الاثنين، 27 فبراير 2012

مصر بين التيارات السياسية وشباب الثورة .. فكر مختلف ورؤية مختلفة

مصر بين التيارات السياسية وشباب الثورة .. فكر مختلف ورؤية مختلفة

عندما كنت طالبا بالمدينة الجامعية ، كنا فى حجرة المعيشة ننتهز بعض الدقائق لنتسامر ونتبادل أطراف الحديث كنوع من الترفيه عن النفس بعد عناء يوم طويل من الدراسة والمزاكرة
وكانت الجلسة لا تخلو من بعض الفكاهة البريئة ، وفى احدى المرات قال صاحبنا فى الحجرة : سأقص عليكم ( نكتة ) جميلة
وكان صاحبنا دوما ما يضحكنا لمجرد ان يتحدث وكانت لديه القدرة على إضحاكنا بطريقة هيستيرية
المهم قال صاحبنا : ذات يوم تاه أحد الأشخاص ثم وجد كهفا فنام ثم استيقظ بعد عدة قرون ليفتح المذياع ليسمع نشرة الأخبار والتى تقول : هنا القاهرة قدم فلان الفلانى رئيس الحكومة السودانية مليار جنيه معونة للشعب الأمريكى الفقير
هنا القاهرة ذهب فريق من علماء الصومال لتفقد مفاعلها النووى والموجود على سطح القمر
هنا القاهرة خرج جموع المواطنين من الشعب المصرى مبايعين الرئيس محمد حسنى مبارك لفترة رئاسية تالية جاء ذلك خلال قيام الرئيس بافتتاح كوبرى مبارك العلوى والذى يربط بين حارتى مبارك الاولى ومبارك الثانية
طبعا هى نكتة ساخرة تظهر تمسك الحاكم والمتمثل فى شخص مبارك بالحكم ووجوده حتى بعد مرور عدة قرون ما دام حيا
والنكتة تشير ايضا الى مدى استسلام المواطن لواقع بات مفروضا عليه حتى ألفه
عهد بائد لكنه طال لأجيال متعاقبة حتى عرف الشعب المصرى كغيره من شعوب الشرق استمتاعهم بالعبودية وهو ما كان راسخا فى عقول فلاسفة الغرب والشرق على حد سواء وظهر ذلك جليا فى تراثهم الفكرى
قبيل قيام ثورة يناير لم يتخيل أحد أن يتحول هذا الحلم الخيالى لواقع ملموس نعيشه الآن
فقد كانت مصر تئن تحت وطأة الظلم والقهر والجهل والمحسوبية
ومبارك ليس السبب الوحيد ، فقد ساعده على ذلك ما يسمون أنفسهم بصفوة المجتمع من الكتاب والعلماء والدعاة والسياسيين وغيرهم
كلهم رسخو لتخلف مصر ، كلهم وبلا استثناء كانوا بالفعل أعداءا لمصر بسكوتهم وخنوعهم وشغل الأمة بأشياء فرعية ليست من أسس الدين ولا السياسة ولا حتى الإقتصاد
لكن شباب الثورة فعلها ، شباب الثورة حول الحلم الى واقع ، شباب الثورة إنتشل مصر من براثن المقبرة التى كانت تعد لها من السلطة وأعوان السلطة
شباب الثورة كان أكثر من الإسلاميين فهما وتطبيقا للإسلام ، وأكثر من السياسيين فهما وتطبيقا للسياسة ، وأكثر من الليبراليين فهما وتطبيقا للحرية المسئولة ، وأكثر من المفكرين فهما وتطبيقا لمعانى الفكر وأهميته
عندما بدأت الثورة ونجحت شعر من يسمون أنفسهم بصفوة المجتمع من إسلاميين وليبراليين وعلمانيين وسياسيين وكتاب وغيرهم ، شعروا جميعا أنهم صغار أمام شباب حطم حاجز الخوف وحول المستحيل الى واقع
لكن أبت الصفوة إلا أن تستعيد هيبتها ومكانتها التى ضاعت فى نظر شعب مصر
فماذا فعلوا ؟ ؟
تجمعوا فيما يسمى بالتيارات السياسية واتفقوا بغير اتفاق أن يكتبو تمثيلية محبوكة دراميا
كان هدف هذه التمثيلية هى عزل شباب الثورة عن تكملة إنجاح ثورتهم ومسك زمام القيادة وتسيير مصر نحو آفاق التقدم
حبكوا تمثيليتهم وادعوا اختلافهم وخلافهم حتى  شتتوا الشعب
وكنت دوما أتسائل : لماذا الاختلاف على شئ متفق عليه ، فجميع بنود الدستور والتى كانت سببا للخلاف بنود متفق عليها من الجميع
ويظهر ذلك جليا عندما تحقق لهم ما أرادوا فهاهم الآن ( كالسمنة على العسل ) على رأى المثل المصرى الدارج
ولم تكتف التيارات هذه بذلك بل ظلو يشوهو صورة الشباب مع اتهامهم بالخيانة والعمالة والفجور وقل ما شأت من الشتائم التى يعف اللسان عن ذكرها
والسؤال الآن : لم كل ذلك ؟
ألا يعلم أولئك أن التاريخ يذكر أن جميع التغيرات التاريخية التى حولت مصائر الأمم كانوا شبابا
نعم لم يتغير التاريخ إلا على أيدى أناس تتراوح أعمارهم بين بداية سن المراهقة 12 سنة وحتى سن الأربعين
وسأعطى لكم بعض الأمثلة
كان النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه جميعهم فى هذا السن ومع ذلك حملوا أعظم أمانة على وجه الأرض فغيروا تاريخ البشرية جمعاء
فقد كان سن النبى أربعين  حينما بعث وأصحابه كذلك فالصديق 37 ، والفاروق عمر 29 ، وعثمان 34 ، وعلى 10
والمقداد بن عمرو والذى كان من أوائل من أظهر إسلامه كما ذكر ذلك ابن مسعود
والحباب بن المنذر والذى شهد بدرا وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
انظروا ماذا فعل الحباب وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
في يوم بدر سار رسول الله يبادرهم -يعني قريشًا- إليه (يعني إلى الماء)، فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال الحباب: يا رسول الله، ليس بمنزل ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك، ثم غور كل قليب بها إلا قليبًا واحدًا، ثم احفر عليه حوضًا، فنقاتل القوم ونشرب ولا يشربون، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله: "قد أشرت بالرأي"، ففعل ذلك
وعمار ابن ياسر الذى شاهد موت والديه بعد أن قيدهم أبوجهل وعذبهم ، ظل عمار راسخ كالجبال الرواسى وكان سنه بضعا وعشرين سنة
يبقى أن أذكركم بآخر عمل لرسول الله قبل أن يتوفاه الله كان قيادة أسامة بن زيد بن حارثة  لجيش الإسلام المتجه الى الشام والتى فتحت الطريق لفتح الشام ومصر وافريقيا واوروبا والفتى لم يبلغ العشرين من عمره بل أقل ن ذلك
وعن ابن عمر أن رسول اللّه أقبل يوم الفتح على بعير لأسامة بن زيد وأسامة رديف رسول اللّه. وكان أسامة ممن ثبت مع الرسول في غزوة حنين. وفي المحرم سنة 11هـ، ضرب الرسول بعثاً إلى الشام ، وأمَّرَ عليهم أسامة وأمَرَهُ أن يوطئ الخيل تخوم  البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. وعن ابن عباس أن بعث أسامة لم يستتب لمرض رسول اللَّه، وخلع مسيلمة والأسود، وقد أكثر الناس في تأمير أسامة حتى بلغ الرسول ذلك، فخرج على مرضه فقال: «... وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمارة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقاً بالإمارة وإنه لخليق لها، فانفذوا بعث أسامة». فتوجه أسامة إلى الجُرف، فأرسلت إليه زوجته فاطمة بنت قيس ألا يبرح لازدياد حدة مرض الرسول، فلما قُبِض الرسول الكريم عاد أسامة إلى المدينة، وكلم الناسُ أبا بكر طالبين منه ألا يفرق عنه جماعة المسلمين لارتداد العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، فرفض وأمر أن لا يبقى أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجُرف،
ثم يمر التاريخ حتى نصل إلى صلاح الدين الأيوبى والذى تولى قيادة الشرطة والتى فتحت امامه الطريق للقيادة تولاها وهو ابن الثامنة والعشرين ولم يمر الا بعض الوقت حتى تحررت القدس
وإذا ضربنا أمثلة فى العصر الحديث نجد نفس الظاهرة والتى هى بمثابة قاعدة تاريخية
فالضباط الأحرار والذين قاموا بثورة يوليو كانت أعمارهم بين العشرين والثلاثين فعبد الناصر حينما تولى حكم مصر كان فى الرابعة والثلاثين من عمره
وحسن البنا أسس جماعة الأخوان وهو فى الثانية والعشرين من عمره
وحتى عالميا فكيندى الرئيس الأمريكى والذى حول حلم الفضاء لواقع ملموس والذى عده ( مايكل هارت ) من عظماء العالم وذلك فى كتابه الشهير الخالدون مائة أعظمهم محمد
كان عمر كيندى عندما تولى الحكم 44 عاما
وجورج واشنطن المؤسس الحقيقى للولايات المتحدة الأمريكية وأول رئيس لأمريكا كان عمره 42 سنة حينما قاد ثورة التحرير
هكذا يقول التاريخ وهكذا هو يعلمنا
ولكن لماذا هذه الفترة من عمر الإنسان تتميز بهذا الإبداع والتميز والقدرة على التغيير ؟
مصطلح الشباب فى نظر العامة يعنى مرحلة القدرة والقوة والعطاء ، لكنها فى حقيقة الأمر علميا تمر بمرحلتين تبدأ بمرحلة المراهقة وتنتهى بمرحلة الرشد
فمرحلة المراهقة - والتى تعقب مرحلة الطفولة - هى مرحلة البحث عن الذات ، ويتم فيها الإنتقال التدريجى نحو النضج البدنى والجنسى والعقلى والنفسى
فى هذه المرحلة يلمس الشخص مدى أهمية العلاقات المجتمعية بأنواعها فتزداد لديه الثقة بالنفس والشعور بالأهمية ، ولأنها مرحلة البحث عن الذات وخوض تجارب متعددة فقد يشوبها بعض الأخطاء الناتجة عن عدم إكتمال إحساسه بالمسئولية ، ومع ذلك تبقى ميزة روح المغامرة أهم ما يميز تلك المرحلة
تستمر مرحلة المراهقة حتى سن العشرين لتبدأ مرحلة جديدة تعرف بمرحلة الرشد والتى تستمر حتى سن الأربعين وفيها يصبح الشخص مكتمل النمو ، مسئولا عن تصرفاته ، متعرفا على ذاته ، قادرا على الإختيار ، ومتحملا لتبعات إختياره 
أهم ما يميز هذه المرحلة إحساس المرء بالمسئولية الكاملة ، ومقدرته على بلورة أفكاره وتحويلها إلى واقع ملموس وذلك بإكتساب الخبرات المتعددة مع اتصافه بروح المغامرة المحسوبة والمتقنة - والتى اكتسبها من مرحلة المراهقة لكنها أثقلت بالتجارب فبدت مسئولة - حتى تجد أن أفكاره تلك عبارة عن حلم وخيال لكنها دوما ما تتحول إلى واقع 
ليس هذا فحسب لكن ما يدهشك أن هذا الواقع يتصف بالإبداع والتميز خاصة إذا علمنا أن ذكاء المرء فى هذه السن المبكرة هو الأعلى لأن الذكاء لا ينمو باضطراد حيث أنه يصل الى ذروته قبل بلوغ سن العشرين ولا يعني ذلك أن الراشد أصبح قاصراً أو غير قادر على تحصيل المعرفة ولكن إمكانياته الذهنية وقدرته على تبادل الأفكار مع الآخرين واستخدام المنطق واستخلاص النتائج قد وصلت الى الذروة التي لا يمكن تجاوزها.
هكذا يقول العلم
وبعد كل ما تقدم ما زال البعض من عينة رئيس الحكومة كمال الجنزورى ما زالو ينظرون نظرة كبر وإستعلاء لشباب مصر
الجنزورى والذى بدى مستخفا ومستهزءا حينما حدثوه عن تولى شباب الثورة بعض الحقائب الوزارية 
ولم تختلف التيارات والأحزاب السياسية والفكرية عن نفس الفكر العقيم والذى بالطبع يضر بمصلحة ومستقبل مصر
يا من تحبون مصر اعلموا أن مصر لن تتقدم إلا إذا قادها شبابها 
خاصة إذا كان هذا الشباب مثل شباب الثورة والذى أبهر العالم وظهرت كبريات دول العالم خائفة من قيادة هذه العينة من الشباب أمور القيادة فى مصر 
ولعلكم تلاحظون الفرق بين طريقة حديث وتعامل العالم معنا بعيد الثورة والآن 
يا عقلاء مصر إن لم تستغل هذه النوعية من الشباب فالخاسر الوحيد هو مصر
يا من تسمون أنفسكم بصفوة المجتمع الفكرى والتى صدعتم رؤوسنا بالمقالات والخطب واللقاءات قبل الثورة ولم تفعلوا شيئا لماذا الآن تأخذكم العزة والكبر والاستعلاء لتبدوا وكأنكم من صنعتم الثورة ؟
لماذا تقحمون أنفسكم وأنتم تعلمون أن هناك فرق شاسع بين أحلامكم المحدودة وأحلام شبابنا والتى تطير محلقة حتى تمس السحاب
دعوا مستقبل مصر يرتفع مع أحلامهم ، لماذا تحبسون أحلامنا بعقولكم المتحجرة ؟
لماذا لا تعطوا التاريخ فرصة ليقول كلمته ويحقق قاعدته التى تقول
لا يغير تاريخ الأمم إلا أحلام شبابها
لا يغير تاريخ الأمم إلا أحلام شبابها
لا يغير تاريخ الأمم إلا أحلام شبابها
اللهم هل بلغت .. اللهم فاشهد


بقلم : د / أحمد كلحى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ