الاثنين، 23 أبريل 2012

موسوعة السيرة النبوية : غزوة بنى قريظة


غزوة بنى قريظة


 غزوة بني قريظة في سنة خمس
 أمر الله لرسوله على لسان جبريل بحرب بني قريظة
فلما كانت الظهر ، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني الزهري ، معتجرا بعمامة من إستبرق ، على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال ‏:‏ أوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ؛فقال جبريل ‏:‏ فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم ، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة ، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم ‏.‏
 دعوة الرسول المسلمين للقتال
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا ، فأذن في الناس ‏:‏ من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة ‏.‏ جبريل يأتي بحرب بني قريظة ‏.‏
 استعمال ابن أم مكتوم على المدينة
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فيما قال ابن هشام ‏.‏
 علي يبلغ الرسول ما سمعه من بني قريظة
قال ابن إسحاق ‏:‏ وقَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة ، وابتدرها الناس ، فسار على بن أبي طالب ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث ؛ قال ‏:‏ لم ‏؟‏ أظنك سمعت منهم لي أذى ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا ‏.‏ فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ‏.‏ قال ‏:‏ يا إخوان القردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا ‏.‏
 جبريل في صورة دحية الكلبي
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه بالصَّوْرَيْن قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال ‏:‏ هل مر بكم أحد ‏؟‏ قالوا ‏:‏ يا رسول الله ، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي ، على بغلة بيضاء عليها رحالة ، عليها قطيفة ديباج ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ذلك جبريل ، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم ‏.‏
ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة ، نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم ، يقال لها بئر أنا ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ بئر أنى ‏.‏
 تجمع المسلمين للقتال
قال ابن إسحاق ‏:‏ وتلاحق به الناس ، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا يصلين أحد العصر إلا ببني قريظة ، فشغلهم ما لم يكن منه بد في حربهم ، وأبوا أن يصلوا ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ حتى تأتوا بني قريظة ‏.‏
فصلوا العصر بها ، بعد العشاء الآخرة ، فما عابهم الله بذلك في كتابه ، ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
حدثني بهذا الحديث أبي إسحاق بن يسار ، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ‏.‏
 حصار بني قريظة
قال ‏:‏ وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب ‏.‏
وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم ، حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه ‏.‏
 كعب بن أسد ينصح قومه
فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم ‏:‏ يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم ؛ قالوا ‏:‏ وما هي ‏؟‏ قال ‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ، وأنه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ؛ قالوا ‏:‏ لا نفارق حكم التوارة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ؛ قال ‏:‏ فإذا أبيتم عليّ هذه ، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مُصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ، ولم نترك وراءانا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء ؛ قالوا ‏:‏ نقتل هؤلاء المساكين ‏!‏ فما خير العيش بعدهم ‏؟‏ قال ‏:‏ فإن أبيتم عليّ هذه ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها ، فانزلوا لعلنا نُصيب من محمد وأصحابه غرة ؛ قالوا ‏:‏ نفسد سبتنا علينا ، ونحُدث فيه ما لم يحدث مَنْ كان قبلنا إلا من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ ‏!‏ قال ‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ‏.‏
 قصة أبي لبابة و توبته في هذه الغزوة
قال ‏:‏ ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبدالمنذر ، أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس ، لنستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ؛ فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، وقالوا له ‏:‏ يا أبا لبابة ‏!‏ أترى أن ننزل على حكم محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح ‏.‏
قال أبو لبابة ‏:‏ فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال ‏:‏ لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت ، وعهد الله ‏:‏ أن لا أطأ بني قريظة أبدا ، ولا أُرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا ‏.‏
 ما نزل في خيانة أبي لبابة
قال ابن هشام ‏:‏ وأنزل الله تعالى في أبي لبابة ، فيما قال سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن عبدالله بن أبي قتادة ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ‏)‏ ‏.‏
 موقف الرسول من أبي لبابة
قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال ‏:‏ أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل ، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه ‏.‏
 توبة الله على أبي لبابة
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني يزيد بن عبدالله بن قُسيط ‏:‏ أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر ، وهو في بيت أم سلمة ‏.‏ فقالت أم سلمة ‏:‏ فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم من السحر و هو يضحك ‏.‏ قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ مم تضحك يا رسول الله ‏؟‏ أضحك الله سنك ؛ قال ‏:‏ تِيب على أبي لبابة ؛ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ أفلا أبشره يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، إن شئت ‏.‏
قال ‏:‏ فقامت على باب حجرتها ، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب ، فقالت ‏:‏ يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك ‏.‏ قالت ‏:‏ فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال ‏:‏ لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده ؛ فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه ‏.‏
 ما نزل في التوبة على أبي لبابة
قال ابن هشام ‏:‏ أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته في كل وقت صلاة ، فتحله للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، فيما حدثني بعض أهل العلم ؛ والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل ‏:‏ ‏(‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم ، خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، عسى الله أن يتوب عليهم ، إن الله غفور رحيم ‏)‏ ‏.‏
 إسلام بعض بني هدل
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بني هدل ، ليسوا من بني قريظة ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك ، هم بنو عم القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
 قصة عمرو بن سعدى
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سُعْدى القرظي ، فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة ؛ فلما رآه قال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ قال ‏:‏ أنا عمرو بن سُعدى - وكان عمرو قد أبى يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ‏:‏ لا أغدر بمحمد أبدا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه ‏:‏ اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله ‏.‏
فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب فلم يُدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا ، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ؛ فقال ‏:‏ ذاك رجل نجاه الله بوفائه ‏.‏
وبعض الناس يزعم أنه كان أُوثق بِرُمَّة فيمن أُوثق من بني قريظة ، حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته ملقاة ، ولا يدري أين يذهب ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة ، والله أعلم أي ذلك كان ‏.‏
 تحكيم سعد في أمر بني قريظة
قال ‏:‏ فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبدالله بن أبي بن سلول ، فوهبهم له - فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بلى ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فذاك إلى سعد بن معاذ ‏.‏
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها ‏:‏ رُفيدة ، في مسجده ، كانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق ‏:‏ اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب ‏.‏
فلما حكَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطَّئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون ‏:‏ يا أبا عمرو ، أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ؛ فلما أكثروا عليه قال ‏:‏ لقد أَنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ‏.‏
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبدالأشهل ، فنَعَى لهم رجال بني قريظة ، قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التي سمع منه ‏.‏
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ قوموا إلى سيدكم - فأما المهاجرون من قريش ، فيقولون ‏:‏ إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ؛ وأما الأنصار ، فيقولون ‏:‏ قد عمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقاموا إليه ، فقالوا ‏:‏ يا أبا عمرو ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ؛ فقال سعد بن معاذ ‏:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، أنّ الحكم فيهم لمَا حكمت ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نعم ‏:‏ وعلى من هاهنا ‏؟‏ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نعم ؛ قال سعد ‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتُسبى الذراري والنساء ‏.‏
 رضاه عليه الصلاة والسلام بحكم سعد
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبدالرحمن ابن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد ‏:‏ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ‏.‏
 علي ينهي المعركة لصالح المسلمين
قال ابن هشام ‏:‏ حدثني بعض من أثق به من أهل العلم ‏:‏ أن علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة ‏:‏ يا كتيبة الإيمان ، وتقدم هو والزبير بن العوام ، وقال ‏:‏ والله لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ؛ فقالوا ‏:‏ يا محمد ، ننزل على حكم سعد بن معاذ ‏.‏
 حبس بني قريظة ومقتلهم
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث ، امرأة من بني النجار ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثِّر لهم يقول ‏:‏ كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة ‏.‏
وقد قالوا لكعب بن أسد ، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا ‏:‏ يا كعب ، ما تراه يصنع بنا ‏؟‏ قال ‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون ‏؟‏ ألا ترون الداعي لا ينزع ، وأنه من ذُهب به منكم لا يرجع ‏؟‏ هو والله القتل ‏!‏ فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
 مقتل ابن أخطب
وأُتي بحيي بن أخطب عدو الله ، وعليه حله له فقَّاحية - قال ابن هشام ‏:‏ فقاحية ‏:‏ ضرب من الوشي - قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يُسلبها ، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ‏.‏
فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في عدواتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل ، ثم أقبل على الناس ، فقال ‏:‏ أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب وقدر ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه
قتل امرأة واحدة من نسائهم وسببه
قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت ‏:‏ لم يقتل من نسائهم إلا امراة واحدة ‏.‏ قالت ‏:‏ والله إنها لعندي تحَدَّث معي ، وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق ، إذ هتف هاتف باسمها ‏:‏ أين فلانة ‏؟‏ قالت ‏:‏ أنا والله ، قالت ‏:‏ قلت لها ‏:‏ ويلك ؛ ما لك ‏؟‏ قالت ‏:‏ أُقتل ؛ قلت ‏:‏ ولم ‏؟‏ قالت ‏:‏ لحدث أحدثته ؛ قالت ‏:‏ فانطلق بها ، فضربت عنقها ؛ فكانت عائشة تقول ‏:‏ فوالله ما أنسى عجبا منها ، طيب نفسها ، وكثرة ضحكها ، وقد عرفت أنها تُقتل ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ وهي التي طرحت الرحا على خلاد بن سويد ، فقتلته ‏.‏
 قصة الزبير بن باطا
قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان ثابت بن قيس بن الشماس ، كما ذكر لي ابن شهاب الزهري ، أتى الزبير بن باطا القرظي ، وكان يكنى أبا عبدالرحمن - وكان الزبير قد منَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية ‏.‏ ذكر لي بعض ولد الزبير أنه كان منّ عليه يوم بعاث ، أخذه فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله - فجاءه ثابت وهو شيخ كبير ، فقال ‏:‏ يا أبا عبدالرحمن ، هل تعرفني ‏؟‏ قال ‏:‏ وهل يجهل مثلي مثلك ؛ قال ‏:‏ إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي ؛ قال ‏:‏ إن الكريم يجزي الكريم ‏.‏
ثم أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، إنه قد كانت للزبير عليّ منة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لي دمه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هو لك ؛ فأتاه فقال ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك ، فهو لك ؛ قال ‏:‏ شيخ كبير لا أهل له ولا ولد ، فما يصنع بالحياة ‏؟‏
قال ‏:‏ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، هب لي امرأته وولده ؛ قال ‏:‏ هم لك ‏.‏ قال ‏:‏ فأتاه فقال ‏:‏ قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك ، فهم لك ؛ قال ‏:‏ أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم على ذلك ‏؟‏
فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، ماله ؛ قال ‏:‏ هو لك ‏.‏ فأتاه ثابت فقال ‏:‏ قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ، فهو لك ‏.‏
قال ‏:‏ أي ثابت ، مافعل الذي كأن وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي ، كعب بن أسد ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل ؛ قال ‏:‏ فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل ؛ قال ‏:‏ فما فعل مقدمتنا إذا شددنا ، وحاميتنا إذا فررنا ، عزَّال بن سموأل ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل ؛ قال ‏:‏ فما فعل المجلسان ‏؟‏ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ؛ قال ‏:‏ ذهبوا قتلوا ؛ قال ‏:‏ فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير ، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة ‏.‏ فقدمه ثابت ، فضرب عنقه ‏.‏
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ‏(‏ ألقى الأحبة ‏)‏ ‏.‏ قال ‏:‏ يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ قبلة دلو ناضح ‏.‏ قال زهير بن أبي سلمى في ‏(‏ قبلة ‏)‏ ‏:‏
وقابل يتغنى كلما قدرت * على العراقي يداه قائما دَفَقا
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ ويُروى ‏:‏ وقابل يتلقى ، يعني قابل الدلو يتناول
أمر عطية القرظي ورفاعة بن سموأل
قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني شعبة بن الحجاج ، عن عبدالملك بن عمير ، عن عطية القرظي ، قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يُقتل من بني قريظة كل من أنبت منهم ، وكنت غلاما ، فوجدوني لم أُنبت ، فخلوا سبيلي ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني أيوب بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي صعصعة ، أخو بني عدي بن النجار ‏:‏ أن سلمى بنت قيس ، أم المنذر ، أخت سليط بن أخت سليط بن قيس - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد صلت معه القبلتين ، بايعته بيعة النساء - سألته رفاعة بن سموأل القرظي ، وكان رجلا قد بلغ ، فلاذ بها ، وكان يعرفهم قبل ذلك ، فقالت ‏:‏ يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، هب لي رفاعة ، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل ؛ قال ‏:‏ فوهبه لها ، فاستحيته ‏.‏
 تقسيم فيء بني قريظة
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سُهْمان الخيل وسهمان الرجال ، وأخرج منها الخُمس ، فكان للفارس ثلاثة أسهم ، للفرس سهمان ولفارسه سهم ، وللراجل ، من ليس له فرس ، سهم ‏.‏
وكانت الخيل يوم بني قريظة ستة وثلاثين فرسا ، وكان أول فيء وفعت فيه السهمان ، وأُخرج منها الخمس ، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم ، ومضت السنة في المغازي ‏.‏
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبدالأشهل بسبي من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا ‏.‏
 إسلام ريحانة
قال ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خناقة ، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها ، ويضرب عليها الحجاب ؛ فقالت ‏:‏ يا رسول الله ، بل تتركني في ملكك ، فهو أخف علي وعليك ، فتركها ‏.‏
وقد كانت حين سباها قد تعصّت بالإسلام ، وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجد في نفسه لذلك من أمرها ‏.‏
فبينا هو مع أصحابه ، إذ سمع وقع نعلين خلفه ؛ فقال ‏:‏ إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة ؛ فجاءه فقال ‏:‏ يا رسول الله ، قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك من أمرها ‏.‏
 ما نزل من القرآن في الخندق وبني قريظة
قال ابن إسحاق ‏:‏ وأنزل الله تعالى في أمر الخندق ، وأمر بني قريظة من القرآن ، القصة في الأحزاب ، يذكر فيها ما نزل من البلاء ، ونعمته عليهم ، وكفايته إياهم حين فرج ذلك عنهم ، بعد مقالة من قال من أهل النفاق ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ‏)‏ ‏.‏ والجنود ‏:‏ قريش وغطفان وبنو قريظة ، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة ‏.‏
يقول الله تعالى ‏:‏ ‏(‏ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا ‏)‏ ‏.‏ فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة ، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان ‏.‏
يقول الله تبارك وتعالى ‏:‏ ‏(‏ هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسلوه إلا غرورا ‏)‏ لقول معتِّب بن قشير إذ يقول ما قال ‏.‏
‏(‏ وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ‏)‏ لقول أوس بن قيظي ومن كان على رأيه من قومه ‏(‏ ولو دُخلت عليهم من أقطارها ‏)‏ ‏:‏ أي المدينة ‏.‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏:‏ الأقطار ‏:‏ الجوانب ؛ وواحدها ‏:‏ قطر ، وهي الأقتار ، وواحدها ‏:‏ قتر ‏.‏
قال الفرزدق ‏:‏
كم من غِنى فتح الإله لهم به * والخيل مُقْعية على الأقطار
ويُروى ‏:‏ ‏(‏ على الأقتار ‏)‏ ‏.‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏
‏(‏ ثم سئلوا الفتنة ‏)‏ ‏:‏ أي الرجوع إلى الشرك ‏(‏ لآتوها وما تلبثُّوا بها إلا يسيرا ‏.‏ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ، وكان عهد الله مسئولا ‏)‏ ، فهم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يوم أحد ، ثم عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا ، فذكر لهم الذين أعطوا من أنفسهم ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ، وإذا لا تمتعون إلا قليلا ‏.‏ قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أراد بكم رحمة ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ‏.‏ قد يعلم الله المعوِّقين منكم ‏)‏ ‏:‏ أي أهل النفاق ‏(‏ والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا ‏)‏ ‏:‏ أي إلا دفعا وتعذيرا ‏(‏ أشحة عليكم ‏)‏ ‏:‏ أي للضغن الذي في أنفسهم ‏(‏ فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت ‏)‏ ‏:‏ أي إعظاما له وفرقا منه ‏(‏ فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ‏)‏ ‏:‏ أي في القول بما لا تحبون ، لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تحملهم حِسبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده ‏.‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏:‏ سلقوكم ‏:‏ بالغوا فيكم بالكلام ، فأحرقوكم وآذوكم ‏.‏ تقول العرب ‏:‏ خطيب سلاّق ، وخطيب مِسْلق ومِسْلاق ‏.‏
قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏:‏
فيهم المجد والسماحة والنَّجْـ * ـدة فيهم والخاطب السلاقُ
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏
‏(‏ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ‏)‏ قريش وغطفان ‏(‏ وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسئلون عن أنبائكم ، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا الا قليلا ‏)‏ ‏.‏
ثم أقبل على المؤمنين فقال ‏:‏ ‏(‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ‏)‏ ‏:‏ أي لئلا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ، ولا عن مكان هو به ‏.‏
ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم الا إيمانا وتسليما ‏)‏ ‏:‏ أي صبرا على البلاء وتسليما للقضاء ، وتصديقا للحق ، لما كان الله تعالى وعدهم ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال ‏:‏ ‏(‏ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ‏)‏ ‏:‏ أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد ‏.‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏:‏ قضى نحبه ‏:‏ مات ، والنحب ‏:‏ النفس ، فيما أخبرني أبو عبيدة ، وجمعه ‏:‏ نحوب ‏.‏ قال ذو الرمة ‏:‏
عشية فر الحارثيون بعد ما * قضى نحبه في ملتقى الخيل هَوْبَرُ
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ وهوبر ‏:‏ من بني الحارث بن كعب ، أراد ‏:‏ يزيد بن هوبر ‏.‏ والنحب أيضاً ‏:‏ النذر ‏.‏ قال جرير بن الخَطَفَى ‏:‏
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا * عشية بسطام جرين على نحب
يقول ‏:‏ على نذر كانت نذرت أن تقتله فقتلته ، وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ وبسطام ‏:‏ بسطام بن قيس بن مسعود الشيباني ، وهو ابن ذي الجدين ‏.‏ حدثني أبو عبيدة ‏:‏ أنه كان فارس ربيعة بن نزار ‏.‏ وطِخْفة ‏:‏ موضع بطريق البصرة ‏.‏
والنحب أيضا ‏:‏ الخِطار ، وهو الرهان ‏.‏ قال الفرزدق ‏:‏
وإذ نحبت كلب على الناس أينا * على النحب أعطى للجزيل وأفضل
والنحب أيضا ‏:‏ البكاء ‏.‏ ومنه قولهم ‏:‏ ينتحب ‏.‏ والنحب أيضا ‏:‏ الحاجة والهمة ؛ تقول ‏:‏ ما لي عندهم نحب ‏.‏ قال مالك بن نويرة اليربوعي ‏:‏
وما لي نحب عندهم غير أنني * تلمست ما تبغي من الشُّدُن الشُّجْرِ
وقال نهار بن توسعة ، أحد بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل - قال ابن هشام ‏:‏ هؤلاء موالي بني حنيفة - ‏:‏
ونجَّى يوسفَ الثقفي ركض * دراك بعد ما وقع اللواء
ولو أدركنه لقضين نحبا * به وكل مُخطَأَة وقاء
والنحب أيضاً ‏:‏ السير الخفيف المَرِّ ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ ‏(‏ ومنهم من ينتظر ‏)‏ ‏:‏ أي ما وعد الله به من نصره ، والشهادة على ما مضى عليه أصحابه ‏.‏ يقول الله تعالى ‏:‏ ‏(‏ وما بدلوا تبديلا ‏)‏ ‏:‏ أي ما شكوا وما ترددوا في دينهم ، وما استبدلوا به غيره ‏.‏ ‏(‏ ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين إن شاء ، أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما ‏.‏ و ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ‏)‏ ‏:‏ أي قريشا وغطفان ‏(‏ لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا ‏.‏ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب ‏)‏ ‏:‏ أي بني قريظة ‏(‏ من صياصيهم ‏)‏ ، والصياصي ‏:‏ الحصون والآطام التي كانوا فيها ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ قال سحيم عبد بني الحسحاس ؛ وبنو الحسحاس من بني أسد بن خزيمة ‏:‏
وأصبحت الثيران صرعى وأصبحت * نساء تميم يبتدرن الصياصيا
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ والصياصي أيضا ‏:‏ القرون ‏.‏ قال النابغة الجعدي ‏:‏
وسادة رهطي حتى بَقِيْـ * ـتُ فردا كصيصية الأعضب
يقول ‏:‏ أصاب الموت سادة رهطي ‏.‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ وقال أبو دواد الإيادي ‏:‏
فذَعَرْنا سُحم الصياصي بأيديـ * ـهنّ نَضْحٌ من الكُحيل وقار
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ والصياصي أيضاً ‏:‏ الشوك الذي للنساجين ، فيما أخبرني أبو عبيدة ‏.‏ وأنشدني لدريد بن الصمة الجشمي ، جشم ابن معاوية بن بكر بن هوازن ‏:‏
نظرت إليه والرماح تنوشه * كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏ والصياصي أيضاً ‏:‏ التي تكون في أرجل الديكة ناتئة كأنها القرون الصغار ، والصياصي أيضاً ‏:‏ الأصول ‏.‏ أخبرني أبو عبيدة أن العرب تقول ‏:‏ جذّ الله صيصيته ‏:‏ أي أصله ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ ‏(‏ وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ‏)‏ ‏:‏ أي قتل الرجال ، وسبي الذراري والنساء ، ‏(‏ وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ‏)‏ ‏:‏ يعني خيبر ‏(‏ وكان الله على كل شيء قديرا ‏)‏ ‏.‏
 إكرام سعد بن معاذ في موته
قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه ، فمات منه شهيدا ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني معاذ بن رفاعة الزُّرقي ، قال ‏:‏ حدثني من شئت من رجال قومي ‏:‏ أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من إستبرق ، فقال ‏:‏ يا محمد ، من هذا الميت الذي فُتحت له أبواب السماء ، واهتز له العرش ‏؟‏ قال ‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد ، فوجده قد مات ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبدالرحمن قالت ‏:‏ أقبلت عائشة قافلة من مكة ، ومعها أسيد بن حضير ، فلقيه موت امرأة له ، فحزن عليها بعض الحزن ، فقالت له عائشة ‏:‏ يغفر الله لك يا أبا يحيى ، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمك ، وقد اهتز له العرش ‏!‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن الحسن البصري ، قال ‏:‏ كان سعد رجلا بادنا ، فلما حمله الناس وجدوا له خفة ، فقال رجال من المنافقين ‏:‏ والله إن كان لبادنا ، وما حملنا من جنازة أخف منه ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ إن له حملة غيركم ، والذي نفسي بيده ، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد ، واهتز له العرش ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني معاذ بن رفاعة ، عن محمود بن عبدالرحمن ابن عمرو بن الجموح ، عن جابر بن عبدالله ، قال ‏:‏ لما دُفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسبح الناس معه ، ثم كبر فكبر الناس معه ؛ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، مم سبحت ‏؟‏ قال ‏:‏ لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره ، حتى فرجه الله عنه ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ ومجاز هذا الحديث قول عائشة ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ ولسعد يقول رجل من الأنصار ‏:‏
وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
و قالت أم سعد ، حين احتُمل نعشه وهي تبكيه - قال ابن هشام ‏:‏ وهي كُبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن الأبجر ، وهو خُدْرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج - ‏:‏
ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدا
وسُوددا ومجدا * وفارسا مُعدّا
سُدّ به مَسدّا * يَقُدُّ هاما قَدّا
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ كل نائحة تكذب ، إلا نائحة سعد بن معاذ
 الشهداء يوم بني قريظة
قال ابن إسحاق ‏:‏ واستشهد يوم بني قريظة من المسلمين ، ثم من بني الحارث بن الخزرج ‏:‏ خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو ، طُرحت عليه رحى ، فشدخته شدخا شديدا ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن له لأجر شهيدين ‏.‏
ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان ، أخو بني أسد بن خزيمة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني قريظة ، فدفن في مقبرة بني قريظة التي يدفنون فيها اليوم ، وإليه دفنوا أمواتهم في الإسلام ‏.‏
 بشر الرسول المسلمين بغزو قريش
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني ‏:‏ لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم ‏.‏ فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، وكان هو الذي يغزوها ، حتى فتح الله عليه مكة