الجانب الإنسانى فى العقيدة الإسلامية
بدء الخليقة بين العلم والدين
ــ
محاولات قاصرة : ـ
خلق الله الإنسان طلعة يجري وراء المجهول، ويلهث خلف المستور بقصد استجلاء أسراره وهتك الحجب التي تفصل بينه وبينه وفضح معالمه حتى يظهر جلياً ناصع الجلاء واضحاً لا سترة به.
وهذه الطبيعة الإنسانية لكي تحقق غايتها من كشف المساتير لابد لها من وسائل وإمكانيات، ولابد لها من قدرة تتناسب مع هذا المجهول حتى يمكن كشف أسراره، كما أنه لابد من المنهج المتاح والوسيلة الممكنة التي يمكن من خلالها تحقيق الهدف وبلوغ المرام.
والعاقل من النوع الإنساني هو الذي يوازن بين الهدف والغاية المرتقبة، والمنهج والوسيلة التي هما مطيته لهذا الهدف المنشود.
وغير العقلاء من النوع الإنساني من يجري وراء الهدف بدون تقدير لهذه الموازنة أو إعطائها ما تحتاج إليه من الاهتمام الواجب إعطاؤه لها فيقع في خلط أكيد وربما يتراءى له الهدف على أنه واضح يمكن إدراكه أو على أنه قريب يتمكن هو من تحصيله ، وهذا الهدف في حقيقة الأمر ربما يكون أكثر شبهاً بسراب الصحراء الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
ونحن نقدم بهذا الحديث الموجز لندخل من خلاله إلى حقيقة هامة لفت القرآن إليها المسلمين الأوائل والعلماء الذين جاءوا بعدهم على طول العصور وتوالي الأزمان.
فالباحثون في مجال العلم على أي مستوى من مستويات العلم تنقسم الأهداف أمامهم باعتبار الوسيلة المؤدية إليها إلى قسمين :
1ـ فهناك هدف يمكن الوصول إليه لأن وسائله متاحة أمامنا كأن تكون ظواهره خاضعة للتجربة والملاحظة العلمية كما هو الحال في مسائل العلم التجريبي بمختلف أنواعه أو تكون ظواهره خاضعة للمنهج الاستردادي واستلهام الماضي بشرط أن يكون له آثار باقية تدل عليه كالحفريات الواضحة أو معالم الأبنية وما يشبهها مما يساعد على الوصول إلى نتيجة هي أقرب إلى اليقين ، وهذا النوع من العلوم أو تلك الأهداف التي يقصد الإنسان الوصول إليها يشجع القرآن والسنة النبوية على أن لا يتباطأ الإنسان فيها، فالله يقول في القرآن : " قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنظر عن قوم لا يؤمنون" ، "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" ، "وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" ، "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت* وإلى السماء كيف رفعت* وإلى الجيال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت" آيات كثيرة في هذا المجال كلها تزعج الإنسان من غفلته وتوقظه من سباته وتأخذه بشدة إلى أن يتأمل هذا الكون، وكيف لا وهو القائل : " قل سيروا في الأرض فانظروا " ، " قل سيروا في الأرض ثم انظروا " إن المجال مفتوح بل والنوع الإنساني مكلف بالبحث عن أسرار هذا الكون كل بقدر طاقته وبقدر ما أتيح له من وسائل وإمكانيات.
والدين الإسلامي حين يطلب ذلك إلى الأمة إنما يقصد أن يبلغ بهم إلى هدفين :
أن يحققوا إلى مجتمعهم الإسلامي بالعلم والمعرفة ما يجعلهم يسابقون الأمم الأخرى غير الإسلامية ويسبقونهم في مجال الخدمات والنفع الاجتماعي بأوسع معنى للكلمة بحيث تتحقق لهم الريادة والسيادة، وبهذا الهدف وحده تسقط كل دعاوي الكذب والريبة التي تدعي أن الإسلام كان سبب تخلف المسلين في فترة ما من الزمن وحقبة معينة من الدهور، والمتحدث بهذه الدعوى إنما يتحدث عن معاني في الكنيسة المسيحية والمجتمع الغربي ، بلغة عربية.
والإسلام يقصد بعد ذلك إلى أن يطبع شخصية العالم المسلم بالتواضع الجم بحيث لا يغتر بذاته وإنما يلتفت بقوة إلى مسبب الأسباب وراء هذا الكون وواضع القانون العام لهذا النظام، ولذا كان العالم المسلم هو الجدير وحده بأن يعترف بالتوحيد لله وأن يسجد له خاشعاً بعد أن يقف على سر الحقيقة في الكون وهو وحده الذي يستحق المدح بوضعه في مرتبة تالية بعد الله والملائكة في الآية الكريمة " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العلم " وهو وحده الجدير بأن يخشى الله ويتقيه وهي منزلة راقية على مستوى البشرية كلها " إنما يخشى الله من عباده العلماء " .
2ـ أما القسم الثاني من العلماء : فهم يتعلقون بأهداف لا يمكن الوصول إليها ذلك أنها لا ظاهرة لها أصلاً أو أنها لها ظاهرة لا تعبر عن بداية وجودها فهي لا تخضع للتجربة المباشرة ولا تخضع للملاحظة العلمية كما أنها من ناحية أخرى لا تستجيب للمنهج التاريخي (الاستردادي) ولا تخضع في المدى المؤثر للمنهج الإحصائي.
وعلى الجملة : فإن ظواهر هذا النوع من المجالات التي يتعلق بها بعض العلماء ويحاولون عبثاً أن يستنتجوا نتائج يصفونها بأنها علمية لا تخضع قط لأي منهج من مناهج الدراسات ولا لأي طريقة من طرائق البحث والدرس، ومن يريد الوصول إلى هدف في هذا المجال فإنه كالسائر في البيداء يستحث ظهره إلى السير حتى يقطعه دون أن يصل إلى هدف معقول من وراء سيره.
ومن هذا النوع الأخير من العلماء من يحاول بالعلم أن يعرف بداية خلق الإنسان ويقف على سر وجود أول مخلوقات هذا النوع وهو عاجز عن استخدام أي منهج من مناهج العلم أو أي طريقة من طرائق التكفير والنظر.
فنحن لا نستطيع بالعلم وحده أن نرجع إلى الوراء لنقف على سر بداية خلق الإنسان الأول، ولا على كيفية هذا الخلق، ولا على تاريخ محدد أو تقريبي لهذه البداية إن هذه وأمثالها محاولات عابثة ونشاطات لا تعدو أن تكون جزءاً من الترف العقلي والسياحة الذهنية التي لا أمل يرجى من ورائها، ولا رجاء يعلق عليها سوى أنها سياحة ذهنية.
ولقد ابتلى الله الإنسانية في كل زمان بمن يدعي معرفة هذا السر ويقف على بداية خلق الإنسان.
ففي ماضي اليونان السحيق وأيام أن نشط المفكرون الطبيعيون فيهم سمعنا من المؤرخين أنهم قد نسبوا لليونان فكرة تقول : إن الإنسان متدرج عن حيوان غاية في الصغر درج في الماء ثم وصل إلى البر فعاش فيه ثم تدرج إلى أن وصل إلى أكثر الحيوانات قرباً من الإنسان ثم تحول إلى الإنسان أرقى الموجودات في هذا الكون.
ونحن حين ننسب هذه الفكرة إلى اليونان الأوائل تبعاً للمؤرخين لا نشك في أن أي إنسان يقرأ هذه النسبة دون أن يقف على تفاصيل الفكرة لا يشك في سذاجة التفكير وبساطة التعبير والمجافاة الشديدة التي تقع بين الفكرة والواقع ذلك أن هذه الفترة من الزمان كانت تعبر عن وهم يسيطر على التفكير العلمي سببه الأساسي أن الإنسانية كانت تعيش فترة من الطفولة ليس فيها مظهر واحد من مظاهر النضج العقلي.
والشئ الغريب أن الإنسانية بعد أن نضجت عادت في فترة من الفترات لهذا التفكير المقلوب وسلكت نفس الطريق المسدود فبدا علماء الحياة (1) بزعامة دارون يتحدثون عن بداية خلق الإنسان ويرددون نفس الكلام اليوناني القديم إ ذ إن الإنسان ليس إلا طوراً من الأطوار ومرحلة من المراحل لعملية انقلاب مستمر وتحول دائب من نوع إلى نوع آخر ترجع بدايته الأولى إلى حيوان غاية في الصغر أو ميكروب من الميكروبات ذات الخلية الواحدة، فهم يزعمون أن بداية هذا المخلوق كغيره من المخلوقات الحية كانت في عفونة رطبة واستمرت فترة طويلة في الماء العذب أو الملح واستمر الترقي وفقاً لقانون الانتخاب الطبيعي إلى أن توصل إلى الإنسان وتوقف.
وانبهر السذج في كل مكان بمثل هذه النظرية التي اعتقدوها حديثة وما هي إلا محاولة من المحاولات القديمة في اليونان ماتت وقبرت لتوها فنبش علماء الحياة المحدثون قبرها وجمعوا أوصالها من جديد وألبسوها ثوباً قشيباً وسكبوا عليها عطراً فواحاً بقصد ستر عفنها ونتنها.
والمتأمل في هذه الفكرة يجدها قد انطوت على عدة أخطاء علمية.
وأول هذه الأخطاء أنها دعوى بغير دليل ونظرية مزعومة بغير مقدمات، فهي لا تخضع إلى تجربة ولا تستجيب لملاحظة علمية، ولا هي قد مرت بمرحلة فرض الفروض وانتخاب الصالح منها وإنما هي على الجملة تنظير في فراغ وتقعيد بغير مقدمات ودعوى بغير دليل.
وكل ما استطاعوا أن يقدموه لنا هو ذلك الشبه الشديد من الناحية التشريحية بين الإنسان وغيره من سائر الحيوانات. وهذا الشبه الشديد لا يؤكد وحدة النوع ولا يثبتها، وإنما يؤكد فقط وحدة الجنس المشتمل على أنواع لكل نوع خواصه ومميزاته مع اشتراك جميع الأنواع المندرجة تحت جنس واحد في صفة تجمع بينهم، فعنصر الحياة هو المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات إلا أن كل نوع من الحيوانات له ما يميزه عن غيره، وينفرد به عما عداه، فدليل وحدة التشريح دليل من لا يفهم الفرق بين النوع والجنس أو دليل من يفهم لكنه مغرض فيطمس حقائق العلم من أجل هدف يبغيه وقصد يطويه ومرام يريد أن يقصد إليه مهما كانت الوسائل غير شريفة.
والثاني من الأخطاء العلمية في فكر علماء الحياة المقلوب: أنهم قد أجازوا الانتقال من نوع إلى نوع في هذه الحياة، إذ إن من الجائز عنهم أن يتحول الفرد العادي إلى لون من القردة العليا ثم يتحول الأخير عن نوعه إلى الإنسان، وهذه الفكرة خطيرة في عالم العلم، إذ إنه من رحمة الله بعباده أن جعل الكون مستقراً من يوم أن خلقه بحيث يسبح كل نوع في فلكه وكل فلك في مداره وكل جنس في دائرته المرسومة له بحيث قد جعل لك نوعا أو جنسا أو مخلوقا أيا كان لمجموعة من القوانين تخصه هو ، ومجموعة من النظم يخضع لها أفراد النوع الواحد لا يتأتى أن تكون لغيره من الأنواع، وعلى أساس من هذا الثبات في النظام يمكن لنا أن نكتشف هذه القوانين وأن نستثمرها ونتعامل معها ونستفيد من آثارها ومعطياتها ونحن على يقين وثقة أن هذه القوانين من الثبات بحيث لا يطرأ عليها التغير ، ومن الاستقرار بحيث لا يعتريها التبدل أو التحول.
ولو افترضنا العكس المقابل لهذه الحالة بمعنى أن نفترض بأن الله قد خلق القوانين بغير استقرار والنظم بغير ثبات، والأسباب بحيث يمكن أن تنفصل تلقائياً عن المسببات بحيث يصبح قرد الأمس إنسانً اليوم ، وبحيث يصبح حجر اليوم ذهباً في الغد، وبحيث يمكن أن تتحول أخشاب الغد إلى معادن في مستقبل الأيام وهكذا ، لو افترضنا هذه الأشياء المبنية على نظام لا قرار له وقانون يتحول يوماً بعد يوم لشقيت البشرية بهذا الفرض ولكان علمها لا ثقة به وتوقعاتها لا أمان عندها، ولفقدت كل تطلع إلى المستقبل، ولنامت عن بلوغ الآمال وقعدت عن تحقيق الأهداف، إذ إن لا أمل يرجى في المستقبل وكل توقع أو تطلع يكون مبنياً على غير أساس، وبذلك يشقى الإنسان ويعيش مبتوراً مقطوع الصلة بكل عمل ذهني يرفع من قدره ويرسم له طريق حياته ويعبر به نحو الكمال.
من رحمة الله بالخلق أن جعل لهم القوانين ثابتة مستقرة (1) ، ويأتي أصحاب هذه النظرية الموتورة ليقولوا لنا بفكرة الترقي وتحول الأنواع عن أنواعها الأساسية إلى أنواع هي أعلى منها وأرقى.
وهذه النظرية لم يحترمها أصحاب الرأي الثاقب والفكر السديد، وإن كان المغرضون من أعداء الإسلام شرقاً وغرباً قد حاولوا أن يفرضوا على بني الإسلام أن يؤمنوا بهذه النظرية، ومما يؤسف له أنها قد قدمت إلى النشء من شبيبة الإسلام وهم في مراحل التعليم الأولى ليجعلوها غذاء لعودهم الذي لم يكتمل بعد مستغلين نقص الثقافة عندهم خصوصاً ما يتصل منها بأمور دينهم.
وعلى الجملة فإن تفسير العلم لبدء الخليقة يفتقر إلى المنهج الصحيح وإلى المقدمات التي توصل إلى النتائج ثم هو يجازف بحياة الإنسان العلمية حين يحكم على الأجناس بالتحول والانتقال .
أين الطريق ؟
وإذا حكم الإنسان عقله لن يقع في حيرة ولن يستسلم إلى الوهم.
ومقتضى العقل السليم والفطرة المستقيمة أن أقرب الأشياء تصديقاً لديه وأكثر الأحداث ثقة بها وأقر بها إلى القلب والوجدان هي تلك الأحداث التي رواها من شهدها وقصها علينا من صنعها، إذ إن صنعته لها ومشاهدته إياها تجعله أكثر علماً بها، وتجعلنا نحن أكثر تصديقاً وقبولاً لها ـ ونحن مختارون أو غير مختارين ـ لا طريق أمامنا إلا أن ننصت إلى كلام الله الثابت الذي لم يطرأ عليه تغيير لنستمع إليه وهو يروي قصة بداية الخليقة باعتبار أن الله هو الذي شاهد خلق الإنسان الأول، وأن الإنسان الأول هو صنعة ربه لم يشاركه غيره فيها فكان هو العليم بالكيف والابتداء معاً " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ؟
إرادة على طريق التنفيذ
ولقد روى الله لنا قصة بداية الخلق أو قصة آدم الأول في القرآن الكريم في أكثر من موضع مفصلة مرة ومجملة أخرى، وهي في تفصيلها وإجمالها تعطي العقل الإنساني ثراء علمياً ، وإحساساً مقدساً بكيانه في حالة من الاعتزاز والشموخ والكرامة والفخار.
ولم يشأ القرآن أن يحدثنا عن كيفية الخلق الأول مباشرة ، ولكنه أراد أيضاً أن يحدثنا عن التمهيدات التي طبع الله الكائنات في الكون بها، والتي تنبئ عن مخلوق جديد سيكون له من الصفات والشمائل ما يخالف بها صفات وشمائل الكائنات الموجودة بالفعل.
ورب العزة لم يشأ في وقت من الأوقات أن يفاجئ الكون بحدث دون أن يعطي له مقدمات وتمهيدات تبشر بوقوع الحدث وتنبئ عن تغيير سوف يحدث على ظهر الأرض أو في الفضاء أو في كبد السماء (1) " ومن هذا القبيل فإن المخلوق الجديد آدم يعتبر حدثاً في هذا الكون لم تتعوده الكائنات الموجودة فعلاً، وطبقاً للرحمة الإلهية فإنه لابد من تمهيد ينبئ عن شمائل القادم الجديد.
ولو أننا تأملنا الخطاب الموجه من الله للملائكة قبل خلق آدم في إطار هذه القاعدة السالفة الذكر لأمكن لنا أن نتصور كيف مهد الله لخلق آدم، قبل خلق آدم عليه السلام تحدث الله إلى ملائكته حول هذا المخلوق الجديد، ونحن نعرف من صفات الملائكة أنهم "عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" ولم يثبت في تاريخ الأديان أن الملائكة كما ناقشوا أو وازنوا بين أمرين موازنة عقلية أو منطقية، وإنما هم يؤمرون فيطيعون ويتوجه إليهم الله بالخطاب فلا يترددون ولا يتلكئون حتى كأن الطاعة بالنسبة للملك هي عنصره الجوهري بحيث لو ارتفعت عنه فقد صفته الذاتية كملك، ولكنهم هذه المرة قد وازنوا بين مشروع الإرادة الإلهية في الخلق الأول، وبين تجارب الماضي في الكون الذي سيشاطرهم المخلوق الجديد إياه ، قالوا ولأول مرة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " رداً على قول الله لهم فيما يحكيه رب العزة : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وليس عندنا ريب ولا شك في أن الله قد شاء أن توازن الملائكة هذه الموازنة، وأن يجيبوا بهذه الإجابة طبقاً لقاعدة الرحمة الإلهية التي ذكرناها سلفاً والتي تقتضي أن يمهد الله لهذا الحدث الجديد بالكشف عن بعض طباعه وشمائله، ومن بعض طباع الإنسان وشمائله أنه مجادل موازن وأنه متردد مرتاب، وأنه لا يصدق إلا بعد الموازنة والاستدلال، فهو الذي يقول الله عنه فيما بعد : " وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " وهو الذي لا يصدق إلا بدليل ولا يقتنع إلا باليقين، وقد مهد الله لذلك حين علم آدم الأسماء كلها ومسمياتها ثم عرضهم على الملائكة فقال : "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا " فطلب لآدم أن يعلمهم ليقتنعوا وأن ينبئهم كي لايرتابوا : " قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم " ذكرهم الله بجزء من المناقشة الماضية قبل خلق الإنسان قال: "ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون" وبهذا اللون من التعبير تبين لنا بعض شمائل الإنسان ذلك المخلوق الجديد الذي سيكون خليفة الله في أرضه فيما يستقبل من الزمان أو يأتي من العصور.
استدراك : ـ
وحين يفرغ الإنسان من سماع خطاب الله للملائكة الذي يتعلق بخلق آدم المحتوم يتحرك في داخله استفسار عقائدي مشروع مؤداه : أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون وهو ملكه ـ بضم الميم ـ وملكه ـ بكسر الميم ـ يتصرف فيه طبقاً لإرادته بالزيادة والنقص وبالإسعاد والإشقاء دون أن يسأل عن شئ من ذلك بلم أو كيف " لا يسأل عما يفعل وهو يسألون" ، " يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " إلى آخر هذه الآيات والنصوص التي تعبر عن طلاقة الإرادة والقدرة الإلهيتين.
وفي ضوء هذه المسلمة يمكن للمسلم أن يتساءل : ما هي حقيقة هذا الخطاب الإلهي للملائكة في مشروع كهذا المشروع الإلهي ؟ إن الإرادة الإلهية والقدرة كلتيهما غير محتاجة إلى مشورة مخلوق ناقص، أو إلى الاستناد إلى رأي كائن لا يقدر على مشورة كهذه ولا تتسامى مشورته إلى هذا المستوى القدسي.
تلك وساوس يمكن أن يلقيها الوهم في عقل الإنسان وتتسرب إلى وجدانه،ولو رجعنا إلى النص الكريم لوجدنا أن فكرة مشورة الله للملائكة مرفوضة بسياق النص ذاته؛ فالمشورة إنما تعني أن من يطلبها متردد في أخذ قرار بعينه ويريد أن يستضئ برأي غيره فيه ؛ والنص الإلهي يقول : "إني جاعل في الأرض خليفة " أي أن الإرادة ـ تعلقت بالفعل بهذا المخلوق المرتقب قبل أن يعرض هذا الأمر على الملائكة ، وبذلك تسقط فكرة المشورة من أساسها لغياب العنصر الجوهري فيها وهو التردد من قبل المستشير.
غير أن تحليل النص على هذا النحو لم يحل المشكلة العقائدية عند من تثار هذه المشكلة في ذهنه، إذ إن السؤال ما يزال قائما وإن كان بأسلوب جديد، ويمكن صياغته صياغة جديدة على النحو التالي : إذا كان عرض الخطاب على الملائكة ليس للمشورة كما هو مفاد النص فما هي الفائدة منه إذن ، وما هو النعت الحقيقي اللائق به ؟
ولو أننا تأملنا ما سطرناه سلفاً لاتضح لنا أننا نميل كل الميل إلى أن خطاب الله للملائكة ورد الملائكة على هذا الخطاب كان تمهيداً وتبشيراً بشمائل هذا المخلوق الجديد، ونحن لا نستطيع أن نخفي تحمسنا الشديد لهذه الفكرة غير أننا يمكن أن نضيف إليها بعض الأجوبة الطريفة التي قالها أسلافنا من الأساتذة الأجلاء، ومن هذه الأقوال الطريفة ما ذكره الفخر الرازي قال بعد أن صاغ القضية على النحو السالف ذكره، وذكر بعض الردود عليها : (الوجه الثاني: أنه تعالى علم عباده المشاورة ) (1).
وفي بعض ما يروى عن أسلافنا آراء ربما لا يستريح الإنسان إليها لأنها لا توافق الطبع العام للملائكة أساساً، ولا توافق السياق العام الذي يذكره القرآن عنه، ومن بين هذه الآراء الرأي القائل : ( أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أو ردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب)(2).
وننتهي من مناقشة هذه القضية إلى اختيار أن الخطاب كان أمراً اقتضته الإرادة الإلهية للإبانة عن بعض طباع الكائن الجديد من جهة، ولتعليم بني آدم كيفية الحوار الذي لا يصل إلى حد المراء من جهة أخرى
الخلافة حقيقتها ومعناها
ومن الأشياء الواردة في خطاب الله للملائكة أنه قد تحدث عن المخلوق الجديد بوصفه خليفة، والخليفة :من يخلف غيره ويقوم مقامه، وهذا الوصف إنما يعبر عن وظيفة الكائن الجديد وتحديد مهمته التي خلق من أجلها، إن هذا الكائن الذي تعلقت الإرادة به ستكون الخلافة هي مهمته الحقيقية على هذا الكوكب الأرضي ، ولقد ذكر الله هذه الكلمة ـ خليفة ـ بإطلاقها فهي غير مقيدة ولا محددة.
وللإنسان حيال هذا الإطلاق أن يقف وقفتين :
أولاهما : أن يقف على معنى كلمة خليفة من حيث هي، أعني ما هي المهمة الحقيقية التي سوف تتضمنها هذه الكلمة وستكون علماً عليها أو اسماً لها؟
وثانيتهما : هذا المخلوق الجديد إذا كان خليفة فإنه من حقنا أن نسأل عن المخلوف أي الذي سوف يخلفه آدم ويحل محله أو ينوب عنه.
وسنحاول فهم النقطتين معاً فنقول : إن للعلماء هنا آراء متعددة واقتراحات ومفاهيم متنوعة ، " فآدم حين سيكون خليفة إنما سيخلف جنساً بأكمله هو جنس الجن، ولقد نسب هذا الرأي لابن عباس ، على أن هذا الرأي لا يكاد يكون مفهوماً إذ إن الجن ما يزال موجوداً إلى اليوم وبعد اليوم في الأرض يابسها ومائها (1). ونستطيع أن نفهم هذه الخلافة باعتبار أنها سوف تكون خلافة عن الله عز وجل بمعنى أن الله قد انتدب الإنسان لنشر شريعته في الأرض فيوحي بها لبعض أبناء آدم ومعهم الوثائق الكاملة والبراهين القاطعة التي تقنعهم أنها من عند الله، وهنا يجب على النوع الإنساني أن يطبق شريعة الله بشكل عام إذا كانت الشريعة عامة، أو على بعض أفراده إذا كانت الشريعة خاصة.
وهذه الخلافة على هذا النحو من التخريج إنما تحدد مهمة الإنسان التي خلق من أجلها، وهذا التخريج على هذا النحو أيضاً حين يكون مقبولاً في العقل إنما يعتبر صيحة قوية لتلفت النوع البشري من غفلته لتنبهه إلى أن الإنسان حين يغفل عن تطبيق الشريعة الإلهية لا يكون قد ارتكب جرماً على أعلى درجات التجريم التي تستوجب المساءلة والعقاب فحسب، وإنما يكون قد تعدى ذلك إلى مسخ شخصيته وسلب أهم عناصر وجوده، وإلغاء جانب كبير من ماهيته، والتنازل عن مقدار لا يستهان به من كرامته الاجتماعية والأخلاقية والدينية، فإذا لم يكن للإنسان من وظيفة على الأرض إلا تحقيق العبودية بتطبيق شرع الله في العقائد والاجتماعيات والأخلاق والعبادات، فإنه حين يلغي ذلك أو بعضه يكون قد ألغى مهمته ووظيفته الحقيقية وتخبط في دياجير الإهمال، وتاه في بيداء الظلمة والحيرة بغير هدف يقصده أو بغية ينتهي إليها.
وربما يتسع معنى الكلمة ليشمل أن يكون أفراد النوع الإنساني الذي تعلقت الإرادة بإيجاده لن يكون لهم البقاء ولن يتمتعوا بالخلود، وإنما سيحيا الواحد منهم إلى أجل مرسوم ثم يعود تراباً كما بدأ ، وبهذا فإن أفراد النوع الإنساني سوف يخلف بعضهم بعضاً ويكون بعضهم خليفة عن البعض إلى أن يقضي الله أمره بانتهاء هذه الحياة.
وعلى هذا التخريج يكون الله قد نعى النوع الإنساني قبل وجوده وأعلمهم بأنهم لا بقاء لهم في هذه الدنيا إلا ريثما يستوفي الواحد منهم أجله ثم يتركها إلى الحياة البرزخية وما يتلوها.
وهذا الإعلان كاف وحده لكي يلتفت النوع الإنساني أفراداً وجماعات إلى تحقيق العبودية لله في أنفسهم بتحقيق الواجب الذي يطلب منهم والقيام بأعباء المهمة التي كلفوا بها من تحقيق شرع الله في الأرض.
ومن هنا يظهر الترابط بين التخريجين الأول والثاني، فالإنسان خليفة عن الله لتنفيذ شرعه وأفراد الإنسان لا بقاء لهم فوق الآجال المحددة لهم فهم يخلفوا بعضهم بعضاً.
ولو تأملنا أسلوب القرآن لوجدناه يستخدم الخلافة بالمعنيين معاً، فهو يتحدث عن الخلافة بمعنى تنفيذ شرع الله في الأرض فيقول : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " . ويستخدم القرآن الخلافة بمعنى أن بعض أفراد النوع الإنساني يخلف بعضاً فيقول : "وهو الذي جعلكم خلائف الأرض" ، "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً " ، " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون".
والترابط بين التخريجين ظاهر واللفظ الوارد في خطاب الملائكة (خليفة) من العموم والشمول بحيث يتسع لهما ولما يمن الله به على الأجيال القادمة من فهم يضيفونه إلى هذه المعاني
ظهور آدم
غير أنه إلى الآن وإلى هذه المرحلة التي نتحدث عنها لم يظهر آدم ظهوراً فعلياً للعيان، وكل ما حدث أن الإرادة الإلهية قد تعلقت بهذا المخلوق الجديد لإيجاده وعند اللحظة المحتومة لوجود آدم كونه الله من عناصر ومادة الأرض، فيحدثنا القرآن مرة بأنه قد خلق آدم من تراب ومرة يقول : " إني خالق بشراً من طين"ومرة يقول : " من طين لازب " ومرة يقول : " من صلصال من حمإ مسنون"، ثم يقول في موضع آخر : "من صلصال كالفخار" . وهذه التنوعات في الحديث عن آدم تشير إلى أمرين هامين :
أحدهما : أن آدم في خلقه مر بمراحل متعددة يبتدئ من التراب إلى صلصال كالفخار، والقرآن يعبر في كل موضع عن مرحلة منها، ولما كان القرآن كالحرف الواحد في تماسكه وشدة ترابطه كان من الممكن جمع المراحل كلها لتعبر عن أطوار آدم هذا المخلوق الجديد. ثم يدخل بعد هذا الطور الأخير من مرحلة العنصرية الأرضية وبها إلى مرحلة الإضافة القدسية عليه. "ونفخت فيه من روحي" فيتحرك لحماً ودماً بحيوية وإحساس ووجدان ومنطق، وعلى الجملة إنساناً كاملاً في خلقته على النحو الذي أرادته المشيئة الإلهية.
وهذا التنوع في الخطاب بعد استكماله وجمعه يعطينا بدهية مسلمة، وهي أن الإنسان في أولي مراحله قد تكون من العناصر الأرضية ويحتفظ بها ذريته إلى اليوم في أجسادهم، فهم يحتفظون بعناصر الأرض بكل معنى الكلمة من يابس وماء، فلو أننا أخذنا قطعة مادية من جسم الإنسان وحللناها معملياً لوجدناها تحتوي على العناصر الترابية في الأرض، بل نحن نرى أن الإنسان بعد أن تنتهي حياته ويوارى التراب يتحلل جسمه إلى عناصر ترابية.
والجانب الرطب في الإنسان الذي يعبر عنه بالمائية يمكن أن نفهمه من قوله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شئ حي" وهذه الجملة قد فهمها علماء الحياة فهماً خاطئاً ففسروها على نحو ما ذكرناه سلفاً بأن بدايات الحياة الأولى كانت في الماء ، ثم تطورت طبقاً لقانون الانتخاب الطبيعي، غير أن الكثرة من المحدثين يرون أن المراد من الماء هو ما يحمله الإنسان في داخله من سيولة ورطوبة لازمة للحياة واستمرارها.
والحياة بهذا المعنى ، لم تترك الماء قط ، ذلك أن جميع صور الحياة تستمر بفضل البروتوبلازم وتمارس نشاطها داخله، وقد عرف أحد المعاجم البروتوبلازم بأنه مادة زلالية نصف سائلة تعد الأساس الأول للحياة الطبيعية التي تتطور منها جميع الكائنات الحية وتكون المواد التي يتكون منها البروتوبلازم ذائبة في الماء أو عالقة به، فالماء أساس البروتوبلازم ، والبروتوبلازم أساس الحياة، فالحياة والماء في هذا الكوكب متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر
وعلم آدم الأسماء كلها
وبعد إتمام مراحل خلق آدم أخبرنا الله تعالى بأنه علمه أسماء الأشياء كلها.
ونحن هنا نستطيع أن نتساءل : ما معنى تعليم الله الأسماء لآدم، فكل شئ له صفاته الخاصة به وهي التي تعبر عن ماهيته وحقيقة وجوده وله لفظ لغوي يدل عليه، فما الذي علمه الله لآدم واستقر في نفسه أهي تلك الصفات الجوهرية للأشياء والتي هي حقائقها ومهاياها، أم هي الألفاظ والأسماء واللغات؟
إن المرء لا يكاد يرتاب في أن الله قد علم آدم حقيقة كل شئ وماهيته والصفات الجوهرية له، إذ أن شرف العلم بالشئ من حيث ماهيته وحقيقته يفوق شرف العلم به من حيث الألفاظ الدالة عليه والخاصة به.
واللغة لا تمنع هذا التخريج إذ أن استعمال الأسماء في الآية للدلالة على الصفات والمهايا يقبله الاشتقاق اللغوي للفظة اسم ، فالاسم إما أن يكون [ من السمة أو من السمو، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها، فصح أن يكون المراد من الأسماء : الصفات ، وإن كان من السمو فكذلك لأن دليل الشئ كالمرتفع على ذلك الشئ ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول، فكان الدليل أسمى في الحقيقة ، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة، بقى أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به](1).
وهب أننا خرجنا التعبير القرآني على هذا النحو من التخريج، فهل يكفي هذا ليكون هو المقصود من الآية ؟ إن الإنسان إذا تعلم حقائق ومهايا الأشياء لا يكفيه هذا التعليم، ولا يغنيه غناءاً كاملاً، ذلك أن الإنسان حين يتعلم مهايا الأشياء وصفاتها التي تميز الواحد منها عن الآخر فإنه إذا أراد أن يعبر عن الواحد من هذه الأشياء لابد لهم من مصطلح لغوي يطلق على مجموعة الصفات الخاصة بكل شئ على حدة، أي أنه لابد لكل شئ من اسم لغوي يدل عليه، وهذا الاسم اللغوي لا يحتاج الإنسان إليه إلا في مرحلة متأخرة إذ إننا بالتجربة ندرك الحقائق والمهايا أولاً ثم نحتاج بعد ذلك إلى أن نضع اسماً لغوياً يدل على ما أدركناه من الحقائق والمهايا، ولذلك يجمع علماء أصول اللغات على أن الأشياء توجد أولاً ثم توجد بعد ذلك اللغات الدالة عليها.
ولو أن آدم لم يتعلم الأسماء بمعنى الألفاظ وبقى عند حدود معرفة كل الصفات والمهايا التي تميز بين الأشياء وتقسمها إلى أجناس وأنواع وأفراد لتميزت الأشياء في ذهنه تميزاً ذاتياً، ولكنه لم يستطع أن يعبر عن هذا التمييز لغيره ممن سيخلفونه على الأرض.
ولذا فإننا لا نرانا بحاجة ملحة إلى استقصاء هذا الخلاف المستمر بين العلماء حول ما إذا كان الله قد علم آدم الأسماء فقط علمه المسميات دون الأسماء إذ إن اللائق بالتعليم وحقيقته أن يميز الإنسان في ذهنه بين الأشياء وذلك لا يكون إلا بالحقائق والمهايا وأن يستطيع التمييز بين هؤلاء الأشياء بما يكون لها من أسماء تدل عليها وتميز من الناحية اللفظية بين آحادها وجملها.
سبب تعليم الله الأسماء لآدم : ـ
وحين علم الله الأسماء لآدم عليه السلام بعد خلقه بهذا المعنى العام للتعليم، فإن ذلك سوف يعطينا انطباعاً قوياً ويلفتنا إلى أن النص ما يزال يسير نحو هدف محدد وغاية مرسومة لا يحيد عنها ولا قيد أنملة، فالله قد أخبر الملائكة بأن آدم سيكون خليفة في الأرض ، وبخلافة آدم سوف تكون له علاقة بما ومن عليها، وهذه العلاقة سوف تكون جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية وبدون هذه العلاقة سوف لا يكون آدم خليفة في الأرض ولن يتمكن من أداء مهمته عليها، فكان تعليمه الأشياء حقيقة ولغة ضرورة اقتضتها وظيفته على الأرض وحتمية من حتميات القيام بمهمته وتحقيق ما أنيط به من الخلافة.
اللقاء بين آدم والملائكة
ثم تدبر العناية الإلهية لقاءاً بين آدم والملائكة بعد أن علمه حقائق وأسماء الأشياء كلها وكان بداية اللقاء بين آدم والملائكة سؤالا من الله لملائكته حول ماهية وحقيقة وأسماء بعض الأشياء " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وهذه نقلة في قصة آدم تبدو وكأنها غريبة على أذهاننا ، فالله قد علم آدم حقائق الأشياء ثم يسأل الملائكة عنها مع علمه بأنهم لا يجيبون " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وتزداد المسألة لدينا غرابة حين ينتدب الله آدم لتعليم الملائكة ما عجزوا عنه : " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " ويصدع آدم لهذا الأمر ويعلمهم أسماء وحقائق الأشياء والمرء حين يندهش لهذه النقلة الغريبة يحتاج إلى جواب عن سؤال مؤداه: لماذا وجه هذا السؤال إلى الملائكة : " أنبئوني بأسماء هؤلاء " ؟ ولماذا انتدب آدم إلى تعليم الملائكة وإحاطتهم بما لم يحيطوا به : " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " ؟
ولو تأملنا القاعدة التي صدرنا بها قصة بدء الخلق في القرآن والتي مفادها أنه من رحمة الله بالخلق أن لا يفاجئهم بأمر من الأمور حتى يعطي له تمهيداً ومقدمات تريح الكون أو بعض الكائنات اللاتي سيتعلق بها هذا التغيير أو يتصل بها على نحو من الأنحاء لفهمنا المراد من السياق.
ففي هذا الإطار يجب أن نعلم أن الملائكة إلى هذا الوقت الذي سألهم الله هذا السؤال فيه لم تكن لهم أي علاقة بهذا المخلوق الجديد، وقد شاءت العناية الإلهية أن هذا العالم العلوي الملائكة ستكون لهم علاقة خدمة وعناية بهذا الكائن المرتقب، ولقد اتضح لنا في خطاب الله للملائكة وإجابة الملائكة برأيهم في هذا الكائن الجديد أنهم قد توقعوا منه الفساد والإفساد فمن المتوقع عندهم أنه سيكون مصدر الرذيلة والإثم ولم يتوقعوا منه حسن الشمائل ولا رفعة الخصال، وليس من اللائق منطقياً أن تعمل الملائكة في خدمة كائن قد تصوروه سلفاً على هذا المستوى فلابد أن يبرز لهم الله ـ على مقاس الرحمة لا على مقياس الجبر ـ الجانب المضئ والفضيلة العليا التي سوف ينطوي عليها هذا الكائن الجديد، ومن بين فضائله ومن أسماها أنه قادر على تحصيل العلم والمعرفة بأوسع معنى لهذه الكلمة، وتحصيل العلم فضيلة حين يتعلق العلم بمعرفة الله الخالق البارئ المصور وبمعرفة آثاره في كونه وبمعرفة قوانينه التي وضعها ونظمه التي أرسى قواعدها في هذا العالم، وأنه خلق من الكائنات عوالم وأجناسا وأنواعا وأفرادا لكل صفاته وشمائله، ولكل خواصه وحقائقه فلا تختلط الأجناس ولا تتداخل الأنواع ولا تختلط الأفراد بعضها ببعض، وحين يقف الإنسان على هذا السر يكون قد حقق لذاته مزية وحقق لكيانه وجوداً غير وجوده المادي الذي يشارك به غيره من الكائنات الدنيا.
وقف الملائكة على هذا السر وتعرفوا على هذه الفضيلة بعد هذا اللقاء الذي أرادته العناية الإلهية فتهيأت نفوسهم إلى إكبار وتعظيم هذا المخلوق الجديد.
ولا يستطيع قائل أن يقول : إن هذا المخلوق الجديد ليست له هذه المزية من ذاته، فهو حين تعلم لم يتعلم ببذل المجهود ولا بصرف الهمة ولا بإشقاء الجسد والروح، ولا بكد الفؤاد وتوجيه الإرادة وإنما كان تعليمه بتوجيه الله له وصب هذه المعاني صباً في فؤاده : "وعلم آدم الأسماء كلها ".
إننا لا نصغى إلى مثل هذه الشوشرة لأن الملائكة هم الآخرون بما لهم من فضيلة تتلخص في لبابها وحقيقتها في جملة واحدة هي الطبيعة الخيرة لا يدعون أو لا يدعي غيرهم بأن هذه الطبيعة الخاصة بالملائكة قد أتتهم ببذل المجهود أو كد النفس أو توجيه القصد إلى تلك الغاية النبيلة أو الفطرة السليمة وإنما هم خلقوا هكذا عبادا مكرمين فطرتهم خيرة ولا يتأتى أن يطرأ عليها الإعوجاج ، [ وكل ما في هذا العالم على هذا النمط الفضائل كلها قد خلقها الله في الفضلاء وقد أضفى عليهم مزاياهم ثم ترك للإنسان بعد ذلك ميدان الاختيار بعد أن زلل أمامه كل صعاب ] .
الملائكة إذن قد أصبحوا مهيئين إلى خدمة هذا الكائن الجديد بعد هذا التمهيد الذي دبرته العناية الإلهية
مزية آدم وفضيلته
وحين نصل بالمناقشة إلى البحث في مزية آدم وفضيلته، فإنه ينبغي أن نصدر هذه القضية بالتنبيه إلى ما يمكن أن تنزلق إليه أقلام المفكرين وأفكار العلماء.
فالإنسان حين يخطئ في المقاييس يخطئ لا محالة فيما يصدره من أحكام تعتمد على هذه المقاييس الخاطئة ، وهو حين تخطئه المقدمات أو يخطئ هو في الوقوف على حقيقة المقدمات يخطئ حتماً في النتيجة والغاية التي تنتهي إليها هذه المقدمات.
وقضية التكريم في آدم قد يرجع بها بعضهم إلى فضيلة العنصر وطيب الجانب المادي فيه، ويحاول أن يسطر الصفحات تلو الصفحات ليبين عن مزية في عناصر الأرض تمتاز عن كل مزية في أي عنصر آخر حتى ولو كان عنصر النار بما له من الشفافية والميل إلى العلو والرفعة.
وهذا في الحقيقة مقياس خاطئ قد شقى به إبليس من قبل حين اعتمد عليه في المقارنة بين أصله الذي نزع عنه وهو النار، وأصل آدم الذي خلق منه وهو التراب فأدى به هذا المقياس إلى الاغترار بأصله والتمرد على الأمر الإلهي " أأسجد لمن خلقت طيناً " ، " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". وأراد الله أن يلفته إلى خطأ هذا المقياس عنده : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" ، ولكنه لم يصغ إلى هذه اللفتة واعتز بمقياسه هو الذي توصل إليه بفكره المحدود.
ومن هذه العجالة الخاطفة اعتمادا على مقياس خاطئ لن يؤدي إلا إلى أحكام خاطئة ، واصطناع المقدمات الفاسدة تسقط صاحبها في مهاوي الضلال عن الحقيقة والبعد عن اليقين.
ولو أننا تأملنا النص الإلهي في قصة آدم مجتمعاً لوجدنا أن قضية التكريم لا علاقة لها بالعنصر المادي من قريب أو من بعيد وإنما يتجه النص الإلهي بنا وجهة أخرى حين يحدد عناصر أربعة بها مجتمعة يكتسب آدم وبنوه ما لهم من مزية التكريم والتفضيل، وهذه العناصر الأربعة قد جاءت معظمها في فترة تالية لفترة التكوين المادي العنصري المتصل بمادة الأرض من تراب وماء.
فالله قال مباشرة بعد أن انتهى من الخلق المادي : " ونفخت فيه من روحي" ونفخ الروح والإضافة إلى الله عز وجل أعطت لهذا الكائن المادي ما يميزه عن غيره من النظائر والأشباه، ثم في آية أخرى نرى القرآن يقول مخاطباً إبليس : "ما منعك أن لا تسجد لما خلقت بيدي " فالعنصر المادي وإن كان تراباً وماء إلا أن مباشرة الصانع الحكيم له جعلته ينتسب إلى الله من حيث التكوين والصنعة ونحن وإن كنا نجهل كيفية التكوين وكيفية الصنعة إلا أن العنصرين الترابي والمائي قد اكتسبا بهذه الصلة معنى جديداً لم يكن فيهما من قبل.
وبعد أن استكمل آدم مرحلته المادية والروحية ابتدأت مرحلة جديدة لإطلاق أهم ما يميزه عن غيره من المعاني والوجدانات وهو العقل فأودع الله فيه حقائق العلوم وأسرار الأشياء وعلمه الألفاظ الدالة على ذلك وليس العلم في الحقيقة إلا إدراكاً فعلياً لتلك الأسماء والمسميات معاً وبكيفية الاستفادة من هذه الأشياء على نحو ما خلقت له " وعلم آدم الأسماء كلها " وتلك إشارة إلى أنه من بين مزايا الإنسان ومن عناصر تكريمه أن يحاول محاولات جادة ومستمرة الوقوف على أسرار العلوم وحقائق الأشياء بقدر الطاقة والإمكان.
وباستكمال هذه العناصر الثلاثة التي أشرنا إليها كان العنصر الرابع نتيجة محتومة من الناحية المنطقية وهو إسجاد الملائكة له " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".
سجود الملائكة لآدم
والنص الإلهي يفيد أن الملائكة مأمورون بالسجود لآدم من قبل البدء في خلق آدم أو معرفة حقيقته بالنسبة إليهم " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وهذا أمر تكليفي من الله للملائكة أن يسجدوا لهذا المخلوق العظيم عقب استكمال خلقه مباشرة ، والملائكة لن يخالفوا في تنفيذ هذا الأمر، ولكن أراد الله على حسب مقتضى رحمته أن لا يسجد الملائكة لآدم إلا بعد استكمال التمهيدات الكاملة التي تضفي عليه من الفخار والقداسة ما يستحق معهما أن تسجد الملائكة له استكمالاً لهذا الفخار وتلك القداسة، فنحن نظن ظناً غالباً أن الملائكة لم تسجد لآدم إلا بعد أن خلقه الله بيديه ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها، فكل هذه الأشياء تتصل بتكوين آدم ماديا ومعنوياً، وبعد هذا يأتي دور السجود الفوري دون أن يكون هناك تضارب مع النص القائل : " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"
وكان من المفروض أن يمر الأمر الإلهي علينا مروراً عادياً من غير قلق أو اضطراب ، فالله قد أمر الملائكة بالسجود لآدم واستجابت الملائكة فسجدت لآدم، غير أن هذا الموضوع قد أحدث دوياً فكرياً بين السادة من العلماء والمفكرين فهم قد استعظموا أن تسجد الملائكة لغير الله وراحوا في تحليل وتفكير وتاهوا في بيداء التحليل والتفكير فاشتط بعضهم في الرأي واعتدل البعض الآخر فيه في حين أن المسألة لا تحتاج إلى الاعتدال كما أنها في غنى عن الشطط والتطرف فالسجود لآدم ليس سجود عبادة لآدم وإنما هو استجابة لأمر الآمر سبحانه، فنحن ننظر إلى هذا الفعل من زاويتين : ننظر إليه من حيث هو استجابة لأمر الخالق سبحانه، وخضوع لهذا الأمر الإلهي والسجود من هذه الزاوية عبادة لا شك في ذلك، فالاستجابة إلى أمر الله تكون عبادة بصرف النظر عن الوجهة التي يوجهنا إليها، فنحن حين نقبل الحجر لا نعبد الحجر وإنما نستجيب لأمر الله في ذلك على لسان نبيه واقتداء بفعله، وحين نطوف بالبيت أو نتوجه إليه في الصلاة لا يكون البيت هو محل العبادة، وإنما هو محل تعلق الأمر الإلهي ومكان قد وجهنا إليه لنتخذه قبلة ولنطوف به، نحن حين ننفذ الأمر الإلهي نكون في تنفيذنا لهذا الأمر محققين للعبودية الحقة التي تقتضي الانصياع إلى أوامر الله .
وبالقياس فإن الملائكة حين ينفذون أمر الله عز وجل يحققون العبودية والخضوع لله تعالى بالانصياع إلى أمره.
غير أن للفعل ( السجود ) منظورا آخر ، فنحن يمكن أن ننظر إليه باعتباره سجودا لآدم ، في هذه الحالة يختلف الحكم على الفعل من كونه عبادة إلى كونه تكريما.
وخلاصة القول :إن سجود الملائكة إذا حاولنا أن نحكم عليه فلابد أن نحكم عيه حكماً مزدوجاً ، إنه عبادة لله بإطاعة أمره في تكريم آدم بالسجود له.
ومن هنا تكون المسألة في غاية السهولة لا تحتاج إلى هذه الكثرة من تحبير الصفحات في عرض الآراء وتوسيع هوة الخلاف بين وجهات النظر وتعدد الآراء
امتناع إبليس عن السجود لآدم
إن من المسلمات البديهية أن الأمور لكي تسير سيراً طبيعياً لابد من إحداث شئ من التوازن فيها.
وخلافة آدم في الأرض لييست شذوذاً عن هذه القاعدة فلكي تتحقق الخلافة لابد وأن تكون جميع القوى المتصلة بها متعادلة، ولابد وأن تكون القوى الداخلية للخليفة نفسه متعادلة كذلك، فلا يقع بعضها تحت تأثير معين دون أن يقع البعض المقابل لمثل ذلك التأثير ، وبمعنى أوضح : لابد وأن تكون الطرق كلها معبدة أمام الخليفة بحيث يختار هو منها أي الطرق يسلك.
وفي هذه القصة قصة آدم قد برزت لنا إلى الآن عدة حقائق هامة ، من بينها : أن آدم قد خلق مكتمل القوى، كامل التكوين.
ومن بينها كذلك : أن الله قد سخر جنساً من الأجناس لخدمة هذا المخلوق الجديد وخدمة أبنائه الذين يتعاقبون بعده.
والملائكة حين يسخرون لخدمة آدم وبنيه من قبل الله عز وجل لن يكونوا بالطبع مسخرين له لكي يزللوا أمامه الغواية، ويزينوا له الإثم، ويسهلوا له سبيل الإغواء والانحراف عن أمر الله، وإنما تسخير الملائكة لآدم وبنيه، إنما هي وسيلة لجذبه نحو الفضيلة والارتقاء به إلى الكمال، وتشجيعه على أفضل الخصال وأرقى الشمائل.
وعليه فإن آدم عليه السلام بما له من قوى لم ير في الكون إلا الخضوع لله والتجارب والانسجام مع أمره تعالى.
ولما كان الخليفة الجديد قد هدى طريقي الخير والشر معاً "وهديناه النجدين" كان محتاجاً لرؤيا واضحة تبصره بجانب الشر في هذا الوجود وتوقفه على مصدر كل رذيلة ووسيلة كل غواية، وتلك حقيقة لابد من أن يحيط آدم بها يشهدها أولاً في غيره شهود العيان وتتجسد أمامه حية متحركة بحيث تلتصق بذهنه التصاقاً لا يكاد ينفصل عنه.
ولقد برزت هذه الحقيقة مساوقة لظهور فكرة الخير التي تجسدت أمامه حين أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فأطاعوه، في نفس الوقت الذي أمر إبليس بالسجود فعصى.
والاستجابة لأمر الله وطاعته هي الخير الذي لا خير فوقه في هذا الوجود، والخروج على أمر الله هو مصدر كل رذيلة في هذا الوجود أيضاً.
واستجابة الملائكة لأمر الله أمر طبيعي لا شذوذ فيه غير أن عصيان إبليس للأمر هو الإثم الذي يحتاج إلى مساءلة وإيضاح، وتأتي المساءلة على مرأى ومسمع من آدم " يا إبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك"، "ما منعك أن لا تسجد لما خلقت بيدي".
وجوابات إبليس كلها تدور حول محور واحد هو سنام الشر كله وهو أنه يرد الأمر على الآمر، ويحاول أن يعدل على الذات الإلهية، وهذا كفر صراح كما أنه يحاول أن يجد لخطيئته ـ كما يفعل المخطئون غالباً ـ أساساً منطقياً معقولاً فيقارن بين أصل خلقته ومادتها وأصل خلقة آدم ومادته، " أأسجد لمن خلقت طيناً" ، " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
وكما أن المخطئ دائماً يغالط ويتعدى الحقيقة حين يحاول أن يجد لإثمه الأساس المنطقي الذي يعتمد عليه كذلك فعل إبليس، فالقضية هي إما أن يستجيب إلى الآمر فيما أمر، وإما أن يرد الأمر على الآمر وتعلق القضية بآدم تعلق فرعي في هذا القبول أو الرفض. وأنت ترى أن إبليس قد نقل القضية من الأصل إلى الفرع بقصد المشاغبة والإبانة عما في قلبه، وقد ظهر أمام آدم بهذا المظهر الذي ينبئ عن صفتين أساسيتين هما : الكفر في القلب والإثم والرذيلة والتكبر في السلوك "أبى واستكبر وكان من الكافرين".
وبهذه المسألة تعادلت قوتي الخير والشر أمام آدم، ولكن الملائكة وهم رمز الخير لهم صلة التعاون مع آدم من هذه الجهة، أما إبليس رمز الشر فلم يظهر له تأثير معلن إلى الآن، ولكن القرآن يغطي هذه الجزئية على لسان إبليس إمعاناً في إبراز التعادل فيقول : " فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين".
وللمرء هنا أن يقف موقف تأمل وتدبر في الموقف كله ليعرف ما إذا كانت الطرق كلها أصبحت متعادلة ومتوازنة أمام الإنسان الأول أم لا ؟.
وبلحظة تأمل بسيط يجد الإنسان نفسه أمام قوتي الخير والشر في الإنسان، والإنسان ينجذب إلى الخير بواسطة قوى الخير فيه ومساعدة الملائكة له والسعادة المطلقة التي ينتظرها وهي لا تأتيه إلا مترتبة على سلوك طريق الخير والخضوع إلى أمر الله والاستجابة له.
والإنسان في نفس الوقت أمامه طريق الشر واضحة جلية يسلكها بواسطة قوى الشر فيه ويساعد على سلوكها ما يتعرض له من غواية وإثم وإضلال مصدر الشر الأول إبليس.
فهل هذه المعادلة إلى الآن متكافئة ؟
إننا حين نتأمل نجد أن سلوك طريق الخير يحتاج إلى معاناة ومكابدة لأنه عمل إيجابي متطلع دائماً إلى الرقي والكمال في حين أن الجانب المقابل لا يحتاج إلى هذه المعاناة أو المكابدة.
وهنا يظهر الفرق واضحاً بين الطريقين المتمايزين، ولذا فإن جانب الخير يحتاج لكي يتعادل مع جانب الشر إلى بعض المحفزات وإلى شئ من المنفرات في الرذيلة حتى يقلل ذلك كله من فرض سيطرة الغرائز والغوايات.
ولذا فإن الله عز وجل لم يشأ لإبليس وآدم أن ينصرفا عن هذا الموقف المشاهد من قبل إبليس، والذي تكبر فيه وكفر قبل أن يطلب إبليس طلبه الذي رغب فيه أن يمد الله له في حياته لا بقصد تعليل موقفه، وإنما بقصد التكثير من عدد الخارجين على الأمر الإلهي من بني آدم " قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون" واستجاب الله لطلبه كما تقتضيه الحكمة الإلهية " قال فإنك من المنظرين* إلى يوم الوقت المعلوم" ، واستشعر إبليس أن وقت عمره أصبح طويلاً وأن أمامه فرص الغواية والإضلال لا تكاد تحصى " قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم".
تحددت إذن نية إبليس ووسيلة إغوائه وصبره ومثابرته على الغواية والإضلال.
غير أن الإنسان يكفيه أن يظهر قليلاً من حسن النية وأن يتوجه بإخلاص القلب إلى الله وحده وأن يكبح جماح شهوته من الداخل ليضمن سد منافذ الشيطان عنه، وهو ما وعد به رب العزة في نفس الموقف حين قال لإبليس: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من تبعك من الغاوين" ولقد أدرك إبليس هذه الحقيقة من أول مرة فقال مستثنياً من غواياته "إلا عبادك منهم المخلصين" وقال عن آماله في المستقبل : "فلا تجد أكثرهم شاكرين" معنى ذلك أن إبليس وإن لم تكن الطرق معبدة أمامه لإغراء المخلصين فإنه قانع بغير المخلصين وهم الكثرة كما يتوقع هو، وقد حكم الله عليه وعليهم "إن جهنم لموعدهم أجمعين".
ويتضح أمام آدم وبنيه من ختام الحديث المطول بين إبليس ورب العزة عدة حقائق هامة منها: أن طول العمر وكثرة عرض الدنيا في اليد والتمتع بالصحة والعافية ليست علامة على رضا الله والسعادة في الآخرة، ومنها: أن أتباع إبليس وهم الأكثرية لن يتمتعوا بسعادة الدارين وإنما هم في قلق وحيرة في الدنيا وملعونين من رحمة الله في الآخرة، ومنها : أن الإنسان يكفيه أن يحدد العلاقة بينه وبين الله ليأخذ الله بيده من طريق الغواية ويسد عنه منافذ الضلال والإضلال وهذا معنى حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يحكيه عن رب العزة : " ما تقرب إلى عبدي بأفضل مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإذا تقرب إلى عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلى ذراعاً تقربت إليه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة ـ .
وإذا استطاع الإنسان أن يكابد نفسه وارتفع عن الغواية وفعل حسنة من الحسنات فإن القرآن يحددها له بعشر "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" ، أما من جاء بالسيئة "فلا يجزى إلا مثلها"، ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة، وأما من فعلها فقد كتبت له سيئة واحدة " .
وبهذه الطريقة يقع التعادل بين قوى الشر والخير وبين طريقي الخير والشر، أو بين الرذيلة والفضيلة من غير أن يكون هناك ترجيح لجانب على الآخر، وإن كان هناك ترجيح فهو إلى جانب الفضيلة أكثر، وصدق الله حيث يقول: "وهديناه النجدين".
آدم وحواء
لقد استكملت الخلافة جزءاً هاماً من عناصر تكوينها، واستطاع الخليفة أن يحتوي بما سكبت العناية الإلهية فيه على مقومات هامة من مقومات شخصيته كخليفة.
فهو قد اكتسب تكريمه وتفضيله على الأشياء، واكتسب كذلك القوى المفكرة التي يستطيع بها أن يستوعب ويحلل ويقارن ويناظر، كما اكتسب إطلاق الغرائز فيه ورسم طريقي الخير والشر أمامه، وتعادل هذه الطرق، واتضح أمامه مصدر الشر والغواية، وتبين الفرق بين الطبيعة الخيرة والطبيعة الشريرة ومسار كل منهما، بحيث يكون مرشداً قوياً له على طريقي الهدى والنور، وهذه وغيرها أمور ستتعلق بها نيابة آدم عن الله في تطبيق شرعه وإنفاذ أمره.
غير أن الخلافة لن تكون فترة محددة من الزمن تقاس بعمر آدم كفرد، ولكنها فترة أطول من ذلك تقاس بعمر الإنسان كنوع.
ولما كانت الخلافة عن الله لا تنقضي بانقضاء آدم الفرد فإنها تحتاج لاستكمال بعض معالمها بحيث يجد الخليفة طريقاً للتعاقب والتوالد، أو طريقاً للخلود والبقاء.
والخلود الفردي لن يعطي فرصة واسعة لتطبيق معنى الخلافة وإنفاذ شرع الله، وإنما يتحقق بالتوالد كثرة من البشر يتحقق فيهم تطبيق الخلافة وتحقيق معنى شرع الله أمراً ونهياً بطريقة إجرائية واضحة.
ولما كانت الخلافة تحتاج إلى التوالد، وكان الكون كله يقوم على فكرة السلب والإيجاب، "ومن كل شئ خلقنا زوجين" اقتضت العناية الإلهية أن يستكمل آدم الجزء الذي يتم به التوالد والتعاقب وهو حواء ، فبإيجاد حواء إلى جوار آدم يوجد النسل وتكثر الذرية، فأوجد الله حواء وهي العنصر السالب بعد إيجاد آدم وهو العنصر الموجب.
والبدهية العلمية تقتضي أن يكون السالب والموجب من نوع واحد إذ لو لم يكونا من نوع واحد لما تحقق الإنجاب حاملاً لصفات النوع بعينه، ويؤكد القرآن الكريم أن حواء عندما خلقت لم تكن من الجن، وهي ليست من الملائكة. وعلى الجملة فإنها ليست من نوع آخر يختلف من نوع الإنسان ففي سورة الأعراف: "وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به"، "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها " .
نحن نميل إلى القول : بأن كلمة (منها) إنما تفيد النوعية، فمن نوع آدم خلقت حواء، ولقد مال الكثرة من المفسرين إلى أن التبعيض هنا يفيد التبعيض المادي، فحواء إنما خلقت كما يرون من بعض جسد آدم، وهي فكرة موجودة في الكتب المقدسة القديمة.
ويحكي الفخر الرازي وجهة النظر هذه مفصلة ولباب القول فيها أن الله قد نزع ضلع من أحد جوانب آدم وأنبت مكانه لحماً ثم خلق من هذا الضلع حواء وتمت هذه العملية كلها في لحظة نوم طبيعي لآدم فاستيقظ فإذا حواء كائن مكتمل الخلقة فسألها: من أنت ؟ فأجابت : حواء. فقال: ولماذا خلقت؟ قالت لتسكن إلى.
ولعلهم يستشهدون لذلك بأصل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي معناه : استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقومه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج والظاهر عندي أن هذا الحديث وما يتابعه من الأحاديث في معناه إنما يتحدث عن الطبائع والشمائل لا عن الخلقة والأصل مثله تماماً كمثل ما يقوله النبي "رفقا بالقوارير" وغيره مما يتحدث عن طبع المرأة وخصالها ولفت الرجال إلى هذه الطبائع والخصال.
والله أعلم بمراده حيث لا نستطيع بالمقاييس العلمية أن نحقق هذه القضية التي سكت القرآن عنها.
والقرآن حين يغفل قضية ما أو حين يتعمد أن لا يناقش جزءاً من أجزاء قضية ما إنما يلفت النظر إلى أن هذا الجزء أو تلك القضية لا تشكل خطراً على عقيدة المرء أو سلوكه. وليس للإنسان حينئذ أن يثير هذا الذي تركه القرآن عمداً ليخلق منه قضية جدلية لن يصل فيها إلى قول فصل.
وبعد أن خلق الله حواء من جنس الإنسان أو من بعضه حسبما شاءت العناية الإلهية أمر الله آدم وحواء أن يسكنا الجنة.
وظاهر النص الكريم أن آدم قد خلقت له حواء قبل أن يدخل الجنة دخولاً فعلياً، وإن كان أسلافنا الكرام قد رأوا ضرورة التأويل في النص على أساس أن آدم قد خلقت له حواء بعد أن أسكن الجنة، فلما طرد الله منها إبليس لعصيانه قال لآدم وزوجته : "اسكن أنت وزوجك الجنة" بعد أن خرج منها إبليس
وما لا يحتاج إلى تأويل أقرب عندي مما يحتاج إلى ذلك التأويل، والنص واضح وظاهر لا سترة به.
سكن آدم الجنة
يستطيع الإنسان بلمحة خاطفة أن يدرك أن خلافة آدم قد استكملت من الناحية النظرية، واستوفيت جميع أركانها بحيث لا يكون هناك زيادة لمستزيد، أو فضل يمكن الاستغناء عنه.
غير أن الأشياء النظرية تبقى نظرية حتى يتأتى لها أن تطبق تطبيقاً عملياً، والأفكار تظل أفكار مجردة حتى يتاح لها أن تطبق على الواقع تطبيقاً ملموساً مشاهداً.
وقد يستطيع الإنسان أن يحصل النظريات في العلوم المادية تحصيلاً جيداً فإذا نزل إلى أرض الواقع للتطبيق ربما تخطئه الوسيلة أو يغيب عنه الهدف، وقل مثل ذلك في نظريات الأخلاق وضبط السلوك ومعالجة الشيم والحث على حسن السيرة والارتفاع بالذات، ربما يعرف الإنسان النظريات الضابطة لكل هذا إلا أنه يعجز عن تطبيق ذلك تطبيقاً عملياً.
والذي يصحح المسار ويبعد بالإنسان عن الخطأ ويؤمنه من الزلل والزيغ ليس سوى التجربة العملية أمام المشرع والواضع لهذه القوانين فيصحح له أخطاءه ويلفته إلى أماكن الزلل عنده ويوجهه إلى وسيلة التصحيح حين يخطئ في وسيلة أو يقصر في بلوغ هدف.
ولباب القول : أن آدم وإن كان قد استكمل عناصر الخلافة من الناحية النظرية فهو بعد لم تتح له فرصة تطبيق هذه النظرية على نفسه في أضيق الحدود قبل أن ينطلق بها انطلاق المسئول عما يفعل المكلف بكل ما يأتي وما يدع.
وما كان للعناية الإلهية كما هو مقتضى رحمة الله أن تغفل هذه الجزئية في خلافة آدم في الأرض، فأتيح له ولزوجه فرصة الممارسة والتجربة التي تخضع للصواب والخطأ.
موقع الجنة التي أسكنها آدم
فأسكن الله آدم وذريته الجنة " اسكن أنت وزوجك الجنة " .
ويقف بنا أسلافنا من المفسرين وقفات طويلة للإجابة عن سؤال مؤداه: أين كانت الجنة التي سكنها آدم ؟ في الأرض أم في السماء ؟ جنة الخلد هي التي وعد الله المتقين أم هي بستان على الأرض أعد لسكني آدم وحواء ؟ .
وقبل أن نجيب على هذا السؤال نحب أن نلفت النظر إلى أن الإجابات التي عرضت لحل هذه القضية متعارضة ومتضاربة من حيث مضمونها، وهي في نفس الوقت متعادلة متكافئة من حيث الأدلة التي اعتمد عليها كل منها، ومن جهة ثالثة فجميع الأدلة التي اعتمدت عليها وجهات النظر المختلفة ظنية لا جزم فيها ولا حسم.
والقاعدة العامة : أن أي قضية من القضايا وأي مشكلة من المشكلات تجد لنفسها أجوبة معارضة من حيث الحقيقة متكافئة من حيث الاستدلال، ظنية من حيث حقيقة الدليل وقيمته العلمية، تكون هذه القضية أو تلك المشكلة بين أمرين، إما أن تكون قد وضعت وضعاً خطأ فحار الناس في الإجابة عليها دون أن يلتفتوا لوضعها الخطأ، أو أن الإنسان نفسه لا يملك الطريق والمنهج الذين يستطيع من خلالهما أن يحسم هذه القضية أو تلك المشكلة.
والقضية التي نحن بصددها (مكان جنة آدم) من القضايا التي لا نملك المنهج العلمي لبلوغ أغوارها وحلها حلاً مرضياً جازماً.
ولو أن القرآن الكريم قد حددها لنا لاستطعنا من خلال هذا التحديد أن نعرف حقيقة الجنة ومكانها .
غير أن القرآن لا يذكر من الأحاديث والوقائع عادة إلا ما يكون له من أهمية خاصة أو عامة تتعلق بأفراد النوع الإنساني أو بالنوع كله، أما الأشياء الهامشية التي لا تشكل خطراً فكرياً أو عقائدياً ولا تتصل بالسلوك الإجرائي أو العملي، فإن القرآن لا يذكرها عادة ، فهو ـ مثلاً ـ لم يحدد اسم أم موسى "وأوحينا إلى أم موسى" ولم يحدد اسم الرجل المؤمن من آل فرعون الذي عارض فكرة القتل الواردة في الآية " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ". ولم يحدد أي فتاة تزوج بها موسى من بنات شعيب. أهي الصغرى أم الكبرى؟ "إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين" ولنفس السبب لم يحدد مكان الجنة التي أسكنها آدم، فنوع الجنة ومكانها لا يشكل أدنى خطر عقائدي أو اجتماعي أو فكري.
وحين يقحم المفكرون أنفسهم في حل قضايا من هذا القبيل يخلقون منها مشكلة فكرية يصممونها تصميماً يبدو جاداً وهو في نفس الوقت لا يعبر عن قيمة علمية، حين يفعل المفكرون ذلك إنما يضعون أنفسهم وقراءهم على عتبة فصل كبير من السياحة الذهنية والترف العقلي الذي لا فائدة ترجى من ورائه.
فنحن لا نناقش القائلين : بأن الجنة هي جنة عدن وهي دار الخلود في الآخرة.
ولا نناقش كذلك القائلين : بأن الجنة هي بستان على الأرض هنا أو هناك، نحن لا نناقش هؤلاء ولا أولئك لأنهم سيصلون بنا في النهاية إلى طريق مسدود، وإنما نحن ننجذب فكرياً إلى أصحاب الرأي القائل: بأن الآراء الواردة ممكنة.
( والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم)
آدم على الأرض
فتتوقف قصة آدم تقريباً عند هذا الحد في القرآن فلم تتابع القصة حياة آدم إلى نهايتها لأنها ليست غرضاً مستهدفاً، غير أن الإيحاء واضح بأن آدم على الأرض لم يخالف المنهج، إذ إن مخالفة آدم للمنهج على الأرض يكون من قبيل العصيان الحقيقي لا الشكلي، وهو أمر يتنزه عنه الأنبياء والمرسلون، وآدم في نفس الوقت سيكون بالنسبة لبنيه المثل الذي ينبغي احتذاؤه والنموذج الذي يتعين محاكاته فهو منهج الله الذي تجسد على الأرض .
والإنسان في كل عصر لا يخلو عن غريزة حب المحاكاة للعظماء والتقليد لمن يراهم أفضل منه.
ومن رحمة الله بالخلق أنه لم يغفل فيهم هذه الغريزة فجعل لهم الأنبياء مثلاً يحتذى لمن أراد لنفسه الفضيلة، ولكيانه الكرامة والعزّة.
لكل هذا لا يتأتى من آدم على الأرض أن يخالف المنهج في قليل أو كثير.
غير أن الله لم يشأ أن يغمض آدم عينيه قبل أن يرى أول مخالفة لمنهج الله تقع على يد أحد أبنائه وتتصل بأحد أبنائه كذلك حين تجرأ أحد ابني آدم على قتل أخيه واضعاً أول سنة سيئة في تاريخ البشرية جمعاء (ومن سنّ سنة سيئة في الإسلام فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) فهو يعاقب على الوزر مرتين لأنه قد أخطأ كذلك مرتين مرة بارتكاب الجريمة ومرة بنصب نفسه مثالاً للشر يحتذى (إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون).
وقفة تأمل
يشيع على ألسنة العامة أن الله حين أخرج آدم من الجنة كان ذلك بسبب عصيانه بالأكل من الشجرة، وهذا شئ غريب على أسلوب التفكير المستقيم، ذلك أن آدم قبل أن يخلق تحددت مهمته كخليفة على الأرض ولو لم يخرج من الجنة لكان للعاقل أن يتساءل عن سبب بقائه فيها.
وكان الأولى بالمفكرين أن يعالجوا القضية على هذا النحو، لماذا دخل آدم الجنة ؟ ولكنهم عالجوها خطأ حين تساءلوا عن سبب خروج آدم من الجنة.
وحين يسأل المفكر عن سبب دخول آدم الجنة تكون الإجابة واضحة ـ كما أسلفنا ـ أما حين تسأل لماذا خرج ؟ فإننا نسأل عن بدهية معروفة ثم نحاول أن نتطرف لترتب خروجه على مخالفته، وهو أمر غير معروف الصلة كما علمت .
وهكذا تنتهي قصة آدم أو قصة بدء الخلق كما يصورها القرآن وكما يصورها العلم الحديث والقديم وعلى العاقل أن يوازن بينهما ليعرف أين الترابط المنطقي، والتسلسل الفكري فيقتنع بما يشاء كيف يشاء، إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه مسئول إذا أقنع نفسه بغير دليل أو تطرف على غير منهج لأن الله قد منحه إمكانية العلم ووسائل المعرفة، وأخبره أنه سيكون مسئولاً عن استخدامها (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً) ، (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
الإنسان بين بدايته ومنتهاه
ـ
يمتاز الإنسان بين سائر الكائنات بميزة تجمع جميع المميزات التي يتميز بها عن غيره تقريباً، وهذه الميزة تكمن في استعداد الإنسان التطور والترقي.
ونقول : إن هذه ميزة له، وقد قال بهذه الميزة غيرنا من العلماء والمفكرين بحيث جنح بعضهم إلى تعريف الإنسان بأنه هو الحيوان الراقي أو المتطور.
وتطور الإنسان أو على الأحرى استعداده للتطور يأتي على محاور ثلاثة، كل محور منها يمثل بعداً يمكن للإنسان أن يتطور ويرقى فيه، وإن كان الموضوع نفسه في معظم الأحيان لا يقبل التطور أو التغير.
ونضرب هنا مثالاً لتوضيح الفكرة بين الموضوع الثابت والإنسان المتطور فنقول: إن الفرد منا يحاول أن يرقى على درج أو معراج، وهو يقصد الوصول إلى غاية عليا ومحسوسة، وكل ما يرقى الفرد منا درجة على هذا المعراج، فإن هذه الدرجة تقربه من غايته بمقدار نسبة رقيه، ويظل يرقى إلى أقصى الغاية التي يستطيعها، فإذا ما وصل إلى غايته، قلنا: إنه قد رقى وصعد، وعلوه وصعوده حالة له هو تقابل الحالة التي كان فيها قبل رقيه وصعوده، غير أن غايته ثابتة، والمعراج الذي كان يرقى عليه ثابت هو الآخر.
ونحن نوضح هذه الفكرة بهذا المثال قبل أن ندخل إلى توضيح الأبعاد الثلاثة التي يرقى الإنسان فيها، أو هو مستعد للرقى فيها، كي ندفع به شغب مشاغب أو نرد به لجاجة ملتاع يظن أنه قد وجد فرصة يشاغب بها من خلال ما نكتبه بعد.
ونعود إلى شرح الأبعاد الثلاثة التي يمكن للإنسان أن يرقى فيها.
1ـ وعـي التوحيد : ـ
(هذه الفكرة هي قاسم مشترك بين كل النبوات التي عاشها الإنسان منذ أن خلقه الله على وجه الأرض).
ويجب أن يكون واضحاً غاية الوضوح من حيث المبدأ : أن التوحيد في حد ذاته مسألة لا تقبل الرقي أو التطور، والرسالات السماوية في مصادرها الصحيحة لم تتحدث عن التوحيد بأنه مبدأ متطور متغير، ولكننا في الوقت ذاته نفرق بين التوحيد باعتباره صفة تتصل بالله عز وجل، ووعي التوحيد باعتباره صفة تتصل بالإنسان ، فالتوحيد يكون صفة لله عز وجل، غير قابل للرقي أو التطور، ووعي الإنسان باعتباره صفة إنسانية. ليست ذات درجة حدية، وإنما هي بنفسها ذات درجات من العمق والأصالة والتركيز والترسيخ، ولذا فهي ذات درجات متفاوتة.
وكان لابد بمقتضى الحكمة الإلهية أن يهيأ الإنسان لها بالتدريج، هذا الإنسان الذي غرق بمقتضى تركيبه العضوي، والطبيعي في حسه ودنياه، حينما يدعي إلى فكرة التوحيد لابد أن ينتزع من عالم حسه ودنياه بالتدريج لكي ينفتح على فكرة (التوحيد) التي هي فكرة (الغيب).
وظل الإنسان يرقى في هذه الفكرة ويتطور تحت عناية الرسالات السماوية المتعاقبة، وبتوجيه من الوحي الإلهي المتصل إلى أن وصل إلى كمال رشده، في ظل الرسالة الخاتمة.
2ـ المسئولية الأخلاقية : ـ
هذا هو البعد الثاني الذي يمكن أن يرقى الإنسان فيه ويتطور.
وهذا الاتجاه الثاني أو الخط الثاني من خطوط التطور يتصل بعلاقة الإنسان مع أخيه الإنسان، أو بعلاقة الإنسان بتصرفاته الشخصية.
وهذا البعد يعتبر بعداً عملياً منبثقاً عن البعد الأول، وهو البعد التصوري.
وباعتبار أن هذا البعد بعداً عملياً، فهو يحتاج إلى جملة من التشريعات التي تضبطه من ناحية، وترقيه من ناحية أخرى.
وفلسفة التطور الأخلاقي التي فطر عليها الإنسان يمكن تلخيصها في استحضار الواقع الإنساني إلى جوار الصورة التطلعية لبني البشر.
والتعبير عن ذلك بشكل أوضح أن نقول : إن الإنسانية في حالتها المستقيمة تعيش واقعها وتمارسه، ولكنها ترفض الاستمرار على هذا الواقع إذا تحول أمامها إلى صورة نمطية متكررة، وحين تثور الإنسانية على نمطية الواقع، ينبغي أن ترسم أمامها صورة لمستقبل يعبر عن شئ من الرقي، وفي نفس الوقت ينبغي أن يرسم إلى جوار الصورة المستقبلية التي تنشدها الإنسانية وتبغي الوصول إليها صورة أخرى للطريق الذي يوصل إلى تلك الغاية.
وتبدأ الإنسانية بعد رسم الصورتين في أخذ الطريق إلى تحقيق هدفها المأمول وبعد فترة تطول أو تقصر تصل الإنسانية إلى هدفها فيتحول الأمل الذي كان صورة مأمولة إلى واقع محسوس وممارس.
وتثور الإنسانية على هذا الواقع إذا تحول عندها إلى صورة نمطية، ثم تدخل في جولة جديدة مماثلة لما قامت به من قبل.
تلك هي (1) فلسفة التطور في جانب الأخلاق، وهي فلسفة شاقة لا يتحمل التخطيط لها ورسم صورها الجهد البشري.
3ـ سيطرة الإنسان على الطبيعة : ـ
هذا هو البعد الثالث من الأبعاد التي يتأتى للإنسان أن يتطور فيها.
وهو بعد يعبر بالدرجة الأولى عن علاقة الإنسان بالكون، واستثمار قوانينه وترويضه وفقاً لنظامه الذي يحكمه.
وتطور الإنسان في هذا الجانب، ورقيه في معاملته مع هذا الكون موجود معه منذ أوجد الإنسان على هذه الأرض لأول مرة وهو مستمر معها.
[ ولن يقف عند مرحلة من المراحل على الإطلاق .
الإنسان سوف لن تقف سيطرته ـ بإذن الله ـ عند مرحلة من مراحل الاستيلاء على الكون والطبيعة، وإن انتهى استيلاؤه على الأرض فلسوف يفكر بالاستيلاء على بقية الكواكب، وعلى جميع أبعاد الكون.
إذن فهو في نمو مستمر لا ينقطع، ولا توضع له حدود مفترضة من هذه الناحية ]
والمتأمل في هذه الأبعاد الثلاثة التي تقبل أن يتطور الإنسان فيها يجد أنها على ما بينها من صلات مفهومة إلا أن الإنسان بالنسبة للعامل الأخير، أو البعد الأخير يمكنه أن يقف على أسراره بنفسه حين يبذل فيه شيئاً من المجهود.
فالله عز وجل قد خلق العالم الكوني على نظام ثابت، وطبقاً لقوانين ونظم في طاقة الإنسان أن يكتشفها.
وهو حين يكتشف الواحد من هذه القوانين يسلم له أبناء نوعه اكتشافه، ولا يقيمون حوله جدلاً أو لجاجة.
وعي بالتوحيد والأخلاق
أما البعد الأول وهو ما يتعلق بالتوحيد وتطور الإنسان في فهمه، فعقل الإنسان قاصر حين يريد أن يتصور كل ما يتعلق بالذات الإلهية ، أو يقف على حدودها.
فهو محتاج إلى الرسالة السماوية لكي تمده بالزاد الذي يعينه ويغنيه في هذا المجال.
يبقى أمامنا بعد من الأبعاد التي تقبل التطور والترقي وهو البعد الخلقي الذي ينظم علاقة الإنسان بالإنسان.
وحين نتساءل عن القاعدة التي يدور عليها هذا البعد وعن محور الارتكاز فيه نجد أنفسنا أمام خضم هائل من الآراء والأفكار الإنسانية التي لا نريد عرضها ولا نحرص على استقصائها بقدر رغبتنا في الجنوح إلى تحليل الموقف الإنساني لنصعد من هذا التحليل إلى نتيجة نراها هي القاعدة والأساس، وهي الأسلوب والنظام الذي يضمن سلامة المسيرة في حركة الترقي في هذا البعد بالذات
إننا نستطيع أن نسمع أو نقرأ من خلال الفكر الحديث أو القديم أن هناك واحدا من البشر عاش في غاية منعزلة أو جزيرة مهجورة أو ربوة بعيدة عن المجتمع والناس. ومارس حياته على هذا النحو متوحداً ومنفرداً قاصياً ومنعزلاً.
وهو يستطيع أن يأخذ من الطبيعة طعامه من ثمار الأشجار وخضرة الأرض وما تجود به الطبيعة عليه يتناوله كما هو دون تعديل أو تحوير، وهو يلبس ليستر عورته إن أراد من خصف الشجر. ويتقي البرد بجلود الهالك من الحيوان، ولا يحتاط لنفسه بمسكن يأويه إلا إذا آلمه البرد فينزوي إلى مكان دافئ، أو إذا خاف المفترس من الحيوان فيتقيه بالصعود على المرتفع من الأغصان. وعلى الجملة فهو يعيش وحده عيشة الأوابد من الحيوان والمتوحش من غير الإنسان، وسواء أكان ما يروى عن بعض أفراد الإنسان صحيحاً أو غير صحيح واقعاً، أو خيالاً فإنها تعبر عن حالات بادرة، وقصص لا تتكرر إلا على تباعد الزمان وافتراق المكان
أما الكافة من البشر فإنهم لا يستطيعون أن يعيشوا هذه العيشة، ولا أن يمارسوا حياتهم على هذا النحو من الممارسة.
فما كان لبشر أن يأخذ نفسه بهذا الأسلوب الصعب إلا إذا قهر شيئاً في وجدانه وحارب غريزة من غرائزه.
فلقد أجمع المتخصصون في دراسة الإنسان كعلماء النفس والاجتماع على أن في الإنسان غريزة أودعها الله فيه وهي تشكل جزءاً من طبيعته وفطرته، وهي غريزة حب الاجتماع، وهم يعبرون عن هذه الخاصية في الإنسان بقولهم (الإنسان مدني بطبعه).
ومدنية الإنسان التي هي جزء من طبيعته تجعله يخالف غيره من سائر المخلوقات ذلك أن سائر المخلوقات لم يرزقها الله العقل والتفكير لكي تبحث عن معايشها وتدبر حياتها على أساس من الفكر والمنطق والتخطيط والتدبير، ومن هنا فإنك ترى خالقها قد أودع فيها خاصية أخرى توجهها إلى تدبير حياتها ويمكننا أن نصطلح على تسمية هذه الخاصية بالإلهام، وهو المقصود في نحو قوله تعالى، "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا " (1).
وبهذا الإلهام توجهت النحلة إلى اختيار وحدة السكن داخل الخلية على شكل سداسي لأنها ـ النحلة ـ قريبة من الاستدارة ، وهي تريد أن تستهلك في مساحة الخلية، فلو أنها جعلت الوحدة السكنية مربعة الشكل لفاضت عن جسمها من كل جانب وكان الفائض مستهلكاً، وقل مثل ذلك في المثلث والمستطيل. ولو أنها اختارت وحدة السكن داخل الخلية على شكل مستدير لكان يناسب جسمها، ولم يفض عنه من الداخل شيئاً. ولكن الوحدات السكنية حين توضع داخل الخلية المتكاملة سيكون بين كل وحدة وأخرى مساحة خالية مستهلكة، فكان لابد من حل تتوفر معه المساحة في الداخل والخارج، وأقرب هذه الحلول هو الشكل السداسي.
وأنت حين تتأمل مثل هذا تعتقد أنه صادر عن فكر وروية، والحق أنه صادر عن إلهام، وهو لون من ألوان الوحي.
وتستطيع أن تجد ذلك في كثير من مخلوقات الله الحية، وهي تنظم سكنها أو تبحث عن رزقها، وليس هناك من المطالب الضرورية، والمعايش الملحة ما يحتاج إلي تدبير أكثر من السكن وتحصيل الأرزاق.
ولم يتوفر للإنسان في فطرته الأولى خاصية الوحي أو التوجيه بالإلهام لتحصيل المعايش، ولكن الله قد أبدله خاصية الفكر والمنطق، وغريزة الاجتماع والائتلاف لكي يعتمد في تحصيل معايشه على عقله، وفكره.
والإنسان ليس مدنياً باختياره، وليس اجتماعياً بإرادته الحرة وإنما الاجتماع فيه ضرورة يلجئه إليها غريزة حب البقاء، ويلجئه إليها كذلك استمرار حياته ووجوده.
ومن هنا يكون الاجتماع ضرورة، إنه ضرورة يتطلبها بداية وجود الإنسان وهو ضرورة أيضاً لاستمرار هذا الوجود.
ويشرح الإمام الغزالي هذه الضرورة المزدوجة فيقول بعد كلام له في هذا المجال [ ثم إن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين :
أحدهما : حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما.
فهو لذلك يحتاج لبني نوعه احتياجاً يجعله يقوم بالاتفاق معهم بتوزيع الأعباء وتبادل المنافع بحيث يقوم البعض بمهنة وتخصص يعود نفعه على الجماعة، ويفعل بعض آخر مثلما يفعل البعض الأول في مهنة وتخصص يختلفان عما قام به البعض الأول، وهكذا حتى يغطي الجماعة بتقسيم الأعباء جميع احتياجات الأفراد من الضروريات والكماليات، وتكون هذه هي الضرورة الثانية من الضرورات التي تحتم الاجتماع، بحيث يستشعر هذه الضرورة الأفراد والجماعات على السواء.
وهذه الفكرة التي يلحظها الغزالي قد سبق إليها، وعثرنا عليها مسطرة في فكر السابقين عليه مثل الفارابي في المدينة الفاضلة، وابن سينا في أكثر من كتاب له ككتابي الشفاء والنجاة، وعلماء الكلام في حديثهم عن النبوات واحتياج البشر إليها كما فعل كتاب المقاصد لسعد الدين التفتازاني.
وهذه الفكرة قد استغلت بعد الغزالي كذلك في الشرق والغرب فهي موجودة عند عبد الرحمن بن خلدون، وهي نفسها التي اعتبرها الغرب ميزة المفكر الاجتماعي إميل دوركايم (1858 ـ 1917م) (1).
وسواء عثرنا على هذه الفكرة عند هذا المفكر أو ذاك، فهي إنما تعبر عن واقع تحياه الجماعة الإنسانية منذ أن وجد الإنسان، وقبل أن يوجد هذا المفكر أو ذاك.
وبتقدم وسائل الاتصال في المجتمعات الحديثة ظهرت الاحتياجات، وتبادل المنافع كأقوى ما يكون الظهور قصداً إلى دفع المكروه، أو تحقيق المرغوب.
وهكذا ثبتت العلاقات المحتومة بين بني البشر على نحو لا يقبل الفكاك لما يتصف به من الحتمية التي لا رجعة فيها.
فنحن مضطرون إلى العيش في جماعة، ونحن مضطرون داخل الجماعة إلى أن نوزع الأعباء المعيشية فيما بيننا، وأن يحصل كل منا من أسباب وجوده من أفراد الجماعة التي يحيا داخلها، ويعطي لهذه الجماعة من نتاج عمله، ما يسد بعض احتياجاتها من وسائل المعيشة.
وهكذا يمكن القول: بأن كل فرد من المجتمع يشكل جزءاً هاماً في جسم هذا الكل المجموعي، وهذا الكل المجموعي يشكل بالنسبة إليه أجزاء هامة لا يمكن تغافلها أو تناسيها، معنى ذلك أن كل فرد من أفراد الجماعة يشعر بأنه جزء هام في الجماعة ، وأن أفراد الجماعة أجزاء منه.
واستناداً إلى ذلك ربما نستطيع أن نقول : إن هذه الجماعة المتكاملة فيما بينها تندفع في تحقيق رغباتها بقانون المحبة، فكل فرد من أفراد الجماعة يستطيع أن يعامل سائر الأفراد مستنداً إلى هذه القاعدة الراسخة، وهذا الرباط الصلب من محبة الإنسان لأخيه الإنسان
اختيار البشرية لنفسها بعيدا عن منهج السماء
ولقد تخبطت البشرية العاقلة حين أرادت أن تختار بعقلها أساساً يضبط التعامل فيما بينها، فاندفع فريق وراء شهواته، فظهرت اللذة كأساس العلاقات الإنسانية في بعض المذاهب سافرة واضحة، وفي بعض المذاهب الأخرى مستورة مقنعة.
"فأرستبوس" يعتمد عليها اعتماداً لا يمنعه الخجل أن يصرح به في أخس صوره.
ويختار "أبيقور" فيما بعد هذا المذهب بعد أن وازن بين اللذات وركز على الأدوم منها والأكثر بقاء.
ثم تتطور الفكرة في العصر الحديث لتظهر لنا مغلفة بستر المنقعة سواء أكانت هذه المنفعة منفعة الفرد أو منفعة الجماعة.
وهذا الأساس لا يعبر عن الرقي الاجتماعي؛ بل إنه لا يرتفع بالإنسان فوق الأنواع الهابطة، ولا قيد أنملة (1).
وهناك بعض العقليات الشابة، والأفكار المتسرعة ترى في أسس المحبة، والمنفعة شاعرية لا نليق بالمجتمع ولا تتلاءم مع قانون الحياة، وترى فيهما وفي أمثالهما نوعاً من الضعف الإنساني، والتخاذل في تحقيق الذات إلى درجة لا يفتأون يعبرون عن استيائهم الشديد منهما؛ وعن خجلهم الذي لا حدود له.
وفي هذا المجال ترى الفيلسوف الألماني "نتشه" يمجد القوة وحب الغلبة، ويمقت الضعف والانهزامية، والإنسان لكي يحقق آدميته في هذه الحياة لابد أن يقهر في نفسه أولا عوامل الضعف بحيث يستأصل منها كل معنى يشير إلى الرحمة أو العطف، أو الحثو على الضعفاء والفقراء والمعوزين، إن القوة إذا هي خير ما يحقق للإنسان آدميته، ويحقق له رقيه في هذا الكون الفسيح، والقوة في ذات الوقت متلائمة ومنسجمة مع قانون الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأقوى دون سواه.
وهذا المنحى قد انتقده أصحاب الرأي والفكر، وثار عليه عقلاء النوع الإنساني، واعتبروه لوناً من الحماسة التي لا صلة لها بالتفكير (1).
ويرى أصحاب البصيرة من الناس أنه لا بقاء لشريعة تأسس على اللذة أو المنفعة ولا يصلح منطق القوة أن يؤسس عليه شئ من التشريع أو مبادئ القانون، ولابد أن يحل شئ آخر محل الرحمة لا يعتمد على منطق القوة أو المنفعة.
ورأى هؤلاء أنه لا يصلح لهذه المهمة إلا مبدأ العدل.
إن العدالة مبدأ سام وشيد عليه وبه قامت السموات والأرض، وهو وحده الذي يصلح لقيادة هذه البشرية بحيث يعد مطلبها السامي، وأساس تشريعها المتين.
غير أن العدالة التي ينشدها أهل الرأي والبصيرة، ويتطلع إليها العقلاء والمفكرون لا تعدو أن تكون غاية قبلها وسيلة ، ونهاية لابد لها من طرق وسبل.
إننا إذا توصلنا إلى العدالة ربما نكون قد ظفرنا بشئ هام في حياة الفرد والجماعة، غير أن الطريق إلى هذه العدالة يحتاج يحتاج إلى قواعد وتشريعات ويكون أهل الرأي والبصيرة إلى الآن قد وضعوا أمام الإنسانية أملاً يحتاج إلى إيضاح السبيل إليه، والسبيل إليه قواعد وتشريعات، فمن له حق التشريع، ومن يختص بوضع القواعد وإيضاح السبيل إلى العدالة ؟ (2).
إن الإنسان في حياته الواقعية يحتاج إلى قانون ينظم سلوكه، وهذا القانون يختلف غاية الاختلاف عن قانون الطبيعة ومبادئ المادة.
إن قانون الطبيعة تعبير عما هو كائن، وربط العلل بمعلولاتها والأسباب بمسبباتها.
أما القانون الذي ينظم حياة الإنسان لا يعبر عن واقع أو موضوعية، ذلك أن الإنسان يشارك غيره من سائر المخلوقات باعتباره شيئا واقعيا، وطبيعة موجودة تعلن عن نفسها بوصفها شيئا تاريخيا.
غير أن الإنسان بطبيعته وواقعه التاريخي ووجوده كشئ وضعي لا يعدو أن يكون شيئاً قليل القيمة جداً بالقياس إلى هذا الكون الرحيب المتسع، ولكن خالقه قد ميزه بشئ يجعله يعادل هذا الكون بل ويتفوق عليه، ذلك أنه قد غرس في طبعه عدم الرضى بواقعه التاريخي وتميز بالثورة المستمرة على وجوده الوضعي، فهو يريد من وقت لآخر تشريعاً يحمله على فعل ما ينبغي أن يكون، ويحفزه لكي يثور على ما هو كائن، ويشعر بالقلق من وجوده حتى يتأتى له أن يغيره، ومن هنا فإن الإنسان يحتاج إلى مجموعة القواعد والقوانين التي ترقى بسلوكه نحو ما سيكون.
ولذلك كانت مجموعة التشريعات التي يحتاجها الإنسان لضبط سلوكه، والقوانين التي يحتاجها لضبط حياته تختلف غاية الاختلاف عن قانون المادة وأسبابها التي تعبر عن واقعها المحسوس.
وهذا التميز الذي يثبت للقوانين والتشريعات التي تختص بالإنسان يوحي إلينا بشيئين رئيسيين:
أحدهما : أن الإنسان هو المخلوق الوحيد في هذا العالم الذي يعتبر همزة الوصل بين ما هو كائن، وبين ما هو مأمول أو مرتقب على درج الرقي والكمال، فالإنسان حين يمارس أشياء إنما يمارسها لكي تتحول إلى شئ واقعي يفعلها ليترقى بشخصيته نحو القمة السامقة، ولكن هذا الفعل قبل أن يخضع للممارسة العملية كان أملاً مرتقباً للإنسان، وعليه فإن الفعل يظل ضمن طائفة الأفعال المرتقبة التي يتعلق الإنسان بها باعتبار أنها شئ لم يكن وينبغي أن يكون حتى يفعلها الإنسان فتتحول إلى شئ واقعي ووضعي، ويتعلق الإنسان بعد تحويل هذا الفعل من شئ لم يكن إلى شئ قد كان بفعل آخر ليس موجوداً ليحوله إلى موجود واقعي، وهكذا يتحول الإنسان بذاته إلى كائن مترفي أو كائن أخلاقي، ويكون هو الكائن الوحيد الذي يتميز بأنه حلقة حلقة الاتصال بين الواقع المشاهد، والمأمول المرتقب.
يقول الأستاذ زكريا إبراهيم :
[ إن هذا "الكائن الأخلاقي" الذي نسميه بالإنسان هو ـ وحده ـ الذي يحمل "أمانة القيم" صحيح أن الموجود البشري قد لا يمثل سوى كمية مهملة فانية في نطاق العالم، ولكنه مع ذلك أقوى من العالم نفسه ؛ لأنه حامل لمبدأ أسمى، إن نقل بأنه المبدع الحقيقي لذلك "الواقع" الحافل بالدلالة والقيمة؛ ما دام هو الذي ينقل إلى العالم الواقعي تلك "المعاني السامية" التي يأخذ على عاتقة مهمة اكتشافها. وعلى حين أن الطبيعة مضطرة إلى الخضوع لقوانينها الخاصة، نجد أن الإنسان ـ والإنسان وحده ـ هو الموجود الذي يحمل في باطنه قانوناً أسمى، ومن ثم فإنه يستطيع أن يخلق في العالم ـ ابتداء من اللا وجود نفسه ـ "مثلا عليا" كانت بمثابة إمكانيات كامنة في أعماق الوجود وربما كانت المعجزة الكبرى التي تصنعها الأخلاق هي أنها ترد للإنسان كرامته، وتحرك ما فيه من عنصر "سمو" أو "جلال" وتسمو به فوق المستوى الطبيعي البحت ] (1).
وثانيهما : أن الإنسان حين يشعر بتميزه في هذا العالم وأن تميزه يرجع إلى مجموعة القوانين التي تضبط سلوكه نحو تحقيق ما ينبغي له أن يفعله يحس من نفسه نشاطاً إلى البحث عمن يضع له هذه القوانين وينظم له تلك القواعد.
ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام الباحثين منذ عصور طويلة خلت وإلى الآن. ولعل هؤلاء الباحثين الذين تناولوا تلك المسألة بشئ من الاهتمام قد أدركوا الفارق بين القانون الطبيعي والقانون الذي ينظم سلوك الإنسان من حيث أن قانون الطبيعة يعبر عن واقع كما قلنا وهو من أجل ذلك كما هو منفذ أن وضعه خالقه، وما على الإنسان العاقل المتطلع إلى المعرفة والعلم إلا أن يبحث عن القانون في مظانه ويحاول أن يكتشفه أو يظفر به.
أما القانون الذي يضبط سلوك الإنسان فإنه لا يعبر عن واقع بقدر ما يحمل الإنسان على أن يحقق شيئاً لا وجود له، فإذا وجد تعلق القانون بغيره لكي يحقق للإنسان حركة دائمة نحو السمو والكمال.
وهذه الخاصية التي تتوفر لمثل هذا القانون لا تجعله أمراً واقعياً يتمكن الإنسان من اكتشافه ولكن من يتصدى للقانون الإنساني والتشريع البشري لابد أن يتميز بصفات وشمائل يستطيع على أساسها أن يعقد البشرية قواعد تضمن لها الرقي والكمال الدائمين.
ومن بين هذه الخواص وتلك الشمائل أن يرتفع المشرع فوق هواه ونوازعه الشخصية وأن يتأبى على المصلحة الذاتية والغرائز الفطرية.
ولابد أن يكون المشرع من جهة ثانية قادراً على تصور الحاضر والمستقبل فهو يأخذ من الواقع الذي يراه ويشاهده نقطة ارتكاز الصعود نحو الكمال في حاضر الإنسان ومستقبله، ويكون بصيراً بالحالة الواقعية التي سوف يتحول إليها السلوك البشري الذي هو يراه في الحاضر أمراً مغيباً وكامناً في اللاوجود، ثم يستطيع أو يتصور المرحلة التالية، وهي أكثر عمقاً في اللا وجود ويتصور وجودها في الواقع المحس ثم يتصور المرحلة التي تليها وهكذا.
ومعنى ذلك أن المشرع لابد أن يكون ذا بصيرة نافذة نلحظ ما في عمق الغيب انطلاقاً من الواقع المحسوس، وإلى أن يقضي العالم، وينتهي هذا الوجود المؤقت.
وليست هذه هي الميزات والشمائل التي يجب أن تتوفر للمشرع فحسب، ولكن لابد أن يكون ذا بصيرة نافذة يعرف بها احتياج الأفراد والجماعات، وقدرة فائقة يستطيع على أساسها أن يوازن بين العواطف والرغبات، بحيث لا يطغى عاطفة على أخرى فيصيب الأفراد بالكبت، والجماعات بالفوضى، أو التسلط والقهر.
ثم لابد أن يتوفر في المشرع شئ من القوة بحيث تضمن إخضاع جميع الأفراد والجماعات إلى ما أنتجه عقله من المبادئ والتشريعات فيخضعون لتشريعه خضوع الرضى والتسليم، لا خضوع القهر والعنف، وخضوع القناعة والفهم لا خضوع البغي والقهر.
فمن المعروف أن عظمة القانون تكون حين يرعاه الأفراد في السر والعلن، وحين يكون مؤسساً على الانسجام بين ظاهر الفرد وباطنه، أما أن يقوم القانون على الإسكات دون الإقناع، ويعتمد في تنفيذه على القهر دون التسليم والرضى، فإن مثل هذا القانون يحدث زلزالاً قوياً حين يشعر بمنطقة ضعف في القشرة الخارجية والإطار الظاهري الذي أوجدته القوة بالقهر والتسلط، ويسيطر هذا الزلزال على العواطف والمشاعر فيروح المجتمع في فوضى يعجز المشرع، ومنفذ القانون جميعاً عن ضبطه والسيطرة عليه.
ومن هنا كنا نجد حتى في القانون الذي يضبط حركات المجتمع اختلافاً شديداً بين جهابذة العلماء حول صفات المشرع ومن توكل إليه هذه المهمة، وما إذا كان المشرع واحداً ممن سيبق عليه القانون، أو لابد أن يكون رجلاً من خارج المجتمع حتى يضمن المجتمع أنه لا ينطلق من أهوائه وعواطفه، وهو يقعد السلوك الناس.
ولقد كان [ العرف السائد بين معظم الدول الإغريقية أن تعهد إلى أجانب بوضع قوانينها. كما أن الجمهوريات الحديثة في إيطاليا كثيراً ما اتبعت هذا التقليد. وكذلك جنيف لجأت إلى نفس الطريقة واستفادت منها. وقد شهدت روما في عصرها الذهبي جميع جرائم للطغيان تعود بين ظهرانيها، وكادت تهلك لا لشئ سوى أنها وحدت السلطة التشريعية، وللسلطة السيادية في يد واحدة ] (1).
غير أن الملاحظ أن القوانين والتشريعات التي وضعت إلى الآن لم تستحوذ محليا قدر كاف من رضى الناس على طول الزمان وتوالي العصور، وهذا يدل على قصر نظر المشرع، وتأثره ببشريته، وقلة استيعابه لطبائع الناس ووجداناتهم، وتعدد علاقاتهم وتنوعها.
ولكن بعض الباحثين قد لاحظ أن القانون، أو التشريع إذا كان له صلة بالسماء اكتسب من هذه الصلة احتراماً وقداسة بمقدار ما له من حجم هذه الصلة.
ففي كتاب العقد الاجتماعي : [ إن الشريعة اليهودية ما زالت حية، والشريعة الإسلامية التي حكمت نصف العالم مدى عشرة قرون، ما برحت حتى اليوم تعلن عن عظمة أولئك الذين وضعوها، وقد لا يرى فيهم أولئك الذين أعمتهم الكبرياء الناجمة عن الفلسفة، أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسنى الحظ، ولكن السياسة الحسنة تعجب في أنظمتهم بتلك العبقرية العظيمة القادرة التي تتصدر المنشآت الخالدة ] (1).
ولم يتوقف كاتب هذه الصفحات طويلاً عند المقارنة بين الأنظمة التي لها صفة البشرية، والأنظمة التي لها صلة بالسماء، فليس هناك مجال للشك في أن الأنظمة المتصلة بالسماء أدوم وأطول وأقدر على سياسة البشر، وفي حالة من الطمأنينة واستمرار النفس.
ويتضح لدى الكاتب السبب الواضح لاستمرارية وصلاحية أنظمة السماء وتفوقها عما عداها من النظم، وهو يعتمد على وضوح هذا السبب حين يقرر أننا في حالة مستمرة إلى السماء لنستلهم منها الوحى الذي يضع القوانين والنظم والتشريعات.
ويلخص لنا كتاب العقد الاجتماعي السبب والنتيجة معاً فيقول :
[ يتطلب اكتشاف أفضل قواعد المجتمع، التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، عقلاً ممتازاً يرى كل أهواء الناس على ألا يتعرض هو نفسه لأي منها، عقل لا صلة له بطبيعتنا البشرية، ولكنه يدرك جذورها؛ وأن تكون سعادته مستقلة عن سعادتنا، ولكنه مع ذلك يهتم بسعادتنا؛ وأخيراً يتطلب الأمر أن يرنو هذا العقل ببصره إلى المستقبل البعيد، وينتظر يوم مجده في عهد لم يأت بعد أي أن يزرع في قرن ويحصد الثمار في قرن آخر. وبعبارة أخرى ، إن الأمر يتطلب آلهة تمنح البشر قوانينها ] (1).
وهذه النتيجة التي انتهى إليها الباحث يلحظها الكثيرون من المشتغلين بالتشريع ، والذين يعتبرونه صناعتهم التي يجيدونها فقاموا بالتدليس والادعاء وموهوا على الناس بأن ما أتوا به من آراء وأفكار لا تعدو أن تكون آراء وأفكار السماء، ولكنهم استلهموها منها بوسيلة أو بأخرى يحددها هؤلاء المشرعون بحيث تتفق مع الديانة التي يدين بها الشعب الذي يشرعون له.
وهذه صعوبة تعترض التشريع أحياناً، وتقلل من قيمته وجدواه غير أن هذه النسبة المزيفة للسماء سرعان ما تنكشف ويفتضح أمرها.
ولكن هناك صعوبة قوية أخرى يثيرها أمامنا كتاب العقد الاجتماعي، وهي كيفية الصلة المستمرة بالسماء ووسيلة الاتصال بالآلهة لحل مشاكلنا التشريعية وقضايانا التي تتعلق بضبط السلوك.
ويصوغ الكتاب هذه المعضلة فيقول :
[ وهذا العقل السامي الذي يسمو على فهم العامة، هو ما يضع المشرع أحكامه في أفواه الخالدين ليقودوا بوساطة السلطة الإلهية أولئك الذين لا يستطيعون التخلص من عجز البشر الهالكين، ولكن لا يستطيع كل إنسان أن يجعل الآلهة تتكلم، ولا أن يجعل الناس نصدقه عندما يدعى أنه يتحدث باسمها، فروح المشرع العظيمة هي التي يجب أن تكون دليل رسالته. وكل إنسان يستطيع أن ينقش كلمات على حجر ويرشو كاهناً وثنياً، ويدعي اتصالاً سرياً بأحد الآلهة، أو أن يدرب طيراً ليهمس في أذنه، أو يجد وسيلة دنيئة للتمويه على الناس إن من لا يستطيع غير ذلك، قد يكون في وسعه أن يجمع حوله صدافة جماعة من الحمقى؛ ولكنه لن ينشئ إمبراطورية أبداً، وسرعان ما يختفي عمله الجاهل معه ] (2).
وهذا الإعضال على ضخامته لا يحتاج منا، أو من الباحثين على وجه العموم إلا إيجاد الضمان، وخلق السياج الذي يحيط التشريع السماوي بما يحفظه من عبث الباحثين، أو المغرضين الذين ينسبون أنفسهم إلى حقل التشريع.
والحق أننا نلتمس العذر لمؤلف كتاب : العقد الاجتماعي؛ لأن البيئة، وميدان البحث، ومجال الدراسة، الجميع قد تضافر على خلق جو لا يسمح لصاحب الكتاب أن ينفذ وراء هذه البيئة، وهذا التخصص ليبحث عن سياج يضمن للتشريع السماوي صفاء المصدر الإلهي الذي لم تدنسه يد البشر، وعقوله القاصرة.
إن الديانات التي وضعت تحت نظر الباحث إنما هي في أغلب الظن الديانات القديمة واليهودية المشوشة، والإسلام في أقل مظاهره.
وأغلب الظن أنه لو اتضح أمام الباحث الأمان والضمان للتشريع الإلهي لما ذهب إلى غيره من مصادر التشريع.
والمتصفح للفكر الإسلامي يظهر له بمقارنته لسائر الأديان أنه هو الدين الوحيد الذي احتفظ لنفسه بالنص الإلهي بألفاظه، وحتى طريقة الأداء فيه، وتلك مسألة لا تقبل الشك ولا الجدال، إن الكتاب السماوي إلى الآن ما يزال يحتفظ بنصه ولفظه ولغته وطريقة أدائه، وإن ذلك وعد من المشرع نفسه أن يحفظ الكتاب من أن تمسه يد التبديل والتحريف ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(1).
ويلمس بعض المؤرخين للفكر الإسلامي من هذه المسألة في يسر وسهولة كما جاء في كتاب التفكير الفلسفي في الإسلام على نحو مبسط حين يقرر أن القرآن قد وصل إلينا ( بطريق التواتر بحيث لا يمكن الشك مطلقاً في أنه وصل إلينا كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص ).
والمستشرقون ـ رغم تحامل بعضهم على الإسلام ـ لا يجدون مطعناً صحيحاً من تلك الجهة قط، وقد قال المستشرق الفرنسي الأستاذ ديمو مبين بحق في كتابه عن الإسلام :
( إن المنصف لا مناص له من أن يقر بأن القرآن الحاضر هو القرآن الذي كان يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم ) (1).
وإذا ثبت أن القرآن هو النص الإلهي الوحيد المعتمد في الأرض ثبت في نفس الوقت أنه هو المبدأ الوحيد الذي ينبغي أن يرتكز عليه جميع المشرعين في الأخلاق إذا أرادوا أن يحتفظوا لنظرياتهم الأخلاقية بالسمة العلمية، وبذلك نكون قد أوجدنا الحلقة المفقودة التي طالما ما بحث عنها في مثابرة كتاب العقد الاجتماعي لكي يعتمد مصدراً أساسياً للتشريع يكون له صلة وثيقة بالسماء بعيداً عن أهواء البشر وتطلعات العقل الإنساني القاصر والمغرض.
* * *
============================
(1) انظر الأخلاق في إطار النظرية التطورية ج2 ـ د طه الدسوقي . (1) انظر المرجع السابق. (2) انظر رسالة الشيخ محمد عبده ـ رسالة التوحيد ـ ص 90. (1) المشكلة الأخلاقية ـ ص 28. ) العقد الاجتماعي ـ تأليف لوك ـ هيوم ـ رسو ص 123.
(1) نفس المرجع ص 125. (1) العقد الاجتماعي ص 121. 2) العقد الاجتماعي ص 124 ، 125. (1) سورة الحجر آية : 9. (1) التفكير الفلسفي في الإسلام ـ د/ عبد الحليم محمود ج1 ص 46.
من كتابات الأستاذ الدكتور طه حبيشى