حتَّى ظننت أنَّه مذهوب به)) قال: ((وإني أوَّلت أنَّ الفتن إذا وقعت أنَّ الإيمان بالشَّام)).
قال الوليد: حدَّثني عُفير بن معدان أنَّه سمع سليمان بن عامر يحدِّث عن أبي أمامة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مثل ذلك.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثني نصر بن محمد بن سليمان الحمصيّ، ثنا أبي أبو ضمرة محمَّد بن سليمان السَّلميّ، حدَّثني عبد الله ابن أبي قيس سمعت عمر بن الخطَّاب يقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((رأيت عموداً من نور خرج من تحت رأسي ساطعاً حتَّى استقرَّ بالشَّام)).
وقال عبد الرَّزاق: أنَّا معمَّر عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفِّين: اللَّهم إلعن أهل الشَّام.
فقال له علي: لا تسبّ أهل الشَّام جماً غفيراً فإنَّ بها الأبدال، فإنَّ بها الأبدال.
وقد روي من وجه آخر عن علي.
قال الإمام أحمد: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، حدَّثني شريح - يعني: ابن عبيد الحضرميّ - قال: ذكر أهل الشَّام عند علي ابن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا: إلعنهم يا أمير المؤمنين.
قال: لا، إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((الأبدال يكونون بالشَّام وهم أربعون رجلاً كلَّما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يستسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشَّام بهم العذاب)).
تفرَّد به أحمد، وفيه انقطاع فقد نص أبو حاتم الرَّازيّ على أن شريح ابن عبيد هذا لم يسمع من أبي أمامة ولا من أبي مالك الأشعري وأنَّه رواية عنهما مرسلة، فما ظنك بروايته عن علي ابن أبي طالب وهو أقدم وفاة منهما. (ج/ص:6/248)
إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن غزاة البحر إلى قبرص:
قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصَّامت، فدخل عليها يوماً فأطعمته، فنام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثمَّ استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله ؟
قال: ((ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرَّة أو مثل الملوك على الأسرة)) - شكَّ إسحق -.
فقلت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فدعا لها ثمَّ وضع رأسه فنام ثمَّ استيقظ وهو يضحك.
قالت: قلت: ما يضحكك يا رسول الله ؟
قال: ((ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله)) كما قال في الأولى.
قالت: قلت: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم.
فقال: ((أنت من الأوَّلين)).
قال: فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
رواه البخاريّ عن عبد الله بن يوسف، ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به.
وأخرجاه في الصَّحيحين من حديث اللَّيث وحماد بن زيد، كلاهما عن يحيى بن سعيد، وعن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن أنس بن مالك، عن خالته أم حرام بنت ملحان، فذكر الحديث إلى أن قال: فخرجت مع زوجها عُبادة بن الصَّامت غازية أوَّل ما ركبوا مع معاوية، أو أوَّل ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ابن أبي سفيان، فلمَّا انصرفوا من غزاتهم قافلين فنزلوا الشَّام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق الفزاريّ عن زائدة، عن أبي حوالة عبد الله بن عبد الرَّحمن، عن أنس به.
وأخرجه أبو داود من حديث معمَّر عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أخت أم سليم
ما قيل في قتال الرُّوم:
حدَّثنا إسحاق بن يزيد الدِّمشقيّ، ثنا يحيى بن حمزة، حدَّثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان أنَّ عمير بن الأسود العنسيّ، حدَّثه أنَّه أتى عبادة بن الصَّامت وهو نازل إلى ساحل حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدَّثتنا أم حرام أنَّها سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((أوَّل جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا)).
قالت أم حرام: فقلت: يا رسول الله أنا فيهم ؟
قال: ((أنت فيهم)).
قالت: ثمَّ قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أوَّل جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم)).
قلت: أنا فيهم يا رسول الله ؟
قال: ((لا)) تفرَّد به البخاريّ دون أصحاب الكتب السِّتة. (ج/ص:6/249)
وقد رواه البيهقيّ في (الدَّلائل) عن الحاكم، عن أبي عمرو ابن أبي جعفر، عن الحسن بن سفيان، عن هشام بن عمَّار الخطيب، عن يحيى بن حمزة القاضي به وهو يشبه معنى الحديث الأوَّل.
وفيه من دلائل النبوة ثلاث: إحداها الإخبار عن الغزوة الأولى في البحر وقد كانت في سنة سبع وعشرين مع معاوية ابن أبي سفيان حين غزا قبرص وهو نائب الشَّام عن عثمان بن عفَّان وكانت معهم أم حرام بنت ملحان هذه صحبة زوجها عبادة بن الصَّامت أحد النُّقباء ليلة العقبة فتوفيت مرجعهم من الغزو قتل بالشَّام كما تقدَّم في الرِّواية عند البخاري، وقال ابن زيد: توفِّيت بقبرص سنة سبع وعشرين، والغزوة الثَّانية غزوة قسطنطينية مع أوَّل جيش غزاها وكان أميرها يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان وذلك في سنة اثنتين وخمسين وكان معهم أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري فمات هنالك - رضي الله عنه وأرضاه - ولم تكن هذه المرأة معهم لأنها كانت قد توفيت قبل ذلك في الغزوة الأولى.
فهذا الحديث فيه ثلاث آيات من دلائل النُّبوة الإخبار عن الغزوتين، والإخبار عن المرأة بأنها من الأوَّلين وليست من الآخرين، وكذلك وقع - صلوات الله وسلامه عليه -.
الإخبار عن غزوة الهند:
قال الإمام أحمد: حدَّثنا هشيم عن سيار بن حسين بن عبيدة، عن أبي هريرة قال: وعدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزوة الهند فإن استشهدت كنت من خير الشُّهداء وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر.
رواه النَّسائيّ من حديث هشيم وزيد بن أنيسة عن يسار بن جبر ويقال: جبير عن أبي هريرة قال: وعدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غزوة الهند فذكره.
وقال أحمد: حدَّثنا يحيى بن إسحق، ثنا البراء عن الحسن، عن أبي هريرة قال: حدَّثني خليلي الصَّادق المصدوق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((يكون في هذه الأمَّة بعث إلى السِّند والهند، فإن أنا أدركته فاستشهدت فذاك وإن أنا وإن أنا فذكر كلمة رجعت فأنا أبو هريرة المحدث قد أعتقني من النَّار، تفرَّد به أحمد.
وقد غزا المسلمون الهند في أيَّام معاوية سنة أربع وأربعين وكانت هنالك أمور سيأتي بسطها في موضعها، وقد غزا الملك الكبير الجليل محمود بن سبكتكين صاحب غزنة في حدود أربعمائة بلاد الهند فدخل فيها وقتل وأسر وسبى وغنم ودخل السومنات وكسر الند الأعظم الذي يعبدونه، واستلب سيوفه وقلائده ثمَّ رجع سالماً مؤيداً منصوراً
الإخبار عن قتال التُّرك كما سنبينه إن شاء الله:
قال البخاريّ: ثنا أبو اليمان، أنَّا شعيب، ثنا أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تقوم السَّاعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشَّعر، وحتى تقاتل التُّرك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأنَّ وجوههم المجان المطرقة، وتجدون من خير النَّاس أشدَّهم كراهية لهذا الأمر حتَّى يقع فيه والنَّاس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام وليأتينَّ على أحدكم زمان لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله)) تفرَّد به من هذا الوجه.
ثمَّ قال البخاريّ: ثنا يحيى، ثنا عبد الرَّزاق عن معمر، عن همام عن أبي هريرة أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تقوم السَّاعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأنَّ وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشَّعر)).
تابعه غيره عن عبد الرَّزاق.
وقد ذكر عن الإمام أحمد أنَّه قال: أخطأ عبد الرَّزاق في قوله: خوراً بالخاء، وإنَّما هو بالجيم جوزاً وكرمان هما بلدان معروفان بالشَّرق فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا سفيان عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة فبلغ به النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تقوم السَّاعة حتى تقاتلوا قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشَّعر)).
وقد رواه الجماعة إلا النَّسائيّ من حديث سفيان بن عيينة به.
وقال البخاريّ: ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان قال: قال إسماعيل: أخبرني قيس قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه فقال: صحبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاث سنين لم أكن في سني أحرص على أن أعي الحديث مني فيهنَّ سمعته يقول: - وقال هكذا بيده -: ((بين يدي السَّاعة تقاتلون قوماً نعالهم الشَّعر)) - وهو هذا البارز -.
وقال سفيان مرَّة: وهم أهل البارز.
وقد رواه مسلم عن أبي كريب، عن أبي أسامة ووكيع كلاهما، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تقوم القيامة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشَّعر كأنَّ وجوههم المجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين)). (ج/ص:6/251)
قلت: وأمَّا قول سفيان بن عيينة: أنَّهم هم أهل البارز فالمشهور في الرِّواية تقديم الراء على الزَّاي ولعلَّه تصحيف اشتبه على القائل البازر وهو السوق بلغتهم فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفَّان، ثنا جرير بن حازم سمعت الحسن قال: ثنا عمرو بن ثعلب قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ من أشراط السَّاعة أن تقاتلوا قوماً نعالهم الشَّعر، أو ينتعلون الشَّعر، وإنَّ من أشراط السَّاعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة)).
ورواه البخاري عن سليمان بن حرب وأبي النعمان، عن جرير بن حازم به.
والمقصود أنَّ قتال التُّرك وقع في آخر أيَّام الصَّحابة قاتلوا القان الأعظم فكسروه كسرة عظيمة على ما سنورده في موضعه إذا انتهينا إليه بحول الله وقوته وحسن توفيقه.
خبر آخر عن عبد الله بن سلام:
قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، ثنا ابن عون عن محمد - هو ابن سيرين - عن بشر بن عبَّاد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر خشوع فدخل فصلَّى ركعتين فأوجز فيهما.
فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنَّة، فلمَّا خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدَّثته، فلمَّا استأنس قلت له: إنَّ القوم لمَّا دخلت المسجد قالوا: كذا وكذا.
قال: سبحان الله والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدِّثك أني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقصصتها عليه رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها - وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السَّماء في أعلاه عروة، فقيل لي: إصعد عليه.
فقلت: لا أستطيع فجاء بنصيف - قال ابن عون: وهو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي فقال: إصعد عليه.
فصعدت حتى أخذت بالعروة.
فقال: إستمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي.
قال: فأتيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقصصتها عليه.
فقال: ((أمَّا الرَّوضة فروضة الإسلام، وأمَّا العمود فعمود الإسلام، وأمَّا العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام تموت)).
قال: وهو عبد الله بن سلام.
ورواه البخاريّ من حديث عون.
ثمَّ قد رواه الإمام أحمد من حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة، عن المسيّب بن رافع، عن حرشة بن الحر، عن عبد الله بن سلام فذكره مطولاً وفيه قال: حتى انتهيت إلى جبل زلق فأخذ بيدي ودحاني فإذا أنا على ذروته فلم أتقار ولم أتماسك، وإذا عمود حديد في يدي ذروته حلقة ذهب فأخذ بيدي ودحاني حتى أخذت بالعروة، وذكر تمام الحديث. (ج/ص:6/252)
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مسهر، عن حرشة بن الحر، عن عبد الله بن سلام فذكره.
وقال: حتى أتى بي جبلاً فقال لي: إصعد فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على رأسي حتى فعلت ذلك مراراً.
وأنَّ رسول الله قال له حين ذكر رؤياه: ((وأمَّا الجبل فهو منزل الشُّهداء ولن تناله)).
قال البيهقيّ: وهذه معجزة ثانية حيث أخبر أنَّه لا ينال الشَّهادة وهكذا وقع فإنَّه مات سنة ثلاث وأربعين فيما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره.
الإخبار عن بيت ميمونة بنت الحارث بسرف:
قال البخاري في (التَّاريخ): أنَّا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عبد الله بن عبد الله بن الأصمّ، ثنا يزيد بن الأصمّ قال: ثقلت ميمونة بمكَّة وليس عندها من بني أختها أحد فقالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبرني أني لا أموت بمكة، فحملوها حتى أتوا بها إلى سرف الشجرة التي بنى بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تحتها في موضع القبة فماتت رضي الله عنها.
قلت: وكان موتها سنة إحدى وخمسين على الصَّحيح.
ما روي في إخباره عن مقتل حجر بن عدي وأصحابه:
قال يعقوب بن سفيان: ثنا ابن بكير، ثنا ابن لهيعة، حدَّثني الحارث عن يزيد، عن عبد الله بن رزين الغافقيّ قال: سمعت علي ابن أبي طالب يقول: يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، فقتل حجر بن عدي وأصحابه.
وقال يعقوب بن سفيان: قال أبو نعيم: ذكر زياد بن سمية علي ابن أبي طالب على المنبر فقبض حُجر على الحصباء ثمَّ أرسلها وحصب من حوله زياداً فكتب إلى معاوية يقول: إن حُجرا حصَّبني وأنا على المنبر، فكتب إليه معاوية أن يحمل حجراً فلمَّا قرب من دمشق بعث من يتلقَّاهم فالتقى معهم بعذراء فقتلهم.
قال البيهقيّ: لا يقول علي مثل هذا إلا أنَّه يكون سمعه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا حرملة، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء حُجراً وأصحابه ؟
فقال: يا أمَّ المؤمنين إني رأيت قتلهم إصلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساداً.
فقالت: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السَّماء)). (ج/ص: 6/253)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا عمرو بن عاصم، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن مروان بن الحكم قال: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: يا معاوية قتلت حُجراً وأصحابه وفعلت الذي فعلت أما خشيت أن أخبىء لك رجلاً فيقتلك ؟
قال: لا إني في بيت أمان سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((الإيمان قيد الفتك لا يفتك، لا يفتك مؤمن)) يا أمَّ المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك ؟
قالت: صالح.
قال: فدعيني وحُجراً حتى نلتقي عند ربِّنا عزَّ وجل.
حديث آخر:
قال يعقوب بن سفيان: ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة عن أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال لعشرة من أصحابه: ((آخركم موتاً في النَّار)) فيهم سمرة بن جندب قال أبو نضرة: فكان سمرة آخرهم موتاً.
قال البيهقيّ: رواته ثقات إلا أنَّ أبا نضرة العبديّ لم يثبت له من أبي هريرة سماع والله أعلم.
ثمَّ روى من طريق إسماعيل بن حكيم عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن حكيم قال: كنت أمرُّ بالمدينة فألقى أبا هريرة فلا يبدأ بشيء حتى يسألني عن سمرة فلو أخبرته بحياته وصحته فرح وقال: إنَّا كنَّا عشرة في بيت وإنَّ رسول الله قام علينا ونظر في وجوهنا وأخذ بعضادتي الباب وقال: ((آخركم موتاً في النَّار)).
فقد مات منَّا ثمانية ولم يبق غيري وغيره، فليس شيء أحبّ إليَّ من أن أكون قد ذقت الموت، وله شاهد من وجه آخر.
وقال يعقوب ابن سفيان: ثنا حجَّاج بن منهال، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أوس بن خالد قال: كنت إذا قدمت على أبي محذورة سألني عن سمرة، وإذا قدمت على سمرة سألني عن أبي محذورة.
فقلت لأبي محذورة: مالك إذا قدمت عليك تسألني عن سمرة وإذا قدمت على سمرة سألني عنك ؟
فقال: إني كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت فجاء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((آخركم موتاً في النَّار)).
قال: فمات أبو هريرة ثمَّ مات أبو محذورة ثمَّ مات سمرة. (ج/ص:6/254)
وقال عبد الرَّزاق: أنَّا معمَّر سمعت ابن طاوس وغيره يقولون: قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي هريرة وسمرة بن جندب ولرجل آخر: ((آخركم موتاً في النَّار)) فمات الرَّجل قبلهما، وبقي أبو هريرة وسمرة فكان الرَّجل إذا أراد أن يغيظ أبا هريرة يقول: مات سمرة، فإذا سمعه غشي عليه وصعق، ثمَّ مات أبو هريرة قبل سمرة وقتل سمرة بشراً كثيراً.
وقد ضعَّف البيهقيّ عامَّة هذه الرِّوايات لانقطاع بعضها وإرساله ثمَّ قال: وقد قال بعض أهل العلم: أنَّ سمرة مات في الحريق.
ثمَّ قال: ويحتمل أن يورد النَّار بذنوبه ثمَّ ينجو منها بإيمانه فيخرج منها بشفاعة الشَّافعين والله أعلم.
ثمَّ أورد من طريق هلال بن العلاء الرقيّ أنَّ عبد الله بن معاوية حدَّثهم عن رجل قد سمَّاه أنَّ سمرة استجمر فغفل عن نفسه وغفل أهله عنه حتَّى أخذته النَّار.
قلت: وذكر غيره أنَّ سمرة بن جندب رضي الله عنه أصابه كرار شديد وكان يوقد له على قدر مملوءة ماءاً حاراً فيجلس فوقها ليتدفأ ببخارها فسقط يوماً فيها فمات رضي الله عنه وكان موته سنة تسع وخمسين بعد أبي هريرة بسنة وقد كان ينوب عن زياد بن سمية في البصرة إذا سار إلى الكوفة، وفي الكوفة إذا سار إلى البصرة، فكان يقيم في كل منهما ستة أشهر من السَّنة وكان شديداً على الخوارج مكثراً للقتل فيهم ويقول: هم شرُّ قتلى تحت أديم السَّماء.
وقد كان الحسن البصري ومحمد بن سيرين وغيرهما من علماء البصرة يثنون عليه رضي الله عنه.
خبر رافع بن خديج:
روى البيهقيّ من حديث مسلم بن إبراهيم عن عمرو بن مرزوق الواضحيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد ابن رافع عن جدَّته أنَّ رافع بن خديج رُمي.
قال عمر: لا أدري أيُّهما قال - يوم أحد أو يوم حنين - بسهم في ثندوته فأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: يا رسول الله إنزع لي السَّهم.
فقال له: ((يا رافع إن شئت نزعت السَّهم والقبضة جميعاً وإن شئت نزعت السَّهم وتركت القبضة وشهدت لك يوم القيامة أنَّك شهيد)).
فقال: يا رسول الله إنزع السَّهم واترك القبضة واشهد لي يوم القيامة أني شهيد.
قال: فعاش حتى كانت خلافة معاوية انتقض الجرح فمات بعد العصر هكذا وقع في هذه الرِّواية أنَّه مات في إمارة معاوية.
والذي ذكره الواقديّ وغير واحد أنَّه مات سنة ثلاث وقيل: أربع وسبعين، ومعاوية رضي الله عنه كانت وفاته في سنة ستين بلا خلاف والله أعلم. (ج/ص:6/255)
إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم لما وقع من الفتن من بني هاشم بعد موته:
قال البخاري: حدَّثنا محمد بن كثير، أخبرني سفيان عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ستكون أثرة وأمور تنكرونها)).
قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟
قال: ((تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم)).
وقال البخاري: ثنا محمد بن عبد الرَّحيم، أنَّا أبو معمَّر إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أبو أسامة، ثنا شعبة عن أبي التياح، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يهلك النَّاس هذا الحي من قريش)).
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟
قال: ((لو أنَّ النَّاس اعتزلوهم)).
ورواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة.
وقال البخاري: قال محمود: ثنا أبو داود، أخبرنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أبا زرعة وحدَّثنا أحمد بن محمد المكيّ، ثنا عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده قال: كنت مع مروان وأبي هريرة فسمعت أبا هريرة يقول: سمعت الصَّادق المصدوق يقول: ((هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش)).
فقال مروان: غلمة ؟
قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم فلان وبني فلان، تفرَّد به البخاريّ.
وقال أحمد: ثنا روح، ثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أخبرني جدِّي سعيد بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((هلكة أمتي على يدي غلمة)).
قال مروان: وهم معنا في الحلقة قبل أن يلي شيئاً فلعنة الله عليهم غلمة.
قال: أما والله لو أشاء أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت.
قال: فكنت أخرج مع أبي وجدِّي إلى بني مروان بعد ما ملكوا فإذا هم يبايعون الصِّبيان ومنهم من يبايع له وهو في خرقة.
قال لنا: عسى أصحابكم هؤلاء أن يكونوا الذي سمعت أبا هريرة يذكر أنَّ هذه الملوك يشبه بعضها بعضاً.
وقال أحمد: حدَّثنا عبد الرَّحمن عن سفيان، عن سماك، حدَّثني عبد الله بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة قال: سمعت حبِّي أبا القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش)).
ثمَّ رواه أحمد عن زيد بن الخبَّاب، عن سفيان - وهو الثَّوريّ - عن سماك، عن مالك بن ظالم، عن أبي هريرة فذكره.
ثمَّ روى غُنْدَر وروح بن عبادة عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن مالك بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة - زاد روح يحدث مروان بن الحكم - قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّادق المصدوق يقول: ((هلاك أمَّتي على يد غلمة أمراء سفهاء من قريش)).
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عبد الرَّحمن، حدَّثنا حيوة، حدَّثني بشر بن أبي عمرو الخولانيّ، أنَّا الوليد بن قيس التجيبيّ، حدَّثه أنَّه سمع أبا سعيد الخدريّ يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يكون خلف من بعد الستِّين سنة أضاعوا الصَّلاة واتَّبعوا الشَّهوات، فسوف يلقون غياً ثمَّ يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيَّهم ويقرأ القرآن ثلاثاً مؤمن، ومنافق، وفاجر)).
وقال بشير: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثَّلاثة ؟
قال: المنافق كافر به، والفاجر يتأكل به، والمؤمن يؤمن به.
تفرَّد به أحمد وإسناده جيد قوي على شرط السنن. (ج/ص:6/256)
وقد روى البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن الحسن بن علي بن عفَّان، عن أبي أسامة، عن مجالد، عن الشعبيّ قال: لمَّا رجع علي من صفِّين قال: أيُّها النَّاس لا تكرهوا إمارة معاوية فإنَّه لو فقدتموه لقد رأيتم الرؤوس تنزو من كواهلها كالحنظل.
ثمَّ روى عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن العبَّاس ابن الوليد بن زيد، عن أبيه، عن جابر، عن عمير بن هانئ أنَّه حدَّثه أنَّه قال: كان أبو هريرة يمشي في سوق المدينة وهو يقول: اللَّهم لا تدركني سنة الستِّين ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية، اللَّهم لا تدركني إمارة الصِّبيان.
قال البيهقيّ: وعلي وأبو هريرة إنَّما يقولان هذا الشَّيء سمعناه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال يعقوب بن سفيان: أنَّا عبد الرَّحمن بن عمرو الحزاميّ، ثنا محمد بن سليمان عن أبي تميم البعلبكيّ، عن هشام بن الغاز، عن ابن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجرَّاح قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يزال هذا الأمر معتدلاً قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية)).
وروى البيهقيّ من طريق عوف الأعرابي عن أبي خلدة، عن أبي العالية، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ أوَّل من يبدل سنَّتي رجل من بني أمية)).
وهذا منقطع بين أبي العالية وأبي ذر وقد رجَّحه البيهقيّ بحديث أبي عبيدة المتقدّم قال: ويشبه أن يكون هذا الرَّجل هو يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان والله أعلم.
قلت: النَّاس في يزيد بن معاوية أقسام فمنهم من يحبه ويتولاه وهم طائفة من أهل الشَّام من النَّواصب، وأمَّا الرَّوافض فيشنعون عليه ويفترون عليه أشياء كثيرة ليست فيه ويتَّهمه كثير منهم بالزَّندقة ولم يكن كذلك، وطائفة أخرى لا يحبُّونه ولا يسبُّونه لما يعلمون من أنَّه لم يكن زنديقاً كما تقوله الرَّافضة ولما وقع في زمانه من الحوادث الفظيعة والأمور المستنكرة البشعة الشَّنيعة فمن أنكرها قتل الحسين بن علي بكربلاء ولكن لم يكن ذلك من علم منه ولعلَّه لم يرض به ولم يسؤه وذلك من الأمور المنكرة جداً ووقعة الحرة كانت من الأمور القبيحة بالمدينة النَّبويَّة على ما سنورده إذا انتهينا إليه في (التَّاريخ) إن شاء الله تعالى. (ج/ص:6/257)
الإخبار بمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما:
وقد ورد في الحديث بمقتل الحسين فقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الصَّمد بن حسان، ثنا عمارة - يعني: ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس قال: استأذن ملك المطر أن يأتي النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأذن له.
فقال لأم سلمة: ((إحفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد)) فجاء الحسين بن علي فوثب حتى دخل فجعل يصعد على منكب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له الملك: أتحبه ؟
فقال النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعم)).
قال: فإنَّ أمَّتك تقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.
قال: فضرب بيده فأراه تراباً أحمر فأخذت أم سلمة ذلك التُّراب فصرَّته في طرف ثوبها.
قال: فكنَّا نسمع يقتل بكربلاء.
ورواه البيهقيّ من حديث بشر بن موسى عن عبد الصَّمد، عن عمارة فذكره، ثمَّ قال: وكذلك رواه سفيان بن فروخ عن عمارة وعمارة بن زاذان هذا هو الصَّيدلانيّ أبو سلمة البصريّ اختلفوا فيه وقد قال فيه أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتجَّ به ليس بالمتين.
وضعَّفه أحمد مرَّة ووثَّقه أخرى وحديثه هذا قد روي عن غيره من وجه آخر.
فرواه الحافظ البيهقيّ من طريق عمارة بن عرفة عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا.
وقد قال البيهقيّ: أنَّا الحاكم في آخرين قالوا: أنَّا الأصمّ، أنَّا عبَّاس الدُّوريّ، ثنا محمد بن خالد بن مخلد، ثنا موسى بن يعقوب عن هاشم بن هاشم، عن عتبة ابن أبي وقَّاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة، أخبرتني أم سلمة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اضطجع ذات يوم فاستيقظ وهو حائر ثمَّ اضطجع فرقد، ثمَّ استيقظ وهو حائر دون ما رأيت منه في المرة الأولى، ثمَّ اضطجع واستيقظ وفي يده تربة حمراء وهو يقلِّبها.
فقلت: ما هذه التُّربة يا رسول الله ؟
فقال: ((أخبرني جبريل أنَّ هذا يقتل بأرض العراق - للحسين - قلت له: يا جبريل أرني تربة الأرض التي يقتل بها فهذه تربتها)).
ثمَّ قال البيهقيّ: تابعه أبو موسى الجهنيّ عن صالح بن يزيد النَّخعيّ، عن أم سلمة وأبان، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وقال الحافظ أبو بكر البزَّار في مسنده: ثنا إبراهيم بن يوسف الصَّيرفيّ، ثنا الحسين بن عيسى، ثنا الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال: كان الحسين جالساً في حِجر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقال جبريل: أتحبَّه ؟
فقال: ((وكيف لا أحبّه وهو ثمرة فؤادي؟))
فقال: أما إنَّ أمَّتك ستقتله ألا أريك من موضع قبره؟ فقبض قبضة فإذا تربة حمراء. (ج/ص:6/258)
ثمَّ قال البزَّار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، والحسين بن عيسى قد حدَّث عن الحكم بن أبان بأحاديث لا نعلمها عند غيره.
قلت: هو الحسين بن عيسى بن مسلم الحنفيّ أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ أخو سليم القاريّ.
قال البخاري: مجهول - يعني: مجهول الحال - وإلا فقد روى عنه سبعة نفر.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ روي عن الحاكم بن أبان أحاديث منكرة، وذكره ابن حبَّان في الثِّقات.
وقال ابن عدي: قليل الحديث وعامة حديثه غرائب وفي بعض أحاديثه منكرات.
وروى البيهقيّ عن الحكم وغيره، عن أبي الأحوص، عن محمد بن الهيثم القاضي، ثنا محمد بن مصعب، ثنا الأوزاعيّ، عن أبي عمَّار شدَّاد بن عبد الله، عن أم الفضل بنت الحارث أنَّها دخلت على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً اللَّيلة.
قال: ((وما هو؟))
قالت: رأيت كأنَّ قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.
قال: ((رأيت خيراً تلك فاطمة إن شاء الله تلد غلاماً فيكون في حجرك)) فولدت فاطمة الحسين، فكان في حجري كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فوضعته في حجره ثمَّ حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تهريقان الدُّموع، قالت: قلت: يا نبيَّ الله بأبي أنت وأمي مالك ؟
قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أنَّ أمَّتي ستقتل ابني هذا)).
فقلت: هذا ؟
قال: ((نعم وأتاني بتربة من ترتبه حمراء)).
وقد روى الإمام أحمد عن عفَّان، عن وهيب، عن أيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم الفضل قالت: أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت: إني رأيت في منامي أن في بيتي أو حجري عضواً من أعضائك ؟
قال: ((تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فتكفلينه)) فولدت له فاطمة حسيناً فدفعته إليها فأرضعته بلبن قثم، فأتيت به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً أزوره فأخذه فوضعه على صدره فبال فأصاب البول إزاره، فزخخت بيدي على كتفيه.
فقال: ((أوجعت ابني - أصلحك الله -)) أو قال: ((رحمك الله)).
فقلت: أعطني إزارك أغسله.
فقال: ((إنَّما يغسل بول الجارية ويصبُّ على بول الغلام)).
ورواه أحمد أيضاً عن يحيى بن بكير، عن إسرائيل، عن سماك، عن قابوس بن مخارق، عن أم الفضل فذكر مثله سواء وليس فيه الإخبار بقتله فالله أعلم.
وقال الأمام أحمد: حدَّثنا عفَّان، ثنا حماد، أنَّا عمار ابن أبي عمارة عن ابن عبَّاس قال: رأيت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرى النَّائم بنصف النَّهار وهو قائل أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا ؟
قال: ((دم الحسين وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم)).
قال: فأحصينا ذلك اليوم فوجدوه قتل في ذلك اليوم رضي الله عنه.
قال قتادة: قتل الحسين يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف الشَّهر. (ج/ص:6/259)
وهكذا قال اللَّيث وأبو بكر ابن عيَّاش الواقديّ والخليفة بن خياط وأبو معشر وغير واحد: إنَّه قتل يوم عاشوراء عام إحدى وستين، وزعم بعضهم أنَّه قتل يوم السَّبت والأوَّل أصحّ.
وقد ذكروا في مقتله أشياء كثيرة أنها وقعت من كسوف الشَّمس يومئذ وهو ضعيف، وتغيير آفاق السَّماء ولم ينقلب حجر إلا وجد تحته دم، ومنهم من خصص ذلك بحجارة بيت المقدس، وأن الورس استحال رماداً، وأنَّ اللَّحم صار مثل العلقم، وكان فيه النَّار إلى غير ذلك مما في بعضها نكارة وفي بعضها احتمال والله أعلم.
وقد مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو سيد ولد آدم في الدُّنيا والآخرة ولم يقع شيء من هذه الأشياء، وكذلك الصِّديق بعده مات ولم يكن شيء من هذا، وكذا عمر بن الخطَّاب قتل شهيداً وهو قائم يصلِّي في المحراب صلاة الفجر، وحصر عثمان في داره وقتل بعد ذلك شهيداً، وقتل علي ابن أبي طالب شهيداً بعد صلاة الفجر ولم يكن شيء من هذه الأشياء والله أعلم.
وقد روى حماد بن سلمة عن عمَّار بن أبي عمارة، عن أم سلمة أنها سمعت الجنَّ تنوح على الحسين بن علي وهذا صحيح.
وقال شهر بن حوشب: كنَّا عند أم سلمة فجاءها الخبر بقتل الحسين فخرت مغشياً عليها، وكان سبب قتل الحسين أنَّه كتب إليه أهل العراق يطلبون منه أن يقدم إليهم ليبايعوه بالخلافة وكثر تواتر الكتب عليه من العامَّة ومن ابن عمه مسلم بن عقيل، فلمَّا ظهر على ذلك عبيد الله بن زياد نائب العراق ليزيد بن معاوية فبعث إلى مسلم بن عقيل يضرب عنقه ورماه من القصر إلى العامَّة فتفرَّق ملؤهم وتبدَّدت كلمتهم، هذا وقد تجهَّز الحسين من الحجاز إلى العراق ولم يشعر بما وقع فتحتمَّل بأهله ومن أطاعه وكانوا قريباً من ثلاثمائة وقد نهاه عن ذلك جماعة من الصَّحابة منهم أبو سعيد وجابر، وابن عبَّاس، وابن عمر فلم يطعهم، وما أحسن ما نهاه ابن عمر عن ذلك واستدل له على أنَّه لا يقع ما يريده فلم يقبل.
فروى الحافظ البيهقيّ من حديث يحيى بن سالم الأسدي، ورواه أبو داود الطَّيالسيّ في مسنده عنه قال: سمعت الشِّعبيّ يقول: كان ابن عمر قدم المدينة فأخبر أنَّ الحسين بن علي قد توجَّه إلى العراق فلحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة قال: أين تريد ؟
قال: العراق - ومعه طوامير وكتب -.
فقال: لا تأتهم.
فقال: هذه كتبهم وبيعتهم.
فقال: إن الله خير نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم بين الدُّنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدُّنيا وإنَّكم بضعة من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والله لا يليها أحد منكم أبداً وما صرفها عنكم إلى الذي هو خير منكم، فارجعوا.
فأبى وقال: هذه كتبهم وبيعتهم.
قال: فاعتنقه ابن عمر وقال: أستودعك الله من قتيل.
وقد وقع ما فهمه عبد الله بن عمر من ذلك سواء من أنَّه لم يل أحد من أهل البيت الخلافة على سبيل الإستقلال ويتم له الأمر.
وقد قال ذلك: عثمان بن عفَّان، وعلي ابن أبي طالب، إنَّه لا يلي أحد من أهل البيت أبداً.
ورواه عنهما أبو صالح الخليل بن أحمد بن عيسى بن الشَّيخ في كتابه (الفتن والملاحم). (ج/ص:6/260)
قلت: وأما الخلفاء الفاطميون الذين كانوا بالدِّيار المصرية فإنَّ أكثر العلماء على أنهم أدعياء، وعلي ابن أبي طالب ليس من أهل البيت ومع هذا لم يتم له الأمر كما كان للخلفاء الثَّلاثة قبله، ولا اتسعت يده في البلاد كلِّها ثمَّ تنكدت عليه الأمور، وأما ابنه الحسن رضي الله عنه فإنَّه لما جاء في جيوشه وتصافى هو وأهل الشَّام ورأى أن المصلحة في ترك الخلافة تركها لله عزَّ وجل، وصيانة لدماء المسلمين أثابه الله رضي الله عنه وأمَّا الحسين رضي الله عنه فإنَّ ابن عمر لمَّا أشار عليه بترك الذَّهاب إلى العراق وخالفه، اعتنقه مودعاً وقال: أستودعك الله من قتيل، وقد وقع ما تفرَّسه ابن عمر، فإنَّه لمَّا استقل ذاهباً بعث إليه عبيد الله بن زياد بكتيبة فيها أربعة آلاف يتقدَّمهم عمرو بن سعد ابن أبي وقَّاص، وذلك بعد ما استعفاه فلم يعفه، فالتقوا بمكان يقال له: كربلاء بالطف، فالتجأ الحسين ابن علي وأصحابه إلى مقصبة هنالك وجعلوها منهم بظهر، وواجهوا أولئك وطلب منهم الحسين إحدى ثلاث: إمَّا أن يدعوه يرجع من حيث جاء، وإمَّا أن يذهب إلى ثغر من الثُّغور فيقاتل فيه، أو يتركوه حتى يذهب إلى يزيد بن معاوية فيضع يده في يده فيحكم فيه بما شاء، فأبوا عليه واحدة منهنَّ، وقالوا: لا بدَّ من قدومك على عبيد الله بن زياد فيرى فيك رأيه، فأبى أن يقدم عليه أبداً، وقاتلهم دون ذلك فقتلوه رحمه الله وذهبوا برأسه إلى عبيد الله بن زياد فوضعوه بين يديه، فجعل ينكت بقضيب في يده على ثناياه وعنده أنس بن مالك جالس، فقال له: يا هذا إرفع قضيبك قد طال ما رأيت رسول الله يقبِّل هذه الثَّنايا.
ثمَّ أمر عبيد الله بن زياد أن يسار بأهله ومن كان معه إلى الشَّام إلى يزيد بن معاوية، ويقال: أنَّه بعث معهم بالرَّأس حتى وضع بين يدي يزيد فأنشد حينئذ قول بعضهم:
نَفلق هاماً من رِجال أعزَّةٍ * عَلَينَا وَهُمْ كانوا أَعقَّ وأظلمَا
ثمَّ أمر بتجهيزهم إلى المدينة النَّبوية، فلمَّا دخلوها تلقَّتهم امرأة من بنات عبد المطَّلب ناثرة شعرها، واضعة كفَّها على رأسها تبكي وهي تقول:
مَاذا تَقولونَ إنْ قَالَ النَّبيُّ لكمْ * مَاذا فعلتُمْ وأنْتُمْ آخِرَ الأُمَمِ
بِعترتي وَبأهلِي بعدَ مُفتقدِي * مِنهُمْ أسَارَى وقتلَى ضُرِّجوا بدمِ
ما كانَ هَذا جزائي إذْ نَصَحْتُ لكم * أنْ تخلفوني بِشَرٍ في ذَوي رَحمِي
وسنورد هذا مفصلاً في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله، وبه الثِّقة وعليه التُّكلان. (ج/ص:6/261)
وقد رثاه النَّاس بمراث كثيرة ومن أحسن ذلك ما أورده الحاكم أبو عبد الله النّيسابوريّ - وكان فيه تشيع -:
جاءُوا برأسِكَ يا ابنَ بنتِ محمَّدٍ * مُتَزَمِّلاً بِدِمائهِ تَزميلا
فَكأنَّما بِكَ يا ابن بنتِ محمَّدِ * قَتَلُوا جَهَاراً عامدينَ رَسُولا
قتَلوكَ عَطْشاناً ولمْ يَتَرقَّبُوا * في قَتْلِكَ التنزيلَ والتَّأويلا
ويُكبِّرونَ بأنْ قتلتَ وإنَّما * قَتَلُوا بكَ التَّكبيرَ والتَّهليلا
ذكر الإخبار عن وقعة الحرَّة التي كانت في زمن يزيد أيضاً:
قال يعقوب بن سفيان: حدَّثني إبراهيم بن المنذر، حدَّثني ابن فليح عن أبيه، عن أيُّوب بن عبد الرَّحمن، عن أيُّوب بن بشير المعافريّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرج في سفر من أسفاره فلمَّا مرَّ بحرَّة زُهرة وقف فاسترجع، فساء ذلك من معه وظنُّوا أنَّ ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطَّاب: يا رسول الله ما الذي رأيت ؟
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أما إنَّ ذلك ليس من سفركم هذا)).
قالوا: فما هو يا رسول الله ؟
قال: ((يقتل بهذه الحرَّة خيار أمتي بعد أصحابي)) هذا مرسل.
وقد قال يعقوب بن سفيان: قال وهب بن جرير: قالت جويرية: حدَّثني ثور بن زيد عن عكرمة، عن ابن عبَّاس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستِّين سنة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب: 14].
قال: لأعطوها يعني: إدخال بني حارثة أهل الشَّام على أهل المدينة وهذا إسناد صحيح إلى ابن عبَّاس، وتفسير الصَّحابي في حكم المرفوع عند كثير من العلماء.
وقال نعيم بن حماد في كتاب (الفتن والملاحم): حدَّثنا أبو عبد الصَّمد العمي، ثنا أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصَّامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يا أبا ذر أرأيت إن النَّاس قتلوا حتى تغرق حجارة الزيت من الدِّماء كيف أنت صانع؟))
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: ((تدخل بيتك)).
قال: قلت: فإن أتى عليَّ ؟
قال: ((يأتي من أنت منه)).
قال: قلت: وأحمل السِّلاح ؟
قال: ((إذاً تشرك معهم)).
قال: قلت: فكيف أصنع يا رسول الله ؟
قال: ((إن خفت أن يبهرك شعاع السَّيف فألق طائفة من ردائك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه)).
ورواه الأمام أحمد في مسنده عن مرحوم - هو ابن عبد العزيز - عن أبي عمران الجونيّ، فذكره مطولاً. (ج/ص:6/262)
قلت: وكان سبب وقعة الحرَّة أنَّ وفداً من أهل المدينة قدموا على يزيد بن معاوية بدمشق فأكرمهم وأحسن جائزتهم وأطلق لأميرهم - وهو عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر - قريباً من مائة ألف، فلمَّا رجعوا ذكروا لأهليهم عن يزيد ما كان يقع منه من القبائح في شربه الخمر وما يتبع ذلك من الفواحش التي من أكبرها ترك الصَّلاة عن وقتها بسبب السِّكر، فاجتمعوا على خلعه فخلعوه عند المنبر النَّبوي فلمَّا بلغه ذلك بعث إليهم سرية يقدمها رجل يقال له: مسلم بن عقبة، وإنَّما يسميه السَّلف مسرف بن عقبة، فلمَّا ورد المدينة استباحها ثلاثة أيام فقتل في غضون هذه الأيام بشراً كثيراً حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها، وزعم بعض علماء السَّلف أنَّه قتل في غضون ذلك ألف بكر فالله أعلم.
وقال عبد الله بن وهب: عن الإمام مالك، قتل يوم الحرَّة سبعمائة رجل من حملة القرآن، حسبت أنَّه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وذلك في خلافة يزيد.
وقال يعقوب ابن سفيان: سمعت سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري يقول: قتل يوم الحرَّة عبد الله بن يزيد المازنيّ، ومعقل بن سنان الأشجعيّ، ومعاذ بن الحارث القاريّ، وقتل عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر.
قال يعقوب: وحدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير عن اللَّيث قال: وكانت وقعة الحرَّة يوم الأربعاء لثلاث بقين من الحجة سنة ثلاث وستين.
ثمَّ انبعث مسرف بن عقبة إلى مكة قاصداً عبد الله بن الزُّبير ليقتله بها لأنَّه فرَّ من بيعة يزيد، فمات يزيد بن معاوية في غضون ذلك واستفحل أمر عبد الله بن الزُّبير في الخلافة بالحجاز، ثمَّ أخذ العراق ومصر، وبويع بعد يزيد لابنه معاوية بن يزيد وكان رجلاً صالحاً، فلم تطل مدته مكث أربعين يوماً، وقيل: عشرين يوماً، ثمَّ مات رحمه الله فوثب مروان بن الحكم على الشَّام فأخذها فبقي تسعة أشهر ثمَّ مات، وقام بعده ابنه عبد الملك فنازعه فيها عمرو بن سعيد بن الأشدق وكان نائباً على المدينة من زمن معاوية وأيَّام يزيد ومروان، فلمَّا هلك مروان زعم أنَّه أوصى له بالأمر من بعد ابنه عبد الملك فضاق به ذرعاً، ولم يزل به حتى أخذه بعد ما استفحل أمره بدمشق فقتله في سنة تسع وستين ويقال: في سنة سبعين، واستمرت أيَّام عبد الملك حتى ظفر بابن الزُّبير سنة ثلاث وسبعين قتله الحجَّاج بن يوسف الثَّقفيّ عن أمره بمكة بعد محاصرة طويلة اقتضت أن نصب المنجنيق على الكعبة من أجل أن ابن الزبير لجأ إلى الحرم، فلم يزل به حتى قتله، ثمَّ عهد في الأمر إلى بنيه الأربعة بعده الوليد، ثمَّ سليمان، ثمَّ يزيد، ثمَّ هشام بن عبد الملك. (ج/ص:6/263)
وقد قال الأمام أحمد: حدَّثنا أسود ويحيى ابن أبي بكير، ثنا كامل أبو العلاء سمعت أبا صالح - وهو مولى ضباعة المؤذن واسمه مينا - قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تعوذوا بالله من رأس السَّبعين وإمارة الصِّبيان)).
وقال: ((لا تذهب الدُّنيا حتَّى يظهر اللَّكع ابن لكع)).
وقال الأسود: يعني: اللَّئيم ابن اللَّئيم.
وقد روى التّرمذيّ من حديث أبي كامل عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عمر أمتي من ستِّين سنة إلى سبعين سنة)).
ثمَّ قال: حسن غريب.
وقد روى الإمام أحمد عن عفَّان وعبد الصَّمد، عن حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، حدَّثني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لينعقنَّ)).
وقال عبد الصَّمد في روايته: ((ليزعقنَّ جبَّار من جبابرة بني أمية على منبري هذا)).
زاد عبد الصَّمد: ((حتى يسيل رعافه)).
قال: فحدَّثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص يرعف على منبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتَّى سال رعافه.
قلت: علي بن يزيد بن جدعان في روايته غرابة ونكارة وفيه تشيُّع، وعمرو بن سعيد هذا يقال له: الأشدق كان من سادات المسلمين وأشرافهم في الدُّنيا لا في الدِّين.
وروى عن جماعة من الصَّحابة منهم في صحيح مسلم عن عثمان في فصل الطَّهور، وكان نائباً على المدينة لمعاوية ولابنه يزيد بعده، ثمَّ استفحل أمره حتى كان يصاول عبد الملك بن مروان، ثمَّ خدعه عبد الملك حتى ظفر به فقتله في سنة تسع وستين أو سنة سبعين فالله أعلم.
وقد روى عنه من المكارم أشياء كثيرة من أحسنها أنَّه لما حضرته الوفاة قال لبنيه وكانوا ثلاثة عمرو هذا وأمية وموسى، فقال لهم: من يتحمل ما علي ؟
فبدر ابنه عمرو هذا وقال: أنا يا أبة وما عليك ؟
قال: ثلاثون ألف دينار.
قال: نعم.
قال: وأخواتك لا تزوجهنَّ إلا بالأكفَّاء ولو أكلن خبز الشَّعير.
قال: نعم.
قال: وأصحابي من بعدي إن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي.
قال: نعم.
قال: أما لئن قلت ذلك فلقد كنت أعرفه من حماليق وجهك وأنت في مهدك.
وقد ذكر البيهقيّ من طريق عبد الله بن صالح - كاتب اللَّيث - عن حرملة بن عمران، عن أبيه، عن يزيد ابن أبي حبيب أنَّه سمعه يحدِّث عن محمد بن يزيد ابن أبي زياد الثَّقفيّ، قال: اصطحب قيس ابن خَرَشَة وكعب حتى إذا بلغا صفِّين وقف كعب الأحبار فذكر كلامه فيما يقع هناك من سفك دماء المسلمين، وأنَّه يجد ذلك في التَّوراة.
وذكر عن قيس بن خرشة أنَّه بايع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على أن يقول الحق، وقال: ((يا قيس بن خرشة عسى إن عذَّبك الدَّهر حتى يكبك بعدي من لا يستطيع أن تقول بالحق معهم)).
فقال: والله لا أبايعك على شيء إلا وفَّيت لك.
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذاً لا يضرَّك بشر)).
فبلغ قيس إلى أيَّام عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان فنقم عليه عبيد الله في شيء فأحضره، فقال: أنت الذي زعم أنَّه لا يضرك بَشَر ؟
قال: نعم.
قال: لتعلمنَّ اليوم أنَّك قد كذبت ائتوني بصاحب العذاب.
قال: فمال قيس عند ذلك فمات. (ج/ص:6/264)
معجزة أخرى:
روى البيهقيّ من طريق الدَّراورديّ عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أنَّ بعض بني عبد الله سايره في بعض طريق مكة، قال: حدَّثني العبَّاس بن عبد المطَّلب أنَّه بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حاجة فوجد عنده رجلاً فرجع ولم يكلِّمه من أجل مكان الرَّجل، فلقي العبَّاس رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأخبره بذلك، فقال: ((ورآه؟))
قال: نعم.
قال: ((أتدري من ذلك الرَّجل؟ ذاك جبريل ولن يموت حتى يذهب بصره، ويؤتى علماً)).
وقد مات ابن عبَّاس سنة ثمان وستين بعد ما عمي رضي الله عنه.
وروى البيهقيّ من حديث المعتمر بن سليمان حدَّثتنا سيابة بنت يزيد عن خمارة، عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخل على زيد يعوده في مرض كان به.
قال: ((ليس عليك من مرضك بأس ولكن كيف بك إذا عمَّرت بعدي فعميت؟))
قال: إذاً أحتسب وأصبر.
قال: ((إذاً تدخل الجنَّة بغير حساب)).
قال: فعمي بعد ما مات رسول الله ثمَّ ردَّ الله عليه بصره ثمَّ مات.
فصل حديث: إن بين يدي السَّاعة ثلاثين كذاباً دجالاً.
وثبت في الصَّحيحين عن أبي هريرة وعند مسلم عن جابر بن سمرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ بين يدي السَّاعة ثلاثين كذاباً دجَّالاً كلّهم يزعم أنَّه نبيّ)).
وقال البيهقيّ: عن المالينيّ، عن أبي عدي، عن أبي يعلى الموصليّ، حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسديّ، ثنا شريك عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن الزُّبير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تقوم السَّاعة حتَّى يخرج ثلاثون كذاباً منهم: مسيلمة، والعنسي، والمختار، وشرُّ قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة، وثقيف)). (ج/ص:6/265)
قال ابن عديّ: محمد بن الحسن له إفرادات وقد حدَّث عنه الثِّقات ولم أر بتحديثه بأساً.
وقال البيهقيّ: لحديثه في المختار شواهد صحيحه.
ثمَّ أورد من طريق أبي داود الطَّيالسيّ حدَّثنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل، عن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت للحجَّاج بن يوسف: أما إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حدَّثنا أنَّ في ثقيف كذاباً ومبيراً فأمَّا الكذَّاب فقد رأيناه وأمَّا المبير فلا أخالك إلا إيَّاه.
قال: ورواه مسلم من حديث الأسود بن شيبان وله طرق عن أسماء وألفاظ سيأتي إيرادها في موضعه.
وقال البيهقيّ: أنَّا الحاكم وأبو سعيد عن الأصمّ، عن عبَّاس الدَّراورديّ، عن عبيد الله بن الزُّبير الحميديّ، ثنا سفيان بن عيينة عن أبي المحيا، عن أمِّه قالت: لمَّا قتل الحجَّاج عبد الله بن الزُّبير دخل الحجَّاج على أسماء بنت أبي بكر، فقال: يا أمَّه إنَّ أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة ؟
فقالت: لست لك بأم ولكنِّي أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة ولكن انتظر حتى أحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يخرج من ثقيف كذَّاب ومبير)) فأما الكذَّاب فقد رأيناه، وأمَّا المبير فأنت.
فقال الحجَّاج: مبير المنافقين.
وقال أبو داود الطَّيالسيّ: حدَّثنا شريك عن أبي علوان عبد الله بن عصمة، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إنَّ في ثقيف كذَّاباً ومبيراً)).
وقد تواتر خبر المختار ابن أبي عبيد الكذَّاب الذي كان نائباً على العراق وكان يزعم أنَّه نبيّ، وأنَّ جبريل كان يأتيه بالوحي.
وقد قيل لابن عمر - وكان زوج أخت المختار وصفيه -: إنَّ المختار يزعم أنَّ الوحي يأتيه.
قال: صدق قال الله تعالى: ((وإنَّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليائهم)).
وقال أبو داود الطَّيالسيّ: ثنا قرة بن خالد عن عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شدَّاد قال: كنت ألصق شيء بالمختار الكذَّاب، قال: فدخلت عليه ذات يوم فقال: دخلت وقد قام جبريل قبل من هذا الكرسيّ.
قال: فأهويت إلى قائم السَّيف لأضربه حتَّى ذكرت حديثاً حدَّثنيه عمرو بن الحمق الخزاعيّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا أمن الرَّجل الرَّجل على دمه ثمَّ قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة)) فكففت عنه.
وقد رواه أسباط بن نصر وزائدة والثوريّ عن إسماعيل السديّ، عن رفاعة بن شداد القِتبانيّ فذكر نحوه. (ج/ص:6/266)
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو بكر الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة عن مجالد، عن الشِّعبيّ قال: فأخَّرت أهل البصرة فغلبتهم بأهل الكوفة، والأحنف ساكت لا يتكلم فلمَّا رآني غلبتهم أرسل غلاماً له، فجاء بكتاب فقال: هاك إقرأ.
فقرأته فإذا فيه من المختار لله يذكر أنَّه نبي.
يقول الأحنف: أنى فينا مثل هذا.
وأما الحجَّاج بن يوسف فقد تقدَّم الحديث أنَّه الغلام المبير الثقفيّ وسنذكر ترجمته إذا انتهينا إلى أيَّامه فإنَّه كان نائباً على العراق لعبد الملك بن مروان ثمَّ لابنه الوليد بن عبد الملك وكان من جبابرة الملوك على ما كان فيه من الكرم والفصاحة على ما سنذكره.
وقد قال البيهقيّ: ثنا الحاكم عن أبي نضر الفقيه، ثنا عثمان بن سعيد الدَّارميّ أنَّ معاوية بن صالح حدَّثه عن شريح بن عبيد، عن أبي عذبة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطَّاب فأخبره أنَّ أهل العراق قد حصَّبوا أميرهم فخرج غضبان فصلَّى لنا الصَّلاة فسها فيها حتى جعل النَّاس يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فلمَّا سلَّم أقبل على النَّاس فقال: من ههنا من أهل الشَّام، فقام رجل ثمَّ قام آخر ثمَّ قمت أنا ثالثاً أو رابعاً، فقال: يا أهل الشَّام استعدوا لأهل العراق فإنَّ الشَّيطان قد باض فيهم وفرَّخ اللَّهم إنهم قد لبسوا علي فألبس عليهم بالغلام الثقفيّ يحكم فيهم بحكم أهل الجاهلية، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم.
قال عبد الله: وحدَّثني ابن لهيعة بمثله.
قال: وولد الحجَّاج يومئذ.
ورواه الدَّارميّ أيضاً عن أبي اليمان، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرَّحمن بن ميسرة، عن أبي عذبة الحمصيّ، عن عمر فذكر مثله.
قال أبو اليمان: علم عمر أنَّ الحجَّاج خارج لا محالة فلمَّا أغضبوه استعجل لهم العقوبة.
قلت: فإن كان هذا نقله عمر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لقد تقدَّم له شاهد عن غيره وإن كان عن تحديث فكرامة الولي معجزة لنبيه.
وقال عبد الرزاق: أنَّا جعفر - يعني: ابن سليمان - عن مالك بن دينار، عن الحسن قال: قال علي لأهل الكوفة: اللَّهم كما ائتمنتهم فخانوني ونصحت لهم فغشُّوني، فسلِّط عليهم فتى ثقيف الذبَّال الميَّال يأكل خضرتها ويلبس فروتها ويحكم فيهم بحكم الجاهلية.
قال: فتوفي الحسن وما خلق الله الحجَّاج يومئذ وهذا منقطع.
وقد رواه البيهقيّ أيضاً من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أيُّوب، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن علي ابن أبي طالب أنَّه قال: الشَّاب الذبَّال أمير المصرين يلبس فروتها ويأكل خضرتها، ويقتل أشراف أهلها، يشتد منه الفرق ويكثر منه الأرق ويسلطه الله على شيعته.
وله من حديث يزيد بن هارون أنَّا العوان بن حوشب، حدَّثني حبيب ابن أبي ثابت قال: قال علي: لا متَّ حتى تدرك فتى ثقيف.
فقيل: يا أمير المؤمنين وما فتى ثقيف ؟
فقال: ليقالنَّ له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم رجل يملك عشرين سنة أو بضعا وعشرين سنة، لا يدع لله معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة وكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يفتن بمن أطاعه من عصاه وهذا معضل وفي صحَّته عن علي نظر والله أعلم. (ج/ص:6/267)
وقال البيهقيّ: عن الحاكم، عن الحسين بن الحسن بن أيُّوب، عن أبي حاتم الرَّازيّ، عن عبد الله بن يوسف الثنيني، ثنا هشام بن يحيى الغسانيّ قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئناهم بالحجَّاج لغلبناهم.
وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم بن النجود ما بقيت لله حرمة إلا وقد ارتكبها الحجاج.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن ابن طاوس أنَّ أباه لمَّا تحقَّق موت الحجَّاج تلا قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45].
قلت: وقد توفي الحجَّاج سنة خمس وتسعين
الإشارة النَّبوية إلى دولة عمر بن عبد العزيز تاج بني أمية:
قد تقدَّم حديث أبي إدريس الخولانيّ عن حذيفة قال: سألت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هل بعد هذا الخير من شر ؟
قال: ((نعم)).
قلت: وهل بعد ذلك الشَّر من خير ؟
قال: ((نعم وفيه دخن)).
قلت: وما دخنه ؟
قال: ((قوم يستنُّون بغير سنَّتي ويهدون بغير هدييّ، يعرف منهم وينكر)) الحديث.
فحمل البيهقيّ وغيره هذا الخبر الثَّاني على أيام عمر بن عبد العزيز.
وروى عن الحاكم، عن الأصمّ، عن العبَّاس بن الوليد بن مرثد، عن أبيه قال: سئل الأوزاعيّ عن تفسير حديث حذيفة حين سأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الشَّر الذي يكون بعد ذلك الخير.
فقال الأوزاعيّ: هي الرِّدة التي كانت بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفي مسألة حذيفة فهل بعد ذلك الشَّر من خير ؟
قال: ((نعم وفيه دخن)).
قال الأوزاعيّ: فالخير الجماعة وفي ولاتهم من يعرف سيرته وفيهم من ينكر سيرته.
قال: فلم يأذن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في قتالهم ما صلُّوا الصَّلاة.
وروى أبو داود الطَّيالسيّ عن داود الواسطيّ - وكان ثقة - عن حبيب بن سالم، عن نعمان بن سالم، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّكم في النُّبوة ما شاء الله أن يكون ثمَّ يرفعها لكم إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبُّوة)).
قال فقدم عمر بن عبد العزيز ومعه يزيد بن النُّعمان فكتبت إليه أذكِّره الحديث، وكتبته إليه أقول: أني أرجو أن تكون أمير المؤمنين بعد الخيرية.
قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسرَّ به وأعجبه.
وقال نعيم بن حماد: حدَّثنا روح بن عبادة عن سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعنده عمر وعثمان وعلي، فقال لي: ((أدن)) فدنوت حتى قمت بين يديه فرفع بصره إليَّ وقال: ((أما إنَّك ستلي أمر هذه الأمة وستعدل عليهم)). (ج/ص:6/268)
وسيأتي في الحديث الآخر إن شاء الله أنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
وقد قال كثير من الأئمة إنَّه عمر بن عبد العزيز فإنَّه تولَّى سنة إحدى ومائة.
وقال البيهقيّ: أنَّا الحاكم، أنَّا أبو حامد أحمد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفَّان بن مسلم، ثنا عثمان بن عبد الحميد ابن لاحق عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر قال: بلغنا أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: إنَّ من ولدي رجلاً بوجهه شين يلي فيملأ الأرض عدلاً.
قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
وقد رواه نعيم بن حماد عن عثمان بن عبد الحميد به.
ولهذا طرق عن ابن عمر أنَّه كان يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطَّاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلاً.
وقد روي ذلك عن عبد الرَّحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيّب نحواً من هذا، وقد كان هذا الأمر مشهوراً قبل ولايته وميلاده بالكلِّية أنَّه يلي رجل من بني أمية يقال له: أشج بني مروان، وكانت أمه أروى بنت عاصم بن عمر بن الخطَّاب، وكان أبوه عبد العزيز بن مروان نائباً لأخيه عبد الملك على مصر، وكان يكرم عبد الله بن عمر ويبعث إليه بالتُّحف والهدايا والجوائز فيقبلها، وبعث إليه مرَّة بألف دينار، فأخذها وقد دخل عمر بن عبد العزيز يوماً إلى اصطبل أبيه وهو صغير فرمحه فرس فشجَّه في جبينه، فجعل أبوه يسلت عنه الدَّم ويقول: أما لئن كنت أشج بني مروان إنَّك إذاً لسعيد وكان النَّاس يقولون: الأشجّ والناقص أعدلا بني مروان، فالأشج هو عمر بن عبد العزيز، والناقص هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقول فيه الشَّاعر:
رأيتُ اليَزيدَ بن الوليدِ مباركاً * شَديداً بأعباءِ الخِلافةِ كاهِلِهِ
قلت: وقد ولي عمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك سنتين ونصفاً فملأ الأرض عدلاً وفاض المال حتَّى كان الرَّجل يهمه لمن يعطي صدقته.
وقد حمل البيهقيّ الحديث المتقدِّم عن عدي بن حاتم على أيَّام عمر بن عبد العزيز وعندي في ذلك نظر والله أعلم.
وقد روى البيهقيّ من حديث إسماعيل ابن أبي أويس، حدَّثني أبو معن الأنصاري، ثنا أسيد قال: بينما عمر بن عبد العزيز يمشي إلى مكة بفلاة من الأرض إذ رأى حية ميتة، فقال: علي بمحفار.
فقالوا: نكفيك - أصلحك الله -.
قال: لا ثمَّ أخذه ثمَّ لفَّه في خرقة ودفنه، فإذا هاتف يهتف رحمة الله عليك يا سُرَّق.
فقال له عمر بن عبد العزيز: من أنت - يرحمك الله - ؟
قال: أنا رجل من الجنِّ، وهذا سرق ولم يبق ممن بايع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم غيري وغيره وأشهد لسمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((تموت يا سرَّق بفلاة من الأرض ويدفنك خير أمتي)).
وقد روي هذا من وجه آخر وفيه أنهم كانوا تسعة بايعوا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفيه أنَّ عمر بن عبد العزيز حلَّفه فلمَّا حلف بكى عمر بن عبد العزيز.
وقد رجَّحه البيهقيّ وحسَّنه فالله أعلم. (ج/ص:6/269)
حديث آخر في صحَّته نظر في ذكر وهب بن منبه بالمدح، وذكر غيلان بالذَّم:
روى البيهقيّ من حديث هشام بن عمَّار وغيره عن الوليد بن أسلم، عن مروان بن سالم اليرقانيّ، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصَّامت قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يكون في أمتي رجل يقال له: وهب يهب الله له الحكمة، ورجل يقال له: غيلان هو أضر على أمتي من إبليس)).
وهذا لا يصح لأنَّ مروان بن سالم هذا متروك.
وبه إلى الوليد حدَّثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ينعق الشَّيطان بالشَّام نعقة يكذب ثلثاهم بالقدر)).
قال البيهقيّ: وفي هذا وأمثاله إشارة إلى غيلان وما ظهر بالشَّام بسببه من التَّكذيب بالقدر حتى قتل.
الإشارة إلى محمد بن كعب القرظيّ وعلمه بتفسير القرآن وحفظه:
قال حرملة: عن ابن وهب، أخبرني أبو صخر عن عبد الله بن مغيث، عن أبي بردة الظفريّ، عن أبيه، عن جدِّه قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يخرج في أحد الكاهنين رجل قد درس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون من بعده)).
وروى البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن إسماعيل القاضي، ثنا أبو ثابت، ثنا ابن وهب، حدَّثني عبد الجبَّار بن عمر عن ربيعة ابن أبي عبد الرَّحمن قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يكون في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد غيره)).
قال: فكانوا يرون أنَّه محمد بن كعب القرظيّ.
قال أبو ثابت: الكاهنان قريظة والنَّضير.
وقد روى من وجه آخر مرسل يخرج من الكاهنين رجل أعلم النَّاس بكتاب الله.
وقد قال عون بن عبد الله: ما رأيت أحداً أعلم بتأويل القرآن من محمد بن كعب. (ج/ص:6/270)
ذكر الإخبار بانخرام قرنة صلَّى الله عليه وسلَّم بعد مائة سنة من ليلة إخباره:
ثبت في الصَّحيحين من حديث الزُّهريّ عن سالم وأبي بكر بن سليمان ابن أبي حيثمة عن عبد الله ابن عمر قال: صلَّى بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة العشاء ليلة في آخر عمره فلمَّا سلَّم قام فقال: ((أرأيتكم ليلتكم هذه فإنَّ رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)).
قال عمر: فوهل النَّاس من مقالة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ما يحدثون من هذه الأحاديث من مائة سنة، وإنما يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن.
وفي رواية إنما أراد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم انخرام قرنه.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن جريج أخبرني أبو الزُّبير أنَّه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول قبل موته بشهر: ((يسألون عن السَّاعة وإنَّما علمها عند الله فأقسم بالله ما على ظهر الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة)).
وهذا الحديث وأمثاله مما يحتجُّ به من ذهب من الأئمة إلى أن الخضر ليس بموجود الآن كما قدَّمنا ذلك في ترجمته في قصص الأنبياء - عليهم السَّلام - وهو نص على أن جميع الأحياء في الأرض يموتون إلى تمام مائة سنة من إخباره عليه السلام وكذا وقع سواء فما نعلم تأخُّر أحد من أصحابه إلى ما يجاوز هذه المدَّة، وكذلك جميع النَّاس ثمَّ قد طرد بعض العلماء هذا الحكم في كل مائة سنة، وليس في الحديث تعرض لهذا والله أعلم.
حديث آخر:
قال محمد بن عمر الواقديّ: حدَّثني شريح بن يزيد عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بسر قال: وضع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يده على رأسي وقال: ((هذا الغلام يعيش قرناً)).
قال: فعاش مائة سنة.
وقد رواه البخاريّ في (التَّاريخ) عن أبي حيوة شريح بن يزيد به فذكره، قال: وزاد غيره وكان في وجهه ثالول، فقال: ((ولا يموت حتى يذهب الثَّالول من وجهه)).
فلم يمت حتى ذهب الثَّالول من وجهه وهذا إسناد على شرط السُّنن ولم يخرجوه.
ورواه البيهقيّ عن الحاكم، عن محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، عن الفضل بن محرز الشعرانيّ، ثنا حيوة بن شريح، عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بسر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: ((يعيش هذا الغلام قرناً)) فعاش مائة سنة.
قال الواقديّ وغير واحد: توفِّي عبد الله بن بسر بحمص سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين، وهو آخر ما بقي من الصَّحابة بالشَّام. (ج/ص:6/271)
الإخبار عن الوليد بن يزيد بما فيه له من الوعيد الشَّديد:
وإن صحَّ فهو الوليد بن يزيد لا الوليد بن عبد الملك.
قال يعقوب بن سفيان: حدَّثني محمد بن خالد بن العبَّاس السَّكسكي، حدَّثني الوليد بن مسلم، حدَّثني أبو عمر الأوزاعيّ عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب قال: ولد لأخي أم سلمة غلام فسمُّوه الوليد.
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((قد جعلتم تسمُّون بأسماء فراعنتكم إنَّه سيكون في هذه الأمَّة رجل يقال له: الوليد هو أضرُّ على أمَّتي من فرعون على قومه)).
قال أبو عمر الأوزاعيّ: فكان النَّاس يرون أنَّه الوليد بن عبد الملك ثمَّ رأينا أنَّه الوليد بن يزيد لفتنة النَّاس به حتى خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت على الأمَّة الفتنة والهرج.
وقد رواه البيهقيّ عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن سعيد بن عثمان التَّنوخيّ، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعيّ، عن الزُّهريّ، عن سعيد فذكره، ولم يذكر قول الأوزاعيّ ثمَّ قال: وهذا مرسل حسن.
وقد رواه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم به، وعنده قال الزُّهريّ: إن استخلف الوليد بن يزيد فهو هو وإلا فهو الوليد بن عبد الملك.
وقال نعيم بن حماد: ثنا هشيم عن أبي حمزة، عن الحسن قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((سيكون رجل اسمه الوليد يسد به ركن من أركان جهنَّم وزاوية من زواياها)) وهذا مرسل أيضاً.
حديث آخر:
قال سليمان بن بلال: عن العلاء بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلاً اتخذوا دين الله دغلا وعباد الله خولاً ومال الله دولاً)) رواه البيهقيّ من حديثه.
وقال نعيم بن حماد: ثنا بقية بن الوليد وعبد القدُّوس عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إذا بلغت بنو أمية أربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً)) وهذا منقطع بين راشد بن سعد وبين أبي ذر.
وقال إسحاق بن راهويه: أنَّا جرير عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دغلاً ومال الله دولاً وعباد الله خولاً)).
ورواه أحمد عن عثمان ابن أبي شيبة، عن جرير به. (ج/ص:6/272)
وقال البيهقيّ: أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا بسَّام - وهو محمَّد بن غالب - ثنا كامل بن طلحة، ثنا ابن لهيعة عن أبي قبيل أنَّ ابن وهب أخبره أنَّه كان عند معاوية ابن أبي سفيان فدخل عليه مروان فكلَّمه في حاجته فقال: إقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤنتي لعظيمة وإني لأبو عشرة وعمُّ عشرة وأخو عشرة، فلمَّا أدبر مروان - وابن عبَّاس جالس مع معاوية على السَّرير - قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عبَّاس أما تعلم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله بينهم دولاً وعباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً؟ فإذا بلغوا سبعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك ثمرة؟))
فقال ابن عبَّاس: اللَّهم نعم.
قال: وذكر مروان حاجة له، فردَّ مروان عبد الملك إلى معاوية فكلَّمه فيها، فلمَّا أدبر عبد الملك، قال معاوية: أنشدك بالله يا ابن عبَّاس أما تعلم أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر هذا فقال: ((أبو الجبابرة الأربعة؟)).
فقال ابن عبَّاس: اللَّهم نعم.
وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة وابن لهيعة ضعيف.
وقد قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارميّ: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا سعد بن زيد أخو حماد بن زيد عن علي بن الحكم البنانيّ، عن أبي الحسن، عن عمرو بن مرَّة - وكانت له صحبة - قال: جاء الحكم ابن أبي العاص يستأذن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعرف كلامه فقال: ((إئذنوا له حية أو ولد حية - عليه لعنة الله - وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمنين وقليل ما هم ليترفون في الدُّنيا، ويوضعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة، يعطون في الدُّنيا ومالهم في الآخرة من خلاق)) قال الدَّارميّ: أبو الحسن هذا حمصي.
وقال نعيم بن حماد في (الفتن والملاحم): ثنا عبد الله بن مروان المروانيّ عن أبي بكر ابن أبي مريم، عن راشد بن سعد أنَّ مروان بن الحكم لمَّا ولد دفع إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليدعو له فأبى أن يفعل، ثمَّ قال: ((ابن الزَّرقاء هلاك أمتي على يديه ويدي ذريته)) وهذا حديث مرسل.
ذكر الأخبار عن خلفاء بني أمية جملة من جملة:
قال يعقوب بن سفيان: ثنا أحمد بن محمد أبو محمد الزرقيّ، ثنا الزنجيّ - يعني: مسلم بن خالد - عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((رأيت في المنام بني الحكم أو بني أبي العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة)).
قال: فما رآني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي.
وقال الثَّوريّ: عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب قال: رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بني أمية على منابرهم فساءه ذلك، فأوحي إليه إنَّما هي دنيا أعطوها فقرت به عينه وهي قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60].
يعني: بلاء للنَّاس، علي بن زيد بن جدعان ضعيف، والحديث مرسل أيضاً. (ج/ص:6/273)
وقال أبو داود الطَّيالسيّ: ثنا القاسم بن الفضل - هو الحدائي - ثنا يوسف بن مازن الرَّاسبيّ قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: يا مسوِّد وجوه المؤمنين.
فقال الحسن: لا تؤنبني - رحمك الله - فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رأى بني أمية يخطبون على منبره رجلاً رجلاً فساءه ذلك، فنزلت: ((إنَّا أعطيناك الكوثر)) - يعني: نهراً في الجنَّة ونزلت: ((إنَّا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر)) يملكه بنو أمية.
قال القاسم: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً.
وقد رواه التّرمذيّ وابن جرير الطَّبريّ والحاكم في مستدركه والبيهقيّ في (دلائل النّبوة) كلَّهم من حديث القاسم بن الفضل الحذَّاء، وقد وثَّقه يحيى بن سعيد القطَّان، وابن مهدي عن يوسف بن سعد ويقال: يوسف بن مازن الرَّاسبيّ.
وفي رواية ابن جرير عيسى بن مازن قال التّرمذيّ: وهو رجل مجهول وهذا الحديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فقوله: إنَّ يوسف هذا مجهول مشكل، والظَّاهر أنَّه أراد أنَّه مجهول الحال فإنَّه قد روى عنه جماعة: منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد.
وقال يحيى بن معين: وهو مشهور وفي رواية عنه قال: هو ثقة فارتفعت الجهالة عنه مطلقاً.
قلت: ولكن في شهوده قصَّة الحسن ومعاوية نظر وقد يكون أرسلها عمَّن لا يعتمد عليه والله أعلم.
وقد سألت شيخنا الحافظ أبا الحجَّاج المزِّيّ رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هو حديث منكر وأما قول القاسم بن الفضل رحمه الله: إنَّه حسب دولة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقصه فهو غريب جداً وفيه نظر وذلك لأنَّه لا يمكن إدخال دولة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه وكانت اثنتا عشرة سنة في هذه المدَّة لا من حيث الصُّورة، ولا من حيث المعنى وذلك أنها ممدوحة لأنَّه أحد الخلفاء الرَّاشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحقِّ، وبه كانوا يعدلون وهذا الحديث إنَّما سيق لذمِّ دولتهم وفي دلالة الحديث على الذَّم نظر وذلك أنَّه دلَّ على أنَّ ليلة القدر خير من ألف شهر التي هي دولتهم، وليلة القدر ليلة خيِّرة عظيمة المقدار والبركة كما وصفها الله تعالى به فما يلزم من تفضيلها على دولتهم ذمَّ دولتهم فليتأمل هذا فإنَّه دقيق يدلُّ على أنَّ الحديث في صحَّته نظر لأنَّه إنَّما سيق لذمِّ أيَّامهم والله تعالى أعلم.
وأمَّا إذا أراد أنَّ ابتداء دولتهم منذ ولي معاوية حين تسلَّمها من الحسن بن علي فقد كان ذلك سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، وكان يقال له: عام الجماعة لأنَّ النَّاس كلَّهم اجتمعوا على إمام واحد وقد تقدَّم الحديث في صحيح البخاري عن أبي بكرة أنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول للحسن بن علي: ((إنَّ ابني هذا سيد ولعلَّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) فكان هذا في هذا العام، ولله الحمد والمنة. (ج/ص:6/274)
واستمر الأمر في أيدي بني أمية من هذه السَّنة إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائة حتى انتقل إلى بني العبَّاس كما سنذكره، ومجموع ذلك اثنتان وتسعون سنة، وهذا لا يطابق ألف شهر لأنَّ معدل ألف شهر ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فإن قال: أنا أخرج منها ولاية ابن الزُّبير وكانت تسع سنين فحينئذ يبقى ثلاث وثمانون سنة، فالجواب أنَّه وإن خرجت ولاية ابن الزُّبير فإنَّه لا يكون ما بقي مطابقاً لألف شهر تحديداً بحيث لا ينقص يوماً ولا يزيده كما قاله بل يكون ذلك تقريباً هذا وجه الثَّاني أن ولاية ابن الزُّبير كانت بالحجاز والأهواز والعراق في بعض أيَّامه، وفي مصر في قول، ولم تنسلب يد بني أمية من الشَّام أصلاً، ولا زالت دولتهم بالكلِّية في ذلك الحين الثَّالث أنَّ هذا يقتضي دخول دولة عمر بن عبد العزيز في حساب بني أمية ومقتضى ما ذكره أن تكون دولته مذمومة، وهذا لا يقوله أحد من أئمة الإسلام وإنَّهم مصرِّحون بأنَّه أحد الخلفاء الرَّاشدين، حتى قرنوا أيَّامه تابعة لأيَّام الأربعة وحتى اختلفوا في أيُّهما أفضل هو أو معاوية ابن أبي سفيان أحد الصَّحابة.
وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التَّابعين حجَّة إلا قول عمر بن عبد العزيز، فإذا علم هذا فإن أخرج أيَّامه من حسابه انخرم حسابه، وإن أدخلها فيه مذمومة خالف الأئمة، وهذا ما لا محيد عنه وكل هذا مما يدل على نكارة هذا الحديث والله أعلم.
وقال نعيم بن حماد: حدَّثنا سفيان عن العلاء ابن أبي العبَّاس سمع أبا الطّفيل سمع علياً يقول: لا يزال هذا الأمر في بني أمية ما لم يختلفوا بينهم.
حدَّثنا ابن وهب عن حرملة بن عمران، عن سعد بن سالم، عن أبي سالم الجيشاني سمع علياً يقول: الأمر لهم حتى يقتلوا قتيلهم ويتنافسوا بينهم فإذا كان ذلك بعث الله عليهم أقواماً من المشرق يقتلوهم بدداً ويحصروهم عدداَّ، والله لا يملكون سنة إلا ملكنا سنتين ولا يملكون سنتين إلا ملكنا أربعاً.
وقال نعيم بن حماد: حدَّثنا الوليد بن مسلم عن حصين بن الوليد، عن الزُّهريّ بن الوليد سمعت أمّ الدَّرداء سمعت أبا الدَّرداء يقول: إذا قتل الخليفة الشَّاب من بني أمية بين الشَّام والعراق مظلوماً ما لم تزل طاعة يستخف بها ودم مسفوك بغير حق - يعني: الوليد ابن يزيد - ومثل هذه الأشياء إنَّما تقال عن توقيف.
الإخبار عن دولة بني العبَّاس:
وكان ظهورهم من خراسان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قال يعقوب بن سفيان: حدَّثني محمد بن خالد بن العبَّاس، ثنا الوليد بن مسلم، حدَّثني أبو عبد الله عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد بن عقبة ابن أبي معيط قال: قدم عبد الله بن عبَّاس على معاوية وأنا حاضر فأجازه، فأحسن جائزته ثمَّ قال: يا أبا العبَّاس هل لكم في دولة ؟
فقال: إعفني يا أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
قال: نعم فأخبره.
قال: فمن أنصاركم ؟
قال: أهل خراسان، ولبني أمية من بني هاشم بطحات رواه البيهقيّ. (ج/ص:6/275)
وقال ابن عدي: سمعت ابن حماد، أنَّا محمد بن عبده ابن حرب، ثنا سويد بن سعيد، أنَّا حجَّاج بن تميم عن ميمون بن مهران، عن ابن عبَّاس قال: مررت بالنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وإذا معه جبريل - وأنا أظنّه دحية الكلبيّ - فقال جبريل للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّه لوسخ الثِّياب، وسيلبس ولده من بعده السَّواد، وذكر تمام الحديث في ذهاب بصره ثمَّ عوده إليه قبل موته.
قال البيهقيّ: تفرَّد به حجَّاج بن تميم وليس بالقويّ.
وقال البيهقيّ: أنَّا الحاكم، ثنا أبو بكر بن إسحاق وأبو بكر بن بالونة في آخرين قالوا: حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا يحيى بن معين، ثنا عبيد الله ابن أبي قرة، ثنا اللَّيث بن سعيد، عن أبي فضيل، عن أبي ميسرة مولى العبَّاس قال: سمعت العبَّاس قال: كنت عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذات ليلة فقال: ((إنظر هل ترى في السَّماء من شيء؟))
قلت: نعم.
قال: ((ما ترى؟))
قلت: الثُّريا.
قال: ((إما إنَّه سيملك هذه الأمَّة بعددها من صلبك)).
قال البخاري: عبيد ابن أبي قرَّة بغداديّ سمع اللَّيث لا يتابع على حديثه في قصَّة العبَّاس.
وروى البيهقيّ من حديث محمد بن عبد الرَّحمن العامريّ - وهو ضعيف - عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال للعبَّاس: ((فيكم النُّبوة وفيكم الملك)).
وقال أبو بكر ابن خيثمة: ثنا يحيى بن معين، ثنا سفيان عن عمرو ابن دينار، عن أبي معبد قال: قال ابن عبَّاس: كما فتح الله بأوَّلنا فأرجو أن يختمه بنا، هذا إسناد جيد وهو موقوف على ابن عبَّاس من كلامه.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثني إبراهيم بن أيوب، ثنا الوليد، ثنا عبد الملك بن حميد عن أبي عتبة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عبَّاس ونحن نقول: اثنا عشر أميراً واثنا عشر، ثمَّ هي السَّاعة، فقال ابن عبَّاس: ما أحمقكم إن منَّا أهل البيت بعد ذلك المنصور، والسَّفاح، والمهدي يرفعها إلى عيسى بن مريم وهذا أيضاً موقوف.
وقد رواه البيهقيّ من طريق الأعمش عن الضحَّاك، عن ابن عبَّاس مرفوعاً: منَّا السَّفاح، والمنصور، المهدي، وهذا إسناد ضعيف، والضحَّاك لم يسمع من ابن عبَّاس شيئاً على الصَّحيح فهو منقطع والله أعلم. (ج/ص:6/276)
وقد قال عبد الرزاق: عن الثَّوريّ، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة ابن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يقتتل عند كيركم هذه ثلاثة كلَّهم ولد خليفة لا يصير إلى واحد منهم ثمَّ تقبل الرَّايات السُّود من خراسان، فيقتلونهم مقتلة لم يروا مثلها ثمَّ يجيء خليفة الله المهدي فإذا سمعتم فأتوه فبايعوه ولو حبواً على الثَّلج فإنَّه خليفة الله المهدي)).
أخرجه ابن ماجه عن أحمد بن يوسف السلميّ ومحمد بن يحيى الذُّهليّ، كلاهما عن عبد الرزاق به.
ورواه البيهقيّ من طرق عن عبد الرزاق ثمَّ قال: تفرَّد به عبد الرَّزاق.
قال البيهقيّ: ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن خالد الحذَّاء، عن أبي قلابة، عن أسماء موقوفاً.
ثمَّ قال البيهقيّ: أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن غالب، ثنا كثير بن يحيى، ثنا شريك عن علي بن زيد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا أقبلت الرَّايات السُّود من عقب خراسان فأتوها ولو حبواً على الثَّلج فإنَّ فيها خليفة الله المهدي)).
وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: حدَّثنا الفضل بن سهل، ثنا عبد الله بن داهر الرَّازيّ، ثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر فتية من بني هاشم فاغرورقت عيناه وذكر الرَّايات، قال: ((فمن أدركها فليأتها ولو حبواً على الثَّلج)).
ثمَّ قال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن الحكم إلا ابن أبي ليلى، ولا نعلم يروى إلا من حديث داهر بن يحيى - وهو من أهل الرأي صالح الحديث - وإنما يعرف من حديث يزيد ابن أبي زياد عن إبراهيم.
وقال الحافظ أبو يعلى: ثنا أبو هشام بن يزيد بن رفاعة، ثنا أبو بكر ابن عياش، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تجيء رايات سود من قبل المشرق تخوض الخيل الدَّم إلى أن يظهروا العدل ويطلبون العدل فلا يعطونه، فيظهرون فيطلب منهم العدل فلا يعطونه)) وهذا إسناد حسن.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا يحيى بن غيلان وقتيبة بن سعيد قالا: ثنا رشد بن سعد، قال يحيى بن غيلان: في حديثه، قال: حدَّثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب، عن قبيصة - هو ابن ذؤيب الخزاعيّ - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((يخرج من خراسان رايات سود لا يردَّها شيء حتى تنصب بأيليا)). (ج/ص:6/277)
وقد رواه التّرمذيّ عن قتيبة به، وقال: غريب.
ورواه البيهقيّ والحاكم من حديث عبد الله ابن مسعود عن رشدين بن سعد.
وقال البيهقيّ: تفرَّد به رشدين بن سعد، وقد روي قريب من هذا عن كعب الأحبار ولعلَّه أشبه والله أعلم.
ثمَّ روى من طريق يعقوب بن سفيان حدَّثنا محمد عن أبي المغيرة عبد القدوس، عن إسماعيل بن عياش، عمَّن حدَّثه، عن كعب الأحبار قال: تظهر رايات سود لبني العبَّاس حتى ينزلوا بالشَّام ويقتل الله على أيديهم كل جبَّار وكل عدوّ لهم.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا جرير عن الأعمش، عن عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يخرج عند انقطاع من الزَّمان وظهور زمن الفتن رجل يقال له: السَّفاح فيكون إعطاؤه المال حثواً)).
ورواه البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الصَّمد، عن أبي عوانة، عن الأعمش به، وقال فيه: ((يخرج رجل من أهل بيتي يقال له: السَّفاح)) فذكره وهذا الإسناد على شرط أهل السنن ولم يخرِّجوه، فهذه الأخبار في خروج الرَّايات السُّود من خراسان وفي ولاية السَّفاح وهو أبو العبَّاس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العبَّاس بن عبد المطَّلب، وقد وقعت ولايته في حدود سنة ثلاثين ومائة، ثمَّ ظهر بأعوانه ومعهم الرَّايات السُّود وشعارهم السَّواد.
كما دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مكة يوم الفتح وعلى رأسه المعفَّر وفوقه عمامة سوداء ثمَّ بعث عمَّه عبد الله لقتال بني أمية فكسرهم في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهرب من المعركة آخر خلفائهم وهو مروان بن محمد بن مروان ويلقَّب بمروان الحمار، ويقال له: مروان الجعديّ لاشتغاله على الجعد بن درهم فيما قيل ودخل عمّه دمشق واستحوذ على ما كان لبني أمية من الملك، والأملاك، والأموال، وجرت خطوب كثيرة سنوردها مفصلة في موضعها إن شاء الله تعالى.
وقد ورد عن جماعة من السَّلف في ذكر الرَّايات السُّود التي تخرج من خراسان بما يطول ذكره وقد استقصى ذلك نعيم بن حماد في كتابه، وفي بعض الرِّوايات ما يدلُّ على أنَّه لم يقع أمرها بعد وأن ذلك يكون في آخر الزَّمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثِّقة وعليه التُّكلان.
وقد روى عبد الرزاق عن معمَّر، عن الزهريّ قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تقوم السَّاعة حتى تكون الدُّنيا للكع بن لكع)).
قال أبو معمَّر: هو أبو مسلم الخراساني - يعني: الذي أقام دولة بني العبَّاس - والمقصود أنَّه تحوَّلت الدَّولة من بني أمية إلى بني العبَّاس في هذه السَّنة وكان أوَّل قائم منهم أبو العبَّاس السَّفاح، ثمَّ أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور باني مدينة السَّلام ثمَّ من بعده ابنه المهدي محمد بن عبد الله ثمَّ من بعده ابنه الهادي، ثمَّ ابنه الآخر هارون الرَّشيد، ثمَّ انتشرت الخلافة في ذريته على ما سنفصله إذا وصلنا إلى تلك الأيَّام، وقد نطقت هذه الأحاديث التي أوردناها آنفاً بالسَّفاح، والمنصور، والمهدي، ولا شكَّ أنَّ المهدي الذي هو ابن المنصور ثالث خلفاء بني العبَّاس ليس هو المهدي الذي وردت الأحاديث المستفيضة بذكره وأنَّه يكون في آخر الزَّمان، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً.
وقد أفردنا للأحاديث الواردة فيه جزءاً على حدة كما أفرد له أبو داود كتاباً في سننه، وقد تقدَّم في بعض هذه الأحاديث آنفاً، أنَّه يسلِّم الخلافة إلى عيسى بن مريم إذا نزل إلى الأرض والله أعلم. (ج/ص:6/278)
وأما السَّفاح فقد تقدَّم أنَّه يكون في آخر الزَّمان فيبعد أن يكون هو الذي بويع أوَّل خلفاء بني العبَّاس، فقد يكون خليفة آخر وهذا هو الظَّاهر فإنَّه قد روى نعيم بن حماد عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري من قدوم الحميريّ سمع نفيع بن عامر يقول: يعيش السَّفاح أربعين سنة اسمه في التَّوراة طائر السَّماء.
قلت: وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهر في آخر الزَّمان لكثرة ما يسفح أي يريق من الدِّماء لإقامة العدل، ونشر القسط، وتكون الرَّايات السُّود المذكورة في هذه الأحاديث إن صحَّت هي التي تكون مع المهدي ويكون أوَّل ظهور بيعته بمكة، ثمَّ تكون أنصاره من خراسان كما وقع قديماً للسَّفاح والله تعالى أعلم.
هذا كله تفريع على صحَّة هذه الأحاديث، وإلا فلا يخلو سند منها عن كلام والله سبحانه وتعالى أعلم بالصَّواب.
الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلَّهم من قريش:
وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرَّافضة فإنَّ هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور النَّاس منهم إلا علي ابن أبي طالب، وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا وليس له وجود ولا عين ولا أثر بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - ومنهم: عمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السّنة في تفسير الاثني عشر كما سنذكره بعد إيراد الحديث.
ثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((يكون اثنا عشر خليفة)) ثمَّ قال كلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما قال ؟
قال: قال: ((كلّهم من قريش)).
وقال أبو نعيم بن حماد في كتاب (الفتن والملاحم): حدَّثنا عيسى بن يونس، حدَّثنا مجالد عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يكون بعدي من الخلفاء عدَّة أصحاب موسى)).
وقد روي مثل هذا عن عبد الله بن عمر وحذيفة، وابن عباس، وكعب الأحبار، من قولهم. (ج/ص:6/279)
وقال أبو داود: حدَّثنا عمرو بن عثمان، حدَّثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا يزال هذا الأمر قائماً حتى يكون عليهم اثني عشر خليفة، أو أميراً كلَّهم يجتمع عليهم الأمة)).
وسمعت كلاماً من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم أفهمه، فقلت لأبي: ما يقول ؟
قال: كلَّهم من قريش.
وقال أبو داود أيضاً: حدَّثنا ابن نفيل، حدَّثنا زهير بن معاوية، حدَّثنا زياد بن خيثمة، حدَّثنا الأسود بن سعيد الهمدانيّ عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تزال هذه الأمَّة مستقيماً أمرها ظاهرة على عدوِّها حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش)).
قال: فلمَّا رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثمَّ يكون ماذا ؟
قال: ((ثمَّ يكون الهرج)).
قال البيهقيّ: ففي الرِّواية الأولى بيان العدد وفي الثَّانية بيان المراد بالعدد، وفي الثَّالثة بيان وقوع الهرج وهو القتل بعدهم وقد وجد هذا العدد بالصِّفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثمَّ وقع الهرج، والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرِّواية، ثمَّ ظهر ملك العباسيَّة كما أشار إليه في الباب قبله وإنَّما يزيدون على العدد المذكور في الخبر إذا تركت الصِّفة المذكورة فيه، أو عد منهم من كان بعد الهرج المذكور فيه.
وقد قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من النَّاس اثنان)).
ثمَّ ساقه من حديث عاصم بن محمد عن أبيه، عن ابن عمر، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكره.
وفي صحيح البخاريّ من طريق الزهريّ عن محمد بن جبير بن مطعم، عن معاوية ابن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدِّين)).
قال البيهقيّ: أي أقاموا معالمه وإن قصروا هم في أعمال أنفسهم، ثمَّ ساق أحاديث بقية ما ذكره في هذا والله أعلم.
فهذا الذي سلكه البيهقيّ وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الذي قدَّمنا الحديث فيه بالذَّم والوعيد فإنَّه مسلك فيه نظر وبيان ذلك أنَّ الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانه أنَّ الخلفاء الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة))
ثمَّ بعدهم الحسن بن علي كما وقع لأن علياً أوصى إليه، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشَّام حتى اصطلح هو ومعاوية كما دلَّ عليه حديث أبي بكرة في صحيح البخاري، ثمَّ معاوية، ثمَّ ابنه يزيد بن معاوية، ثمَّ ابنه معاوية بن يزيد، ثمَّ مروان بن الحكم، ثمَّ ابنه عبد الملك بن مروان، ثمَّ ابنه الوليد بن عبد الملك، ثمَّ سليمان بن عبد الملك، ثمَّ عمر بن عبد العزيز، ثمَّ يزيد بن عبد الملك، ثمَّ هشام بن عبد الملك، فهؤلاء خمسة عشر، ثمَّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية الزُّبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه وعدُّوه من الخلفاء الرَّاشدين، وأجمع النَّاس قاطبة على عدله، وأنَّ أيَّامه كانت من أعدل الأيَّام حتى الرَّافضة يعترفون بذلك. (ج/ص:6/280)
فإن قال: أنا لا أعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه لزمه على هذا القول أن لا يعد علي ابن أبي طالب، ولا ابنه لأنَّ النَّاس لم يجتمعوا عليهما وذلك أنَّ أهل الشَّام بكمالهم لم يبايعوهما، وعد حبيب معاوية، وابنه يزيد، وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يقيّد بأيَّام مروان ولا ابن الزُّبير كأنَّ الأمَّة لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداً للخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، ثمَّ معاوية، ثمَّ يزيد بن معاوية، ثمَّ عبد الملك، ثمَّ الوليد بن سليمان، ثمَّ عمر بن عبد العزيز، ثمَّ يزيد، ثمَّ هشام، فهؤلاء عشرة، ثمَّ من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك فأخذها يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر وهو خلاف ما نص عليه أئمة السُّنة بل والشِّيعة، ثمَّ هو خلاف ما دلَّ عليه نصاً حديث سفينة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمَّ تكون ملكاً عضوضاً)).
وقد ذكر سفينة تفصيل هذه الثَّلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة، وقد بينَّا دخول خلافة الحسن وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً ثمَّ صار الملك إلى معاوية لما سلم الأمر إليه الحسن بن علي، وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أنَّ الخلافة قد انقطعت بعد الثَّلاثين سنة لا مطلقا بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك كما دلَّ عليه حديث جابر بن سمرة.
وقال نعيم بن حماد: حدَّثنا راشد بن سعد عن ابن لهيعة، عن خالد ابن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال: يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكاً من بني أمية، وقيل له: خلفاء ؟
قال: لا بل ملوك.
وقد روى البيهقيّ من حديث حاتم بن صفرة عن أبي بحر قال: كان أبو الجلد جاراً لي فسمعته يقول: يحلف عليه أنَّ هذه الأمَّة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلَّهم يعمل بالهدى ودين الحقّ منهم رجلان من أهل البيت أحدهما يعيش أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة.
ثمَّ شرع البيهقيّ في ردِّ ما قاله أبو الجلد بما لا يحصل به الردّ وهذا عجيب منه وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء، ولعلَّ قوله أرجح لما ذكرنا وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدِّمة وفي التَّوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: أنَّ الله تعالى بشَّر إبراهيم بإسماعيل وأنَّه ينمِّيه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً.
قال شيخنا العلامة أبو العبَّاس ابن تيمية: وهؤلاء المبشَّر بهم في حديث جابر بن سمرة وقرر أنهم يكونون مفرَّقين في الأمَّة ولا تقوم السَّاعة حتى يوجدوا وغلط كثير ممن تشرَّف بالإسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقة الرَّافضة فاتبعوهم. (ج/ص:6/281)
وقد قال نعيم بن حماد: حدَّثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن أبي المنهال، عن أبي زياد بن كعب قال: إنَّ الله وهب لإسماعيل من صلبه اثني عشر قيماً أفضلهم أبو بكر وعمر وعثمان.
وقال نعيم: حدَّثنا ضمرة عن ابن شوذب، عن يحيى بن عمرو الشَّيبانيّ قال: ليس من الخلفاء من لم يملك المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العبَّاس:
فمن ذلك حدَّثنا أبو جعفر عبد الله ومحمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس الخليفة بعد أخيه الخليفة السَّفاح - وهو المنصور الباني لمدينة بغداد في سنة خمس وأربعين ومائة -.
قال نعيم بن حماد في كتابه: عن أبي المغيرة عن أرطأة بن المنذر، عمَّن حدَّثه، عن ابن عبَّاس أنَّه أتاه رجل وعنده حذيفة فقال: يا ابن عبَّاس قوله: ((حمعسق)) فأطرق ساعة وأعرض عنه ثمَّ كرَّرها فلم يجبه بشيء.
فقال له حذيفة: أنا أنبئك وقد عرفت لم كرَّرها إنَّما نزلت في رجل من أهل بيته يقال له: عبد الإله، أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين يشق النَّهر بينهما شقاً يجتمع فيهما كل جبَّار عنيد.
وقال أبو القاسم الطَّبرانيّ: حدَّثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجد الحوطيّ، حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا عبد الله بن السَّمط، حدَّثنا صالح بن علي الهاشميّ عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لأن يربِّي أحدكم بعد أربع وخمسين ومائة جرو كلب خير من أن يربِّي ولداً لصلبه)).
قال شيخنا الذَّهبي: هذا الحديث موضوع واتَّهم به عبد الله بن السَّمط هذا.
وقال نعيم بن حماد الخزاعيّ شيخ البخاري في كتابه (الفتن والملاحم): حدَّثنا أبو عمرو البصري عن أبي بيان المعافريّ عن بديع، عن كعب قال: إذا كانت سنة ستين ومائة انتقص فيها حلم ذوي الأحلام ورأي ذوي الرّأي.
حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام:
روى التّرمذيّ من حديث ابن عيينة عن ابن جريج، عن أبي الزُّبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رواية يوشك أن يضرب النَّاس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة، ثمَّ قال: هذا حديث حسن وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عنه أنَّه قال: هو مالك بن أنس، وكذا قال عبد الرزاق.
قلت: وقد توفي مالك رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة. (ج/ص:6/282)
حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشَّافعي:
قال أبو داود الطَّيالسيّ: حدَّثنا جعفر بن سليمان عن النَّضر بن معبد الكنديّ أو العبدلي، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا تسبُّوا قريشاً فإنَّ عالمها يملأ الأرض علماً اللَّهم إنَّك أذقت أولها وبالاً فأذق آخرها نوالاً)).
وقد رواه الحاكم من طريق أبي هريرة.
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهانيّ: وهو الشَّافعي.
قلت: وقد توفي الشَّافعي رحمه الله في سنة أربع ومائتين وقد أفردنا ترجمته في مجلد وذكرنا معه تراجم أصحابه من بعده.
حديث آخر:
روى رواد بن الجراح عن سفيان الثَّوريّ، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة مرفوعاً: ((خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ)).
قالوا: وما خفيف الحاذ يا رسول الله ؟
قال: ((من لا أهل له ولا مال ولا ولد)).
حديث آخر:
قال ابن ماجه: حدَّثنا الحسن بن علي الخلال، حدَّثنا عون بن عمارة، حدَّثني عبد الله بن المثنى، ثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك عن أبيه، عن جدِّه أنس بن مالك، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الآيات بعد المائتين)).
وحدَّثنا نصر بن علي الجهضميّ، حدَّثنا نوح بن قيس، حدَّثنا عبد الله بن معقل عن يزيد الرَّقاشيّ، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أمتي على خمس طبقات فأربعون سنة أهل برٍّ وتقوى، ثمَّ الذين يلونهم إلى عشرين ومائة سنة أهل تراحم وتواصل، ثمَّ الذين يلونهم إلى ستِّين ومائة أهل تدابر وتقاطع، ثمَّ الهرج الهرج النَّجاء النَّجاء)).. (ج/ص:6/283)
وحدَّثنا نصر بن علي، حدَّثنا حازم أبو محمد العنزيّ، حدَّثنا المسور بن الحسن عن أبي معن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَّتي على خمس طبقات كل طبقة أربعون عاماً، فأمَّا طبقتي وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان، وأما الطَّبقة الثَّانية ما بين الأربعين إلى الثَّمانين فأهل برِّ وتقوى)).
ثمَّ ذكره نحوه هذا لفظه، وهو حديث غريب من هذين الوجهين ولا يخلو عن نكارة والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: ثنا وكيع عن الأعمش، حدَّثنا هلال بن بيان عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خير النَّاس قرني ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ يجيء قوم يتسمَّنون يحبون السِّمن يعطون الشَّهادة قبل أن يسألوها)).
ورواه التّرمذيّ من طريق الأعمش.
وقد رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي جمرة، عن زهدم بن مضرب سمعت عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خير أمَّتي قرني ثمَّ الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم)).
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ((ثمَّ إنَّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمن)) لفظ البخاري.
وقال البخاريّ: حدَّثنا محمد بن كثير، أنَّا سفيان عن منصور، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((خير القرون قرني، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ يجيء قوم يسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)).
قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشَّهادة والعهد ونحن صغار.
وقد رواه بقية الجماعة إلا أبا داود من طرق متعددة عن منصور به.
حديث آخر:
قال نعيم بن حماد: حدَّثنا أبو عمرو البصري عن ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت البنانيّ، عن أبيه، عن الحرث الهمدانيّ، عن ابن مسعود، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((السَّابع من ولد العبَّاس يدعو النَّاس إلى الكفر فلا يجيبونه، فيقول له أهل بيته: تريد أن تخرجنا من معايشنا؟ فيقول: إني أسير فيكم بسيرة أبي بكر وعمر فيأبون عليه فيقتله عدو له من أهل بيته من بني هاشم، فإذا وثب عليه اختلفوا فيما بينهم)) فذكر اختلافاً طويلاً إلى خروج السفيانيّ.
وهذا الحديث ينطبق على عبد الله المأمون الذي دعا النَّاس إلى القول بخلق القرآن، ووقى الله شرَّها كما سنورد ذلك في موضعه والسفياني رجل يكون آخر الزَّمان منسوب إلى أبي سفيان يكون من سلالته، وسيأتي في آخر كتاب (الملاحم). (ج/ص:6/284)
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدَّثنا هاشم، ثنا ليث عن معاوية بن صالح، عن عبد الرَّحمن بن جبير، عن أبيه سمعت أبا ثعلبة الخشنيّ صاحب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه سمعه يقول وهو بالفسطاط في خلافة معاوية، وكان معاوية أغزى النَّاس القسطنطينية فقال: ((والله لا تعجز هذه الأمَّة من نصف يوم إذا رأيت الشَّام مائدة رجل واحد وأهل بيته)) فعند ذلك فتح القسطنطينية.
هكذا رواه أحمد موقوفاً على أبي ثعلبة.
وقد أخرجه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب عن معاوية بن صالح، عن عبد الرَّحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لن يعجز الله هذه الأمَّة من نصف يوم)) تفرَّد به أبو داود.
ثمَّ قال أبو داود: ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبو المغيرة، حدَّثني صفوان عن سريج بن عبيد، عن سعد ابن أبي وقَّاص، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنِّي لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم)).
قيل لسعد: وكم نصف يوم ؟
قال: خمسمائة سنة.
تفرَّد به أبو داود وإسناده جيد، وهذا من دلائل النُّبوة، فإنَّ هذا يقتضي وقوع تأخير الأمَّة نصف يوم وهو خمسمائة سنة كما فسَّره الصَّحابي وهو مأخوذ من قوله تعالى: ((وإنَّ يوماً عند ربِّك كألف سنة مما تعدون)).
ثمَّ هذا الإخبار بوقوع هذه المدَّة لا ينفي وقوع ما زاد عليها، فأمَّا ما يذكره كثير من النَّاس من أنَّه عليه السلام لا يؤلف في قبره بمعنى: لا يمضي عليه ألف سنة من يوم مات إلى حين تقام السَّاعة، فإنَّه حديث لا أصل له في شيء من كتب الإسلام والله أعلم.
حديث آخر:
فيه الإخبار عن ظهور النَّار التي كانت بأرض الحجاز حتَّى أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، وقد وقع هذا في سنة أربع وخمسين وستَّمائة.
قال البخاري في صحيحه: ثنا أبو اليمان، ثنا شعيب عن الزهريّ قال: قال سعيد بن المسيّب: أخبرني أبو هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تقوم السَّاعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى)) تفرَّد به البخاريّ.
وقد ذكر أهل التَّاريخ وغيرهم من النَّاس وتواتر وقوع هذا في سنة أربع وخمسين وستّمائة.
قال الشَّيخ الإمام الحافظ شيخ الحديث وإمام المؤرِّخين في زمانه شهاب الدِّين عبد الرَّحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه: إنها ظهرت يوم الجمعة في خامس جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستَّمائة وأنها استمرت شهراً وأزيد منه وذكر كتباً متواترة عن أهل المدينة في كيفية ظهورها شرق المدينة من ناحية وادي شظا تلقاء أحد، وأنها ملأت تلك الأودية وأنَّه يخرج منها شرر يأكل الحجاز، وذكر أنَّ المدينة زلزلت بسببها وأنهم سمعوا أصواتاً مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيَّام، أوَّل ذلك مستهل الشَّهر يوم الإثنين فلم تزل ليلاً ونهاراً حتى ظهرت يوم الجمعة، فانبجست تلك الأرض عند وادي شظا عن نار عظيمة جداً صارت مثل طوله أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، يسيل الصَّخر حتى يبقى مثل الآنك، ثمَّ يصير كالفحم الأسود، وذكر أنَّ ضوءها يمتد إلى تيماء بحيث كتب النَّاس على ضوئها في اللَّيل وكأن في بيت كل منهم مصباحاً ورأى النَّاس سناها من مكة - شرَّفها الله -. (ج/ص:6/285)
قلت: وأمَّا بصرى فأخبرني قاضي القضاة صدر الدِّين علي ابن أبي قاسم التيميّ الحنفيّ قال: أخبرني والدي - وهو الشَّيخ صفي الدِّين أحد مدرسيّ بصرى - أنَّه أخبره غير واحد من الأعراب صبيحة تلك اللَّيلة من كان بحاضرة بلد بصرى أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء هذه النَّار التي ظهرت من أرض الحجاز، وقد ذكر الشَّيخ شهاب الدِّين أنَّ أهل المدينة لجأوا في هذه الأيَّام إلى المسجد النَّبوي وتابوا إلى الله من ذنوب كانوا عليها، واستغفروا عند قبر النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مما سلف منهم وأعتقوا الغلمان وتصدَّقوا على فقرائهم ومجاريحهم، وقد قال قائلهم في ذلك:
يا كاشفَ الضُرِّ صفحاً عنْ جرائِمِنَا * فقدْ أحَاطَتْ بنا يا ربُّ بأساءُ
نَشكو إليكَ خُطوباً لا نَطيقُ لها * حملاً ونحنُ بها حقَّاً أحِقَّاءُ
زلازِلُ تخشَعُ الصُّمِ الصَلادَ لها * وكيفَ تقوى على الزلزالِ صمَّاءُ
أقامَ سَبعاً يرجُّ الأرضَ فانصدعتْ * عن منظرٍ منهُ عينُ الشَّمسِ عَشواءُ
بحرٌ من النَّارِ تجري فَوقَهُ سُفُنَ * من الهضابِ لها في الأرضِ إرساءُ
يُرَى لها شررٌ كالقصرِ طائشَهُ * كأنها ديمةٌ تنصَبُّ هَطلاءُ
تنشقُ منها قلوبُ الصَّخرِ إن زفرَتْ * رعباً وترعدُ مثلَ الشُهُبِ أضواءُ
منْها تكاثَفَ في الجوِّ الدُّخانُ إلى * أنْ عادَتِ الشَّمس منهُ وهيَ دَهماءُ
قدْ أثَرَتْ سعفَةً في البدرِ لفْحَتَها * فَلَيلَةُ التَّمِ بعدِ النُّورِ ليلاءُ
فيالهَا آيةٌ من مُعجزاتِ رسو * لِ الله يعقلُهَا القومُ الألِبَّاءُ
وممَّا قيل من هذه النَّار مع غرق بغداد في هذه السَّنة:
سُبْحَانَ منْ أصبحتْ مشيئَتُهُ * جاريةً في الوَرى بمقدارِ
أغرقَ بغدادَ بالمياهِ كَمَا * أحرَقَ أرضَ الحجازِ بالنَّارِ (ج/ص:6/286)
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عامر، ثنا أفلح بن سعيد الأنصاري - شيخ من أهل قبا من الأنصار - حدَّثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((إن طالت بكم مدَّة أوشك أن تروا قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر)).
ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن زيد بن الخبَّاب، عن أفلح ابن سعيد به.
وروى مسلم أيضاً عن زهير بن حرب، عن جرير، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((صنفان من أهل النَّار لم أرهما بعد، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها النَّاس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنَّة ولا يجدن ريحها وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
وهذان الصِّنفان وهما الجلاَّدون الذين يسمُّون بالرجالة والجاندارية كثيرون في زماننا هذا ومن قبله، وقبل قبله بدهر، والنِّساء الكاسيات العاريات أي عليهنَّ لبس لا يواري سوآتهن، بل هو زيادة في العورة وإبداء للزينة، مائلات في مشيهنَّ، مميلاتٍ غيرهنَّ إليهنَّ وقد عمَّ البلاء بهنَّ في زماننا هذا ومن قبله أيضاً.
وهذا من أكبر دلالات النُّبوة إذ وقع الأمر في الخارج طبق ما أخبر به عليه السلام.
وقد تقدَّم حديث جابر: ((أما إنها ستكون لكم أنماط)) وذكر تمام الحديث في وقوع ذلك واحتجاج امرأته عليه بهذا.
حديث آخر:
روى الإمام أحمد عن عبد الصَّمد بن عبد الوارث، عن داود ابن أبي هند.
وأخرجه البيهقيّ من حديثه عن أبي حرب ابن أبي الأسود الدؤلي، عن طلحة بن عمرو البصريّ أنَّه قدم المدينة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فبينما هو يصلي إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التَّمر وتحرَّقت عنَّا الحيف.
قال: فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: ((لقد رأيتني وصاحبي وما لنا طعام غير البرير حتَّى أتينا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم، وكان طعامهم التَّمر والذي لا إله إلا هو لو قدرت لكم على الخبز والتَّمر لأطعمتكموه، وسيأتي عليكم زمان أو من أدركه منكم يلبسون مثل أستار الكعبة، ويغدى ويراح عليكم بالجفان)).
قالوا: يا رسول الله أنحن يومئذ خير أم اليوم ؟
قال: ((بل أنتم اليوم خير، أنتم اليوم إخوان وأنتم يومئذ يضرب بعضكم رقاب بعض)).
وقد روى سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد، عن أبي موسى بحلس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا مشت أمتي المطيطا وخدمتهم فارس والرُّوم سلَّط الله بعضهم على بعض)).
وقد أسنده البيهقيّ من طريق موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-.
حديث آخر:
قال أبو داود: حدَّثنا سليمان بن داود المهري، ثنا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن شراحيل بن زيد المعافريّ، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة فيما أعلم، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)).
قال أبو داود: عبد الرَّحمن بن شريح الإسكندرانيّ لم يحدِّثه شراحيل تفرَّد به أبو داود.
وقد ذكر كل طائفة من العلماء في رأس كل مائة سنة عالماً من علمائهم ينزلون هذا الحديث عليه.
وقال طائفة من العلماء: هل الصَّحيح أنَّ الحديث يشمل كل فرد فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمَّن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلة وغير مرسلة يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا، ونحن في القرن الثامن والله المسؤول أن يختم لنا بخير، وأن يجعلنا من عباده الصَّالحين، ومن ورثة جنَّة النَّعيم آمين آمين يا رب العالمين.
وسيأتي الحديث المخرج من الصَّحيح ((لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)). (ج/ص:6/288)
وفي صحيح البخاري ((وهم بالشَّام)) وقد قال كثير من علماء السَّلف: أنهم أهل الحديث.
وهذا أيضاً من دلائل النُّبوة فإنَّ أهل الحديث بالشَّام أكثر من سائر أقاليم الإسلام ولله الحمد، ولا سيما بمدينة دمشق - حماها الله وصانها -.
كما ورد في الحديث الذي سنذكره أنَّه تكون معقل المسلمين عند وقوع الفتن.
وفي صحيح مسلم عن النَّواس بن سمعان أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أخبر عن عيسى بن مريم أنَّه ينزل من السَّماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق ولعلَّ أصل لفظ الحديث على المنارة البيضاء الشَّرقية بدمشق، وقد بلغني أنَّه كذلك في بعض الأجزاء ولم أقف عليه إلى الآن والله الميسر.
وقد جدِّدت هذه المنارة البيضاء الشَّرقية بجامع دمشق بعد ما أحرقها النَّصارى من أيامنا هذه بعد سنة أربعين وسبعمائة فأقاموها من أموال النَّصارى مقاصَّة على ما فعلوا من العدوان، وفي هذا حكمة عظيمة وهو أن ينزل على هذه المبنية من أموالهم عيسى بن مريم نبي الله فيكذِّبهم فيما افتروه عليه من الكذب عليه وعلى الله ويكسر الصَّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية أي يتركها ولا يقبل من أحد منهم ولا من غيرهم إلا الإسلام - يعني: أو يقتله -.
وقد أخبر بهذا عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقرَّره عليه وسوَّغه له - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين وعلى آله وصحبه أجمعين، والتَّابعين لهم بإحسان
هذا وسنفرد جزءا مستقلا من الموسوعة الإسلامية عن الإعجاز فى القرآن والسنة
دلائل نبوته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم
الجزء الرابع