الثلاثاء، 24 أبريل 2012

موسوعة السيرة النبوية : دلائل نبوته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم

دلائل نبوته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم
الجزء الثالث


قال البيهقيّ‏:‏ وقد روي من وجه آخر مرسل - يعني‏:‏ فيه انقطاع - عن ابن عدي وأنس بن مالك، ثمَّ ساقه من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله بن عون، عن أنس قال‏:‏ أدركت في هذه الأمة ثلاثاً لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم‏.‏
قلنا‏:‏ ما هي يا أبا حمزة ‏؟‏
قال‏:‏ كنَّا في الصفَّة عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثمَّ قبض، فغمضه النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر بجهازه، فلمَّا أردنا أن نغسله‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أنس إئت أمه فأعلمها‏)‏‏)‏ فأعلمتها‏.‏
قال‏:‏ فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثمَّ قالت‏:‏ اللَّهم إني أسلمت لك طوعاً، وخالفت الأوثان زهداً، وهاجرت لك رغبة، اللَّهم لا تشمّت بي عبدة الأوثان، ولا تحمِّلني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها‏.‏
قال‏:‏ فوالله ما انقضى كلامها حتى حرَّك قدميه وألقى أثوب عن وجهه وعاش حتى قُبض الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، وحتى هلكت أمه‏.‏
قال‏:‏ ثمَّ جهَّز عمر بن الخطَّاب جيشاً واستعمل عليهم العلاء بن الحضرميّ‏.‏
قال أنس‏:‏ وكنت في غزاته فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة، فلمَّا مالت الشَّمس لغروبها صلَّى بنا ركعتين، ثمَّ مدَّ يده إلى السَّماء، وما نرى في السَّماء شيئاً‏.‏
قال‏:‏ فوالله ما حطَّ يده حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً وأفرغت حتى ملأت الغدر، والشِّعاب فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثمَّ أتينا عدوَّنا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال‏:‏ يا عليّ يا عظيم، يا حليم يا كريم‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ أجيزوا بسم الله‏.‏
قال‏:‏ فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيراً فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثمَّ أتينا الخليج فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا‏.‏
قال‏:‏ فلم نلبث إلا يسيراً حتى رمي في جنازته‏.‏
قال‏:‏ فحفرنا له وغسَّلناه ودفنَّاه، فأتى رجل بعد فراغنا من دفنه فقال‏:‏ من هذا ‏؟‏
فقلنا‏:‏ هذا خير البشر، هذا ابن الحضرميّ‏.‏
فقال‏:‏ إنَّ هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى‏.‏
فقلنا‏:‏ ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسِّباع تأكله ‏؟‏
قال‏:‏ فاجتمعنا على نبشه فلمَّا وصلنا إلى اللَّحد إذا صاحبنا ليس فيه، وإذا اللَّحد مدَّ البصر نور يتلألأ‏.‏
قال‏:‏ فأعدنا التُّراب إلى اللَّحد ثمَّ ارتحلنا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/172‏)‏
قال البيهقيّ رحمه الله‏:‏ وقد روي عن أبي هريرة في قصَّة العلاء بن الحضرميّ في استسقائه، ومشيهم على الماء دون قصَّة الموت بنحو من هذا‏.‏
وذكر البخاريّ في ‏(‏التَّاريخ‏)‏ لهذه القصة إسنادا آخر، وقد أسنده ابن أبي الدُّنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصَّلت بن مطر العجليّ، عن عبد الملك بن سهم، عن سهم بن منجاب قال‏:‏ غزونا مع العلاء بن الحضرميّ فذكره وقال في الدُّعاء‏:‏ يا عليم، يا حليم، يا عليّ، يا عظيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، إسقنا غيثاً نشرب منه ونتوضأ، فإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيباً غيرنا‏.‏
وقال في البحر‏:‏ اجعل لنا سبيلاً إلى عدوِّك‏.‏
وقال في الموت‏:‏ أخفَّ جثتي، ولا تطلع على عورتي أحداً، فلم يقدر عليه، والله أعلم‏.‏
قصة أخرى‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا الحسين بن بشران، أنَّا إسماعيل الصفار، ثنا الحسن بن علي بن عثمان، ثنا ابن نمير عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال‏:‏ انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها‏.‏
فقال رجل من المسلمين‏:‏ بسم الله ثمَّ اقتحم بفرسه فارتفع على الماء‏.‏
فقال النَّاس‏:‏ بسم الله، ثمَّ اقتحموا فارتفعوا على الماء‏.‏
فنظر إليهم الأعاجم وقالوا‏:‏ ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم‏.‏
قال‏:‏ فما فقد النَّاس إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج، فلمَّا خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها، فجعل الرَّجل يقول‏:‏ من يبادل صفراء ببيضاء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/173‏)‏
قصة أخرى‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الرَّحمن السلميّ، أنَّا أبو عبد الله بن محمد السمريّ، ثنا أبو العبَّاس السرَّاج، ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا‏:‏ ثنا أبو النضر، ثنا سليمان بن المغيرة أنَّ أبا مسلم الخولانيّ جاء إلى دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال‏:‏ هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله عزَّ وجل ‏؟‏
قال البيهقيّ‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏
قلت‏:‏ وستأتي قصَّة مسلم الخولاني، واسمه عبد الله بن ثوب مع الأسود العنسيّ حين ألقاه في النَّار فكانت عليه برداً وسلاماً كما كانت على الخليل إبراهيم عليه السلام‏

بركة دعوة الرسول
 
قصَّة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت‏:‏
وشهادته بالرِّسالة لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وبالخلافة لأبي بكر الصِّديق، ثمَّ لعمر، ثمَّ لعثمان - رضي الله عنهم -
قال الحافظ أبو بكر البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو صالح ابن أبي طاهر العنبريّ، أنَّا جدي يحيى بن منصور القاضيّ، ثنا أبو علي بن محمد بن عمرو بن كشمرد، أنَّا القعنبيّ، أنَّا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب أنَّ زيد بن خارجة الأنصاريّ ثمَّ من بني الحارث بن الخزرج توفي زمن عثمان بن عفَّان فسجي بثوبه، ثمَّ إنهم سمعوا جلجلة في صدره ثمَّ تكلَّم ثمَّ قال‏:‏ أحمد أحمد في الكتاب الأوَّل، صدق صدق أبو بكر الصِّديق الضَّعيف في نفسه القويّ في أمر الله في الكتاب الأوَّل، صدق صدق عمر بن الخطَّاب القويّ الأمين في الكتاب الأوَّل، صدق صدق عثمان بن عفَّان على منهاجهم مضت أربع وبقيت ثنتان، أتت بالفتن وأكل الشَّديد الضَّعيف، وقامت السَّاعة، وسيأتيكم عن جيشكم خبر بئر أريس، وما بئر أريس ‏؟‏
قال يحيى‏:‏ قال سعيد‏:‏ ثمَّ هلك رجل من بني خطمة فسجي بثوبه فسمع جلجلة في صدره ثمَّ تكلَّم فقال‏:‏ إنَّ أخا بني الحارث بنت الخزرج صدق صدق‏.‏
ثمَّ رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن موسى بن الحسن، عن القعنبيّ فذكره وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح وله شواهد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/174‏)‏
ثمَّ ساقه من طريق أبي بكر عبد الله ابن أبي الدُّنيا في كتاب ‏(‏من عاش بعد الموت‏)‏‏:‏ حدَّثنا أبو مسلم عبد الرَّحمن بن يونس، ثنا عبد الله بن إدريس عن إسماعيل ابن أبي خالد قال‏:‏ جاء يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرَّحمن بكتاب أبيه النُّعمان ابن بشير - يعني‏:‏ إلى أمه - بسم الله الرَّحمن الرَّحيم؛ من النُّعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو فإنَّك كتبتِ إلي لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنَّه كان من شأنه أنَّه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصحِّ النَّاس أو أهل المدينة، فتوفي بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشيناه ببردين وكساء، فأتاني آت في مقامي وأنا أسبح بعد المغرب فقال‏:‏ إنَّ زيداً قد تكلم بعد وفاته فانصرفت إليه مسرعاً، وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول أو يقال على لسانه‏:‏ الأوسط أجلد الثَّلاثة الذي كان لا يبالي في الله لومة لائم، كان لا يأمر النَّاس أن يأكل قويَّهم ضعيفهم عبد الله أمير المؤمنين صدق صدق كان ذلك في الكتاب الأول‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ عثمان أمير المؤمنين وهو يعافي النَّاس من ذنوب كثيرة خلت اثنتان وبقي أربع، ثمَّ اختلف النَّاس وأكل بعضهم بعضاً، فلا نظام وأبيحت الأحماء، ثمَّ ارعوى المؤمنين‏.‏
وقال‏:‏ كتاب الله وقدره أيُّها النَّاس أقبلوا على أميركم واسمعوا، وأطيعوا فمن تولى فلا يعهدنَّ دماً وكان أمر الله قدراً مقدوراً، الله أكبر هذه الجنَّة وهذه النَّار، ويقول النَّبيّون والصِّديقون‏:‏ سلام عليكم يا عبد الله بن رواحة هل أحسست لي خارجة لأبيه وسعداً اللَّذين قتلا يوم أحد‏؟‏
‏(‏‏(‏كلا إنها لظى * نزَّاعة للشَّوى * تدعو من أدبر وتولى * وجمع فأوعى‏)‏‏)‏ ثمَّ خفت صوته فسألت الرَّهط عما سبقني من كلامه‏.‏
فقالوا‏:‏ سمعناه يقول‏:‏ أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصَّوت من تحت الثِّياب‏.‏
قال‏:‏ فكشفنا عن وجهه فقال‏:‏ هذا أحمد رسول الله سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ أبو بكر الصِّديق الأمين خليفة رسول الله كان ضعيفاً في جسمه، قوياً في أمر الله صدق صدق، وكان في الكتاب الأوَّل‏.‏
ثمَّ رواه الحافظ البيهقيّ عن أبي نصر ابن قتادة، عن أبي عمرو ابن بجير، عن علي بن الحسين بن الجنيد، عن المعافى بن سليمان، عن زهير بن معاوية، عن إسماعيل ابن أبي خالد فذكره‏.‏
وقال‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏
وقد روى هشام بن عمار في كتاب ‏(‏البعث‏)‏ عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرَّحمن بن يزيد بن جابر قال‏:‏ حدَّثني عمير بن هانئ، حدَّثني النُّعمان بن بشير قال‏:‏ توفي رجل منَّا يقال له‏:‏ خارجة بن زيد، فسجينا عليه ثوباً فذكر نحو ما تقدَّم‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وروي ذلك عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير وذكر بئر أريس كما ذكرنا في رواية ابن المسيّب‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ والأمر فيها أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اتخذ خاتماً فكان في يده، ثمَّ كان في يد أبي بكر من بعده، ثمَّ كان في يد عمر، ثمَّ كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت عمَّاله وظهرت أسباب الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة‏.‏
قلت‏:‏ وهي المرادة من قوله‏:‏ مضت اثنتان وبقي أربع، أو مضت أربع وبقي اثنتان على اختلاف الرِّواية، والله أعلم‏.‏
وقد قال البخاريّ في ‏(‏التاريخ‏)‏‏:‏ زيد بن خارجة الخزرجيّ الأنصاريّ شهد بدراً، توفي زمن عثمان وهو الذي تكلم بعد الموت‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وقد روى في التَّكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/175‏)‏
قال ابن أبي الدُّنيا‏:‏ ثنا خلف بن هشام البزَّار، ثنا خالد الطحَّان عن حصين، عن عبد الله بن عبيد الأنصاريّ أنَّ رجلاً من بني سلمة تكلَّم فقال‏:‏ محمد رسول الله، أبو بكر الصِّديق، عثمان اللَّين الرَّحيم‏.‏
قال‏:‏ ولا أدري أيش قال في عمر، كذا رواه ابن أبي الدُّنيا في كتابه‏.‏
وقد قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعيد ابن أبي عمرو، ثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى ابن أبي طالب، أنَّا علي بن عاصم، أنَّا حصين بن عبد الرَّحمن عن عبد الله بن عبيد الأنصاريّ قال‏:‏ بينما هم يثورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال‏:‏ محمد رسول الله، أبو بكر الصِّديق، عمر الشَّهيد، عثمان الرَّحيم، ثمَّ سكت‏.‏
وقال هشام بن عمار في كتاب البعث‏.‏
باب في كلام الأموات وعجائبهم‏:‏
حدَّثنا الحكم بن هشام الثقفيّ، حدَّثنا عبد الحكم بن عمير عن ربعي بن خراش العبسيّ قال‏:‏ مرض أخي الرَّبيع بن خراش فمرَّضته ثمَّ مات فذهبنا نجهِّزه فلمَّا جئنا رفع الثَّوب عن وجهه ثمَّ قال‏:‏ السَّلام عليكم‏.‏
قلنا‏:‏ وعليك السَّلام قد مِتَّ‏.‏
قال‏:‏ بلى، ولكن لقيت بعدكم ربي ولقيني بروح وريحان ورب غير غضبان، ثمَّ كساني ثياباً من سندس أخضر، وإني سألته أن يأذن لي أن أبشِّركم فأذن لي، وإنَّ الأمر كما ترون فسدِّدوا وقاربوا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، فلمَّا قالها كانت كحصاة وقعت في ماء‏.‏
ثمَّ أورد بأسانيد كثيرة في هذا الباب، وهي آخر كتابه‏.‏
حديث غريب جداً‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن يونس الكديميّ، ثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليمانيّ وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها‏:‏ الحردة، حدَّثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليمانيّ عن أبيه، عن جدِّه قال‏:‏ حججت حجَّة الوداع فدخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجباً، جاءه رجل بغلام يوم ولد‏.‏
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏صدقت، بارك الله فيك‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ إنَّ الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شبَّ‏.‏
قال أبي‏:‏ فكنَّا نسميه مبارك اليمامة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/176‏)‏
قال شاصونة‏:‏ وقد كنت أمرُّ على معمر فلا أسمع منه‏.‏
قلت‏:‏ هذا الحديث مما تكلَّم النَّاس في محمد ابن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلاً ولا شرعاً‏.‏
فقد ثبت في الصَّحيح في قصَّة جريج العابد أنَّه استنطق ابن تلك البغي فقال له‏:‏ يا أبا يونس ابن من أنت ‏؟‏
قال‏:‏ ابن الرَّاعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه‏.‏
وقد تقدَّم ذلك على أنَّه قد روي هذا الحديث من غير طريق الكديميّ إلا أنَّه بإسناد غريب أيضاً‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعد عبد الملك ابن أبي عثمان الزَّاهد، أنَّا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جميع الغسانيّ - بثغر صيدا -، ثنا العبَّاس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدِّي شانوصة بن عبيد، حدَّثني معرض بن عبد الله بن معيقيب عن أبيه، عن جدِّه قال‏:‏ حججت حجَّة الوداع فدخلت داراً بمكة فرأيت فيها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجهه كدارة القمر فسمعت منه عجباً، أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفَّه في خرقة‏.‏
فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يا غلام من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏
فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بارك الله فيك‏)‏‏)‏‏.‏
ثم إنَّ الغلام لم يتكلَّم بعدها‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ عن أبي الحسن علي بن العبَّاس الورَّاق، عن أبي الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقريّ القزوينيّ، عن أبي الفضل العبَّاس بن محمد بن شاصونة به‏.‏
قال الحاكم‏:‏ وقد أخبرني الثِّقة من أصحابنا عن أبي عمر الزاهد قال‏:‏ لما دخلت اليمن دخلت حردة فسألت عن هذا الحديث، فوجدت فيها لشاصونة عقباً وحملت إلى قبره فزرته‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يخالفه في وقت الكلام‏.‏
ثمَّ أورد من حديث وكيع عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أُتي بصبي قد شبَّ لم يتكلم قط‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ أنت رسول الله‏.‏
ثمَّ روى عن الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بكير، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال‏:‏ جاءت امرأة بابن لها قد تحرك فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ ابني هذا لم يتكلم منذ وُلد‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدنيه مني‏)‏‏)‏ فأدنته منه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏‏)‏
فقال‏:‏ أنت رسول الله‏
قصَّة الصَّبيّ الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ‏:‏
قد تقدَّم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفيّ، مع قصَّة الجمل الحديث بطوله‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن فرقد السنجيّ، عن سعيد بن جبير بن عبَّاس أنَّ امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ به لمماً وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا‏.‏
قال‏:‏ فمسح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدره ودعا له، فثع ثعة فخرج منه مثل الجرو الأسود يسعى‏.‏
تفرَّد به أحمد، وفرقد السَّنجيّ رجل صالح ولكنَّه سيء الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغير واحد، واحتمل حديثه، ولما رواه ههنا شاهد مما تقدَّم، والله أعلم‏.‏
وقد تكون هذه القصَّة هي كما سبق إيرادها، ويحتمل أن تكون أخرى غيرها، والله أعلم‏.‏
حديث آخر في ذلك‏:‏
قال أبو بكر البزَّار‏:‏ ثنا محمد بن مرزوق، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا صدقة - يعني‏:‏ ابن موسى - ثنا فرقد - يعني‏:‏ السنجيّ - عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كان النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بمكة فجاءته امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ يا رسول الله إنَّ هذا الخبيث قد غلبني‏.‏
فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب‏)‏‏)‏‏.‏
قالت‏:‏ والذي بعثك بالحق لأصبرنَّ حتى ألقى الله‏.‏
قالت‏:‏ إني أخاف الخبيث أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتعلق بها وتقول له‏:‏ إخسأ، فيذهب عنها‏.‏
قال البزَّار‏:‏ لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقة ليس به بأس، وفرقد حدَّث عنه جماعة من أهل العلم منهم شعبة وغيره، واحتمل حديثه على سوء حفظه فيه‏.‏
طريق أخرى عن ابن عبَّاس‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يحيى بن عمران أبي بكر، ثنا عطاء ابن أبي رباح قال‏:‏ قال لي ابن عبَّاس‏:‏ ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة ‏؟‏
قلت‏:‏ بلى‏.‏
قال‏:‏ هذه السَّوداء أتت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ إني أصرع وأنكشف، فادع الله لي‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت صبرت ولك الجنَّة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك‏)‏‏)‏‏.‏
قالت‏:‏ لا بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني‏.‏
قال‏:‏ فدعا لها‏.‏
وهكذا رواه البخاريّ عن مسدد، عن يحيى - وهو ابن سعيد القطان -‏.‏
وأخرجه مسلم عن القواريريّ، عن يحيى القطَّان وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عبَّاس فذكر مثله‏.‏
ثمَّ قال البخاريّ‏:‏ حدَّثنا محمد، ثنا مخلد عن ابن جريح قال‏:‏ أخبرني عطاء أنَّه رأى أم زفر تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة‏.‏
وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏:‏ أنَّ أم زفر هذه كانت مشاطة خديجة بنت خويلد قديماً، وأنها عمَّرت حتى أدركها عطاء ابن أبي رباح، فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/178‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد، ثنا محمد بن يونس، ثنا قرة بن حبيب الغويّ، ثنا إياس ابن أبي تميمة عن عطاء، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاءت الحمَّى إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت‏:‏ يا رسول الله إبعثني إلى أحبِّ قومك إليك، أو أحبِّ أصحابك إليك - شكَّ قرة -‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهبي إلى الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏
فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا‏:‏ يا رسول الله قد أتت الحمَّى علينا فادع الله لنا بالشِّفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم‏.‏
قال‏:‏ فاتبعته امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله أدع الله لي فإن لمن الأنصار فادع الله لي كما دعوت لهم‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أيُّهما أحبُّ إليك أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏
فقالت‏:‏ لا والله يا رسول الله بل أصبر ثلاثاً ولا أجعل والله لجنته خطراً‏.‏
محمد بن يونس الكديميّ ضعيف‏.‏
وقد قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا علي بن أحمد بن عبدان، أنَّا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا أبي، ثنا هشام ابن لاحق - سنة خمس وثمانين ومائة -، ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهديّ، عن سلمان الفارسيّ قال‏:‏ استأذنت الحمَّى على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من أنت‏؟‏‏)‏‏)‏
قالت‏:‏ أنا الحمَّى أبري اللَّحم وأمص الدَّم‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهبي إلى أهل قباء‏)‏‏)‏‏.‏
فأتتهم فجاءوا إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقد اصفرت وجوههم فشكوا إليه الحمَّى‏.‏
فقال لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما شئتم‏؟‏ إن شئتم دعوت الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ بل ندعها يا رسول الله‏.‏
وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب السِّتة، وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءه عليه السلام لأهل المدينة أن يذهب حماها إلى الجحفة فاستجاب الله له ذلك، فإنَّ المدينة كانت من أوبأ أرض الله فصحَّحها الله ببركة حلوله بها، ودعائه لأهلها - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏
حديث آخر في ذلك‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا روح، ثنا شعبة عن أبي جعفر المدينيّ سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدِّث عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلاً ضريراً أتى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يعافيني‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن شئت أخَّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت له‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ لا بل أدع الله لي‏.‏
قال‏:‏ فأمره أن يتوضَّأ ويصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدُّعاء‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرَّحمة، يا محمد إني أتوجه بك في حاجتي هذه فتقضي وتشفعني فيه وتشفعه فيَّ‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فكان يقول هذا مراراً ثمَّ قال بعد‏:‏ أحسب أنَّ فيها أن تشفعني فيه‏.‏
قال‏:‏ ففعل الرَّجل فبرأ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/179‏)‏
وقد رواه أحمد أيضاً عن عثمان بن عمرو، عن شعبة به‏.‏
وقال‏:‏ اللَّهم شفِّعه فيَّ، ولم يقل الأخرى وكأنها غلط من الرَّاوي، والله أعلم‏.‏
وهكذا رواه التّرمذيّ والنسائي عن محمود بن غيلان، وابن ماجه عن أحمد بن منصور بن سيار، كلاهما عن عثمان بن عمرو‏.‏
وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن جعفر الخطميّ‏.‏
ثمَّ رواه أحمد أيضاً عن مؤمل بن حماد بن سلمة ابن أبي جعفر الخطميّ، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف فذكر الحديث‏.‏
وهكذا رواه النَّسائيّ عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به‏.‏
رواه النَّسائيّ عن زكريا بن يحيى، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، وهذه الرِّواية تخالف ما تقدم، ولعلَّه عند أبي جعفر الخطميّ من الوجهين، والله أعلم‏.‏
وقد روى البيهقيّ والحاكم من حديث يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب، عن سعيد الحنطبيّ، عن أبيه، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدينيّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال‏:‏ يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقَّ عليَّ‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إئت الميضأة فتوضأ، ثمَّ صلِّ ركعتين، ثمَّ قل‏:‏ اللَّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرَّحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فينجلي بصري، اللَّهم فشفِّعه فيَّ وشفِّعني في نفسيّ‏)‏‏)‏‏.‏
قال عثمان‏:‏ فوالله ما تفرَّقنا ولا طال الحديث بنا حتَّى دخل الرَّجل كأنَّه لم يكن به ضرّ قط‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ ورواه أيضاً هشام الدستوائيّ عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل، عن عمه عثمان بن حنيف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/180‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال أبو بكر ابن أبي شيبة‏:‏ ثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني رجل من بني سلامان وبني سعد عن أبيه، عن خاله، أو أن خاله، أو خالها حبيب بن مريط، حدَّثها أنَّ أباه خرج إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعيناه مبيضَّتان لا يبصر بهما شيئاً أصلاً‏.‏
فسأله‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أصابك‏؟‏‏)‏‏)‏
فقال‏:‏ كنت أرعى جملاً لي فوقعت رجلي على بطن حية فأصبت ببصري‏.‏
قال‏:‏ فنفث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في عينيه فأبصر، فرأيته وإنَّه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنَّه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضَّتان‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ كذا في كتابه، وغيره يقول‏:‏ حبيب بن مدرك‏.‏
قال‏:‏ وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النّعمان أنَّه أصيبت عينه فسالت حدقته فردَّها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيّهما أصيبت‏.‏
قلت‏:‏ وقد تقدَّم ذلك في غزوة أحد، وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحه بيده الكريمة على رجل جابر بن عتيك - وقد انكسر ساقه - فبرأ من ساعته‏.‏
وذكر البيهقيّ بإسناده‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسح يد محمد بن حاطب - وقد احترقت يده بالنَّار - فبرأ من ساعته‏.‏
وأنَّه عليه السلام نفث في كفّ شرحبيل الجعفيّ فذهبت من كفه سلعة كانت به‏.‏
قلت‏:‏ وتقدَّم في غزوة خيبر تفله في عينيّ علي وهو أمرد فبرأ‏.‏
وروى التّرمذيّ عن علي حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدُّعاء لحفظ القرآن فحفظه‏.‏
وفي الصَّحيح أنَّه قال لأبي هريرة وجماعة‏:‏ ‏(‏‏(‏من يبسط رداءه اليوم فإنَّه لا ينسى شيئاً من مقالتي‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فبسطته، فلم أنْسَ شيئاً من مقالته تلك‏.‏
فقيل‏:‏ كان ذلك حفظاً من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم‏.‏
وقيل‏:‏ وفي غيره، فالله أعلم‏.‏
ودعا لسعد ابن أبي وقاص فبرأ‏.‏
وروى البيهقيّ‏:‏ أنَّه دعا لعمِّه أبي طالب في مرضة مرضها وطلب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو له ربَّه فبرأ من ساعته‏.‏
والأحاديث في هذا كثيرة جداً يطول استقصاؤها‏.‏
وقد أورد البيهقيّ من هذا النوع كثيراً طيباً أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وبالله المستعان‏.‏
حديث آخر‏:‏
ثبت في الصَّحيحين من حديث زكريا ابن أبي زائدة زاد مسلم والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبيّ، عن جابر بن عبد الله أنَّه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه‏.‏
قال‏:‏ فلحقني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضربه ودعا لي، فسار سيراً لم يسر مثله‏.‏
وفي رواية‏:‏ فما زال بين يدي الإبل قدَّامها حتى كنت أحبس خطامه فلا أقدر عليه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف ترى جملك‏؟‏‏)‏‏)‏
فقلت‏:‏ قد أصابته بركتك يا رسول الله‏.‏
ثمَّ ذكر أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اشتراه منه، واختلف الرُّواة في مقدار ثمنه على روايات كثيرة، وأنَّه استثنى حملانه إلى المدينة، ثمَّ لما قدم المدينة جاءه بالجمل فنقده ثمنه وزاده، ثمَّ أطلق له الجمل أيضاً، الحديث بطوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/181‏)‏
حديث آخر‏:‏
روى البيهقيّ واللفظ له وهو في صحيح البخاري من حديث حسن بن محمد المروزيّ عن جرير ابن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك قال‏:‏ فزع النَّاس فركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فرساً لأبي طلحة بطيئاً ثمَّ خرج يركض وحده، فركب النَّاس يركضون خلف رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لن تراعوا إنَّه لبحر‏)‏‏)‏ فوالله ما سبق بعد ذلك اليوم‏.‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو بكر القاضي، أنَّا حامد بن محمد الهرويّ، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشيّ، ثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدَّثني عبد الله ابن أبي الجعد عن جعيل الأشجعيّ قال‏:‏ غزوت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بعض غزواته وأنا على فرس لي عجفاء ضعيفة‏.‏
قال‏:‏ فكنت في أخريات النَّاس فلحقني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سر يا صاحب الفرس‏)‏‏)‏‏.‏
فقلت‏:‏ يا رسول الله عجفاء ضعيفة‏.‏
قال‏:‏ فرفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مخفقة معه فضربها بها وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيتني أمسك برأسها أن تقدَّم النَّاس، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفاً‏.‏
ورواه النَّسائيّ عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشيّ فذكره‏.‏
وهكذا رواه أبو بكر ابن أبي خيثمة عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخبَّاب، عن رافع بن سلمة الأشجعيّ فذكره‏.‏
وقال البخاري في ‏(‏التَّاريخ‏)‏‏:‏ وقال رافع بن زياد بن الجعد ابن أبي الجعد‏:‏ حدَّثني أبي عبد الله ابن أبي الجعد أخي سالم، عن جعيل فذكره‏.‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين ابن الفضل القطَّان ببغداد، أنَّا أبو سهل بن زياد القطَّان، ثنا محمد بن شاذان الجوهريّ، حدَّثنا زكريا بن عدي، ثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني تزوجت امرأة‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هلا نظرت إليها‏؟‏ فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً‏)‏‏)‏
قال‏:‏ قد نظرت إليها‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏على كم تزوجتها‏؟‏‏)‏‏)‏ فذكر شيئاً‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنهم ينحتون الذَّهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثاً إلى بني عبس وبعث الرَّجل فيهم‏)‏‏)‏‏.‏
فأتاه فقال‏:‏ يا رسول الله أعيتني ناقتي أن تنبعث‏.‏
قال‏:‏ فناوله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يده كالمعتمد عليه للقيام فأتاها فضربها برجله‏.‏
قال أبو هريرة‏:‏ والذي نفسي بيده لقد رأيتها تسبق به القائد‏.‏
رواه مسلم في الصَّحيح عن يحيى بن معين، عن مروان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/182‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزنيّ، أنَّا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنَّا أبو جعفر بن عون، أنَّا الأعمش عن مجاهد أنَّ رجلاً اشترى بعيراً فأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني اشتريت بعيراً فادع الله أن يبارك لي فيه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له فيه‏)‏‏)‏‏.‏
فلم يلبث إلا يسيراً أن نفق، ثمَّ اشترى بعيراً آخر فأتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ إني اشتريت بعيراً فادع الله أن يبارك لي فيه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم بارك له فيه‏)‏‏)‏‏.‏
فلم يلبث حتى نفق، ثمَّ اشترى بعيراً آخر فأتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله قد اشتريت بعيرين فدعوت الله أن يبارك لي فيهما فادع الله أن يحملني عليه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم احمله عليه‏)‏‏)‏ فمكث عنده عشرين سنة‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وهذا مرسل ودعاؤه عليه السلام صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوَّليين‏.‏
حديث آخر‏:‏
قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو عبد الرَّحمن السلميّ، أنَّا إسماعيل بن عبد الله الميكاليّ، ثنا علي بن سعد العسكريّ، أنَّا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خلاد الواسطيّ، ثنا يزيد بن هارون، أنَّا المستلم بن سعيد، ثنا خبيب بن عبد الرَّحمن بن خبيب بن أساف عن أبيه، عن جدِّه حبيب بن أساف قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنا ورجل من قومي في بعض مغازيه فقلنا‏:‏ إنَّا نشتهي أن نشهد معك مشهداً‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أسلمتم‏؟‏‏)‏‏)‏
قلنا‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنَّا لا نستعين بالمشركين على المشركين‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فأسلمنا، وشهدت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأصابتني ضربة على عاتقي فجافتني فتعلقت يدي، فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فتفل فيها وألزقها فالتأمت وبرأت، وقتلت الذي ضربني، ثمَّ تزوجت ابنة الذي قتلته وضربني فكانت تقول‏:‏ لا عدمت رجلاً وشَّحك هذا الوشاح‏.‏
فأقول‏:‏ لا عدمت رجلاً أعجل أباك إلى النَّار‏.‏
وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن يزيد بن هارون بإسناده مثله، ولم يذكر‏:‏ فتفل فيها فبرأت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/183‏)‏
حديث آخر‏:‏
ثبت في الصَّحيحين من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم عن ورقاء بن عمر السكريّ، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس قال‏:‏ أتى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الخلاء فوضعت له وضوءاً فلمَّا خرج قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من صنع هذا‏؟‏‏)‏‏)‏
قالوا‏:‏ ابن عبَّاس‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم فقِّهه في الدِّين‏)‏‏)‏‏.‏
وروى البيهقيّ عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن عبَّاس الدورقيّ، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وضع يده على كتفي - أو قال‏:‏ منكبي شكَّ سعيد - ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل‏)‏‏)‏‏.‏
وقد استجاب الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الدَّعوة في ابن عمه، فكان إماماً يهتدى بهداه ويقتدى بسناه في علوم الشَّريعة، ولا سيما في علم التأويل وهو التَّفسير فإنَّه انتهت إليه علوم الصَّحابة قبله، وما كان عقله من كلام ابن عمه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
وقد قال الأعمش عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ لو أنَّ ابن عبَّاس أدرك أسناننا ما عاشره أحد منَّا‏.‏
وكان يقول لهم‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم ترجمان القرآن ابن عبَّاس‏)‏‏)‏‏.‏
هذا وقد تأخَّرت وفاة ابن عبَّاس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة فما ظنَّك بما حصَّله بعده في هذه المدَّة‏؟‏
وقد روينا عن بعض أصحابه أنَّه قال‏:‏ خطب النَّاس ابن عبَّاس في عشية عرفة ففسَّر لهم سورة البقرة - أو قال‏:‏ سورة - ففسرها تفسيراً لو سمعه الرُّوم والتُّرك والدَّيلم لأسلموا - رضي الله عنه وأرضاه -‏.‏
حديث آخر‏:‏
ثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد‏.‏
فكان كذلك حتى روى التّرمذيّ عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطَّيالسيّ، عن أبي خلدة قال‏:‏ قلت لأبي العالية‏:‏ سمع أنس من النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ‏؟‏
فقال‏:‏ خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يحمل في السَّنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/184‏)‏
وقد روينا في الصَّحيح‏:‏ أنَّه ولد له لصلبه قريب من مائة أو ما ينيف عليها‏.‏
وفي رواية‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أطل عمره‏)‏‏)‏ فعمَّر مائة‏.‏
وقد دعا صلَّى الله عليه وسلَّم لأم سليم، ولأبي طلحة في غابر ليلتهما فولدت له غلاماً سمَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عبد الله، فجاء من صلبه تسعة كلهم قد حفظ القرآن، ثبت ذلك في الصَّحيح‏.‏
وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي كثير الغبريّ، عن أبي هريرة أنَّه سأل من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو لأمه فيهديها الله، فدعا لها، فذهب أبو هريرة فوجد أمه تغتسل خلف الباب فلمَّا فرغت قالت‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فجعل أبو هريرة يبكي من الفرح، ثمَّ ذهب فأعلم بذلك رسول الله وسأل منه أن يدعو لهما أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما فحصل ذلك‏.‏
قال أبو هريرة‏:‏ فليس مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا، وقد صدق أبو هريرة في ذلك - رضي الله عنه وأرضاه -‏.‏
ومن تمام هذه الدعوة أنَّ الله شهر ذكره في أيام الجمع حيث يذكره النَّاس بين يدي خطبة الجمعة، وهذا من التقييض القدريّ والتقدير المعنوي‏.‏
وثبت في الصَّحيح أنَّه عليه السلام دعا لسعد ابن أبي وقَّاص وهو مريض فعوفي، ودعا له أن يكون مجاب الدَّعوة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أجب دعوته، وسدد رميته‏)‏‏)‏ فكان كذلك، فنعم أمير السَّرايا والجيوش كان‏.‏
وقد دعا على أبي سعدة أسامة بن قتادة حين شهد فيه بالزُّور بطول العمر، وكثرة الفقر، والتَّعرض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سئل ذلك الرَّجل يقول‏:‏ شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد‏.‏
وثبت في صحيح البخاريّ وغيره‏:‏ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم دعا للسَّائب بن يزيد، ومسح بيده على رأسه فطال عمره حتى بلغ أربعاً وتسعين سنة، وهو تام القامة معتدل، ولم يشب منه موضع أصابت يد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومتِّع بحواسه وقواه‏.‏
وقال أحمد‏:‏ ثنا جرير بن عمير، ثنا عروة بن ثابت، ثنا علي بن أحمد، حدَّثني أبو زيد الأنصاريّ قال‏:‏ قال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدن منيّ‏)‏‏)‏ فمسح بيده على رأسي ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم جمِّله وأدم جماله‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فبلغ بضعاً ومائة - يعني‏:‏ سنة - وما في لحيته بياض إلا نبذة يسيرة، ولقد كان منبسط الوجه لم ينقبض وجهه حتى مات، قال السهيليّ‏:‏ إسناد صحيح موصول‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/185‏)‏
ولقد أورد البيهقيّ لهذا نظائر كثيرة في هذا المعنى تشفي القلوب، وتحصِّل المطلوب‏.‏
وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عارم، ثنا معتمر، وقال‏:‏ يحيى بن معين، ثنا عبد الأعلى، ثنا معتمر - هو ابن سليمان - قال‏:‏ سمعت أبي يحدّث عن أبي العلاء قال‏:‏ كنت عند قتادة بن ملحان في موضعه الذي مات فيه‏.‏
قال‏:‏ فمرَّ رجل في مؤخر الدَّار‏.‏
قال‏:‏ فرأيته في وجه قتادة‏.‏
وقال‏:‏ كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد مسح وجهه‏.‏
قال‏:‏ وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيت كأن على وجهه الدِّهان‏.‏
وثبت في الصَّحيحين أنَّه عليه السلام دعا لعبد الرَّحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الدِّرع من الزَّعفران لأجل العرس، فاستجاب الله لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ففتح له في المتجر والمغانم حتى حصل له مال جزيل بحيث أنَّه لما مات صولحت امرأة من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً‏.‏
وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غرقد أنَّه سمع الحيّ يخبرون عن عروة ابن أبي الجعد المازنيّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعطاه ديناراً ليشتري له به شاة، فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بارك الله لك في صفقة يمينك‏)‏‏)‏‏.‏
وفي رواية‏:‏ فدعا له بالبركة في البيع فكان لو اشترى التُّراب لربح فيه‏.‏
وقال البخاريّ‏:‏ ثنا عبد الله بن يوسف، أنَّا ابن وهب، ثنا سعيد ابن أبي أيوب عن أبي عقيل أنَّه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السُّوق فيشتري الطَّعام فيلقاه ابن الزبير وابن عمر فيقولان‏:‏ أشركنا في بيعك فإنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قد دعا لك بالبركة، فيشركهم فربما أصاب الرَّاحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل‏.‏
وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو سعد الماليني، أنَّا ابن عديّ، ثنا علي بن محمد بن سليمان الحليميّ، ثنا محمد بن يزيد المستمليّ، ثنا سبابة بن عبد الله، ثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال قال‏:‏ أذَّنت في غداة باردة فخرج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يرَ في المسجد واحداً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين النَّاس‏؟‏‏)‏‏)‏
فقلت‏:‏ منعهم البرد‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أذهب عنهم البرد‏)‏‏)‏‏.‏
فرأيتهم يتروحون‏.‏
ثمَّ قال البيهقيّ‏:‏ تفرَّد به أيوب بن سيار، ونظيره قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة في قصَّة الخندق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/186‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنَّا عبد العزيز بن عبد الله عن محمد بن عبد الله الأصبهانيّ إملاءً، أنَّا أبو إسماعيل التّرمذيّ محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، ثنا علي ابن أبي عليّ اللهبيّ عن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خرج وعمر بن الخطَّاب معه، فعرضت له امرأة فقالت‏:‏ يا رسول الله إني امرأة مسلمة محرمة ومعي زوج لي في بيتي مثل المرأة‏.‏
فقال لها رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏إدعي لي زوجك‏)‏‏)‏‏.‏
فدعته، وكان خرَّازاً فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تقول في امرأتك يا عبد الله‏؟‏‏)‏‏)‏
فقال الرَّجل‏:‏ والذي أكرمك ما جفَّ رأسي منها‏.‏
فقالت امرأته‏:‏ جاء مرة واحدة في الشَّهر‏.‏
فقال لها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أتبغضينه‏؟‏‏)‏‏)‏
قالت‏:‏ نعم‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أدنيا رءوسكما‏)‏‏)‏ فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم ألّف بينهما وحبب أحدهما إلى صاحبه‏)‏‏)‏ ثمَّ مرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بسوق النَّمط ومعه عمر بن الخطَّاب فطلعت المرأة تحمل أدماً على رأسها، فلمَّا رأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طرحته وأقبلت فقبَّلت رجليه‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف أنت وزوجك‏؟‏‏)‏‏)‏
فقالت‏:‏ والذي أكرمك ما طارف ولا تالد أحب إلي منه‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أشهد أني رسول الله‏)‏‏)‏
فقال عمر‏:‏ وأنا أشهد أنَّك رسول الله‏.‏
قال أبو عبد الله‏:‏ تفرَّد به علي بن علي اللهبي، وهو كثير الرِّواية للمناكير‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه، عن جابر بن عبد الله - يعني‏:‏ هذه القصَّة - إلا أنَّه لم يذكر عمر بن الخطَّاب‏.‏
حديث آخر‏:‏
قال أبو القاسم البغويّ‏:‏ ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن سلمة، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي الطّفيل أنَّ رجلاً ولد له غلام فأتى به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدعا له بالبركة، وأخذ بجبهته فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس، فشبَّ الغلام فلمَّا كان زمن الخوارج أجابهم، فسقطت الشَّعرة عن جبهته، فأخذه أبوه فحبسه وقيده مخافة أن يلحق بهم‏.‏
قال‏:‏ فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له‏:‏ ألم تر إلى بركة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقعت، فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم‏.‏
قال‏:‏ فردَّ الله تلك الشعرة إلى جبهته إذ تاب‏.‏
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ عن الحاكم وغيره، عن الأصمّ، عن أبي أسامة الكلبيّ، عن سريج بن مسلم، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيميّ، حدَّثني سيف بن وهب عن أبي الطّفيل أنَّ رجلاً من بني ليث يقال له‏:‏ فراس بن عمرو أصابه صداع شديد فذهب به أبوه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجلسه بين يديه وأخذ بجلدة بين عينيه فجذبها حتى تبعصت فنبتت في موضع أصابع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم شعرة وذهب عنه الصُّداع فلم يصدع، وذكر بقية القصَّة في الشعرة كنحو ما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/187‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال الحافظ أبو بكر البزَّار‏:‏ حدَّثنا هاشم بن القاسم الحرَّانيّ، ثنا يعلى بن الأشدق سمعت عبد الله بن حراد العقيليّ، حدَّثني النَّابغة - يعني‏:‏ الجعدي - قال‏:‏ أتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنشدته من قولي‏:‏
بلغنا السَّماء عفَّةً وتكرُّما * وإنَّا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ أي الجنَّة‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنشدني‏)‏‏)‏‏.‏
فأنشدته من قولي‏:‏
ولا خيرَ في حلمٍ إذا لم يكنْ لهُ * بوادرُ تحمي صفوهُ أنْ يكدَّرَا
ولا خَير في جَهْلٍ إذا لم يكنْ لهُ * حليمٌ إذا ما أورَدَ الأمرَ أصدرا
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أحسنت لا يفضِّض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏
هكذا رواه البزَّار إسناداً ومتناً‏.‏
وقد رواه الحافظ البيهقيّ من طريق أخرى فقال‏:‏ أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان، أنَّا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، ثنا جعفر بن محمد بن سوار، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السُّكريّ الرِّقيّ، حدَّثني يعلى بن الأشدق قال‏:‏ سمعت النَّابغة نابغة - بني جعدة - يقول‏:‏ أنشدت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا الشِّعر فأعجبه‏:‏
بَلَغنَا السَّما مجدَنا وتُراثنَا * وإنَّا لنَرجُو فوقَ ذلك مظهَرَا
فقال لي‏:‏ ‏(‏‏(‏أين المظهر يا أبا ليلى‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ إلى الجنَّة‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كذلك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏
ولا خَيرَ في حُلم إذا لم يكُنْ لهُ * بوادِرُ تحمِي صَفوَهُ أنْ يُكَدَّرا
ولا خيرَ في جَهلٍ إذا لمْ يكُنْ لَهُ * حليمَ إذا ما أورَدَ الأمرَ أصدرَا
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أجدت لا يفضض الله فاك‏)‏‏)‏‏.‏
قال يعلى‏:‏ فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة وما ذهب له سن‏.‏
قال البيهقيّ وروي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن حراد سمعت نابغة يقول‏:‏ سمعني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا أنشد من قولي‏:‏
بَلَغْنا السَّماء عِفَّةً وتَكَرُّمَا * وإنَّا لنرجو فوقَ ذلكَ مَظْهَرا
ثمَّ ذكر الباقي بمعناه‏.‏
قال‏:‏ فلقد رأيت سنَّه كأنها البرد المنهل، ما سقط له سن ولا انفلت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/188‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو بكر القاضيّ وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو قالا‏:‏ ثنا الأصمّ، ثنا عبَّاس الدوريّ، ثنا علي بن بحر القطَّان، ثنا هاشم بن يوسف، ثنا معمر، ثنا ثابت وسليمان التيميّ عن أنس أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نظر قبل العراق والشَّام واليمن - لا أدري بأيتهن بدأ - ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وحطَّ من أوزارهم‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ رواه عن الحاكم، عن الأصمّ، عن محمد بن إسحاق الصَّغانيّ، عن علي بن بحر بن سريّ فذكر بمعناه‏.‏
وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا عمران القطَّان عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت قال‏:‏ نظر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قِبَلَ اليمن فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ نظر قِبَلَ الشَّام فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ نظر قِبَلَ العراق فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صاعنا ومدنا‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا وقع الأمر‏:‏ أسلم أهل اليمن قبل أهل الشَّام، ثمَّ كان الخير والبركة قبل العراق، ووعد أهل الشَّام بالدوام على الهداية والقيام بنصرة الدِّين إلى آخر الأمر‏.‏
وروى أحمد في مسنده‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم السَّاعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشَّام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق‏)‏‏)‏‏.‏
فصل آداب الطَّعام‏:‏
وروى مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن زيد بن الحبَّاب، عن عكرمة بن عمَّار، حدَّثني إياس ابن سلمة بن الأكوع أنَّ أباه حدَّثه أنَّ رجلاً أكل عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشماله‏.‏
فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏كل بيمينك‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ لا أستطيع‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا استطعت ما يمنعه إلا الكبر‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فما رفعها إلى فِيه‏.‏
وقد رواه أبو داود الطَّيالسيّ عن عكرمة، عن إياس، عن أبيه قال‏:‏ أبصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بشر بن راعي العير وهو يأكل بشماله فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كُلْ بيمينك‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ لا أستطيع‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لااستطعت‏)‏‏)‏‏.‏
فما وصلت يده إلى فيه بعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/189‏)‏
وثبت في صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عبَّاس قال‏:‏ كنت ألعب مع الغلمان فجاء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فاختبأت منه، فجاءني فحطاني حطوة أو حطوتين وأرسلني إلى معاوية في حاجة فأتيته وهو يأكل‏.‏
فقلت‏:‏ أتيته وهو يأكل‏.‏
فأرسلني الثَّانية، فأتيته وهو يأكل‏.‏
فقلت‏:‏ أتيته وهو يأكل‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أشبع الله بطنه‏)‏‏)‏‏.‏
وقد روى البيهقيّ عن الحاكم، عن علي بن حماد، عن هشام بن علي، عن موسى بن إسماعيل، حدَّثني أبو عوانة عن أبي حمزة سمعت ابن عبَّاس قال‏:‏ كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله قد جاء‏.‏
فقلت‏:‏ ما جاء إلا إليَّ فذهبت فاختبأت على باب فجاء فخطاني خطوة وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب فادع لي معاوية‏)‏‏)‏ - وكان يكتب الوحي -‏.‏
قال‏:‏ فذهبت فدعوته له فقيل‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏
فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب فادعه لي‏)‏‏)‏‏.‏
فأتيته الثَّانية فقيل‏:‏ إنَّه يأكل‏.‏
فأتيت رسول الله فأخبرته‏.‏
فقال في الثَّانية‏:‏ ‏(‏‏(‏لا أشبع الله بطنه‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فما شبع بعدها‏.‏
قلت‏:‏ وقد كان معاوية رضي الله عنه لا يشبع بعدها، ووافقته هذه الدَّعوة في أيام إمارته فيقال‏:‏ إنَّه كان يأكل في اليوم سبع مرات طعاماً بلحم وكان يقول‏:‏ والله لا أشبع وإنما أعيى‏.‏
وقال مالك عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة بني أنمار فذكر الحديث في الرَّجل الذي عليه ثوبان قد خلقا، وله ثوبان في القنية فأمره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلبسهما ثمَّ ولى‏.‏
فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏ماله ضرب الله عنقه‏؟‏‏)‏‏)‏
فقال الرَّجل‏:‏ في سبيل الله‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏
فقتل الرَّجل في سبيل الله‏.‏
وقد ورد من هذا النَّوع كثير، وقد ثبت في الأحاديث الصَّحيحة بطرق متعددة عن جماعة من الصَّحابة تفيد القطع كما سنوردها قريباً في باب فضائله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم من سببته أو جلدته أو لعنته وليس لذلك أهلاً، فاجعل ذلك قربةً له تقرِّبه بها عندك يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏
وقد قدَّمنا في أول البعثة حديث ابن مسعود في دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم على أولئك النَّفر السَّبعة الذين أحدهم أبو جهل ابن هشام وأصحابه حين طرحوا على ظهره عليه السلام الجَّزور وألقته عنه ابنته فاطمة، فلمَّا انصرف قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم عليك بقريش، اللَّهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة‏)‏‏)‏ ثمَّ سمَّى بقية السَّبعة‏.‏
قال ابن مسعود‏:‏ فوالذي بعثه بالحقّ لقد رأيتهم صرعى في القليب قليب بدر، الحديث وهو متفق عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/190‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثني هشام، ثنا سليمان - يعني‏:‏ ابن المغيرة - عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان منَّا رجل من بني النَّجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب‏.‏
قال‏:‏ فرفعوه وقالوا‏:‏ هذا كان يكتب لمحمد وأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثمَّ عادوا فحفروا له وواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً‏.‏
ورواه مسلم عن محمد بن راضي، عن أبي النَّضر هاشم بن القاسم به‏.‏
طريق أخرى عن أنس‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد بن هارون، ثنا حميد عن أنس أنَّ رجلاً كان يكتب للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرَّجل إذا قرأ البقرة وآل عمران عزَّ فينا - يعني‏:‏ عظم - فكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يملي عليه‏:‏ ‏(‏‏(‏غفوراً رحيماً‏)‏‏)‏ فيكتب عليماً حكيماً، فيقول له النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إكتب كذا وكذا‏)‏‏)‏‏.‏
فيقول‏:‏ أكتب كيف شئت‏.‏
ويملي عليه‏:‏ ‏(‏‏(‏عليماً حكيماً‏)‏‏)‏‏.‏
فيكتب‏:‏ سميعاً بصيراً‏.‏
فيقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أكتب كيف شئت‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فارتد ذلك الرَّجل عن الإسلام فلحق بالمشركين وقال‏:‏ أنا أعلمكم بمحمد، وإني كنت لا أكتب إلا ما شئت، فمات ذلك الرَّجل‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الأرض لا تقبله‏)‏‏)‏‏.‏
قال أنس‏:‏ فحدثني أبو طلحة أنَّه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرَّجل فوجده منبوذاً‏.‏
فقال أبو طلحة‏:‏ ما شأن هذا الرجل ‏؟‏
قالوا‏:‏ قد دفنَّاه مراراً فلم تقبله الأرض‏.‏
وهذا على شرط الشَّيخين ولم يخرِّجوه‏.‏
طريق أخرى عن أنس‏:‏
وقال البخاري‏:‏ ثنا أبو معمر، ثنا عبد الرَّزاق، ثنا عبد العزيز عن أنس بن مالك قال‏:‏ كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فعاد نصرانياً‏.‏
وكان يقول‏:‏ لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض‏.‏
فقالوا‏:‏ هذا فعل محمد - وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه - فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فعلموا أنَّه ليس من النَّاس فألقوه‏

المسائل التي سئل عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجاب عنها بما يطابق الحقّ الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء‏:‏
قد ذكرنا في أول البعثة ما تعنَّتت به قريش وبعثت إلى يهود المدينة يسألونهم عن أشياء يسألون عنها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
فقالوا‏:‏ سلوه عن الرَّوح، وعن أقوام ذهبوا في الدَّهر فلا يدرى ما صنعوا، وعن رجل طوَّاف في الأرض بلغ المشارق والمغارب‏.‏
فلمَّا رجعوا سألوا عن ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأنزل الله عزَّ وجل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏
وأنزل سورة الكهف يشرح فيها خبر الفتية الذين فارقوا دين قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردوه بالعبادة واعتزلوا قومهم، ونزلوا غاراً وهو الكهف فناموا فيه ثمَّ أيقظهم الله بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكان من أمرهم ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز، ثمَّ قصَّ خبر الرَّجلين المؤمن والكافر وما كان من أمرهما، ثمَّ ذكر خبر موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 83‏]‏‏.‏
ثمَّ شرح ثمَّ ذكر خبره وما وصل إليه من المشارق والمغارب وما عمل من المصالح في العالم، وهذا الإخبار هو الواقع في الواقع، وإنما يوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب ما كان منها حقاً وأما ما كان محرَّفاً مبدلاً فذاك مردود، فإنَّ الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبين للنَّاس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام‏.‏
قال الله تعالى بعد ذكر التَّوراة والإنجيل‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏
وذكرنا في أول الهجرة قصَّة إسلام عبد الله بن سلام وأنَّه قال‏:‏ لمَّا قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة انجفل النَّاس إليه فكنت فيمن انجفل، فلمَّا رأيت وجهه قلت‏:‏ إنَّ وجهه ليس بوجه كذَّاب فكان أول ما سمعته يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏أيُّها النَّاس أفشوا السَّلام، وصِلُوا الأرحام، وأطعموا الطَّعام، وصَلُّوا باللَّيل والنَّاس نيام تدخلوا الجنَّة بسلام‏)‏‏)‏‏.‏
وثبت في صحيح البخاريّ وغيره من حديث إسماعيل بن عطية وغيره عن حميد، عن أنس قصَّة سؤاله رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاث لا يعلمهنَّ إلا نبيّ‏:‏ ما أوَّل أشراط السَّاعة‏؟‏ وما أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة‏؟‏ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه ‏؟‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبرني بهنَّ جبريل آنفاً‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمَّا أوَّل أشراط السَّاعة فنار تحشر النَّاس من المشرق إلى المغرب، وأما أوَّل طعام يأكله أهل الجنَّة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرَّجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرَّجل نزع الولد إلى أمه‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه البيهقيّ عن الحاكم، عن الأصمّ، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بكير، عن أبي معشر، عن سعيد المقبريّ فذكر مسألة عبد الله بن سلام إلا أنَّه قال‏:‏ فسأله عن السَّواد الذي في القمر بدل أشراط السَّاعة فذكر الحديث إلى أن قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأمَّا السَّواد الذي في القمر فإنهما كانا شمسين، فقال الله عزَّ وجل‏:‏ ‏(‏‏(‏وجعلنا اللَّيل والنَّهار آيتين فمحونا آية اللَّيل‏)‏‏)‏ فالسَّواد الذي رأيت هو المحو‏)‏‏)‏‏.‏
فقال عبد الله بن سلام‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/192‏)‏
حديث آخر في معناه‏:‏
قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكيّ، أنَّا أبو الحسن - أحمد بن محمد بن عيدروس -، ثنا عثمان بن سعيد، أنَّا الرَّبيع بن نافع أبو توبة، ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنَّه سمع أبا سلام يقول‏:‏ أخبرني أبو أسماء الرَّحبي أنَّ ثوبان حدَّثه قال‏:‏ كنت قائماً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال‏:‏ السَّلام عليك يا محمد، فدفعته دفعة كاد يصرع منها‏.‏
قال‏:‏ لِمَ تدفعني ‏؟‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ ألا تقول‏:‏ يا رسول الله ‏؟‏
قال‏:‏ إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ اسمي الذي سماني به أهلي محمد‏)‏‏)‏‏.‏
فقال اليهوديّ‏:‏ جئت أسألك‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ينفعك شيء إن حدثتك‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ أسمع بأذني، فنكت بعود معه‏.‏
فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏سل‏)‏‏)‏‏.‏
فقال له اليهوديّ‏:‏ أين النَّاس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسَّموات ‏؟‏
فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏:‏ ‏(‏‏(‏في الظُّلمة دون الجسر‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فمن أوَّل النَّاس إجازة ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏فقراء المهاجرين‏)‏‏)‏‏.‏
قال اليهوديّ‏:‏ فما تحفتهم حين يدخلون الجنَّة ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏زيادة كبد الحوت‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ وما غذاؤهم على إثره ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ينحر لهم ثور الجنَّة الذي كان يأكل من أطرافها‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فما شرابهم عليه ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من عين فيها تسمى سلسبيلاً‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ صدقت‏.‏
قال‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبيّ أو رجل أو رجلان‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ينفعك إن حدَّثتك‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ أسمع بأذني‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏جئت أسألك عن الولد ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ماء الرَّجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرَّجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرَّجل أنثا بإذن الله‏)‏‏)‏‏.‏
فقال اليهوديّ‏:‏ صدقت، وإنَّك لنبيّ ثمَّ انصرف‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه سألني عنه وما أعلم شيئاً منه حتى أتاني الله به‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلوانيّ، عن أبي توبة الرَّبيع بن نافع به‏.‏
وهذا الرَّجل يحتمل أن يكون هو عبد الله بن سلام، ويحتمل أن يكون غيره، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/193‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ حدَّثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، حدَّثني ابن عبَّاس قال‏:‏ حضرت عصابة من اليهود يوماً عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا‏:‏ يا رسول الله حدِّثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبيّ ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلوني ما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمَّة الله وما أخذ يعقوب على نبيِّه إن أنا حدَّثتكم بشيء تعرفونه صدقاً لتتابعنيّ على الإسلام‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ لك ذلك‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏سلوا عما شئتم‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ أخبرنا عن أربع خلال ثمَّ نسألك‏:‏ أخبرنا عن الطَّعام الذي حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التَّوراة، وأخبرنا عن ماء الرَّجل كيف يكون الذَّكر منه حتى يكون ذكراً‏؟‏ وكيف تكون الأنثى حتى تكون الأنثى‏؟‏ وأخبرنا عن هذا النَّبيّ في النَّوم ومن وليك من الملائكة ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فعليكم عهد الله لئن أنا حدَّثتكم لتتابعنيّ‏)‏‏)‏‏.‏
فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنشدكم بالله الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ إسرائيل - يعقوب - مرض مرضاً شديداً طال سقمه فيه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحبَّ الشَّراب إليه وأحبَّ الطَّعام إليه، وكان أحبّ الشَّراب إليه ألبان الإبل وأحبّ الطَّعام إليه لحمان الإبل‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏
فقال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنشدكم الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ ماء الرَّجل أبيض وأنَّ ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، وإن علا ماء الرَّجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرَّجل كان أنثى بإذن الله‏؟‏‏)‏‏)‏
قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏
قال رسول الله‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التَّوراة على موسى هل تعلمون أنَّ هذا النَّبيّ تنام عيناه ولا ينام قلبه‏؟‏‏)‏‏)‏
قالوا‏:‏ اللَّهم نعم‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اشهد عليهم‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ أنت الآن حدِّثنا عن وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وليي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه‏)‏‏)‏ فقالوا‏:‏ فعندها نفارقك لو كان وليك غيره من الملائكة لبايعناك وصدَّقناك‏.‏
قال‏:‏ فما يمنعكم أن تصدِّقوه ‏؟‏
قالوا‏:‏ إنَّه عدوّنا من الملائكة‏.‏
فأنزل الله عزَّ وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 97‏]‏‏.‏
ونزلت‏:‏ ‏{‏فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/194‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ ثنا يزيد، ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يحدِّث عن صفوان بن عسال المراديّ قال‏:‏ قال يهوديّ لصاحبه‏:‏ اذهب بنا إلى هذا النَّبيّ حتى نسأله عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏‏.‏
فقال‏:‏ لا تقل له شيئاً، فإنَّه لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة - أو قال‏:‏ - لا تفرُّوا من الزَّحف - شعبة الشَّاك - وأنتم يا معشر يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فقبَّلا يديه ورجليه وقالا‏:‏ نشهد أنَّك نبيّ‏.‏
قال‏:‏ فما يمنعكما أن تتبعاني ‏؟‏
قالا‏:‏ إنَّ داود - عليه السَّلام - دعا أن لا يزال من ذريته نبي، وإنَّا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود‏.‏
وقد رواه التّرمذيّ والنسائي، وابن ماجه وابن جرير، والحاكم والبيهقيّ من طرق عن شعبة به‏.‏
وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏
قلت‏:‏ وفي رجاله من تُكلِّم فيه وكأنَّه اشتبه على الرَّاوي التِّسع الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلَّمه بها ليلة القدر بعد ما خرجوا من ديار مصر وشعب بني إسرائيل حول الطُّور حضور، وهارون ومن معه وقوف على الطُّور أيضاً، وحينئذ كلَّم الله موسى تكليماً آمراً له بهذه العشر كلمات، وقد فسرت في هذا الحديث، وأما التِّسع الآيات فتلك دلائل وخوارق عادات أيَّد بها موسى عليه السلام وأظهرها الله على يديه بديار مصر وهي‏:‏ العصا، واليد، والطُّوفان، والجراد، والقُمَّل، والضَّفادع، والدَّم، والجدب، ونقص الثَّمرات،

ما أخبر به صلَّى الله عليه وسلَّم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده‏:‏
وهذا باب عظيم لا يمكن استقصاء جميع ما فيه لكثرتها، ولكن نحن نشير إلى طرف منها، وبالله المستعان وعليه التُّكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وذلك منتزع من القرآن ومن الأحاديث‏.‏
أما القرآن‏:‏
فقال تعالى في سورة المزَّمل - وهي من أوائل ما نزل بمكة -‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المزَّمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏
ومعلوم أنَّ الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة‏.‏
وقال تعالى في سورة اقترب - وهي مكية -‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 44-45‏]‏‏.‏
ووقع هذا يوم بدر وقد تلاها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو خارج من العريش، ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النَّصر والظَّفر، وهذا مصداق ذاك‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏
فأخبر أنَّ عمَّه عبد العزَّى بن عبد المطَّلب الملقب بأبي لهب سيدخل النَّار هو وامرأته، فقدَّر الله عزَّ وجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما حتى ولا ظاهراً، وهذا من دلائل النبُّوة الباهرة‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏
وقال تعالى في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23-24‏]‏‏.‏
فأخبر أنَّ جميع الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وإحكام أحكامه، وبيان حلاله وحرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه لما استطاعوا ذلك، ولما قدروا عليه ولا على عشر سور منه بل ولا سورة، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبداً‏.‏
و ‏(‏لن‏)‏ لنفي التأبيد في المستقبل، ومثل هذا التَّحدي وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به، عالم بما يقوله، قاطع أن أحداً لا يمكنه أن يعارضه، ولا يأتي بمثل ما جاء به عن ربِّه عزَّ وجل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/203‏)‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 55‏]‏‏.‏
وهكذا وقع سواء بسواء، مكَّن الله هذا الدِّين وأظهره وأعلاه ونشره في سائر الآفاق، وأنفذه وأمضاه‏.‏
وقد فسَّر كثير من السَّلف هذه الآية بخلافة الصِّديق، ولا شكَّ في دخوله فيها ولكن لا تختص به بل تعمَّه كما تعمّ غيره‏.‏
كما ثبت في الصَّحيح‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لننفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏
وقد كان ذلك في زمن الخلفاء الثَّلاثة‏:‏ أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم وأرضاهم -‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وهكذا وقع وعمَّ هذا الدِّين وغلب وعلا على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمته في زمن الصَّحابة ومن بعدهم، وذلَّت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم، وصار النَّاس إما مؤمن داخل في الدِّين، وإما مهادن باذل الطَّاعة والمال، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله‏.‏
وقد ثبت في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها‏)‏‏)‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏‏.‏
وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة أو الروم فقد وقع ذلك‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20 -21‏]‏‏.‏
وسواء كانت هذه الأخرى خيبر أو مكة فقد فتحت وأخذت كما وقع به الوعد سواء بسواء‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏
فكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست، ووقع إنجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء كما تقدَّم، وذكرنا هناك الحديث بطوله وفيه أنَّ عمر قال‏:‏ يا رسول الله ألم تكن تخبرنا أنَّا سنأتي البيت ونطوف به ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بلى أفأخبرتك أنَّك تأتيه عامك هذا‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ لا‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنَّك تأتيه وتطوف به‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/204‏)‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وهذا الوعد كان في وقعة بدر لما خرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من المدينة ليأخذ عير قريش، فبلغ قريشاً خروجه إلى عيرهم فنفروا في قريب من ألف مقاتل فلمَّا تحقق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه قدومهم وعده الله إحدى الطَّائفتين أن سيظفره بها إمَّا العير، وإمَّا النفير، فودَّ كثير من الصَّحابة ممن كان معه أن يكون الوعد للعير لما فيه من الأموال وقلَّة الرِّجال، وكرهوا لقاء النَّفير لما فيه من العدد والعدد، فخار الله لهم وأنجز لهم وعده في النَّفير بهم بأسه الذي لا يرد فقتل من سراتهم سبعون وأسر سبعون، وفادوا أنفسهم بأموال جزيلة، فجمع لهم بين خيريّ الدُّنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏‏.‏
وقد تقدَّم بيان هذا في غزوة بدر‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 70‏]‏‏.‏
وهكذا وقع فإنَّ الله عوَّض من أسلم منهم بخير الدُّنيا والآخرة‏.‏
ومن ذلك ما ذكره البخاريّ أنَّ العبَّاس جاء إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ يا رسول الله أعطني فإنِّي فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً‏.‏
فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏خذ‏)‏‏)‏ فأخذ في ثوب مقداراً لم يمكنه أن يقله، ثمَّ وضع منه مرة بعد مرة حتى أمكنه أن يحمله على كاهله وانطلق به كما ذكرناه في موضعه مبسوطاً، وهذا من تصديق هذه الآية الكريمة‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 95‏]‏‏.‏
هكذا وقع عوَّضهم الله عمَّا كان يغدو إليهم مع حجاج المشركين بما شرعه لهم من قتال أهل الكتاب، وضرب الجزية عليهم، وسلب أموال من قتل منهم على كفره كما وقع بكفَّار أهل الشَّام من الرُّوم ومجوس الفرس بالعراق، وغيرها من البلدان التي انتشر الإسلام على أرجائها وحكم على مدائنها وفيفائها‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 95‏]‏‏.‏
وهكذا وقع لمَّا رجع صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة تبوك كان قد تخلَّف عنه طائفة من المنافقين فجعلوا يحلفون بالله لقد كانوا معذورين في تخلُّفهم، وهم في ذلك كاذبون، فأمر الله رسوله أن يجري أحوالهم على ظاهرها ولا يفضحهم عند النَّاس، وقد أطلعه الله على أعيان جماعة منهم أربعة عشر رجلاً كما قدَّمناه لك في غزوة تبوك، فكان حذيفة بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إيَّاه صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وهكذا وقع لما اشتوروا عليه ليثبِّتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه من بين أظهرهم، ثمَّ وقع الرأيّ على القتل، فعند ذلك أمر الله رسوله بالخروج من بين أظهرهم فخرج هو وصديقه أبو بكر فَكَمَنَا في غار ثور ثلاثاً ثمَّ ارتحلا بعدها كما قدَّمنا وهذا هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/205‏)‏
وهو مراد من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏
ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏‏.‏
وقد وقع كما أخبر فإنَّ الملأ الذين اشتوروا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته صلَّى الله عليه وسلَّم إلا ريثما استقر ركابه الشَّريف بالمدينة، وتابعه المهاجرون والأنصار ثمَّ كانت وقعة بدر فقتلت تلك النُّفوس وكسرت تلك الرُّءوس، وقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم يعلم ذلك قَبْلُ كونَه من إخبار الله له بذلك‏.‏
ولهذا قال سعد بن معاذ لأمية بن خلف‏:‏ أما إني سمعت محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم يذكر أنَّه قاتلك‏.‏
فقال‏:‏ أنت سمعته ‏؟‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فإنَّه والله لا يكذب‏.‏
وسيأتي الحديث في بابه، وقد قدَّمنا أنَّه عليه السلام جعل يشير لأصحابه قبل الوقعة إلى مصارع القتلى، فما تعدَّى أحد منهم موضعه الذي أشار إليه - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-6‏]‏‏.‏
وهذا الوعد وقع كما أخبر به، وذلك أنَّه لمَّا غلبت فارس الرُّوم فرح المشركون واغتم بذلك المؤمنون لأنَّ النَّصارى أقرب إلى الإسلام من المجوس، فأخبر الله رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الرُّوم ستغلب الفرس بعد هذه المدَّة بسبع سنين، وكان من أمر مراهنة الصِّديق رءوس المشركين على أنَّ ذلك سيقع في هذه المدة ما هو مشهور، كما قررنا في كتابنا ‏(‏التَّفسير‏)‏ فوقع الأمر كما أخبر به القرآن، غلبت الرُّوم فارس بعد غلبهم غلباً عظيماً جداً، وقصَّتهم في ذلك يطول بسطها وقد شرحناها في ‏(‏التَّفسير‏)‏ بما فيه الكفاية ولله الحمد والمنة‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصِّلت‏:‏ 53‏]‏‏.‏
وكذلك وقع، أظهر الله من آياته ودلائله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعه من النَّاس بأعداء النبُّوة، ومخالفي الشرع ممن كذب به من أهل الكتابين والمجوس والمشركين، ما دلَّ ذوي البصائر والنُّهى على أنَّ محمداً رسول الله حقاً، وأنَّ ما جاء به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقع له في صدور أعدائه وقلوبهم رعباً ومهابةً وخوفاً‏.‏
كما ثبت عنه في الصَّحيحين أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نُصرت بالرُّعب مسيرة شهر‏)‏‏)‏ وهذا من التَّأييد والنَّصر الذي آتاه الله - عزَّ وجل - وكان عدوَّه يخافه وبينه وبينه مسيرة شهر وقيل‏:‏ كان إذا عزم على غزو قوم أرعبوا قبل مجيئه إليهم وَورودِه عليهم بشهر - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً إلى يوم الدِّين‏

الدَّلائل على إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم بما وقع
وأمَّا الأحاديث الدَّالة على إخباره بما وقع كما أخبر فمن ذلك ما أسلفناه في قصَّة الصَّحيفة التي تعاقدت فيها بطون قريش وتمالأوا على بني هاشم وبني المطلب أن لا يؤووهم، ولا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فدخلت بنو هاشم وبنو عبد المطلب بمسلمهم وكافرهم شعب أبي طالب آنفين لذلك، ممتنعين منه أبداً ما بقوا دائماً ما تناسلوا وتعاقبوا، وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية التي يقول فيها‏:‏
كذَبتُمْ وبيتِ اللهِ نبزِي محمَّداً * وَلَمَّا نقاتِل دونَهُ وَنُنَاضِلِ
وِنسلمُهُ حتَّى نصرَّعَ حولهُ * وَنذهَلَ عَنْ أَبنَائِنَا وَالحَلائِلِ
وما تَرَكَ قَوْمٍ لا أَبَا لَكَ سيداً * يحوطُ الذِّمارَ غيرَ دَرْبِ مُواكِلِ
وأَبيَضَ يُسْتَسْقى الغَمَامُ بوجهِهِ * ثمالُ اليتَامَى عِصْمَةٌ للأرامِلِ
يلوذُ بهِ الهَلاكُ مِنْ آلِ هاشِمٍ * فَهُمْ عِنْدَهُ في نعمةٍ وفواضِلِ
وكانت قريش قد علَّقت صحيفة الزَّعامة في سقف الكعبة، فسلَّط الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من أسماء الله لئلا يجتمع بما فيها من الظُّلم والفجور، وقيل‏:‏ إنَّها أكلت ما فيها إلا أسماء الله - عزَّ وجل - فأخبر بذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّه أبو طالب‏.‏
فجاء أبو طالب إلى قريش فقال‏:‏ إنَّ ابن أخي قد أخبرني بخبر عن صحيفتكم فإنَّ الله قد سلَّط عليها الأرضة فأكلتها إلا ما فيها من أسماء الله - أو كما قال‏:‏ - فأحضِروها فإن كان كما قال وإلا أسلمته إليكم، فأنزلوها ففتحوها فإذا الأمر كما أخبر به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فعند ذلك نقضوا حكمها ودخلت بنو هاشم وبنو المطَّلب مكة، ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك كما أسلفنا ذكره، ولله الحمد‏.‏
ومن ذلك حديث خبَّاب بن الأرت حين جاء هو وأمثاله من المستضعفين يستنصرن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يتوسَّد رداءه في ظل الكعبة فيدعو لهم لما هم فيه من العذاب والإهانة فجلس محمراً وجهه وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ من كان قبلكم كان أحدهم يشقّ باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر ولكنَّكم تستعجلون‏)‏‏)‏‏.‏
ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاريّ‏:‏ ثنا محمد بن العلاء، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله ابن أبي بردة، عن أبيه، عن جدِّه أبي بردة، عن أبي موسى أراه عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض فيها نخل، فذهب وهلي إلى أنَّها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفاً فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثمَّ هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً والله خير فإذا هم المؤمنون يوم أُحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصِّدق الذي أتانا بعد يوم بدر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/207‏)‏
ومن ذلك قصَّة سعد بن معاذ مع أمية بن خلف حين قدم عليه مكة‏.‏ قال البخاريّ‏:‏ ثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ انطلق سعد بن معاذ معتمراً فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشَّام فمرَّ بالمدينة نزل على سعد‏.‏
فقال أمية لسعد‏:‏ انتظر حتى إذا انتصف النَّهار وغفل النَّاس انطلقت فطفت فبينا سعد يطوف فإذا أبو جهل فقال‏:‏ من هذا الذي يطوف بالكعبة ‏؟‏
فقال سعد‏:‏ أنا سعد‏.‏
فقال أبو جهل‏:‏ تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمداً وأصحابه ‏؟‏
فقال‏:‏ نعم، فتلاحيا بينهما‏.‏
فقال أمية لسعد‏:‏ لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنَّه سيد أهل الوادي‏.‏
ثمَّ قال سعد‏:‏ والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشَّام‏.‏
قال‏:‏ فجعل أمية يقول لسعد‏:‏ لا ترفع صوتك وجعل يمسكه‏.‏
فغضب سعد فقال‏:‏ دعنا عنك فإني سمعت محمد صلَّى الله عليه وسلَّم يزعم أنَّه قاتلك‏.‏
قال‏:‏ إياي ‏؟‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ والله ما يكذب محمَّد إذا حدَّث، فرجع إلى امرأته فقال‏:‏ أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربيّ ‏؟‏
قالت‏:‏ وما قال لك ‏؟‏
قال‏:‏ زعم أنَّه سمع محمَّداً يزعم أنَّه قاتلي‏.‏
قالت‏:‏ فوالله ما يكذب محمَّداً‏.‏
قال‏:‏ فلمَّا خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ‏.‏
قالت له امرأته‏:‏ ما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربيّ‏؟‏
قال‏:‏ فأراد أن لا يخرج‏.‏
فقال له أبو جهل‏:‏ إنَّك من أشراف الوادي فسر يوماً أو يومين، فسار معهم فقتله الله‏.‏
وهذا الحديث من أفراد البخاريّ، وقد تقدَّم بأبسط من هذا السِّياق‏.‏
ومن ذلك قصَّة أُبيّ بن خلف الذي كان يعلف حصاناً له فإذا مرَّ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ إنِّي سأقتلك عليه‏.‏
فيقول له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بل أنا أقتلك إن شاء الله‏)‏‏)‏‏.‏
فقتله يوم أُحد كما قدَّمنا بسطه‏.‏
ومن ذلك إخباره عن مصارع القتلى يوم بدر كما تقدَّم الحديث في الصَّحيح أنَّه جعل يشير قبل الوقعة إلى محلها ويقول‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فوالذي بعثه بالحقّ ما حاد أحد منهم عن مكانه الذي أشار إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
ومن ذلك قوله لذلك الرَّجل الذي كان لا يترك للمشركين شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها ففراها بسيفه وذلك يوم أُحد، وقيل‏:‏ خيبر - وهو الصَّحيح - وقيل‏:‏ في يوم حنين -‏.‏
فقال النَّاس‏:‏ ما أغنى أحد اليوم ما أغنى فلان - يقال‏:‏ إنَّه قرمان -‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه من أهل النَّار‏)‏‏)‏‏.‏
فقال بعض النَّاس‏:‏ أنا صاحبه فاتبعه فجرح فاستعجل الموت فوضع ذباب سيفه في صدره ثمَّ تحامل عليه حتى أنفذه فرجع ذلك الرَّجل فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏‏)‏
فقال‏:‏ إنَّ الرَّجل الذي ذكرت آنفاً كان من أمره كيت وكيت، فذكر الحديث كما تقدَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/208‏)‏
ومن ذلك إخباره عن فتح مدائن كسرى وقصور الشَّام، وغيرها من البلاد يوم حفر الخندق لمَّا ضرب بيده الكريمة تلك الصخرة فبرقت من ضربه، ثمَّ أخرى، ثمَّ أخرى كما قدَّمنا‏.‏
ومن ذلك إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك الذِّراع أنَّه مسموم، فكان كما أخبر به اعترف إليه بذلك، ومات - من أكل معه - بشر بن البراء بن معرور‏.‏
ومن ذلك ما ذكره عبد الرَّزاق عن معمر أنَّه بلغه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال ذات يوم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم نجِّ أصحاب السَّفينة‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ مكث ساعة ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏قد استمرت‏)‏‏)‏ والحديث بتمامه في دلائل النبُّوة للبيهقي، وكانت تلك السَّفينة قد أشرفت على الغرق وفيها الأشعريون الذين قدموا عليه - وهو بخيبر -‏.‏
ومن ذلك إخباره عن قبر أبي رغال حين مرَّ عليه وهو ذاهب إلى الطَّائف وأنَّ معه غصناً من ذهب، فحفروه فوجدوه كما أخبر- صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏
رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية، عن بحر ابن أبي بحر، عن عبد الله بن عمرو به‏.‏
ومن ذلك قوله عليه السلام للأنصار لما خطبهم تلك الخطبة مسلياً لهم عمَّا كان وقع في نفوس بعضهم من الإيثار عليهم في القسمة لما تألَّف قلوب من تألَّف من سادات العرب ورؤوس قريش وغيرهم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ترضون أن يذهب النَّاس بالشَّاة والبعير وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رحالكم‏)‏‏)‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتَّى تلقوني على الحوض‏)‏‏)‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ النَّاس يكثرون وتقلّ الأنصار‏)‏‏)‏‏.‏
وقال لهم في الخطبة قبل هذه على الصَّفا‏:‏ ‏(‏‏(‏بل المحيا محياكم، والممات مماتكم‏)‏‏)‏‏.‏
وقد وقع جميع ذلك كما أخبر به سواء بسواء‏.‏
وقال البخاري‏:‏ ثنا يحيى بن بكير، ثنا اللَّيث عن يونس، عن ابن شهاب قال‏:‏ وأخبرني سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمَّد بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏
وقال البخاريّ‏:‏ ثنا قبيصة، ثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة رفعه‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه البخاريّ أيضاً ومسلم من حديث جرير، وزاد البخاريّ وابن عوانة، ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير به، وقد وقع مصداق ذلك بعده في أيام الخلفاء الثَّلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، استوثقت هذه الممالك فتحاً على أيدي المسلمين، وأنفقت أموال قيصر ملك الرُّوم وكسرى ملك الفرس في سبيل الله على ما سنذكره بعد إن شاء الله‏.‏
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمسلمين، وهي أنَّ ملك فارس قد انقطع فلا عودة له، وملك الرُّوم للشَّام قد زال عنها فلا يملوكها بعد ذلك، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/209‏)‏
وفيه دلالة على صحَّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، والشَّهادة لهم بالعدل حيث أنفقت الأموال المغنومة في زمانهم في سبيل الله على الوجه المرضي الممدوح‏.‏
وقال البخاريّ‏:‏ ثنا محمد بن الحكم، ثنا النضر، ثنا إسرائيل، ثنا سعد الطائي، أنَّا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال‏:‏ بينا أنا عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، ثمَّ أتاه آخر فشكى إليه قطع السَّبيل‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا عدي هل رأيت الحيرة‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ لم أرها وقد أنبئت عنها‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن طالت بك حياة لترينَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ما تخاف أحداً إلا الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ - قلت فيما بيني وبين نفسي‏:‏ فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد‏؟‏ - ‏(‏‏(‏ولئن طالت بك حياة لتفتحنَّ كنوز كسرى‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ كسرى بن هرمز ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينَّ الرَّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقينَّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له فيقولنَّ له‏:‏ ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فيقول‏:‏ ألم أعطك مالاً وولداً وأفضلت عليك‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنَّم، وينظر عن يسارة فلا يرى إلا جهنَّم‏)‏‏)‏‏.‏
قال عدي‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ فإن لم تجد فبكلمة طيبة‏)‏‏)‏‏.‏
قال عديّ‏:‏ فرأيت الظَّعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة فلا تخاف إلا الله عزَّ وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النَّبيّ أبو القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم يخرج ملء كفه‏.‏
ثمَّ رواه البخاريّ عن عبيد الله بن محمد - هو أبو بكر ابن أبي شيبة - عن أبي عاصم النَّبيّل، عن سعدان بن بشر، عن أبي مجاهد - سعد الطَّائي -، عن محل عنه به‏.‏
وقد تفرَّد به البخاريّ من هذين الوجهين‏.‏
ورواه النَّسائيّ من حديث شعبة عن محل عنه‏:‏ ‏(‏‏(‏إتَّقوا النَّار ولو بشق تمرة‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه البخاري من حديث شعبة ومسلم من حديث زهير، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مغفل، عن عديّ مرفوعاً‏:‏ ‏(‏‏(‏اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة‏)‏‏)‏‏.‏
وكذلك أخرجاه في الصَّحيحين من حديث الأعمش عن خيثمة عن عبد الرَّحمن، عن عديّ‏.‏
وفيها من حديث شعبة عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي به‏.‏
وهذه كلَّها شواهد لأصل هذا الحديث الذي أوردناه، وقد تقدَّم في غزوة الخندق بفتح مدائن كسرى وقصوره وقصور الشَّام وغير ذلك من البلاد‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا محمد بن عبيد، ثنا إسماعيل عن قيس، عن خبَّاب قال‏:‏ أتينا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو في ظلِّ الكعبة متوسداً بردة له فقلنا‏:‏ يا رسول الله أدع الله لنا واستنصره‏.‏
قال‏:‏ فاحمر لونه أو تغيَّر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد كان من قبلكم تحفر له الحفيرة ويجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظم أو لحم أو عصب ما يصرفه عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الرَّاكب ما بين صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذِّئب على غنمه، ولكنَّكم تعجلون‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/210‏)‏
وهكذا رواه البخاريّ عن مسدد ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد به‏.‏
ثمَّ قال البخاريّ في كتاب ‏(‏علامات النبُّوة‏)‏‏:‏ حدَّثنا سعيد بن شرحبيل، ثنا ليث عن يزيد ابن أبي حبيب، عن أبي الحسين، عن عتبة، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه خرج يوماً فصلَّى على أهل أحد صلاته على الميت ثمَّ انصرف إلى المنبر فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا فرطكم وأنا شهيد عليكم، إني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف بعدي أن تشركوا، ولكنِّي أخاف أن تنافسوا فيها‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه البخاريّ أيضاً من حديث حيوة بن شريح، ومسلم من حديث يحيى بن أيوب، كلاهما عن يزيد ابن أبي حبيب كرواية اللَّيث عنه‏.‏
ففي هذا الحديث مما نحن بصدده أشياء‏:‏
منها أنَّه أخبر الحاضرين أنَّه فرطهم أي المتقدّم عليهم في الموت، وهكذا وقع فإنَّ هذا كان في مرض موته عليه السلام‏.‏
ثمَّ أخبر أنَّه شهيد عليهم، وإن تقدم وفاته عليهم‏.‏
وأخبر أنَّه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، أي فتحت له البلادكما جاء في حديث أبي هريرة المتقدِّم قال أبو هريرة‏:‏ فذهب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنتم تفتحونها كَفْراً كَفْراً، أي بلداً بلداً‏.‏
وأخبر أنَّ أصحابه لا يشركون بعده، وهكذا وقع ولله الحمد والمنة‏.‏
ولكن خاف عليهم أن ينافسوا في الدُّنيا، وقد وقع هذا في زمان علي ومعاوية رضي الله عنهما ثمَّ من بعدهما، وهلمَّ جرّاً إلى وقتنا هذا‏.‏
ثمَّ قال البخاري‏:‏ ثنا علي بن عبد الله، أنَّا أزهر بن سعد، أنَّا ابن عون، أنبأني موسى بن أنس بن مالك عن أنس أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم افتقد ثابت بن قيس‏.‏
فقال رجل‏:‏ يا رسول الله أعلم لك علمه‏.‏
فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه فقال‏:‏ ما شأنك ‏؟‏
فقال‏:‏ شر كان يرفع صوته فوق صوت النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد حبط عمله وهو من أهل النَّار‏.‏
فأتى الرَّجل فأخبره أنَّه قال‏:‏ كذا وكذا‏.‏
قال موسى‏:‏ فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذهب إليه فقل له‏:‏ إنَّك لست من أهل النَّار، ولكن من أهل الجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏
تفرَّد به البخاريّ، وقد قتل ثابت بن قيس بن شماس شهيداً يوم اليمامة، كما سيأتي تفصيله‏.‏
وهكذا ثبت في الحديث الصَّحيح البشارة لعبد الله بن سلام أنَّه يموت على الإسلام ويكون من أهل الجنَّة، وقد مات رضي الله عنه على أكمل أحواله وأجملها، وكان النَّاس يشهدون له بالجنَّة في حياته لأخبار الصَّادق عنه بأنَّه يموت على الإسلام، وكذلك وقع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/211‏)‏
وقد ثبت في الصَّحيح الإخبار عن العشرة بأنهم من أهل الجنَّة، بل ثبت أيضاً الإخبار عنه - صلوات الله وسلامه عليه - بأنَّه لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشَّجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل‏:‏ وخمسمائة، ولم ينقل أنَّ أحداً من هؤلاء رضي الله عنه عاش إلا حميداً، ولا مات إلا على السَّداد والاستقامة والتَّوفيق، ولله الحمد والمنة‏.‏
وهذا من أعلام النبُّوات ودلالات الرِّسالة‏.‏
فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة‏:‏
روى البيهقيّ من حديث إسرائيل عن سماك، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ جاء رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إنَّ فلاناً مات‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يمت‏)‏‏)‏‏.‏
فعاد الثَّانية فقال‏:‏ إنَّ فلاناً مات‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لم يمت‏)‏‏)‏‏.‏
فعاد الثَّالثة فقال‏:‏ إنَّ فلاناً نحر نفسه بمشقص عنده‏.‏
فلم يصلِّ عليه‏.‏
ثمَّ قال البيهقيّ‏:‏ تابعه زهير عن سماك‏.‏
ومن ذلك الوجه رواه مسلم مختصراً في الصَّلاة‏.‏
وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا أسود بن عامر، ثنا هريم بن سفيان عن سنان بن بشر، عن قيس ابن أبي حازم، عن أبي شهم قال‏:‏ مرَّت بي جارية بالمدينة فأخذت بكشحها‏.‏
قال‏:‏ وأصبح الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم يبايع النَّاس‏.‏
قال‏:‏ فأتيته فلم يبايعني‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏صاحب الجبيذة‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ والله لا أعود‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فبايعني‏)‏‏)‏‏.‏
ورواه النَّسائيّ عن محمد بن عبد الرَّحمن الحربي، عن أسود بن عامر به‏.‏
ثمَّ رواه أحمد عن سريج، عن يزيد بن عطاء، عن بيان بن بشر، عن قيس، عن أبي شهم فذكره‏.‏
وفي صحيح البخاريّ عن أبي نعيم، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ كنَّا نتَّقي الكلام والانبساط إلى نسائنا في عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خشية أن ينزل فينا شيء، فلمَّا توفي تكلمنا وانبسطنا‏.‏
وقال ابن وهب‏:‏ أخبرني عمرو بن الحرث، عن سعيد ابن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنَّه قال‏:‏ والله لقد كان أحدنا يكفُّ عن الشَّيء مع امرأته وهو وإياها في ثوب واحد تخوفاً أن ينزل فيه شيء من القرآن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/212‏)‏
وقال أبو داود‏:‏ ثنا محمَّد بن العلاء، ثنا ابن إدريس، ثنا عاصم بن كليب عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في جنازة فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه، فلمَّا رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطَّعام فوضع يده فيه، ووضع القوم أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يلوك لقمة في فيه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فأرسلت المرأة‏:‏ يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم توجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها‏.‏
فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أطعميه الأسارى‏)‏‏)

ترتيب الأخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏
ثبت في صحيح البخاريّ ومسلم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فينا مقاماً ما ترك فيه شيئاً إلى قيام السَّاعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله، وقد كنت أرى الشَّيء قد كنت نسيته فأعرفه كما يعرف الرَّجل الرَّجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه‏.‏
وقال البخاريّ‏:‏ ثنا يحيى بن موسى، حدَّثنا الوليد، حدَّثني ابن جابر، حدَّثني بُسْرُ بن عبيد الله الحضرميّ، حدَّثني أبو إدريس الخولانيّ أنَّه سمع حذيفة بن اليمان يقول‏:‏ كان النَّاس يسألون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّر مخافة أن يدركني فقلت‏:‏ يا رسول الله إنَّا كنَّا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ وهل بعد ذلك الشَّر من خير ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم وفيه دخن‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ وما دخنه ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏قوم يهدون بغير هديي يعرف منهم ينكر‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ فهل بعد ذلك الخير من شر ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم دعاة على أبواب جهنَّم من أجابهم إليها قذفوه فيها‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ يا رسول الله صفهم لنا ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هم من جلدتنا ويكلمون بألسنتنا‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ فما تأمرني إن أدركني ذلك ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تلزم جماعة المسلمين وإمامهم‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه البخاريّ أيضاً ومسلم عن محمد بن المثنى، عن الوليد بن عبد الرَّحمن بن يزيد، عن جابر به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/213‏)‏
قال البخاري‏:‏ ثنا محمد بن مثنى، ثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل، عن قيس، عن حذيفة قال‏:‏ تعلَّم أصحابي الخير وتعلَّمت الشَّر، تفرَّد به البخاريّ‏.‏
وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة قال‏:‏ لقد حدَّثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما يكون حتى تقوم السَّاعة غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها‏.‏
وفي صحيح مسلم من حديث علياء بن أحمر‏:‏ عن أبي يزيد عمرو بن أخطب قال‏:‏ أخبرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظنا‏.‏
وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏‏(‏حتى دخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهل النَّار النَّار‏)‏‏)‏‏.‏
وقد تقدَّم حديث خبَّاب بن الأرت‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ليتمنَّ الله هذا الأمر ولكنَّكم تستعجلون‏)‏‏)‏‏.‏
وكذا حديث عدي بن حاتم في ذلك‏.‏
وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏ ‏[‏التَّوبة‏:‏ 33‏]‏‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 55‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة‏:‏ عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الدُّنيا حلوةٌ خضرة وإنَّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدُّنيا واتَّقوا النِّساء، فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النِّساء‏)‏‏)‏‏.‏
وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏‏(‏ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرِّجال من النِّساء‏)‏‏)‏‏.‏
وفي الصَّحيحين من حديث الزهريّ‏:‏ عن عروة بن المسور، عن عمرو بن عوف فذكر قصَّة بعث أبي عبيدة إلى البحرين، قال‏:‏ وفيه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تنبسط عليكم الدُّنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم‏)‏‏)‏‏.‏
وفي الصَّحيحين من حديث سفيان الثوري‏:‏ عن محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هل لكم من أنماط‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله وأنى يكون لنا أنماط ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أما إنها ستكون لكم أنماط‏)‏‏)‏
قال‏:‏ فأنا أقول لامرأتي‏:‏ نحي عنيّ أنماطك، فتقول‏:‏ ألم يقل رسول الله أنها ستكون لكم أنماط فأتركها‏.‏
وفي الصَّحيحين والمسانيد والسُّنن وغيرها من حديث هشام بن عروة‏:‏ عن أبيه عن عبد الله بن الزبير، عن سفيان ابن أبي زهير قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏تفتح اليمن فيأتي قوم يبثون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏
كذلك رواه‏:‏ عن هشام بن عروة جماعة كثيرون‏.‏
وقد أسنده الحافظ ابن عساكر من حديث مالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وأبو معاوية، ومالك بن سعد بن الحسن، وأبو ضمرة أنس بن عياض، وعبد العزيز ابن أبي حازم، وسلمة بن دينار، وجرير بن عبد الحميد‏.‏
ورواه أحمد‏:‏ عن يونس عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة وعبد الرزاق، عن ابن جريج، عن هشام‏.‏
ومن حديث مالك‏:‏ عن هشام به بنحوه‏.‏
ثم روى أحمد‏:‏ عن سليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر، أخبرني يزيد بن خصيفة أنَّ بسر بن سعيد أخبره أنَّه سمع في مجلس المكيين يذكرون أنَّ سفيان أخبرهم فذكر قصَّة وفيها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له‏:‏ ‏(‏‏(‏ويوشك الشَّام أن يفتح فيأتيه رجال من هذا البلد - يعني‏:‏ المدينة - فيعجبهم ربعهم ورخاؤه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثمَّ يفتح العراق فيأتي قوم يثبون فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون‏)‏‏)‏‏.‏
وأخرجه ابن خزيمة من طريق إسماعيل‏.‏
ورواه الحافظ ابن عساكر من حديث أبي ذر عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بنحوه‏.‏
وكذا حديث ابن حوالة، ويشهد لذلك منعت الشَّام مدها ودينارها، ومنعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم‏.‏
وهو في الصَّحيح، وكذا حديث المواقيت لأهل الشَّام واليمن وهو في الصَّحيحين‏.‏
وعند مسلم‏:‏ ميقات أهل العراق‏.‏
ويشهد لذلك أيضاً حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏‏.‏
وفي صحيح البخاريّ من حديث أبي إدريس الخولانيّ‏:‏ عن عوف بن مالك أنَّه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في غزوة تبوك‏:‏ ‏(‏‏(‏أعدد ستاً بين يدي السَّاعة‏)‏‏)‏ فذكر موته عليه السلام ثمَّ فتح بيت المقدس، ثمَّ موتان وهو الوباء، ثمَّ كثرة المال، ثمَّ فتنة، ثمَّ هدنة بين المسلمين والرُّوم، وسيأتي الحديث فيما بعد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/215‏)‏
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرَّحمن بن شماسة‏:‏ عن أبي زر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإنَّ لهم ذمةً ورحماً فإذا رأيت رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فمرَّ بربيعة وعبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة يختصمان في موضع لبنة فخرج منها - يعني‏:‏ ديار مصر - على يدي عمرو بن العاص في سنة عشرين كما سيأتي‏.‏
وروى ابن وهب‏:‏ عن مالك واللَّيث عن الزهري، عن ابن لكعب بن مالك أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإنَّ لهم ذمةً ورحماً‏)‏‏)‏ رواه البيهقيّ من حديث إسحق بن راشد‏:‏ عن الزهريّ عن عبد الرَّحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه‏.‏
وحكى أحمد بن حنبل‏:‏ عن سفيان بن عيينة أنَّه سئل عن قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ذمةً ورحماً‏)‏‏)‏ فقال‏:‏ من النَّاس من قال‏:‏ إنَّ أم إسماعيل هاجر كانت قبطية، ومن النَّاس من قال‏:‏ أم إبراهيم‏.‏
قلت‏:‏ الصَّحيح الذي لا شكَّ فيه أنهما قبطيتان كما قدَّمنا ذلك، ومعنى قوله‏:‏ ذمةً يعني بذلك‏:‏ هدية المقوقس إليه وقبوله ذلك منه، وذلك نوع ذمام ومهادنة والله تعالى أعلم‏.‏
وتقدَّم ما رواه البخاريّ من حديث محل بن خليفة‏:‏ عن عدي بن حاتم في فتح كنوز كسرى، وانتشار الأمن وفيضان المال حتى لا يتقبله أحد‏.‏
وفي الحديث أنَّ عدياً شهد الفتح ورأى الظَّعينة ترتحل من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله‏.‏
قال‏:‏ ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال أبو القاسم صلَّى الله عليه وسلَّم من كثرة المال حتى لا يقبله أحد‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وقد كان ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز‏.‏
قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون ذلك متأخراً إلى زمن المهدي كما جاء في صفته، أو إلى زمن نزول عيسى بن مريم عليه السلام بعد قتله الدَّجال‏.‏
فإنَّه قد ورد في الصَّحيح أنَّه يقتل الخنزير ويكسر الصَّليب ويفيض المال حتى لا يقبله أحد والله تعالى أعلم‏.‏
وفي صحيح مسلم من حديث ابن أبي ذئب‏:‏ عن مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد، عن جابر بن سمرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يزال هذا الدِّين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش، ثمَّ يخرج كذَّابون بين يدي السَّاعة وليفتحنَّ عصابة من المسلمين كنز القصر الأبيض قصر كسرى، وأنا فرطكم على الحوض‏)‏‏)‏ الحديث بمعناه‏.‏
وتقدَّم حديث عبد الرَّزاق‏:‏ عن معمر عن همام، عن أبي هريرة مرفوعاً ‏(‏‏(‏إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ أخرجاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/216‏)‏
وقال البيهقيّ‏:‏ المراد زوال ملك قيصر عن الشَّام ولا يبقى فيها ملكه على الرُّوم لقوله عليه السلام لمَّا عظم كتابه‏:‏ ‏(‏‏(‏ثبت ملكه‏)‏‏)‏‏.‏
وأما ملك فارس فزال بالكلية لقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏مزَّق الله ملكه‏)‏‏)‏‏.‏
وقد روى أبو داود‏:‏ عن محمد بن عبيد عن حماد، عن يونس، عن الحسن أنَّ عمر بن الخطَّاب - وروينا في طريق أخرى عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لمَّا جيء بفروة كسرى وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ألبس ذلك كلَّه لسراقة بن مالك بن جعشم وقال‏:‏ الحمد لله الذي ألبس ثياب كسرى لرجل أعرابي من البادية‏.‏
قال الشَّافعي‏:‏ إنما ألبسه ذلك لأنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لسراقة - ونظر إلى ذراعيه -‏:‏ ‏(‏‏(‏كأنِّي بك وقد لبست سواري كسرى‏)‏‏)‏ والله أعلم‏.‏
وقال سفيان بن عيينة‏:‏ عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم، عن عدي بن حاتم قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏مثِّلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنَّكم ستفتحونها‏)‏‏)‏‏.‏
فقام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله هب لي ابنته نفيله‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي لك‏)‏‏)‏‏.‏
فأعطوه إيَّاها فجاء أبوها فقال‏:‏ أتبيعها ‏؟‏
قال‏:‏ نعم‏.‏
قال‏:‏ فبكم‏؟‏ أحكم ما شئت ‏؟‏
قال‏:‏ ألف درهم‏.‏
قال‏:‏ قد أخذتها‏.‏
فقالوا له‏:‏ لو قلت ثلاثين ألفاً لأخذها‏.‏
فقال‏:‏ وهل عدد أكثر من ألف‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّحمن بن مهدي، ثنا معاوية عن ضمرة بن حبيب أنَّ ابن زغب الأيادي حدَّثه قال‏:‏ نزل عليّ عبد الله بن حوالة الأزدي فقال لي‏:‏ بعثنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حول المدينة على أقدامنا لنغنم فرجعنا ولم نغنم شيئاً وعرف الجَّهد في وجوهنا، فقام فينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى النَّاس فيستأثروا عليهم‏)‏‏)‏ ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لتفتحنَّ لكم الشَّام والرُّوم وفارس، أو الرُّوم وفارس وحتى يكون لأحدكم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم كذا وكذا، وحتى يعطي أحدكم مائة دينار فيسخطها‏)‏‏)‏ ثمَّ وضع يده على رأسي أو على هامتي فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزَّلازل والبلابل والأمور العظام، والسَّاعة يومئذ أقرب إلى النَّاس من يدي هذه من رأسك‏)‏‏)‏‏.‏
ورواه أبو داود من حديث معاوية بن صالح‏.‏
وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا حيوة بن شريح ويزيد بن عبد ربه قالا‏:‏ ثنا بقية، حدَّثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان، عن أبي قُتيلة، عن ابن حوالة أنَّه قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏سيصير الأمر إلى أن تكون جنود مجندة جند بالشَّام وجند باليمن وجند بالعراق‏)‏‏)‏‏.‏
فقال ابن حوالة‏:‏ خر لي يا رسول الله إن أدركت ذلك‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليك بالشَّام فإنَّه خيرة الله من أرضه يجيء إليه خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسعوا من غُدُره، فإنَّ الله تكفل لي بالشَّام وأهله‏.‏
وهكذا رواه أبو داود‏:‏ عن حيوة بن شريح به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/217‏)‏
وقد رواه أحمد أيضاً‏:‏ عن عصام بن خالد وعلي بن عياش كلاهما عن حريز بن عثمان، عن سليمان بن شمير، عن عبد الله بن حوالة فذكر نحوه‏.‏
ورواه الوليد بن مسلم الدِّمشقي‏:‏ عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول وربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عبد الله بن حوالة به‏.‏
وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين بن الفضل القطَّان، أنَّا عبد الله بن جعفر، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا يحيى بن حمزة، حدَّثني أبو علقمة نصر بن علقمة يروي الحديث إلى جبير بن نفير قال‏:‏ قال عبد الله بن حوالة‏:‏ كنَّا عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فشكونا إليه العري والفقر وقلَّة الشَّيء، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أبشروا فوالله لأنا بكثرة الشَّيء أخوفني عليكم من قلَّته والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله عليكم أرض الشَّام‏)‏‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرض فارس وأرض الرُّوم وأرض حمير، وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة‏:‏ جند بالشَّام وجند بالعراق وجند باليمن، وحتى يعطي الرَّجل المائة فيسخطها‏)‏‏)‏‏.‏
قال ابن حوالة‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله ومن يستطيع الشَّام وبه الرُّوم ذوات القرون ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏والله ليفتحها الله عليكم وليستخلفنَّكم فيها حتى تطل العصابة البيض منهم قمصهم الملحمية أقباؤهم قياماً على الرويحل الأسود منكم المحلوق ما أمرهم من شيء فعلوه‏)‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏
قال أبو علقمة‏:‏ سمعت عبد الرَّحمن بن مهدي يقول‏:‏ فعرف أصحاب رسول الله نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلميّ وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، فكانوا إذا رجعوا إلى المسجد نظروا إليه وإليهم قياماً حوله فيعجبون لنعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فيه وفيهم‏.‏
وقال أحمد‏:‏ حدَّثنا حجاج، ثنا اللَّيث بن سعد، حدَّثني يزيد ابن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط النجيبيّ، عن عبد الله بن حوالة الأزديّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من نجا من ثلاث فقد نجا‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ ماذا يا رسول الله ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏موتي ومن قتال خليفة مصطبر بالحقّ يعطيه والدَّجال‏)‏‏)‏‏.‏
وقال أحمد‏:‏ ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا الجريري عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حوالة قال‏:‏ أتيت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو جالس في ظل دومة وهو عنده كاتب له يملي عليه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة ‏؟‏
قلت‏:‏ فيم يا رسول الله ‏؟‏
فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏
فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ألا نكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏
فأعرض عني وأكبَّ على كاتبه يملي عليه، قال‏:‏ فنظرت فإذا في الكتاب عمر‏.‏
فقلت‏:‏ لا يكتب عمر إلا في خير‏.‏
ثمَّ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أنكتبك يا ابن حوالة‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ نعم‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا ابن حوالة كيف تفعل في فتنة تخرج في أطراف الأرض كأنها صياصي نفر‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فكيف تفعل في أخرى تخرج بعدها كأنَّ الأولى منها انتفاجة أرنب‏؟‏‏)‏‏)‏
قلت‏:‏ لا أدري ما خار الله لي ورسوله‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ابتغوا هذا‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ورجل مقفي حينئذ، قال‏:‏ فانطلقت فسعيت وأخذت بمنكبه فأقبلت بوجهه إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ هذا ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فإذا هو عثمان ابن عفَّان رضي الله عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/218‏)‏
وثبت في صحيح مسلم من حديث يحيى بن آدم‏:‏ عن زهير بن معاوية عن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشَّام مدَّها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه‏)‏‏)‏‏.‏
وقال يحيى بن آدم وغيره من أهل العلم‏:‏ هذا من دلائل النبُّوة حيث أخبر عمَّا ضربه عمر على أرض العراق من الدراهم والقفزان، وعما ضرب من الخراج بالشَّام ومصر قبل وجود ذلك - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏
وقد اختلف النَّاس في معنى قوله عليه السلام‏:‏ منعت العراق الخ، فقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم يسلمون فيسقط عنهم الخراج ورجَّحه البيهقيّ‏.‏
وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أنهم يرجعون عن الطَّاعة ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم، ولهذا قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وعدتم من حيث بدأتم‏)‏‏)‏ أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك‏.‏
كما ثبت في صحيح مسلم ‏(‏‏(‏إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء‏)‏‏)‏‏.‏
ويؤيد هذا القول‏:‏ ما رواه الإمام أحمد حدَّثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي نصرة قال‏:‏ كنَّا عند جابر بن عبد الله فقال‏:‏ يوشك أهل العراق أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم‏.‏
قلنا‏:‏ من أين ذلك ‏؟‏
قال‏:‏ من قبل العجم يمنعون ذلك، ثمَّ قال‏:‏ يوشك أهل الشَّام أن لا يجيء إليهم دينار ولا مدّ‏.‏
قلنا‏:‏ من أين ذلك ‏؟‏
قال‏:‏ من قبل الرُّوم يمنعون ذلك‏.‏
قال‏:‏ ثمَّ سكت هنيهة ثمَّ قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعدّه عداً‏)‏‏)‏‏.‏
قال الجريري‏:‏ فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء‏:‏ أتريانه عمر بن عبد العزيز ‏؟‏
فقالا‏:‏ لا‏.‏
وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما‏:‏ عن سعيد بن إياس الجريريّ عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبديّ، عن جابر كما تقدَّم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/219‏)‏
والعجب أنَّ الحافظ أبا بكر البيهقيّ احتج به على ما رجَّحه من أحد القولين المتقدِّمين وفيما سلكه نظر والظَّاهر خلافه‏.‏
وثبت في الصَّحيحين من غير وجه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشَّام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، وفي صحيح مسلم عن جابر ولأهل العراق ذات عرق، فهذا من دلائل النُّبوة حيث أخبر عمَّا وقع من حج أهل الشَّام واليمن والعراق - صلوات الله وسلامه عليه -‏.‏
وفي الصَّحيحين من حديث سفيان بن عيينة‏:‏ عن عمرو بن دينار عن جابر، عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ليأتينَّ على النَّاس زمان يغزو فيه فئام من النَّاس فيقال لهم‏:‏ هل فيكم من صحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح الله لهم ثمَّ يأتي على النَّاس زمان فيغزو فئام من النَّاس فيقال لهم‏:‏ هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح لهم، ثمَّ يأتي على النَّاس زمان يغزو فيه فئام من النَّاس فيقال‏:‏ هل فيكم من صحب من صاحبهم‏؟‏ فيقال‏:‏ نعم، فيفتح الله لهم‏)‏‏)‏‏.‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث ثور بن زيد عن أبي الغيث، عن أبي هريرة قال‏:‏ كنَّا جلوساً عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنزلت عليه سورة الجمعة ‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 3‏]‏‏.‏
فقال رجل‏:‏ من هؤلاء يا رسول الله ‏؟‏
فوضع يده على سلمان الفارسي وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو كان الإيمان عند الثُّريا لناله رجال من هؤلاء‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا وقع كما أخبر به عليه السلام‏.‏
وروى الحافظ البيهقيّ من حديث محمد ابن عبد الرَّحمن بن عوف عن عبد الله بن بشر قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏والذي نفسي بيده لتفتحنَّ عليكم فارس والرُّوم حتى يكثر الطُّعام فلا يذكر عليه اسم الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏‏.‏
وروى الإمام أحمد والبيهقيّ وابن عدي وغير واحد من حديث أوس بن عبد الله بن بريدة‏:‏ عن أخيه سهل عن أبيه عبد الله بن بريدة بن الخصيب مرفوعاً ‏(‏‏(‏ستبعث بعوث فكن في بعث خراسان ثمَّ اسكن مدينة مرو فإنَّه بناها ذو القرنين ودعا لها بالبركة‏)‏‏)‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يصيب أهلها سوء‏)‏‏)‏‏.‏
وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعاً فالله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/220‏)‏
وقد تقدَّم حديث أبي هريرة من جميع طرقه في قتال التُّرك وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء‏.‏
وسيقع أيضاً وفي صحيح البخاري من حديث شعبة عن فراب القزاز، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلَّما هلك نبيّ خلفه نبيّ وإنَّه لا نبيَّ بعدي وإنَّه سيكون خلفاء فيكثرون‏)‏‏)‏‏.‏
قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فُوا ببيعة الأوَّل فالأوَّل، وأعطوهم حقَّهم فإنَّ الله سائلهم عمَّا استرعاهم‏)‏‏)‏‏.‏
وفي صحيح مسلم من حديث أبي رافع عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ما كان نبيّ إلا كان له حواريُّون يهدون بهديه ويستنون بسنَّته ثمَّ يكون من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما ينكرون‏)‏‏)‏‏.‏
وروى الحافظ البيهقيّ من حديث عبد الله بن الحرث بن محمد بن حاطب الجمحي عن إسماعيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يكون بعد الأنبياء خلفاء يعملون بكتاب الله ويعدلون في عبادة الله، ثم يكون من بعد الخلفاء ملوك يأخذون بالثأر ويقتلون الرِّجال، ويصطفون الأموال، فمغير بيده ومغير بلسانه وليس وراء ذلك من الإيمان شيء‏)‏‏)‏‏.‏
وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا جرير بن حازم عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشنيّ، عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ الله بدأ هذا الأمر نبُّوة ورحمة وكائناً خلافةً ورحمةً، وكائناً ملكاً عضوضاً وكائناً عزَّة وجبرية وفساداً في الأمَّة، يستحلُّون الفروج والخمور والحرير، ويُنصرون على ذلك، ويرزقون أبداً حتى يلقوا الله عزَّ وجل‏)‏‏)‏ وهذا كله واقع‏.‏
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذيّ، وحسَّنه والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً‏)‏‏)‏‏.‏
وفي رواية ‏(‏‏(‏ثمَّ يؤتى الله ملكه من يشاء‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا وقع سواء فإنَّ أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليال، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة إلا اثنا عشر يوماً، وكانت خلافة علي ابن أبي طالب خمس سنين إلا شهرين‏.‏
قلت‏:‏ وتكميل الثَّلاثين بخلافة الحسن بن علي نحواً من ستة أشهر حتى نزل عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة كما سيأتي بيانه وتفصيله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/221‏)‏
وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ حدَّثني محمد بن فضيل، ثنا مؤمل، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن عبد الرَّحمن بن أبي بكرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏خلافة نبوة ثلاثون عاماً ثمَّ يؤتي الله ملكه من يشاء‏)‏‏)‏‏.‏
فقال معاوية‏:‏ رضينا بالملك‏.‏
وهذا الحديث فيه ردّ صريح على الرَّوافض المنكرين لخلافة الثَّلاثة، وعلى النَّواصب من بني أمية ومن تبعهم من أهل الشَّام في إنكار خلافة علي ابن أبي طالب‏.‏
فإن قيل‏:‏ فما وجه الجمع بين حديث سفينه هذا وبين حديث جابر بن سمرة المتقدّم في صحيح مسلم ‏(‏‏(‏لا يزال هذا الدِّين قائماً ما كان في النَّاس اثنا عشر خليفة كلَّهم من قريش‏)‏‏)‏ فالجواب إنَّ من النَّاس من قال‏:‏ إنَّ الدِّين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفةً ثمَّ وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية‏.‏
وقال آخرون‏:‏ بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ثمَّ كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الرَّاشدين غير واحد من الأئمة حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه‏:‏ ليس قول أحد من التَّابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز‏.‏
ومنهم من ذكر من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزَّمان، منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت واسمه محمد بن عبد الله وليس بالمنتظر في سرداب سامرا فإنَّ ذاك ليس بموجود بالكلِّية وإنما ينتظره الجهلة من الرَّوافض‏.‏
وقد تقدَّم في الصَّحيحين من حديث الزهري عن عروة، عن عائشة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد هممت أن أدعو أباك وأخاك وأكتب كتاباً لئلا يقول قائل أو يتمنى متمن‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا وقع فإنَّ الله ولاه، وبايعه المؤمنون قاطبة كما تقدَّم‏.‏
وفي صحيح البخاريّ أنَّ امرأة قالت‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك - كأنها تعرض بالموت - ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لم تجديني فأت أبا بكر‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/222‏)‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيتني على قليب فنزعت منها ما شاء الله ثمَّ أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف - والله يغفر له - ثمَّ أخذها ابن الخطَّاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً من النَّاس يفري فريه حتى ضرب النَّاس بطعن‏)‏‏)‏‏.‏
قال الشافعي رحمه الله‏:‏ رؤيا الأنبياء وحيّ، وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وفي نزعه ضعف‏)‏‏)‏ قصر مدَّته وعجلة موته واشتغاله بحرب أهل الرِّدة عن الفتح الذي ناله عمر بن الخطَّاب في طول مدته‏.‏
قلت‏:‏ وهذا فيه البشارة بولايتهما على النَّاس فوقع كما أخبر سواء‏.‏
ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه أحمد والتّرمذيّ وابن ماجه وابن حبان من حديث ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان، عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏)‏ رضي الله عنهما‏.‏
وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن وأخرجه من حديث ابن مسعود عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
وتقدَّم من طريق الزُّهريّ عن رجل، عن أبي ذر حديث تسبيح الحصى في يد رسول الله ثمَّ يد أبي بكر ثمَّ عمر ثمَّ عثمان وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النبُّوة‏)‏‏)‏‏.‏
وفي الصَّحيح عن أبي موسى قال‏:‏ دخل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حائطاً فدلَّى رجليه في القفّ فقلت‏:‏ لأكوننَّ اليوم بواب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجلست خلف الباب، فجاء رجل فقال‏:‏ إفتح‏.‏
فقلت‏:‏ من أنت ‏؟‏
قال‏:‏ أبو بكر، فأخبرت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إفتح له وبشِّره بالجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ جاء عمر، فقال كذلك، ثمَّ جاء عثمان‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه‏)‏‏)‏ فدخل وهو يقول‏:‏ الله المستعان‏.‏
وثبت في صحيح البخاريّ من حديث سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ صعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم برجله وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إثبت فإنما عليك نبيّ وصدِّيق وشهيدان‏)‏‏)‏‏.‏
وقال عبد الرَّزاق‏:‏ أنَّا معمر عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنَّ حراء ارتج وعليه النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر وعمر وعثمان‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إثبت ما عليك إلا نبيّ وصدِّيق وشهيدان‏)‏‏)‏‏.‏
قال معمر‏:‏ قد سمعت قتادة عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله‏.‏
وقد روى مسلم عن قتيبة، عن الدَّراورديّ، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزُّبير فتحركت الصَّخرة‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إهدأ، فما عليك إلا نبيّ أو صديق أو شهيد‏)‏‏)‏‏.‏
وهذا من دلائل النبُّوة فإنَّ هؤلاء كلَّهم أصابوا الشَّهادة، واختص رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بأعلى مراتب الرِّسالة والنبُّوة، واختص أبو بكر بأعلى مقامات الصدِّيقية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/223‏)‏
وقد ثبت في الصَّحيح الشَّهادة للعشرة بالجنَّة، بل لجميع من شهد بيعة الرّضوان عام الحديبية وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل‏:‏ وثلاثمائة، وقيل‏:‏ خمسمائة، وكلَّهم استمر على السَّداد والاستقامة حتى مات - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏
وثبت في صحيح البخاريّ البشارة لعكاشة بأنَّه من أهل الجنَّة فقتل شهيداً يوم اليمامة‏.‏
وفي الصَّحيحين من حديث يونس عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة أنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يدخل الجنَّة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر‏)‏‏)‏ فقام عكاشة ابن محصن الأسديّ يجر نمرة عليه فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏اللَّهم اجعله منهم‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ قام رجل من الأنصار فقال‏:‏ يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبقك بها عكاشة‏)‏‏)‏ وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة تفيد القطع وسنورده في باب صفة الجنَّة، وسنذكر في قتال أهل الرِّدة أنَّ طلحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن شهيداً رضي الله عنه ثمَّ رجع طلحة الأسدي عما كان يدعيه من النبوة وتاب إلى الله وقدم على أبي بكر الصِّديق واعتمر وحسن إسلامه‏.‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيت كأنَّه وضع في يدي سواران فقطعتهما، فأوحي إليَّ في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأوَّلتهما كذَّابين يخرجان صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة‏)‏‏)‏‏.‏
وقد تقدَّم في الوفود أنَّه قال لمسيلمة حين قدم مع قومه وجعل يقول‏:‏ إن جعل لي محمَّد الأمر من بعده اتبعته‏.‏
فوقف عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏والله لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا وقع عقره الله وأهانه وكسره وغلبه يوم اليمامة‏.‏
كما قتل الأسود العنسي بصنعاء على ما سنورده إن شاء الله تعالى‏.‏
وروى البيهقيّ من حديث مبارك بن فضالة عن الحسن، عن أنس قال‏:‏ لقي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسيلمة فقال له مسيلمة‏:‏ أتشهد أني رسول الله ‏؟‏
فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏آمنت بالله وبرسله‏)‏‏)‏ ثمَّ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ هذا الرَّجل أُخِّر لهلكة قومه‏)‏‏)‏‏.‏
وقد ثبت في الحديث الآخر أنَّ مسيلمة كتب بعد ذلك إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من مسيلمة رسول الله إلى محمَّد رسول الله سلام عليك أمَّا بعد فإني قد أشركت في الأمر بعدك، فلك المدر ولي الوبر، ولكنَّ قريشاً قومٌ يعتدون‏.‏
فكتب إليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذَّاب سلام على من اتَّبع الهدى أمَّا بعد فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتَّقين، وقد جعل الله العاقبة لمحمَّد وأصحابه لأنهم هم المتَّقون، وهم العادلون المؤمنون لا من عداهم‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/224‏)‏
وقد وردت الأحاديث المروية من طرق عنه صلَّى الله عليه وسلَّم في الإخبار عن الرِّدة التي وقعت في زمن الصِّديق، فقاتلهم الصِّديق بالجنود المحمَّدية حتى رجعوا إلى دين الله أفواجاً، وعذب ماء الإيمان كما كان بعد ما صار أجاجاً، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبُّهم ويحبُّونه أذلَّة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين‏)‏‏)‏ الآية‏.‏
قال المفسِّرون‏:‏ هم أبو بكر وأصحابه - رضي الله عنهم -‏.‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث عامر الشِّعبيّ عن مسروق، عن عائشة في قصَّة مسارَّة النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ابنته فاطمة وإخباره إيَّاها بأنَّ جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وأنَّه عارضني العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي فبكت، ثمَّ سارَّها فأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنَّة، وأنها أوَّل أهله لحوقاً به‏.‏
وكان كما أخبر‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ واختلفوا في مكث فاطمة بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقيل‏:‏ شهران، وقيل‏:‏ ثلاثة، وقيل‏:‏ ستة، وقيل‏:‏ ثمانية‏.‏
قال‏:‏ وأصحّ الرِّوايات، رواية الزهريّ عن عروة، عن عائشة قالت‏:‏ مكثت فاطمة بعد وفاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ستة أشهر، أخرجاه في الصَّحيحين‏

ثبت في الصَّحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّه قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطَّاب‏)‏‏)‏‏.‏
وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا عبيد الله بن موسى، أنَّا أبو إسرائيل كوفي عن الوليد بن العيزار، عن عمر بن ميمون، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ ما كنَّا ننكر ونحن متوافرون أصحاب محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ السَّكينة تنطق على لسان عمر‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ تابعه زر بن حبيش والشعبيّ عن علي‏.‏
وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا شعبة عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال‏:‏ كنَّا نتحدث أنَّ عمر بن الخطَّاب ينطق على لسان ملك‏.‏
وقد ذكرنا في سيرة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أشياء كثيرة من مكاشفاته وما كان يخبر به من المغيبات كقصَّة سارية بن زنيم وما شاكلها ولله الحمد والمنة‏.‏
ومن ذلك ما رواه البخاريّ من حديث فراس عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ نساء النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم اجتمعن عنده فقلن يوماً‏:‏ يا رسول الله أيتنا أسرع بك لحوقاً ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أطولكنَّ يداً‏)‏‏)‏ وكانت سودة أطولنا ذراعاً فكانت أسرعنا به لحوقاً‏.‏
هكذا وقع في الصَّحيح عند البخاريّ أنها سودة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/225‏)‏
وقد رواه يونس بن بكير عن زكريا ابن أبي زائدة عن الشعبي فذكر الحديث مرسلاً، وقال‏:‏ فلمَّا توفيت زينب علمن أنها كانت أطولهنَّ يداً في الخير والصَّدقة‏.‏
والذي رواه مسلم عن محمود بن غيلان، عن الفضل بن موسى، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فذكرت الحديث، وفيه فكانت زينب أطولنا يداً لأنها كانت تعمل بيدها وتصدَّق‏.‏
وهذا هو المشهور عن علماء التَّاريخ أنَّ زينب بنت جحش كانت أوَّل أزواج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وفاة‏.‏
قال الواقديّ‏:‏ توفيت سنة عشرين، وصلَّى عليها عمر بن الخطَّاب‏.‏
قلت‏:‏ وأمَّا سودة فإنها توفيت في آخر إمارة عمر بن الخطَّاب أيضاً، قاله ابن أبي خيثمة‏.‏
ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث أسيد بن جابر عن عمر بن الخطَّاب في قصَّة أويس القرنيّ وإخباره عليه السلام عنه بأنَّه خير التَّابعين، وأنَّه كان به برص فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضعا قدر الدِّرهم من جسده، وأنَّه بارٌّ بأمه، وأمره لعمر بن الخطَّاب أن يستغفر له، وقد وجد هذا الرَّجل في زمان عمر بن الخطَّاب على الصِّفة والنَّعت الذي ذكره في الحديث سواء‏.‏
وقد ذكرت طرق هذا الحديث وألفاظه والكلام عليه مطولاً في الذي جمعته من مسند عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة‏.‏
ومن ذلك ما رواه أبو داود‏:‏ حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، ثنا وكيع، ثنا الوليد بن عبد الله بن جميع، حدَّثني جرير بن عبد الله وعبد الرَّحمن بن خلاد الأنصاريّ عن أم ورقة بنت نوفل أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا غزا بدراً، قالت‏:‏ يا رسول الله إئذن لي في الغزو معك أمرِّض مرضاكم لعلَّ الله يرزقني بالشَّهادة‏.‏
فقال لها‏:‏ ‏(‏‏(‏قري في بيتك فإنَّ الله يرزقك الشَّهادة‏)‏‏)‏ فكانت تسمَّى الشَّهيدة، وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن تتخذ في بيتها مؤذناً يؤذن لها، وكانت دبَّرت غلاماً لها وجارية، فقاما إليها باللَّيل فغمَّاها في قطيفة لها حتى ماتت وذهبا‏.‏
فأصبح عمر فقام في النَّاس وقال‏:‏ من عنده من هذين علم أو من رآهما فليجيء بهما، فجيء بهما فأمر بهما فصلبا وكانا أوَّل مصلوبين بالمدينة‏.‏
وقد رواه البيهقيّ من حديث أبي نعيم، ثنا الوليد بن جميع، حدَّثتني جدَّتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يزورها ويسمِّيها الشَّهيدة، فذكر الحديث‏.‏
وفي آخره فقال عمر‏:‏ صدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلقوا بنا نزور الشَّهيدة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/226‏)‏
ومن ذلك ما رواه البخاريّ من حديث أبي إدريس الخولانيّ عن عوف بن مالك في حديثه عنه في الآيات السِّت بعد موته وفيه ثمَّ موتان بأحدكم كقصاص الغنم‏.‏
وهذا قد وقع في أيام عشر وهو طاعون عمواس سنة ثماني عشرة ومات بسببه جماعات من سادات الصَّحابة منهم‏:‏ معاذ بن جبل، وأبو عبيدة، ويزيد ابن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو جندل سهل بن عمر وأبوه، والفضل بن العبَّاس بن عبد المطَّلب - رضي الله عنهم أجمعين -‏.‏
وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا وكيع، ثنا النهاس بن قهم، ثنا شداد أبو عمار، عن معاذ بن جبل قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ستٌّ من أشراط السَّاعة موتي، وفتح بيت المقدس، وموت يأخذ في النَّاس كقصاص الغنم، وفتنة يدخل حربها بيت كل مسلم، وأن يعطى الرَّجل ألف دينار فيسخطها، وأن يغزو الرُّوم فيسيرون إليه بثمانين بنداً تحت كل بند اثنا عشر ألفاً‏)‏‏)‏‏.‏
وقد قال الحافظ البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو زكريا ابن أبي إسحاق، ثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن حبان أنَّه سمع سليمان بن موسى يذكر أنَّ الطَّاعون وقع بالنَّاس يوم جسر عموسة، فقام عمرو بن العاص فقال‏:‏ يا أيُّها النَّاس إنما هذا الوجع رجس فتنحُّوا عنه‏.‏
فقام شرحبيل بن حسنة فقال‏:‏ يا أيُّها النَّاس إني قد سمعت قول صاحبكم وإني والله لقد أسلمت وصلَّيت، وإن عمراً لأضلَّ من بعير أهله، وإنما هو بلاء أنزله الله عزَّ وجل فاصبروا‏.‏
فقام معاذ بن جبل فقال‏:‏ يا أيُّها النَّاس إني قد سمعت قول صاحبيكم هذين وإنَّ هذا الطَّاعون رحمة بكم، ودعوة نبيكم صلَّى الله عليه وسلَّم وإني قد سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستقدمون الشَّام فتنزلون أرضاً يقال لها‏:‏ أرض عموسة فيخرج بكم فيها خُرجان له ذباب كذباب الدّمل يستشهد الله به أنفسكم وذراريكم ويزكِّي به أموالكم‏)‏‏)‏‏.‏
اللَّهم إن كنت تعلم أني قد سمعت هذا من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فارزق معاذاً وآل معاذ منه الحظَّ الأوفى ولا تعافه منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/227‏)‏
قال‏:‏ فطعن في السَّبابة فجعل ينظر إليها ويقول‏:‏ اللَّهم بارك فيها فإنَّك إذا باركت في الصَّغير كان كبيراً، ثمَّ طعن ابنه فدخل عليه فقال‏:‏ ‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 147‏]‏‏.‏
فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافَّات‏:‏ 102‏]‏‏.‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث الأعمش وجامع ابن أبي راشد عن شقيق بن سلمة، عن حذيفة قال‏:‏ كنَّا جلوساً عند عمر، فقال‏:‏ أيُّكم يحفظ حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الفتنة ‏؟‏
قلت‏:‏ أنا‏.‏
قال‏:‏ هات إنَّك لجريء‏.‏
فقلت‏:‏ ذكر فتنة الرَّجل في أهله وماله وولده وجاره يكفِّرها الصَّلاة والصَّدقة والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر‏)‏‏)‏‏.‏
فقال‏:‏ ليس هذا أعني إنَّما أعني التي تموج موج البحر‏.‏
فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين إنَّ بينك وبينها باباً مغلقاً‏.‏
قال‏:‏ ويحك يفتح الله أم يكسر ‏؟‏
قلت‏:‏ بل يكسر‏.‏
قال‏:‏ إذاً لا يغلق أبداً‏.‏
قلت‏:‏ أجل‏.‏
فقلنا لحذيفة‏:‏ فكان عمر يعلم من الباب ‏؟‏
قال‏:‏ نعم، وإني حدَّثته حديثاً ليس بالأغاليط‏.‏
قال‏:‏ فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب‏.‏
فقلنا لمسروق فسأله، فقال‏:‏ من بالباب ‏؟‏
قال‏:‏ عمر، وهكذا وقع من بعد مقتل عمر وقعت الفتن في النَّاس، وتأكَّد ظهورها بمقتل عثمان بن عفَّان - رضي الله عنهما‏.‏
وقد قال يعلى بن عبيد‏:‏ عن الأعمش عن سفيان، عن عروة بن قيس قال‏:‏ خطبنا خالد بن الوليد فقال‏:‏ إنَّ أمير المؤمنين عمر بعثني إلى الشَّام فحين ألقى بَوانِيَهُ بَثْنيةً وعسلاً أراد أن يؤثر بها غيري ويبعثني إلى الهند‏.‏
فقال رجل من تحته‏:‏ إصبر أيُّها الأمير فإنَّ الفتن قد ظهرت‏.‏
فقال خالد‏:‏ أمَّا وابن الخطَّاب حيّ فلا، وإنَّما ذاك بعده‏.‏
وقد روى الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّزاق عن معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه قال‏:‏ أبصر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على عمر ثوباً فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجديد ثوبك أم غسيل‏؟‏‏)‏‏)‏
قال‏:‏ بل غسيل‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إلبس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً‏)‏‏)‏ وأظنّه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏ويرزقك الله قرَّة عين في الدُّنيا والآخرة‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا رواه النَّسائيّ وابن ماجه من حديث عبد الرزاق به ثمَّ قال النَّسائيّ‏:‏ هذا حديث منكر أنكره يحيى القطَّان على عبد الرَّزاق‏.‏
وقد روي عن الزهريّ من وجه آخر مرسلاً، قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ‏:‏ لا أعلم أحداً رواه عن الزهري غير معمر وما أحسبه بالصَّحيح والله أعلم‏.‏
قلت‏:‏ رجال إسناده واتصاله على شرط الصَّحيحين وقد قيل الشَّيخان، تفرَّد معمر عن الزهريّ في غير ما حديث‏.‏
ثمَّ قد روى البزَّار هذا الحديث من طريق جابر الجعفي - وهو ضعيف - عن عبد الرَّحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله مرفوعاً مثله سواء‏.‏
وقد وقع ما أخبر به في هذا الحديث فإنَّه رضي الله عنه قتل شهيداً وهو قائم يصلي الفجر في محرابه من المسجد النَّبوي على صاحبه أفضل الصَّلاة والسَّلام‏.‏
وقد تقدَّم حديث أبي ذر في تسبيح الحصا في يد أبي بكر ثمَّ عمر ثمَّ عثمان، وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏‏(‏هذه خلافة النُّبوة‏)‏‏)‏‏.‏
وقال نعيم بن حماد‏:‏ ثنا عبد الله بن المبارك، أنَّا خرج بن نباتة عن سعيد بن جهمان، عن سفينة قال‏:‏ لمَّا بنى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسجد المدينة جاء أبو بكر بحجر فوضعه ثمَّ جاء عمر بحجر فوضعه ثمَّ جاء عثمان بحجر فوضعه فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏هؤلاء يكونون خلفاء بعدي‏)‏‏)‏‏.‏
وقد تقدَّم في حديث عبد الله بن حوالة قوله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏ثلاث من نجا منهنَّ فقد نجا موتي وقتل خليفة مصطبر والدَّجال‏)‏‏)‏‏.‏
وفي حديثه الآخر الأمر باتباع عثمان عند وقوع الفتنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/228‏)‏
وثبت في الصَّحيحين من حديث سليمان بن بلال عن شريك ابن أبي نمر، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي موسى قال‏:‏ توضَّأت في بيتي ثمَّ خرجت فقلت‏:‏ لأكوننَّ اليوم مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فجئت المسجد فسألت عنه، فقالوا‏:‏ خرج وتوجَّه ههنا، فخرجت في أثره حتى جئت بئر أريس وما بها من جريد فمكثت عند بابها حتى علمت أنَّ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد قضى حاجته وجلس فجئته فسلَّمت عليه فإذا هو قد جلس على قف بئر أريس فتوسَّطه ثمَّ دلى رجليه في البئر وكشف عن ساقيه، فرجعت إلى الباب وقلت‏:‏ لأكوننَّ بوَّاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فلم أنشب أن دقَّ الباب فقلت‏:‏ من هذا ‏؟‏
قال‏:‏ أبو بكر‏.‏
قلت‏:‏ على رسلك وذهبت إلى النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت‏:‏ يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن لي وبشِّره بالجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فخرجت مسرعاً حتى قلت لأبي بكر‏:‏ إدخل ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يبشِّرك بالجنَّة‏.‏
قال‏:‏ فدخل حتى جلس إلى جنب النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في القفِّ على يمينه ودلَّى رجليه وكشف عن ساقيه كما صنع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم‏.‏
قال‏:‏ ثمَّ رجعت وقد كنت تركت أخي يتوضَّأ وقد كان قال لي‏:‏ أنا على إثرك‏.‏
فقلت‏:‏ إن يرد الله بفلان خيراً يأت به‏.‏
قال‏:‏ فسمعت تحريك الباب فقلت‏:‏ من هذا ‏؟‏
قال‏:‏ عمر‏.‏
قلت‏:‏ على رسلك قال‏:‏ وجئت النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلَّمت عليه وأخبرته‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له وبشِّره بالجنَّة‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فجئت وأذنت له وقلت له‏:‏ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يبشِّرك بالجنَّة، قال‏:‏ فدخل حتى جلس مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على يساره وكشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر كما صنع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر‏.‏
قال‏:‏ ثمَّ رجعت فقلت‏:‏ إن يرد الله بفلان خيراً يأت به - يريد أخاه - فإذا تحريك الباب فقلت‏:‏ من هذا ‏؟‏
قال‏:‏ عثمان بن عفَّان‏.‏
قلت‏:‏ على رسلك وذهبت إلى رسول الله فقلت‏:‏ هذا عثمان يستأذن‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إئذن له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فجئت فقلت‏:‏ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يأذن لك ويبشِّرك بالجنَّة على بلوى أو بلاء يصيبك‏.‏
فدخل وهو يقول‏:‏ الله المستعان فلم يجد في القف مجلساً فجلس وجاههم من شق البئر وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر كما صنع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏
قال سعيد بن المسيّب‏:‏ فأوَّلتها قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان‏.‏
وقد روى البيهقيّ من حديث عبد الأعلى ابن أبي المساور‏:‏ عن إبراهيم بن محمَّد بن حاطب عن عبد الرَّحمن بن بجير، عن زيد بن أرقم قال‏:‏ بعثني رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏انطلق حتى تأتي أبا بكر فتجده في داره جالساً محتبياً فقل‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأ عليك السَّلام ويقول‏:‏ أبشر بالجنَّة ثمَّ انطلق حتى تأتي الثنية فتلقى عمر راكباً على حمار تلوح صلعته فقل‏:‏ إنَّ رسول الله يقرأ عليك السَّلام ويقول‏:‏ أبشر بالجنَّة ثمَّ انصرف حتى تأتي عثمان فتجده في السُّوق يبيع ويبتاع فقل‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأ عليك السَّلام ويقول‏:‏ أبشر بالجنَّة بعد بلاء شديد‏)‏‏)‏ فذكر الحديث في ذهابه إليهم فوجد كلاً منهم كما ذكر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكلاً منهم يقول‏:‏ أين رسول الله ‏؟‏
فيقول‏:‏ في مكان كذا وكذا فيذهب إليه‏.‏
وأنَّ عثمان لما رجع قال‏:‏ يا رسول الله وأي بلاء يصيبني‏؟‏ والذي بعثك بالحقّ ما تغيبت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك فأي بلاء يصيبني ‏؟‏
فقال‏:‏ هو ذاك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/229‏)‏
ثمَّ قال البيهقيّ‏:‏ عبد الأعلى ضعيف فإن كان حفظ هذا الحديث فيحتمل أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعث إليهم زيد بن أرقم، فجاء وأبو موسى الأشعري جالس على الباب كما تقدَّم‏.‏
وهذا البلاء الذي أصابه هو ما اتفق وقوعه على يدي من أنكر عليه من رعاع أهل الأمصار بلا علم فوقع ما سنذكره في دولته إن شاء الله من حصرهم إيَّاه في داره حتى آل الحال بعد ذلك كله إلى اضطهاده وقتله وإلقائه على الطَّريق أيَّاما لا يصلَّى عليه، ولا يلتفت إليه حتى غُسِّل بعد ذلك وصُلِّي عليه، ودفن بحش كوكب - بستان في طريق البقيع - رضي الله عنه وأرضاه - وجعل جنَّات الفردوس متقلبه ومثواه‏.‏
كما قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يحيى عن إسماعيل بن قيس، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إدعو لي بعض أصحابي‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ أبو بكر ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ عمر ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ ابن عمك علي ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ عثمان ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏
فلمَّا جاء عثمان قال‏:‏ تنحَّى فجعل يسَّاره ولون عثمان يتغير‏.‏
قال أبو سهلة‏:‏ فلمَّا كان يوم الدَّار وحضر فيها قلنا‏:‏ يا أمير المؤمنين ألا تقاتل ‏؟‏
قال‏:‏ لا إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عهد إليَّ عهداً وإني صابر نفسي عليه تفرَّد به أحمد‏.‏
ثمَّ قد رواه أحمد عن وكيع عن إسماعيل، عن قيس، عن عائشة فذكر مثله‏.‏
وأخرجه ابن ماجه من حديث وكيع‏.‏
وقال نعيم بن حماد في كتابه ‏(‏الفتن والملاحم‏)‏‏:‏ حدَّثنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ دخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعثمان بين يديه يناجيه، فلم أدرك من مقالته شيئاً إلا قول عثمان‏:‏ ظلماً وعدواناً يا رسول الله، فما دريت ما هو حتى قتل عثمان فعلمت أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما عنى قتله‏.‏
قالت عائشة‏:‏ وما أحببت أن يصل إلى عثمان شيء إلا وصل إليَّ مثله غيره، إن شاء الله علم أني لم أحبّ قتله ولو أحببت قتله لقتلت وذلك لما رمى هودجها من النبل حتى صار مثل القنفذ‏.‏
وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو ابن أبي عمرو مولى المطلب، عن حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم السَّاعة حتى تقتلوا إمامكم وتجتلدوا بأسيافكم، ويرث دنياكم شراركم‏)‏‏)‏‏.‏
وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا أبو الحسين بن بشران، أنَّا علي بن محمد المصريّ، ثنا محمد بن إسماعيل السلميّ، ثنا عبد الله بن صالح، حدَّثني اللَّيث، حدَّثني خالد بن يزيد عن سعيد ابن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف أنَّه حدَّثه أنَّه جلس يوماً مع شفي الأصبحي فقال‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏سيكون فيكم اثنا عشر خليفة أبو بكر الصِّديق لا يلبث خلفي إلا قليلاً، وصاحب رحى العرب يعيش حميداً، ويموت شهيداً‏)‏‏)‏‏.‏
فقال رجل‏:‏ ومن هو يا رسول الله ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏عمر بن الخطَّاب‏)‏‏)‏ ثمَّ التفت إلى عثمان فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنت يسألك النَّاس أن تخلع قميصاً كساكه الله والذي بعثني بالحقّ لئن خلعته لا تدخل الجنَّة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط‏)‏‏)‏‏.‏
ثمَّ روى البيهقيّ من حديث موسى بن عقبة‏:‏ حدَّثني جدِّي أبو أمي أبو حبيبة أنَّه دخل الدَّار وعثمان محصور فيها، وأنَّه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام فأذن له فقام فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّكم ستلقون بعدي فتنة واختلافاً‏)‏‏)‏‏.‏
فقال له قائل من النَّاس‏:‏ فمن لنا يا رسول الله‏؟‏ أو ما تأمرنا ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏عليكم بالأمين وأصحابه - وهو يشير إلى عثمان بذلك -‏)‏‏)‏‏.‏
وقد رواه الإمام أحمد‏:‏ عن عفَّان عن وهيب، عن موسى بن عقبة به‏.‏
وقد تقدَّم في حديث عبد الله بن حوالة شاهدان له بالصِّحة والله أعلم‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا عبد الرَّحمن عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية، عن عبد الله - هو ابن مسعود - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال‏:‏ ‏(‏‏(‏تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من قد هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ قلت‏:‏ أمما مضى‏؟‏ أو مما بقي ‏؟‏
ورواه أبو داود عن محمد بن سليمان الأنباري، عن عبد الرحمن ابن مهدي به‏.‏
ثمَّ رواه أحمد عن إسحاق وحجاج عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية الكاهليّ، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّ رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين، أو سبع وثلاثين فإن تهلك فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ قال عمر‏:‏ يا رسول الله أبما مضى‏؟‏ أو بما بقي ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بل بما بقي‏)‏‏)‏‏.‏
وهكذا رواه يعقوب بن سفيان‏:‏ عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن منصور به، فقال له عمر فذكره‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ وقد تابع إسرائيل الأعمش وسفيان الثوري عن منصور قال‏:‏ وبلغني أنَّ في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان منها قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، ثمَّ إلى الفتن التي كانت في أيام علي وأراد بالسَّبعين ملك بني أمية فإنَّه بقي بين ما استقر لهم الملك إلى أن ظهرت الدُّعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحواً من سبعين سنة‏.‏
قلت‏:‏ ثمَّ انطوت هذه الحروب أيَّام صفِّين وقاتل علي الخوارج في أثناء ذلك كما تقدَّم الحديث المتَّفق على صحَّته في الأخبار بذلك، وفي صفتهم، وصفة الرَّجل المخدج فيهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/231‏)‏
حديث آخر‏:‏
قال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثني يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أم ذر قالت‏:‏ لمَّا حضرت أبا ذر الوفاة بكيت‏.‏
فقال‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏
فقلت‏:‏ ومالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يد لي بدفنك، وليس عندي ثوب يسعك فأكفنك فيه‏.‏
قال‏:‏ فلا تبكي وابشري فإني سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ليموتنَّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين‏)‏‏)‏‏.‏
وليس من أولئك النَّفر أحد إلا وقد مات في قرية أو جماعة، وإني أنا الذي أموت بالفلاة والله ما كذب ولا كذبت، تفرَّد به أحمد رحمه الله‏.‏
وقد رواه البيهقيّ من حديث علي بن المدينيّ عن يحيى بن سليم الطَّائفي به مطولاً، والحديث مشهور في موته رضي الله عنه بالربذة سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفَّان وكان في النَّفر الذين قدموا عليه وهو في السِّياق عبد الله بن مسعود وهو الذي صلَّى عليه، ثمَّ قدم المدينة فأقام بها عشر ليال ومات رضي الله عنه‏.‏
حديث آخر‏:‏
قال البيهقيّ‏:‏ أنَّا الحاكم، أنَّا الأصمّ، ثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا عمر بن سعيد الدِّمشقيّ، ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي عبد الله الأشعري، عن أبي الدَّرداء قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله بلغني أنَّك تقول‏:‏ ‏(‏‏(‏ليرتدنَّ أقوام بعد إيمانهم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أجل ولست منهم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فتوفيّ أبو الدَّرداء قبل أن يقتل عثمان‏.‏
وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ ثنا صفوان، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا عبد الله أو عبد الغفار بن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أنَّه حدَّثه عن شيخ من السَّلف قال‏:‏ سمعت أبا الدَّرداء يقول‏:‏ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم‏:‏ ‏(‏‏(‏إني فرطكم على الحوض أنتظر من يرد علي منكم فلا ألفينَّ أنازع أحدكم فأقول‏:‏ إنَّه من أمتي، فيقال‏:‏ هل تدري ما أحدثوا بعدك‏)‏‏)‏‏.‏
قال أبو الدرداء‏:‏ فتخوَّفت أن أكون منهم فأتيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فذكرت ذلك له‏.‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنَّك لست منهم‏)‏‏)‏‏.‏
قال‏:‏ فتوفِّي أبو الدَّرداء قبل أن يقتل عثمان وقبل أن تقع الفتن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/232‏)‏
قال البيهقيّ‏:‏ تابعه يزيد ابن أبي مريم عن أبي عبيد الله مسلم بن يشكر، عن أبي الدَّرداء إلى قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لست منهم‏)‏‏)‏‏.‏
قلت‏:‏ قال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ توفي أبو الدَّرداء لسنتين بقيتا من خلافة عثمان‏.‏
وقال الواقديّ وأبو عبيد وغير واحد‏:‏ توفي سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه‏

إخباره صلَّى الله عليه وسلَّم عن الفتن الواقعة‏:‏
في آخر أيَّام عثمان وخلافة علي رضي الله عنهما
ثبت في الصَّحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهريّ، عن عروة، عن أسامة بن زيد أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أشرف على أطم من آطام المدينة فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏هل ترون ما أرى‏؟‏ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر‏)‏‏)‏‏.‏
وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث الزهريّ عن أبي إدريس الخولانيّ سمعت حذيفة بن اليمان يقول‏:‏ والله إني لأعلم النَّاس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين السَّاعة، وما ذاك أن يكون رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حدَّثني من ذلك شيئاً أسرَّه إليَّ لم يكن حدَّث به غيري ولكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ - وهو يحدِّث مجلساً أنا فيه - سئل عن الفتن، وهو يعد الفتن فيهن ثلاث لا تذوق شيئاً منهنَّ كرياح الصَّيف منها صغار ومنها كبار‏.‏
قال حذيفة‏:‏ فذهب أولئك الرَّهط كلَّهم غيري، وهذا لفظ أحمد‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ مات حذيفة بعد الفتنة الأولى بقتل عثمان وقيل‏:‏ الفتنتين الآخرتين في أيَّام علي‏.‏
قلت‏:‏ قال العجلي وغير واحد من علماء التَّاريخ‏:‏ كانت وفاة حذيفة بعد مقتل عثمان بأربعين يوماً وهو الذي قال‏:‏ لو كان قتل عثمان هدي لاحتلبت به الأمة لبناً ولكنَّه كان ضلالة فاحتلبت به الأمة دماً‏.‏
وقال‏:‏ لو أنَّ أحداً ارتقص لما صنعتم بعثمان لكان جديراً أن يرقص‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا سفيان بن عيينة عن الزهريّ، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال سفيان‏:‏ أربع نسوة، قالت‏:‏ استيقظ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من نومه وهو محمرَّ الوجه وهو يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه‏)‏‏)‏ وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها‏.‏
قلت‏:‏ يا رسول الله أنهلك وفينا الصَّالحون ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم إذا كثر الخبث‏)‏‏)‏‏.‏
هكذا رواه الأمام أحمد عن سفيان بن عيينة به‏.‏
وكذلك رواه مسلم عن أبي بكر ابن أبي شيبة وسعد بن عمرو والأشعثي وزهير بن حرب وابن أبي عمر كلهم عن سفيان بن عيينة به سواء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏6/233‏)‏
ورواه التّرمذيّ‏:‏ عن سعيد بن عبد الرَّحمن المخزوميّ وغير واحد، كلهم عن سفيان بن عيينة وقال التّرمذيّ‏:‏ حسن صحيح‏.‏
وقال التّرمذيّ‏:‏ قال الحميدي‏:‏ عن سفيان حفظت من الزُّهريّ في هذا الإسناد أربع نسوة‏.‏
قلت‏:‏ وقد أخرجه البخاريّ عن مالك بن إسماعيل‏.‏
ومسلم‏:‏ عن عمرو الناقد عن الزهريّ، عن عروة، عن زينب، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش فلم يذكروا حبيبة في الإسناد‏.‏
وكذلك رواه عن الزهري شعيب وصالح بن كيسان، وعقيل ومحمد بن إسحاق، ومحمد ابن أبي عتيق، ويونس بن يزيد فلم يذكروا عنه في الإسناد حبيبة والله أعلم‏.‏
فعلى ما رواه أحمد ومن تابعه عن سفيان بن عيينة يكون قد اجتمع في هذا الإسناد تابعيان وهما‏:‏ الزهري وعروة بن الزبير، وأربع صحابيات وبنتان وزوجتان وهذا عزيز جداً، ثمَّ قال البخاريّ بعد رواية الحديث المتقدِّم‏:‏ عن أبي اليمان عن شعيب، عن الزهريّ فذكره إلى آخره، ثمَّ قال‏:‏ وعن الزهريّ، حدَّثتني هند بنت الحارث أنَّ أم سلمة قالت‏:‏ استيقظ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن‏؟‏ وماذا أنزل من الفتن ‏؟‏‏!‏‏)‏‏)‏
وقد أسنده البخاريّ في مواضع أخر من طرق‏:‏ عن الزهري به‏.‏
ورواه التّرمذيّ من حديث معمر‏:‏ عن الزهري وقال‏:‏ حسن صحيح‏.‏
وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا الصَّلت بن دينار، ثنا عقبة بن صهبان وأبو رجاء العطاردي قالا‏:‏ سمعنا الزُّبير وهو يتلو هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏‏.‏
قال‏:‏ لقد تلوت هذه الآية زمناً وما أراني من أهلها فأصبحنا من أهلها، وهذا الإسناد ضعيف ولكن روي من وجه آخر فقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا أسود بن عامر، ثنا جرير قال‏:‏ سمعت أنساً قال‏:‏ قال الزُّبير بن العوَّام‏:‏ نزلت هذه الآية ونحن متوافرون مع النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ‏(‏‏(‏واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة‏)‏‏)‏‏.‏
فجعلنا نقول‏:‏ ما هذه الفتنة‏؟‏ وما نشعر أنها تقع حيث وقعت‏.‏
ورواه النَّسائيّ‏:‏ عن إسحاق بن إبراهيم عن مهدي، عن جرير بن حازم به‏.‏
وقد قتل الزُّبير بوادي السِّباع مرجعه من قتال يوم الجمل على ما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏
وقال أبو داود السَّجستانيّ في سننه‏:‏ ثنا مسدد، ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سعيد بن زيد قال‏:‏ كنَّا عند النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر فتنة وعظَّم أمرها فقلنا‏:‏ يا رسول الله لئن أدركتنا هذه لتهلكنا ‏؟‏
فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كلا إن بحسبكم القتل‏)‏‏)‏‏.‏
قال سعيد‏:‏ فرأيت إخواني قتلوا، تفرَّد به أبو داود‏.‏
وقال أبو داود السَّجستانيّ‏:‏ حدَّثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد أنا هشام عن محمد قال‏:‏ قال حذيفة‏:‏ ما أحد من النَّاس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإنِّي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تضرَّك الفتنة‏)‏‏)‏ وهذا منقطع‏.‏
‏(‏ج/ص‏:‏6/234‏)‏
وقال أبو داود الطَّيالسيّ‏:‏ ثنا شعبة عن أشعث ابن أبي أشعث سمعت أبا بردة يحدِّث عن ثعلبة ابن أبي ضبيعة سمعت حذيفة يقول‏:‏ إنِّي لأعرف رجلاً لا تضرَّه الفتنة، فأتينا المدينة فإذا فسطاط مضروب وإذا محمد بن مسلمة الأنصاري، فسألته فقال‏:‏ لا أستقر بمصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة عن جماعة المسلمين‏.‏
قال البيهقيّ‏:‏ ورواه أبو داود - يعني‏:‏ السَّجستانيّ - عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة به‏.‏
وقال أبو داود‏:‏ ثنا مسدد، ثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم، عن أبي بردة، عن ضبيعة بن حصين الثعلبيّ، عن حذيفة بمعناه‏.‏
قال البخاري في ‏(‏التَّاريخ‏)‏‏:‏ هذا عندي أولى‏.‏
وقال الإمام أحمد‏:‏ حدَّثنا يزيد، ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي بردة قال‏:‏ مررت بالربذة فإذا فسطاط فقلت‏:‏ لمن هذا ‏؟‏
فقيل‏:‏ لمحمد بن مسلمة فاستأذنت عليه فدخلت عليه فقلت‏:‏ رحمك الله إنَّك من هذا الأمر بمكان فلو خرجت إلى النَّاس فأمرت ونهيت، فقال‏:‏ إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف فإذا كان ذلك فأت بسيفك أحداً فاضرب به عرضه، وكسِّر نبلك، واقطع واترك واجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو يعافيك الله‏)‏‏)‏ فقد كان ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفعلت ما أمرني به‏.‏
ثم استنزل سيفاً كان معلقاً بعمود الفسطاط واخترطه فإذا سيف من خشب، فقال‏:‏ قد فعلت ما أمرني به واتَّخذت هذا أرهب به النَّاس، تفرَّد به أحمد‏.‏
وقال البيهقيّ‏:‏ أنَّا الحاكم، ثنا علي بن عيسى المدنيّ، أنَّا أحمد بن بحرة القرشيّ، ثنا يحيى بن عبد الحميد، أنَّا إبراهيم بن سعد، ثنا سالم بن صالح بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن ابن عوف عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة أنَّه قال‏:‏ يا رسول الله كيف أصنع إذا اختلف المضلون ‏؟‏
قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أخرج بسيفك إلى الحرَّة فتضربها به ثمَّ تدخل بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة‏)‏‏)