بعض الأحداث وما حدث للنبى بعد وفاة أبى طالب وخديجة
قصة أبي أزيهر الدوسي
وصية الوليد لأولاده
قال ابن إسحاق : فلما حضرت الوليد الوفاة دعا بنيه ، وكانوا ثلاثة : هشام بن الوليد ، والوليد بن الوليد ، وخالد بن الوليد ، فقال لهم : أي بني ، أوصيكم بثلاث ، فلا تضيعوا فيهن دمي في خزاعة فلا تَطُلُّنَّه ، والله إني لأعلم أنهم منه برآء ، ولكني أخشى أن تُسبوا به بعد اليوم ؛ ورباي في ثقيف ، فلا تدعوه حتى تأخذوه ؛ وعُقري عند أبي أُزيهر ، فلا يفوتنكم به . وكان أبو أزيهر قد زوجه بنتا ، ثم أمسكها عنه ، فلم يُدخلها عليه حتى مات .
عقل الوليد عند خزاعة
فلما هلك الوليد بن المغيرة ، وثب بنو مخزوم على خزاعة يطلبون منهم عَقْل الوليد ، وقالوا : إنما قتله سهم صاحبكم - وكان لبني كعب حلف من بني عبدالمطلب بن هاشم - فأبت عليهم خزاعة ذلك ، حتى تقاولوا أشعارا ، وغلظ بينهم الأمر - وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلا من بني كعب بن عمرو ، من خزاعة - فقال عبدالله بن أبي أمية ابن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم :
ما قيل من الأشعار في مقتل الوليد
إني زعيم أن تسيروا فتهربوا * وأن تتركوا الظهران تعوي ثعالبه
وأن تتركوا ماء بجزعة أطرقا * وأن تسألوا : أي الأراك أطايبه ؟
فإنا أناس لا تُطلّ دماؤنا * ولا يتعالى صاعدا من نحاربه
وكانت الظهران والأراك منازل بني كعب ، من خزاعة .
فأجابه الجون بن أبي الجون ، أخو بني كعب بن عمرو الخزاعي ، فقال :
والله لا نؤتي الوليد ظُلامة * ولما تروا يوما تزول كواكبه
ويُصرع منكم مُسْمن بعد مسمن * وتُفتح بعد الموت قسرا مشاربه
إذا ما أكلتم خبزكم و خزيركم * فكلكم باكي الوليد ونادبه
ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبة ، فأعطتهم خزاعة بعض العقل ، وانصرفوا عن بعض .
فلما اصطلح القوم قال الجون بن أبي الجون :
وقائلة لما اصطلحنا تعجبا * لما قد حملنا للوليد وقائل
ألم تُقسموا تُؤتوا الوليد ظُلامة * ولما تروا يوما كثير البلابل
فنحن خلطنا الحرب بالسلم فاستوت * فأمَّ هواه آمنا كلُّ راحل
ثم لم ينته الجون بن أبي الجون حتى افتخر بقتل الوليد ، وذكر أنهم أصابوه ، وكان ذلك باطلا . فلحق بالوليد وبولده وقومه من ذلك ما حذره ، فقال الجون بن أبي الجون :
ألا زعم المغيرة أن كعبا * بمكة منهمُ قدر كثيرُ
فلا تفخر مغيرة أن تراها * بها يمشي المُعَلْهَج والمهير
بها آباؤنا وبها وُلدنا * كما أرسى بمثبته ثبير
وما قال المغيرة ذاك إلا * ليعلم شأننا أو يستثير
فإن دم الوليد يُطل إنا * نطل دماء أنت بها خبير
كساه الفاتك الميمون سهما * زُعافا وهو ممتلىء بهير
فخرّ ببطن مكة مسلحبَّا * كأنه عند وجبته بعير
سيكفيني مِطالَ أبي هشام * صغار جعدة الأوبار خُور
قال ابن هشام : تركنا منها بيتا واحدا أُقذع فيه .
مقتل أبي أزيهر و ثورة بني عبد مناف لذلك
قال ابن إسحاق : ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر ، وهو بسوق ذي المجاز ، وكانت عند أبي سفيان بن حرب عاتكة بنت أبي أزيهر - وكان أبو أزيهر رجلا شريفا في قومه - فقتله بعُقر الوليد الذي كان عنده ، لوصية أبيه إياه ، وذلك بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر ، وأُصيب به من أصيب من أشراف قريش من المشركين ؛ فخرج يزيد بن أبي سفيان ، فجمع بني عبد مناف ، وأبو سفيان بذي المجاز ، فقال الناس : أُخفر أبو سفيان في صهره ، فهو ثائر به .
فلما سمع أبو سفيان بالذي صنع ابنه يزيد - وكان أبو سفيان رجلا حليما منكرا ، يحب قومه حبا شديدا - انحط سريعا إلى مكة ، وخشي أن يكون بين قريش حدث في أبي أزيهر ، فأتى ابنه وهو في الحديد ، في قومه من بني عبد مناف والمطيبين ، فأخذ الرمح من يده ، ثم ضرب به على رأسه ضربة هده منها ، ثم قال له : قبحك الله ! أتريد أن تضرب قريشا بعضهم ببعض في رجل من دوس . سنؤتيهم العقل إن قبلوه ، وأطفأ ذلك الأمر .
فانبعث حسان بن ثابت يحرض في دم أبي أزيهر ، ويعير أبا سفيان خُفْرَته ويجُبنه ، فقال :
غدا أهل ضوجَىْ ذي المجاز كليهما * وجار ابن حرب بالمغمس ما يغدو
ولم يمنع العَير الضروط ذماره * وما منعت مخزاة والدها هند
كساك هشام بن الوليد ثيابه * فأبْلِ وأخلفْ مثلها جددا بعد
قضى وطرا منه فأصبح ماجدا * وأصبحت رخوا ما تخُب وما تعدو
فلو أن أشياخا ببدر تشاهدوا * لَبلَّ نعال القوم مُعتبط وَرْدُ
فلما بلغ أبا سفيان قول حسان قال : يريد حسان أن يضرب بعضنا ببعض في رجل من دوس ! بئس والله ما ظن !
مطالبة خالد بربا أبيه ، و ما نزل في ذلك من القرآن
ولما أسلم أهل الطائف كلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في ربا الوليد ، الذي كان في ثقيف ، لما كان أبوه أوصاه به .
قال ابن إسحاق : فذكر لي بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات من تحريم ما بقي من الربا بأيدي الناس نزلن في ذلك من طلب خالد الربا : ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ، وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) .إلى آخر القصة فيها .
ثورة دوس للأخذ بثأر أبي أزيهر ، و حديث أم غيلان
ولم يكن في أبي أزيهر ثأر نعلمه ، حتى حجز الإسلام بين الناس ؛ إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرادس الفهري خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس ، فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان ، مولاة لدوس ، وكانت تمشط النساء ، وتجهز العرائس ، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر ، فقامت دونهم أم غيلان ونسوة معها ، حتى منعتهم ، فقال ضرار بن الخطاب في ذلك :
جزى الله عنا أم غيلان صالحا * ونسوتها إذ هنَّ شُعث عواطلُ
فهن دفعن الموت بعد اقترابه * وقد برزت للثائرين المقاتل
دعت دعوة دوسا فسالت شعابها * بعز وأدَّتها الشَّراج القوابل
وعمرا جزاه الله خيرا فما وَنى * وما بردت منه لدي المفاصل
فجرّدت سيفي ثم قمت بنصله * وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل
قال ابن هشام : حدثني أبو عبيدة : أن التي قامت دون ضرار أم جميل ، ويقال أم غيلان ؛ قال : ويجوز أن تكون أم غيلان قامت مع أم جميل فيمن قام دونه .
أم جميل و عمر بن الخطاب
فلما قام عمر بن الخطاب أتته أم جميل ، وهي ترى أنه أخوه : فلما انتسبت له عرف القصة ، فقال : إني لست بأخيه إلا في الإسلام ، وهو غاز ، وقد عرفت مِنَّتك عليه ، فأعطاها على أنها ابنة سبيل .
ضرار و عمر بن الخطاب
قال الراوي : قال ابن هشام : وكان ضرار لحق عمر بن الخطاب يوم أحد ، فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول : انج يا بن الخطاب لا أقتلك ؛ فكان عمر يعرفها له بعد إسلامه .
وفاة أبي طالب وخديجة ، وما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهما
من كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وكان النفر الذن يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته : أبا لهب ، والحكم بن العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي ؛ وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ، فكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلي ، وكان أحدهم يطرحها في بُرْمته إذا نُصبت له ، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى ، كما حدثني عمر بن عبدالله بن عروة بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، يخرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم على العود ، فيقف به على بابه ، ثم يقول : يا بني عبد مناف ، أي جوار هذا ! ثم يُلقيه في الطريق .
طمع المشركين في الرسول صلى الله عليه و سلم بعد وفاة أبي طالب و خديجة
قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة ، وكانت له وزير صدق على الإسلام ، يشكو إليها ؛ وبهلك عمه أبي طالب ، وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه ، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين .
فلما هلك أبو طالب ، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال :
لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التراب ، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها : لا تبكي يا بُنيِّة ، فإن الله مانع أباك . قال : و يقول بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئا أكرهه ، حتى مات أبو طالب .
المشركون يطلبون عهدا بينهم وبين الرسول عند أبي طالب لما ثقل به المرض
قال ابن إسحاق : ولما اشتكى أبو طالب ، وبلغ قريشا ثقله ، قالت قريش بعضها لبعض : إن حمزة وعمر قد أسلما ، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها ، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب ، فيأخذ لنا على ابن أخيه ، وليعطه منا ، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا .
قال ابن إسحاق : فحدثني العباس بن عبدالله بن معبد بن عباس عن بعض أهله ، عن ابن عباس ، قال : مشوا إلى أبي طالب فكلموه ؛ وهم أشراف قومه : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، في رجال من أشرافهم ، فقالوا : يا أبا طالب ، إنك منا حيث قد علمت ، وقد حضرك ما ترى ، وتخوفنا عليك ، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادعه ، فخذ له منا ، وخذ لنا منه ، ليكف عنا ، ونكف عنه ، وليدعنا وديننا ، وندعه ودينه ؛ فبعث إليه أبو طالب ، فجاءه ، فقال : يا ابن أخي : هؤلاء أشراف قومك ، قد اجتمعوا لك ، ليعطوك ، وليأخذوا منك .
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم . قال : فقال أبو جهل : نعم وأبيك ، وعشر كلمات ؛ قال : تقولون : لا إله إلا الله ، وتخلعون ما تعبدون من دونه .
قال : فصفقوا بأيديهم ، ثم قالوا : أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا ، إن أمرك لعجب ! قال : ثم قال بعضهم لبعض : إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون ، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم ، حتى يحكم الله بينكم وبينه . قال : ثم تفرقوا .
رجاء الرسول إسلام أبي طالب ، و حديث ذلك
فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططا ؛ قال : فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له : أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . قال : فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال : يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها .
قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت قال : نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، قال : فأصغى إليه بأذنه ، قال : فقال : يا ابن أخي ، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع .
ما نزل فيمن طلبوا العهد على الرسول عند أبي طالب
قال : وأنزل الله تعالى في الرهط الذين كانوا قد اجتمعوا إليه ، وقال لهم ما قال ، وردوا عليه ما ردوا : ( ص والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) ... إلى قوله تعالى : ( أجعل الآلهة إلها واحدا ، إن هذا لشيء عجاب . وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم ، إن هذا لشيء يراد . ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) . يعنون النصارى ، لقولهم : ( إن الله ثالث ثلاثة ) - ( إن هذا إلا اختلاق ) .ثم هلك أبو طالب