الجمعة، 16 مارس 2012

موسوعة الفقه : السياسة الشرعية

السياسة الشرعية

 ساس يسوس وتطلق بإطلاقات كثيرة ومعناها - فى جميع إطلاقاتها - يدور على تدبير الشيئ والتصرف فيه بما يصلحه :
" الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية "


ومن أجل ذلك كان من المغالطة أو الغلط ما يزعمه بعض المخالفين من أنه : ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) إن أريد به أنه لا يعتبر من الشريعة الإسلامية شئ من الأحكام الجزئية التى تتحقق بها مصلحة أو تندفع بها مفسدة إلا إذا نطق به الشرع ، ودلت عليه - على التعيين - نصوص من الكتاب أو السنة . أما إذا كان معنى الموافقة للشرع أن تكون تلك الأحكام الجزئية متفقة مع روح الشريعة ومبادئها الكلية وأن تكون - مع ذلك - غير مناقضة لنص من نصوصها من نصوصها التفصيلية التى يراد بها التشريع العام فالقول بأنه ( لا سياسة إلا ما وافق الشرع ) قول صحيح ومستقيم تؤيده الشريعة نفسها ، ويشهد له عمل  الصحابة والخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين


لا سياسة الا ما وافق الشرع قول صحيح ومستقيم تؤيده الشريعة نفسها ، ويشهد له عمل الصحابة والخلفاء الراشدين والأئمة المجتهدين

وشبيه بهذا ما يرويه البخارى - فى حادثة بريرة التى اشترط اهلها فى بيعها للسيدة عائشة أن يكون لهم ولاؤها - من قوله - صلى الله عليه وسلم - ( ما بال رجال يشترطون شروطا ليست فى كتاب الله كما كان من شرط قضاء الله احق ، وشرط الله أوثق ، وانما الولاء لمن اعتق ) صدق الرسول الكريم

فإنه ليس معنى هذا أن كل ما يشترط فى العقود يكون باطلا متى كان غير وارد فى كتاب الله وإنما معناه أن الشرط لا يعول عليه ، وهو شرط باطل إذا كان يخالف كتاب الله ، أى ما كتبه الله شريعة للناس : وذلك كشرط يلحق ضررا بالمشروط عليه ، وكشرط يحرم ما أحل الله أو يحل ما حرم الله . وهذا ما صرح به فى حديث الترمذى من قوله - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما

فأهل بريرة الذين شرطوا فى بيعها أن يكون الولاء لهم قد اشترطوا شرطا يخالف شريعة الله التى قررها رسوله فى قوله ( انما الولاء لمن أعتق ) فهو شرط ليس فى كتاب الله ، وهو باطل مردود عليهم
فكتاب الله هنا معناه ما كتبه الله على الناس من أحكام الشريعة وفرضه وقرره عليهم ، وليس المراد به خصوص ما ورد فى القرآن الكريم ، فهو مثل قوله - تعالى - ( إنَ الصًلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ( كتب عليكم الصيام ) ( كتب عليكم القصاص ) ( من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل ) ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ( كتاب الله عليكم ) صدق الله العظيم
وكذلك ما جاء فى قضية العسيف الذى زنا بامرأة مستأجرة ، فافتداه ابوه بمائة شاه وخادم ، ثم سأل أهل العلم فأخبروه أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام ، وعلى امرأة الآخر الرجم ، فترافع الخصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسألاه أن يقضى بينهما بكتاب الله ، فقال - عليه الصلاة والسلام : ( والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ) فقضى برد المائة الشاة والخادم ، وبجلد الزانى مائة وتغريبه عام ، وبرجم المرأة ، فرجمها ( أنيس ) بأمره بعدما اعترفت
قال بن قتيبة فى ( تأويل مختلفغ الحديث ) إنه قد يستشكل بأن هذا خلاف كتاب الله - عز وجل - فإنه ليس فى القرآن رجم ولا تغريب
وقد أجاب عن ذلك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بكتاب الله ههنا القرآن ، وإنما أراد حكم الله - تعالى - فإن الكتاب يتصرف على وجوه : منها الحكم والفرض ، وساق أمثلة من القرآن من مثل ما تقدم
وخلاصة ما نريده من هذا البيان هو أن الحكم الذى تقتضيه حاجة الأمة يكون سياسة شرعية معتبرة إذا توافر فيه أمران :
الأول أن يكون متفقا مع روح الشريعة معتمدا على قواعدها الكلية ومبادئها الاساسية التى اشرنا إليها فيما سبق وهى قواعد محكمة لا تقبل التغيير والتبديل ، ولا تختلف باختلاف الأمم والعصور
الثانى ألا يناقض مناقضة حقيقية دليلا من أدلة الشريعة التفصيلية التى تثبت شريعة عامة للناس فى جميع الأزمان والأحوال
فإذا لم يكن هناك دليل تفصيلى يدل على شيئ فى محل الحكم الذى يثبت من طريق السياسة فالأمر ظاهر ، من حيث أنه ليس فى ذلك مخالفة أصلا
وكذلك إذا كان هناك دليل تفصيلى دل على خلاف محكم السياسة ، ولكن كانت المخالفة ظاهرية غير حقيقية ، أو علم أن ما دل عليه الدليل التفصيلى لم يقصد ليكون شريعة عامة ، وإنما كان لحكمة خاصة ، وسبب لا وجود له فى غير واقعة الحكم ، فلا تكون مخالفته جينئذ مخالفة لأدلة الشرع وأحكام الإسلام
من أجل هذا لم يكن ما فعله ابو بكر من جمع القرآن فى مصحف واحد مخالفة للدين ، أو إحداثا لشئ ليس من شريعة الإسلام
كما أنه ليس من الإحداث فى الشريعة ما أنشأه عمر بن الخطاب من الدواوين والحبوس ، وما فرضه من وظيفة الخراج
ولا ما فعله عثمان بن عفان من جمع الناس على مصحف واحد وأمره بإحراق ما عداه من المصاحف ، ولا ما أنشأه من أذان فى يوم الجمعة لم يكن معهودا من قبل
لا يعد شيئ من هذا إحداثا فى الدين أو مخالفة لدليل من أدلة الشريعة ، فإنه ليس فى الشريعة ما يمنع هذه الأشياء التى أريد بها تحقيق مصلحة عامة ، دينية أو دنيوية
وكذلك ليس من المخالفة لأدلة الشريعة ما فعله عمر من حرمان المؤلفة قلوبهم من سهم الصدقات وإن كان هذا السهم قد قرر لهم فى القرآن الكريم فى قوله تعالى
انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
فلم يأخذ عمر بظاهر اللفظ ، ولم يقف عند حرفية النص ، بل راعى سره وحكم روحه ، وقرر أن الآية التى فرضت نصيبا لهؤلاء المؤلفة لم تفعل ذلك ليتخذ شريعة عامة يعمل بها فى كل حال وزمان ، بل إنما كان لحكمة خاصة وسبب لم يعد قائما بعد ، وأرشد إلى هذا بقوله ( إن الله قد أعز الاسلام واغنى عنهم ) فعمر - رضى الله عنه - رأى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد أوجبه الله لحاجة المسلكين إلى من يعضدهم وينصرهم إولا يؤلب عليهم ، فإذا صار المسلمون فى قوة وعزة ، وزال المعنى الذى من أجله وجب ذلك السهم كان للإمام أن يصرفه عن اولائك المؤلفة إلى ما هو أجدى على المسلمين وأنفع
وليس معنى هذا إبطال سهم المؤلفة رأسا ، بل إن أمره يدور مع ذلك السبب وجودا وعدما ، حتى إذا تجددت للمسلمين حاجة إلى التأليف كما كانت الحاجة إلى ذلك أول الامر صح للإمام أن يصرف للمؤلفة على حسب ما يرى من المصلحة
قال ابو بكر العربى فى ( أحكام القرآن ) فى تفسير آية الصدقات من سورة التوبة : اختلف فى بقاء المؤلفة قلوبهم فمنهم من قال: هم زائلون ، قاله جماعة وأخذ به مالك ومنهم من قال هم باقون ، لأن الإمام ربما احتاج ان يستألف على الإسلام ، وقد قطعهم عمر لما راى من إعزاز الدين ، والذى عندى أنه إن قوى الإسلام زالوا ، و إن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان يعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلامه
وقال أبو عبيد ( فى كتاب الاموال ) : والمعروف عند العامة فى تأويل هذه الآية الكريمة ما قاله الحسن وابن جريج أنهم الذين كانوا يُتألفون بالعطية ولا حسبة لهم فى الإسلام ، ثم اختلف الناس بعد فيمن كان بمثل حالتهم : فقال بعضهم : قد ذهب أهل هذه الآية ، وإنما كان ذلك فى دهر النبى - صلى الله عليه وسلم - ، واما ما قاله الحسن وابن شهاب غعلى أن الأمر ماض ابداً
وهذا هو القول عندى ، لأن الآية محكمة لا نعلم لها ناسخا من كتاب ولا سنة ، فإن قوم هذه حالهم لا رغبة لهم فى الإسلام إلا للنيل ، وكان فى ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام لما عندهم من العز والمنعة ، فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة فعل ذلك خلال ثرث
إحداهن الأخذ بالكتاب والسنة
والثانية البقيا على المسلمين
والثالثة أنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فى رغبتهم ، انتهى كلام ابو عبيد
وليس من المخالفة لنصوص الشريعة ايضا ما فعله عثمان بضالة الابل اذ امر بمعرفتها وتعريفها ، فإن ادركها صاحبها أخذها ، وان لم يدركها بيعت وحفظ ثمنها . فهو لم يسر على ما كان عليه العمل من قبل إذ كانت الابل الضالة تترك مرسلة لا يمسها أحد حتى يعثر عليها صاحبها ، ولم يقف عند حرفية ما ورد فى الصحيحين عن زيد بن خالد - رضى الله عنه - قال : ( جاء رجل الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة فقال : اعر ف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فشانك بها . قال : فضالة الغنم ؟ قال : هى لك او لاخيك او للذئب . قال : فضالة الإبل ؟ قال : مالك ومالها ؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ) صدق الرسول الكريم
لم يقف عثمان عند حرفية هذا النص ، بل خالفه ظاهرا ، لانه راى أن الحال قد تبدل ، وأن الحديث ورد فى عهد ما كان يخشى فيه على ضالة الإبل أن تضيع وتمتد اليها الايدى ، فلما راى هذه الايدى قد امتدت اليها أمربجمعها وبيعها ليحفظ ثمنها لاصحابها أو ينتفع به فى المصالح العامة ان لم يظهر لها صاحب
فعثمان - رضى الله عنه - إذا كان قد خالف فى الظاهر هذا الحديث فهو فى الواقع وباطن الامر عامل به ومتمسك بروحه ، من حيث إن ذلك العارض الذى خاف معه على الإبل الضالة قد اختلف به الامر ولم تعد الحالة الثانية من جنس الاولى التى ورد فيها الحديث
هذا - ويؤخذ من دلالة النص الوارد فى ضالة الغنم - كما قال ابن القيم - أن الفصيل وهو الصغير من الابل الذى لا يمتنع بنفسه من الذئب حكمه حكم الشاة
لكن ماذا يصنع بالشاة بعد إلتقاطها وبالفصلان ونحوها ؟
الذى نقله ابن القيم عن متقدمى الحنابلة أنه لا يجوز التصرف فيها قبل الحول . لكن ابن القيم لم يرتض هذا ، ورجح ما حفظه عن بعض الاصحاب أن الملتقط مخير بين أكلها فى الحال ، وعليه قيمتها لصاحبها ، إن ظهر لها صاحب ، وبين ان يبيعها ويحفظ ثمنها ، وأن يبقيها الى سنة ينفق عليها ، ويرجع بما انفق على صاحبها ، أو يكون متبرعا بذلك على حسب الوجهين فى المسألة
قال ابن القيم ( وهذا افقه واقرب الى مصلحة الملتقط والمالك ، إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزما لتغريم مالكها اضعاف قيمتها إن قلنا لا يرجع استلزم تغريم ذلك ، وإن قلنا يدعها ولا يلتقطها كانت للذئب ) ثم قال ( وليس فى ذلك مخالفة لحديث عبد الله بن عمرو : ( يا رسول الله كيف ترى فى ضالة الغنم ؟ فقال : هى لك أو لأخيك أو للذئب ، احبس على اخيك ضالته ، وفى لفظ : رد على اخيك ضالته ) فإن المراد الا يتصرف فيها تصرفا يضيع به حق صاحبها ، فيجب ان تراعى المصلحة فى ذلك ، فإن كانت المصلحة فى بيعها وحفظ ثمنها اتبعت ، وكان ذلك خيرا من تعريفها سنة والإنفاق عليها ، وتغريم صاحبها أضعاف قيمتها ) اتنهى كلام ابن القيم
ونقول : إن هذا فى غاية الوجاهة ، هو من أحسن السياسات الشرعية وهو الفقه الإسلامى الصحيح
إذا لا يكون من المخالفة للشريعة أو الإحداث فيها أن تسن اليوم قوانين تفرض على أهل اليسار والقدرة ضرائب فوق ما هو مقرر فى الكتاب والسنة من الزكاة والعشر ، فإنه ليس فى نصوص الشريعة ما يمنع من ذلك ، فيمكن أن تسن ضرائب دخل وضرائب إنتاج متى كانت للأمة حاجات لا تفى بها ضرائب العشر والزكاة
وكذلك لا نكون مخالفين لأدلة الشريعة إذا قلنا - فى أسلاب قتلى الحرب من الاعداء - : إن من قتل قتيلا وجب أن يحمل سلبه ألى بيت مال المسلمين ليصرفه الإمام فيما يرى من المصلحة العامة
لا نكون بهذا مخالفين لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ) صدق الرسول الكريم فإن هذا لا يفهم على أنه شرع عام يجب العمل به فى كل حال ، بل الشأن فيه أنه من الأحكام السياسية التى تختلف باختلاف المصالح فى كل عصر
فمثلا لا يلزم فى وقتنا هذا أن نسير فى أبواب تدبير المالية العامة وطريقة إنفاقها ، ولا فى نظام ترتيب الجيوش وطرقة حماية الثغور على ما كانت عليه الأمة الإسلامية فى بدء تكوينها
وليس مما يتفق مع طبيعة النظام وما تتطلبه حاجات الأمة فى العصر الحاضر أن توزع غنائم الحروب على جماعة المحاربين كما كانت تقسم عليهم فى صدر الإسلام ، بعد أن أصبح للجيوش نظام خاص وقانون يسرى على جميع وحداتها ، وبع أن صارت نفقات الجنود ومعداتهم مكفولة فى مال الأمة ، يستوى فى ذلك الغنى منهم والفقير ، لكن الجندى فى الصدر الأول من الإسلام كان - فى أغلب الأمر - ينتدب بنفسه للجندية ، ثم يخرج لها بسلاحه وفرسه ، وينفق فيها على نفسه ، وهو ما كانت تسمح به حال أمة ناشئة ، وما كان يلزم من لم يخرج للجهاد بشئ من هذه النفقات ، فكان من العدل أن يكون لكل من المجاهدين نصيب فيما يحرزون من غنائم ، ولهذا كانت تختلف هذه الانصباب ، فليس من يخرج للحرب راجلا كمن يخرج اليها بفرسه ، ينفق عليها وعلى نفسه ، ولذلك كان للراجل سهم ، وللفارس سهمان أو ثلاثة أسهم
وجملة القول أنه لا يصح فى تصرف من التصرفات أو حكم من الأحكام التى تسن لتحقيق مصلحة عامة أن يقال : إنه متناقض للشريعة بناء على ما يرى فيه كم مخالفة ظاهرية لدليل من الادلة ، بل يجب تفهم هذه الأدلة وتعرف روحها ، والكشف عن مقاصدها وأسرار التشريع فيها ، والتفرقة بين ما ورد على سبب خاص وما هو من التشريع العام الذى لا يختلف ولا يتبدل ، فإن مخافة النوع الثانى هى الضارة المانعة من دخول أحكام السياسة فى محيط شريعة الإسلام
تقول : ساس فلان الدابة إذا راضها وتعهدها بما يصلحها .
وساس الأمر سياسة : عالجه وبذل همه فى إصلاحه
وساس الرعية : ولى حكمها وقام فيها بالأمر والنهى وتصرف فى شئونها بما يصلحها . ومن ذلك ما ورد فى حديث : ( كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم ) أى يتولون أمورهم كما يصنع الأمراء والولاة بالرعية
أما فى الإصطلاح فهى : اسم للأحكام والتصرفات التى تدبر بها شئون الأمة فى حكوماتها وتشريعها وقضائها ، وفى جميع سلطاتها التنفيذية والإدارية ، وفى علاقاتها الخارجية التى تربطها بغيرها من الأمم .
فلكل أمة فى هذه النواحى سياسة وأحكام خاصة تتفق وعاداتها وأسلوب معيشتها ودرجة رقيها :
فسياسة دستورية ، وهى النظام الأساسى الذى يبين شكل الحكومة ، ويحدد سلطتها ، ويضع الطريقة التى تتبع فى إختيارها ، كما يحدد السلطات اللازمة لتصريف شئون الأمة ويقرر الحقوق الواجبة للأفراد والجماعات .
وسياسة تشريعية تتعلق بسن القوانين وإنشاء الأحكام التى تتبعها السلطات المختلفة فى تصريف شئون الأمة .
وسياسة قضائية تختص بتطبيق تلك القوانين والأحكام على الحوادث والقضايا ، وبالطريقة التى يسار عليها فى هذا التطبيق .
وهناك سياسات أخرى مالية وإدارية وتنفيذية وخارجية . وكل واحدة من هذه السياسات تتمثل فى مجموعة من الأحكام تدبر بها شئون الأمة فى الناحية الخاصة بها .
ولا شك أن عند الأمة الإسلامية قوانين ونظما تصرف بها شئونها ، وتدبر على أساسها مرافقها فى جميع الوجوه التى عددناها .
وهذه القوانين والنظم يمكن ان نطلق عليها اسم ( السياسة الشرعية ) إذا أخذنا هذه الكلمة فى معناها الواسع الشامل الذى يتناول أحكام الفقه الإسلامى المدون .
أما إذا لاحظنا المعنى الخاص للكلمة - وهو الذى يعنينا هنا - فبعض تلك القوانين والنظم هو الذى يصح أن يسمى " السياسة الشرعية " .
هذه السياسة كثيرا ما يكون مصرها عرف الناس وما هدى إليه أهل البصر فى الأمة من طول مرانهم وممارستهم شئون الحياة وأساليب الاجتماع ، ومن ذلك ما ورثته الأمة عمن قبلها من العادات والأوضاع .
وقد يكون بعض أحكامها بقية من شرائع سماوية قديمة ، انطبعت فى النفوس ، ومرنت عليه الأمم حتى اصبحت جزءاً من نظان حياتها ، وحتى لم يعد يعنيها أن تتعرف منشأها ، وتربطها بأصلها ومصدرها ، بل رأت أنه يكفيها أن تجد فى هذه البقايا نظاما صالحاً ، ومبادئ تسد الحاجة ، وتفى بالمصلحة العامة ، وبذلك أخذت حكم الأوضاع الإنسانية ، والتحقت بالقسم الأول من الأحكام ، وهو الذى اتخذ من التجارب ، أو كان مصدره العرف والعادات الموروثة .
هذا النوع من السياسة يطلق عليه اسم ( السياسة الوضعية ) فهى أحكام وقوانين وضعها الناس لتدبير شئون الأمة وكان عمادهم فيها - كما قلنا - العرف والعادة والتجارب والأوضاع الموروثة .
أما السياسة الشرعية فهى الأحكام التى تنظم بها مرافق الدولة ، وتدبر بها شئون الأمة ، مع مراعاة أن تكون متفقة مع روح الشريعة ، نازلة على أصولها الكلية ، محققة أغراضها الاجتماعية ولو لم يدل عليها شئ من النصوص التفصيلية الجزئية الواردة فى الكتاب أو السنة .
فقاعدة رفع الحرج ، وقاعدة سد الذرائع ، ومبدأ الشورى والرجوع بمعضلات الأمور إلى أهل الذكر والرأى هى من أصول الشريعة المحكمة ومبادئها العامة التى يجب ان تعتمد عليها السياسة الشرعية ، فهى سياسة مبنية على الإيمان بأن أصولها وحى من الله - تعالى - .
وبهذا يظهر الفرق بين السياسة الشرعية وغيرها من مختلف السياسات الوضعية ، من حيث أن الأولى لابد أن يراعى فيها أن تكون معتمدة على مبادئ وأصول أرشدت إليها الشريعة الإسلامية التى جاءت لتكوين أمة تكوينا صالحاً تجد فيه سعادتها ، ويستقر به العدل والسلام بين أفرادها وجماعاتها . فكل حكم تتطلبه حاجة الأمة ، وكل نظام يؤخذ به فى تصريف شئونها فإنه يكون من السياسة الشرعية متى كان قائماً على تلك الأصول الكلية التى لم يقصد بها ألا تحصيل المصالح ودفع المفاسد . أما السياسة الوضعية فإنها - كما قلنا - تستقى من العرف والعادة ومختلف التجارب والأوضاع المتوارثة من غير أن يراعى فيها إرتباطها بالوحى السماوى واعتمادها على مصادر التشريع الإسلامى .
فالأحكام المعتمدة على العرف مثلا تكون سياسة شرعية إذا لوحظ اعتداد الشريعة بهذا العرف ، فإن لم يلحظ هذا المعنى كانت تلك الأحكام سياسة وضعية لا شرعية ، وإن كانت فى ذاتها متفقة مع مبادئ الشريعة وقوانينها .
هذا - وعدم دلالة شئ من النصوص الواردة فى الكتاب أو السنة على أحكام السياسة الشرعية تفصيلا لا يضر ولا يمنع من أن نصنفها بوصف الشرعية .
إنما الذى يضر ويمنع من ذلك أن تكون تلك الأحكام مخالفة مخالفة حقيقية لنص من النصوص التفصيلية التى أيد بها تشريع عام للناس فى كل زمان ومكان .
فمتى سلمت من هذه المخالفة وكانت متمشية مع روح الشريعة ومبادئها العامة كانت نظاما إسلاميا وسياسية شرعية .
ولذلك يقول ابن عقيل أحد أعلام الحنابلة - فيما نقله ابن القيم - : ( السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحى )
أهمية السياسة الشرعية:
تكتسب السياسة الشرعية أهميتها مما يأتي:
1- أنها تقوم على جلب مصالح الدارين، ودفع المفاسد عنهما.
2- أنها تقوم بمراعاة العرف وتغير الزمان والمكان والأحوال.
3- أنها تقوم على مراعاة مآلات الأمور واعتباراتها.
4- أنها تقوم على مراعاة الأولويات.

أدلة العمل بالسياسة الشرعية:
العمل بالسياسة الشرعية حجة دلت عليها شواهد الكتاب والسنة وأفعال الخلفاء الراشدين والأئمة الأعلام من بعدهم، وهي كالآتي:
من القرآن الكريم:
قول الله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: 118)؛ فإنَّ عقاب الثلاثة بالهجر على تخلفهم عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، ومنعهم من قربان نسائهم وهو منع من أمور مباحة لهم في الأصل، مع الاكتفاء بقبول اعتذار غيرهم من المتخلفين، هو من مقتضيات السياسة الشرعية. قال ابن العربي: "فيه دليل على أنَّ للإمام أن يُعاقب المذنب بتحريم كلامه على النَّاس أدبًا له... وعلى تحريم أهله عليه
ومن السنة النبوية:
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا" ؛ فتأسيس البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أمر مطلوب، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفًا من مفسدة أعظم من مصلحته؛ وهذا من أحكام السياسة الشرعية.
2- قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين: "دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" ؛ حيث مُنِعَ من قتل المنافقين في ابتداء الإسلام؛ لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
ومن أفعال الخلفاء الراشدين:
1- جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للمصحف لمَّا كثر القتل في القراء.
2- أمر عمر رضي الله عنه بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، وكان شارب الخمر يجلد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه، أربعين. متفق عليه؛ فهذا من السياسة الشرعية. قال النووي: "وأمَّا زيادة عمر، فهي تعزيرات والتعزير إلى رأي الإمام: إن شاء فعله وإن شاء تركه؛ بحسب المصلحة في فعله وتركه؛ فرآه عمر ففعله، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا  علي فتركو
3- جَمْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أَطْلَقَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ بِهَا، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً  فهذا من السياسة الشرعية.
إضافة إلى أدلة أخرى يستدل بها في باب السياسة الشرعية وهي ما تعرف بقواعد الاستصلاح المتمثلة في المصلحة، والعرف، وتغير الزمان والمكان، والاستحسان، وسد الذرائع، وتقديم المصالح على المفاسد.

مجالات السياسة الشرعية
1- الولاية العامة وما يتفرع عنها من شئون الحكم، وإدارته، وإجراءات تطبيقه، وآليات تنفيذه، ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام: (نظام الحكم في الإسلام)، و(النظام الإداري الإسلامي) وهو فن مستقل عن سابقه.
2- الشئون المالية في الدولة، وما يشرع لولي الأمر سلوكه في إدارة بيت المال، موارده ومصارفه، وما يتعلق بذلك من إجراءات تنظيم بيت المال، وطرائق جباية الأموال إليه وصرفها منه وآليات تنفيذ أحكامها، ونحو ذلك، ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام: (النظام المالي في الإسلام)، وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ (القانون المالي).
3- الشئون المالية العامة، من حيث تنظيم التداول، والاستثمار، وقيم النقود وسبل رفعها والمحافظة عليها، وما تقتضيه المصلحة الشرعية من تقييد الحاكم لبعض التعاملات المالية، وما يُسْتَحْدث في ذلك من نظم مشروعة نافعة؛ ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام: (السياسة الاقتصادية في الإسلام)، و(المعاملات المالية المعاصرة)، وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ (القانون التجاري).
4- الشئون القضائية، وما يتعلق بها من تنظيمات، وطرائق إثبات، ونحوها؛ ومن مصطلحاتها العصرية: (السياسة القضائية في الإسلام) و(علم القضاء) وفروعها. وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ (قانون المرافعات) وما يعرف بقوانين الإجراءات.
5- الشئون الجنائية والجزائية، من حيث تنظيم إجراءات تنفيذ ما يثبت من أحكام مقدَّرة شرعًا أو تقدير جزاءات شرعية ملائمة لما يرتكب من جرائم تقتضي التعزير شرعًا؛ ومن مصطلحاتها العصرية: (النظام الجنائي في الإسلام)، و(التشريع الجنائي الإسلامي). وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ (القانون الجنائي).
6- الشئون المتعلقة بالسِّيَر (العلائق الدولية) من شئون الأمن، والسلم، والحرب؛ ومن مصطلحاتها العصرية: (النظام الدولي في الإسلام)، و(العلاقات الدولية في الإسلام)، ونحوها. وهو يشمل موضوعات ما يعرف في القانون المعاصر بـ (القانون الدولي العام)، و(القانون الدولي الخاص).

تطبيقات معاصرة للعمل بالسياسة الشرعية:
1- مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوار؛ لما يترتب على ذلك من تحقيق المقصد الشرعي بحفظ المال، وإمكان إيصاله إلى صاحبه، أو مراجعة صاحبه للجهة المختصة لتسلّم ماله المفقود منها، ولا سيما مع غلبة الظن بفقدها لتركها عرضة للسرّاق وضعاف النفوس ممن يتصيدون غفلة الزائرين وانشغال الطائفين والعاكفين والركع السجود.
ففي هذا المثال تغير الحكم لتغير العلة المبني عليها، ويدل عليه ما ورد من أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوالّ الإبل لمصلحة أهلها[10]؛ مع أنَّ النَّص جاء آمرًا بتركها؛ لتغير المصلحة التي بني عليها المنع؛ فالأمر بتركها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يحقق المصلحة منه؛ لغلبة الصلاح في الناس حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربُّها.
وأمّا في زمن عثمان رضي الله عنه فقد حصل تغيّر في حال الناس أورث خوفًا على أموال الرَّعيَّة من أن تمتد إليها يد الخيانة؛ فرأى عثمان رضي الله عنه أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها، كسائر الأموال، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها؛ إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلح؛ ولو عادت علَّة المنع من الالتقاط كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لعاد الأمر بالمنع من الالتقاط.
2- تعجيل المهر بعضه أو كله، أو تأجيله؛ بحسب العرف، وما يترتب على ذلك لدى القضاة، من اعتبار الزوجة ناشزًا أو غير ناشز إن هي امتنعت عن الدخول في طاعة الزوج.