الأحد، 12 فبراير 2012

شخصيات تاريخية - مسلمون - هارون الرشيدى


هارون الرشيدى

أبو جعفر هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، خامس خلفاء الدولة العباسية ومن أشهرهم وأكثرهم ذكراً حتى في المصادر الأجنبية، كالحوليات التي تعود إلى عهد الامبراطور شارلمان التي ذكرته باسم Aron والحوليات الهندية والصينية في أقصى المشرق باسم Alun، أما المصادر العربية فقد أفاضت في الكلام عنه لدرجة أن أخباره امتزجت فيها حقائق التاريخ بخيال القصص.
ولد هارون الرشيد في مدينة الري، أمه أمّ ولد يمانية جُرشيّة يقال لها الخيزران، وكانت من قبلُ قد رزقت بأخيه الهادي، وأعتقها المهدي وتزوجها عندما كان لهارون من العمر أربعة عشر عاماً.
هو أكثر من تعرض تاريخه للتشويه والتزوير من خلفاء الإسلام، مع أنه من أكثر خلفاء الدولة العباسية جهادا وغزوا واهتماما بالعلم والعلماء، و بالرغم من هذا أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية ومن هنا كان إنصاف هذا الخليفة واجب على كل مؤرخ مسلم.
ومن المؤرخين الذين أنصفوا الرشيد أحمد بن خلكان الذي قال عنه في كتابه وفيات الأعيان: "كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي"
وكتب التاريخ مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء لا ينكرها إلا جاحد أو مزور، ويكفيه أنه عرف بالخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما.
نشأ هارون مع آل برمك الفرس، الذين وثق بهم الخليفة المنصور أولاً فالمهدي من بعده، وأناله أبوه المهدي من العلم ثقافة عصره، فدرّسه على أشهر الفقهاء والعلماء، وأتقن فنون الحرب والسياسة، وأظهر ذكاء وكفاية وكياسة، حتى إن والده ولاّه العهد بعد أخيه الهادي، ولم يكن قد بلغ العشرين من عمره، لما بعثه على رأس حملة كبيرة لغزو بلاد الروم، فوصلت قواته إلى مضيق البوسفور، وبلغت مشارف القسطنطينية، واضطرت ملكتها الوصية إيرين أن توقع صلحاً مذلاً، وأن تدفع للعرب في كل عام جزية ضخمة، وقد أبلى هارون في هذه الحملة بلاء حسناً حتى منحه أبوه لقب الرشيد وفكر في أن يرشحه للخلافة بعده مباشرة بدلاً من أخيه الهادي، وكانت أمه الخيزران تؤيد هذا المسعى؛ لإيثارها له على أخيه، وكاد الأمر أن يتم لولا أن حالت منية المهدي دون ذلك، وحفظها الهادي في نفسه فحاول خلع أخيه هارون من ولاية العهد، والمبايعة لابنه جعفر الذي كان لايزال طفلاً، واستدعى يحيى البرمكي وكلمه في خلع هارون، فأجابه بكلام يدل على ذكائه ودهائه إذ قال: «يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم… ولو تركت الأمر في بيعة أخيك بحاله، وبويع لجعفر من بعده، كان ذلك أوكد لبيعته»، فوافق الهادي على رأيه غير أنه لم يلبث أن عاد ثانية إلى رأيه الأول تحت تأثير بعض رجال حاشيته والقواد، فقبض على يحيى البرمكي وصمم على قتله، ولكن الهادي توفي فجأة قبل أن يحقق هدفه بعد خلافة دامت سنة وشهراً فقط.
يتميز عهد هارون الرشيد الذي دام 23 سنة من سنة 170-193هـ بقمعه للفتن والثورات الداخلية وبحملاته وحروبه ضد الروم البيزنطيين أعدى أعداء المسلمين، كما أنه تميز بالرخاء الاقتصادي والازدهار الفكري والعلمي، ثم بنكبته لخلاّنه من البرامكة الفرس.
كانت علاقة هارون الرشيد بالبيزنطيين علاقة حرب وعداء كما كانت على عهد أبيه وجده، وواصل الرشيد استكمال تحصينات الثغور المتاخمة للبيزنطيين، وأقام منطقة إدارية عسكرية جديدة هي العواصم ومركزها منبج، وكذلك اهتم بتقوية الجيش العباسي حتى صار من أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت، وعندما رفض الامبراطور نقفور أن يدفع الجزية التي تعهدت إيرين بدفعها وطلب من الرشيد أن يردّ إليه الجزية التي كانت قد قدمتها له معللاً ذلك بضعف النساء وحمقهنّ؛ كان جواب الرشيد أن خرج على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفاً سوى الأتباع، وتوغل في آسيا الصغرى حتى بلغ مدينة هرقلة عاصمة كورة بيثينيا، فحاصرها، واستولى عليها عنوة سنة 191هـ/608م، وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده أمثال داود بن عيسى وشراحيل بن معن ابن زائدة، ويزيد بن مخلد، هزمت جيوش البيزنطيين، ودمرت حصونهم، واضطر الامبراطور نقفور أن يطلب الهدنة على أن يدفع الجزية عن نفسه وأسرته وبطانته وسائر أهل بلده 50 ألف دينار، كما تعهد ألا يعيد ترميم الحصون التي دمرها الرشيد، ويبدو أن أخبار حملاته على بيزنطة تواترت إلى غربي أوربا، فمدّ ملك الفرنجة شارلمان يده إلى هارون مصادقاً إياه ضد بيزنطة وأمراء الأمويين في الأندلس، ويذكر المؤرخون الغربيون أيضاً أنه تمّ تبادل السفراء والهدايا بين الطرفين ولو أن المؤرخين المسلمين لم يتطرقوا إلى هذه الأنباء إطلاقاً، ومن تلك الهدايا - حسب أقوالهم - ساعة دقيقة الصنع حيّرت بفنها ألباب الغرب، أما ما ذكروه عن إهداء الرشيد لشارلمان مفاتيح بيت المقدس فهو محض افتراء وتزوير نفاه البحث التاريخي الدقيق.
اشتهر عصر هارون الرشيد باقتصاد يانع ورخاء عام، وكان لموقع بغداد الممتاز ما يجعلها مركزاً لجميع أنحاء العالم المعروف آنذاك دون من منافس، وقد مهّد هارون لذلك، ففتح أبوابها للتجارة والتجار، وأمّن الطرق منها وإليها، وتدفقت على أسواقها بضائع شتى من الهند والصين وبلاد الترك وشرقي إفريقيا ومصر وبلاد الشام وجزيرة العرب، وكما نهضت التجارة واتسع أفقها أينعت الزراعة، وتدفقت الأموال على خزائن بيت المال حتى بلغت الجباية في عهده ما يقرب من 72 مليون دينار، عدا الضريبة العينية التي تؤخذ من إنتاج الأرض من الحبوب، ومع أنه لم يكن قد مضى على تأسيس مدينة بغداد نصف قرن فقد احتلت المقام الأول بين عواصم الدنيا آنذاك، وقيل عنها أيام هارون الرشيد: «لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها وكثرة دورها وأسواقها ومساجدها وحماماتها وخاناتها»، وكان البلاط الملكي بما فيه من دور الحريم والخصيان وأهل الخاصة يبلغ ثلث المدينة، وكان البلاط موئل الشعراء والنابهين والمترجمين وأرباب الموسيقى والغناء والندماء، وفي مقدمتهم إبراهيم الموصلي وابن جامع وغيرهم كثير.
ومن يرجع إلى كتاب الأغاني يره يعج بالقصص التي تمثل صوراً من حياة ذلك البلاط الذي وصلت فيه الحضارة المادية والفكرية إلى درجات عالية، ولو حاول الباحث أن يجرّد صور حياة البلاط مما ألبستها إياه قرائح المحدثين من الإطناب والمبالغة؛ فإنه يجد ما يملأ النفس دهشة وعجباً.
من الأمور التي حدثت في عهده نكبته للبرامكة الفرس الذين ينتسبون إلى أحد سدنة بيوت النار في بلخ، وقد اشتهرت هذه الأسرة بعد إسلامها ولمع فيها اسم خالد بن برمك صفي المنصور، وأوكل المهدي تربية ابنه هارون إلى يحيى بن خالد، ولما ولي هارون قلد يحيى الوزارة، وكان يناديه يا«أبت» وفوّض إليه السلطة المطلقة، وقرّب إليه أخاه بالرضاع الفضل، واتخذ جعفراً صديقاً وصفياً، وأنعم عليه بالرتب والمال والولاية، وكانت قصور البرامكة تقوم إلى الجانب الشرقي من بغداد، ويعيش أصحابها بنعمة ورفاه وقد أصابوا جاهاً عظيماً وثراء فاحشاً، فنثروا عطاءهم على مواليهم ومدّاحهم حتى قصدهم الناس من أقاصي الدنيا، ومُدحوا بما لم يُمدح به الخليفة ولم يلبث الرشيد أن ساورته الهواجس من نفوذ البرامكة، وأخذ العرب يوغرون صدر الرشيد ضدهم، ويحذرونه من استبدادهم بالأمر وخلعهم له، وصار يتلقى رقاعاً غفلاً من التوقيع تصور خطورة الحالة، ومن أمثلة ذلك تلك الرقعة الشعرية التي تقول:
قُلْ لأَمينِ اللهِ في أرضِهِ
ومَنْ إليهِ الحَلُّ والعَقْدُ
هذا ابنُ يحيى قد غدا ملكاً
مِثْلَكَ ما بينكمـا حَدُّ
أَمرُكَ مردودٌ على أَمرِهِ
وأمرُهُ ليــسَ لهُ ردُّ
ونحنُ نخشى أنّه وارثٌ
مِلْكَكَ إنْ غيبَّكَ الَّلَحْدُ
وفي سنة 187هـ - كما يذكر الطبري - قتل هارون الرشيد صفيّه جعفر، وألقى بيحيى وهو شيخ هرم مع أبنائه الآخرين في السجن، وحجز أموالهم، وقُدّرت بثلاثين مليوناً وستمئة وسبعين ألف دينار نقداً إلى جانب الضياع والغلاّت والدور والرياش.
وعلى الرغم من اهتمام المؤرخين بهذه الحادثة إلا أن أسبابها ودوافعها ظلّت غامضة مجهولة، وإن كانت ترجع في الأغلب إلى ذلك الصراع الخفي الذي كان قائماً بين حزبي العرب والعجم والذي ظل مستمراً بعد ذلك أيام الأمين والمأمون، ولاسيما أن الرشيد عندما عهد بولاية العهد إلى ولده المأمون بعد الأمين سنة 182هـ جعل له بلاد المشرق؛ ثغورها وكورها وجندها وخراجها وبيوت أموالها وصدقاتها وعشورها وبريدها، وهذا يعني أن خلافة الأمين بعد وفاة والده تصبح على بلاد المشرق خلافة صورية، مثل هذا التقسيم الذي لم يحدث من قبل في الدولة الإسلامية يُلاحظ فيه هذا الصراع الخفي بين العرب والعجم، فالعرب ضمنوا الخلافة للأمين العربي النسب، والعجم بزعامة البرامكة ضمنوا المشرق لرجلٍ أخواله من الفرس. فالعصبية العنصرية ظاهرة في هذا الإجراء السياسي الغريب، وقد انتقد المؤرخون والشعراء هذه السياسة التي اتبعها الرشيد، ويقول في ذلك شاعر معاصر:
رأى المَلِكُ المُهذَّبُ شَرَّ رأْيٍ
بِقِسْمَتِهِ الخِلافَةَ والبِلادَا
فَوَيّلٌ لّلَرعيَّةِ عَنْ قليـلٍ
لقَدْ أهدى لها الكُرَبَ الشِّدّادَ
ستجري مِنْ دمائِهِمُ بحورٌ
زَواخِرُ لا يَرَوْنَ لها نفَـادَا
فَوِزْرُ بَلائِهم أبداً عَليْـهِ
أغيّاً كانَ ذَلكَ أمْ رَشَــادَا؟
كان الرشيد مع كل الأعمال العظيمة التي قام بها يشعر في قرارة نفسه بقلة الحيلة أمام المنافسات والتيارات الخفيّة داخل مملكته، وأن نكبة البرامكة لم تكن حلاً للموقف، فهناك ولداه الأمين والمأمون ومن ورائهما حزبا العرب والعجم ينتظران خاتمة الرشيد ليستأنفا نضالهما من جديد، ولذلك كان الرشيد في أواخر أيامه وحيداً حزيناً يُخفي علته التي سيموت منها عن الناس، وقد اشتدت العلة بالرشيد وهو في طريقه إلى خراسان للقضاء على ثورة رافع بن الليث، وتوفي بمدينة طوس (مشهد الحالية) ودفن بها.
مواقف لا تنسى
في سنة سبع وثمانين ومائة جاء للرشيد كتاب من ملك الروم نقفور بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة ريني ملكة الروم وصورة الكتاب [من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا وذلك لضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإلا فالسيف بيننا وبينك]
فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى ما تمكن أحد أن ينظر إلى وجهه فضلاً أن يخاطبه وتفرق جلساؤه من الخوف واستعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتابه بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه لا ما تسمعه ثم سار ليومه فلم يزل حتى نزل مدينة هرقل وكانت غزوة مشهورة وفتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة والتزم بخراج يحمله كل سنة.
وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم وانصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة وفرق بالحرمين مالا كثيرا وكان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال له إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله.
وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي قال له أريح العباد منك. قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا.