غزوة مؤتة
ذكر غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ومقتل جعفر وزيد وعبدالله بن رواحة
قال ابن إسحاق : فأقام بها بقية ذي الحجة ، وولي تلك الحجة المشركون ، والمحرم وصفرا وشهري ربيع ، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة .
بعث الرسول إلى مؤتة واختياره الأمراء :
قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبدالله ابن رواحة على الناس .
ومن بني عدي بن كعب : ليلى بنت أبي حثمة بن غانم .
بكاء ابن رواحة مخافة النار وشعره للرسول :
فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثة آلاف ، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم . فلما ودع عبدالله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى ؛ فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل ، يذكر فيها النار ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضياً ) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؛ فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين ؛ فقال عبدالله بن رواحة :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا
قال ابن إسحاق : ثم إن القوم تهيئوا للخروج ، فأتى عبدالله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ، ثم قال :
فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر
قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم بالشعر هذه الأبيات :
أنت الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر
فثبت الله ما آتاك من حسن * في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة * فراسة خالفت فيك الذي نظروا يعني المشركين ؛ وهذه الأبيات في قصيدة له .
قال ابن إسحاق : ثم خرج القوم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم ، قال عبدالله بن رواحة :
خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل
تخوف الناس من لقاء هرقل وشعر ابن رواحة يشجعهم :
ثم مضوا حتى نزلوا معان ، في أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم ، عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة ، يقال له : مالك بن زافلة .
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضي له .
تشجيع ابن رواحة للناس على القتال :
قال : فشجع الناس عبدالله بن رواحة ، وقال : يا قوم ، والله إن التي تكرهون ، للتي خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة .
قال : فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة . فمضى الناس فقال عبدالله بن رواحة في محبسهم ذلك :
جلبنا الخيل من أجإ وفرع * تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان * فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبى مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها والنجوم
فراضية المعيشة طلقتها * أسنتها فتنكح أو تئيم
قال ابن هشام : ويروى جلبنا الخيل من آجام قرح ، وقوله : فعبأنا أعنتها عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : ثم مضى الناس ، فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث عن زيد بن أرقم ، قال : كنت يتيماً لعبدالله بن رواحة في حجره ، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله ، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه :
إذا أديتني وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهى الثواء
وردك كل ذي نسب قريب * إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء
فلما سمعتهن منه بكيت . قال : فخفقني بالدرة ، وقال : ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل !
قال : ثم قال عبدالله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز :
يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل
لقاء الروم :
قال ابن إسحاق : فمضى الناس ، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل ، من الروم والعرب ، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة ، فالتقى الناس عندها ، فتعبأ لها المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عذرة ، يقال له : قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له : عباية بن مالك .
قال ابن هشام : ويقال : عبادة بن مالك .
مقتل زيد بن حارثة :
قال ابن إسحاق : ثم التقى الناس واقتتلوا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم .
إمارة جعفر ومقتله :
ثم أخذها جعفر فقاتل بها ، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء ، فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل . فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام .
وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني ، وكان أحد بني مرة بن عوف ، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال : والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها
والروم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها
علي إذا لاقيتها ضرابها *
قال ابن هشام : وحدثني من أثق به من أهل العلم : أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء . ويقال : إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة ، فقطعه بنصفين .
مقتل عبدالله بن رواحة :
قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد قال : حدثني أبي الذي أرضعني ، وكان أحد بني مرة بن عوف ، قال : فلما قتل جعفر أخذ عبدالله بن رواحة الراية ، ثم تقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، ثم قال :
أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه * ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال أيضاً :
يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه : زيداً وجعفراً ؛ ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ، فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل .
إمارة خالد وحسن تصرفه :
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل .
فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ؛ فلما أخذ الراية دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس .
الرسول يتنبأ بما حدث :
قال ابن إسحاق : ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغني : أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيداً ؛ ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً ؛ قال : ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار ، وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون ، ثم قال : ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيداً .
ثم قال : لقد رفعوا إلى الجنة ،فيما يرى النائم ، على سرر من ذهب ، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه ، فقلت : عم هذا ؟ فقيل لي : مضيا وتردد عبدالله بعض التردد ، ثم مضى .
حزن الرسول على جعفر ووصيته بآله :
قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن أم عيسى الخزاعية ، عن أم جعفر بن محمد بن جعفر بن أبي طالب ، عن جدتها أسماء بنت عميس ، قالت : لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا - قال ابن هشام : ويروى أربعين منيئة - وعجنت عجيني ، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم .
قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتني ببني جعفر ؛ قالت : فأتيته بهم فتشممهم وذرفت عيناه ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ؟ قال : نعم ، أصيبوا هذا اليوم .
قالت : فقمت أصيح ، واجتمعت إلي النساء ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ، فقال : لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً ، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم .
وحدثني عبدالرحمن بن القاسم بن محمد ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن .
قالت : فدخل عليه رجل فقال : يا رسول الله ، إن النساء عنيننا وفتننا ؛ قال : فارجع إليهن فأسكتهن . قالت : فذهب ثم رجع ، فقال له مثل ذلك - قال : تقول وربما ضر التكلف أهله - قالت : قال : فاذهب فأسكتهن ، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب ، قالت : وقلت في نفسي : أبعدك الله ! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب
ما قالته كاهنة حدس :
قال ابن إسحاق : وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قد قالت لقومها من حدس ، وقومها بطن يقال لهم : بنو غنم أنذركم قوماً خزراً ، ينظرون شزراً ، ويقودون الخيل تترى ، ويهريقون دما عكراً ، فأخذوا بقولها ، واعتزلوا من بين لخم ؛ فلم تزل بعد أثرى حدس . وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة ، بطن من حدس ، فلم يزالوا قليلاً بعد . فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلاً .
الرسول يلتقي بالأبطال :
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير قال : لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون .
قال : ولقيهم الصبيان يشتدون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطوني ابن جعفر . فأتي بعبدالله فأخذه فحمله بين يديه .
قال : وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون : يا فرار ، فررتم في سبيل الله ! قال : فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليسوا بالفرار ، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، عن عامر بن عبدالله بن الزبير ، عن بعض آل الحارث بن هشام : وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة : ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين ؟
قالت : والله ما يستطيع أن يخرج ، كلما خرج صاح به الناس يا فرار ، فررتم في سبيل الله ، حتى قعد في بيته فما خرج .
تسمية شهداء مؤتة :
وهذه تسمية من استشهد يوم مؤتة .
من بني هاشم
:
من قريش ، ثم من بني هاشم : جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزيد بن حارثة رضي الله عنه .
من بني عدي
:
ومن بني عدي بن كعب : مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة .
من بني مالك
:
ومن بني مالك بن حسل : وهب بن سعد بن أبي سرح .
من الأنصار
:
ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج : عبدالله بن رواحة ، وعباد بن قيس .
ومن بني غنم بن مالك بن النجار : الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة ابن عبد بن عوف بن غنم .
ومن بني مازن بن النجار : سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء .
من ذكرهم ابن هشام :
قال ابن هشام : وممن استشهد يوم مؤتة ، فيما ذكر ابن شهاب :
من بني مازن بن النجار : أبو كليب وجابر ، ابنا عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول وهما لأب وأم .
ومن بني مالك بن أفصى : عمرو وعامر ، ابنا سعد بن الحارث بن عباد ابن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى .
قال ابن هشام : ويقال : أبو كلاب وجابر ، ابنا عمرو