الأدب : تعريفه وأنواعه
«ما الأدب؟» سؤال أطلقه جان بول سارتر عام 1947، وأجاب عنه في مؤلف حمل العنوان نفسه، وتبوأ مكانة بارزة ضمن روائع النقد الحديث، وبياناته المهمة. ومع ذلك فإن أحداً لم يزعم أن سارتر، أو سواه، قد نجح في تقديم إجابة شافية لسؤال يغدو يوماً بعد يوم أكثر إلحاحاً، ليس على المعنيين بالأدب ودراسته من الأدباء والنقاد والباحثين وحسب، وإنما على دارسي الأدب الشعبي [ر] والأنتربولوجية [ر] وعلم النفس وعلم الجمال أيضاً.
ويبدو أن أفضل ما يعتمده المرء لتعريف «الأدب» هو مقاربة مفهومه من جوانب مختلفة، تتكامل فيما بينها لتصل إلى فهم يرجى له أن يكون أكثر تماسكاً وعمقاً وتوضيحاً لجوانب هذه الظاهرة الإنسانية البالغة التعقيد.
منظور تاريخي لدلالة الكلمة
1ـ لدى العرب: لا يكاد الباحث يجد أي نص في العصر الجاهلي يستخدم كلمة «أدب»، وكل ما يجده هو لفظة «آدِِب» بمعنى الداعي إلى الطعام، قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا تــــرى الآدب فينــــا يَنْتَقِـــرْ
وفي العصر الإسلامي يرد فعل «أدّب» بمعنى «هذَّب»، في حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم «أَدّبني ربي فأحسن تأديبي»، ويرى بعضهم أن معنىً تهذيبياً خلقياً كهذا ربما كان شائعاً في العصر الجاهلي، ولكن ليس ثمة نصوص تؤيد هذا الرأي. ويبدو أن المجاز قد ساعد في انتقال دلالة الكلمة من المعنى الحسي وهو الدعوة إلى الطعام إلى المعنى الذهني وهو الدعوة إلى المكارم. ويُداخل الكلمة في العصر الأموي، معنى جديد، إلى جانب معناها التهذيبي الخلقي هو المعنى التعليمي، فتستخدم في الإشارة إلى «المؤدِّبين» وهم نفر من المعلمين كانوا يلقنون أولاد الخلفاء الشعر والخُطب واللغة وأخبار العرب وأنسابهم وأيامهم في الجاهلية والإسلام. وقد استمر الجمع بين معنيي التهذيب والتعليم في العصر العباسي كما يلاحظ في كتاب «الأدب الكبير والأدب الصغير» لابن المقفع [ر]. و«باب الأدب» من «ديوان الحماسة» لأبي تمام [ر]، و«كتاب الأدب» لابن المعتز [ر]. وبوجه عام يمكن القول إن الكلمة كانت تطلق في القرنين الثاني والثالث الهجريين وما تلاهما من قرون على معرفة أشعار العرب وأخبارهم، وكان المؤلفون العرب يصنفون كتباً ينعتونها بأنها كتب أدب مثل «البيان والتبيين» للجاحظ [ر] (ت255هـ)، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة [ر] (ت276هـ)، و«الكامل في اللغة والأدب» للمبرِّد [ر] (ت285هـ)، و«العقد الفريد» لابن عبد ربه [ر] (ت328هـ)، و«زهر الآداب» للحصري [ر] (ت453هـ).
والواقع أنه «لم تقف الكلمة عند هذا المعنى التعليمي الخاص بصناعتي النظم والنثر وما يتصل بهما من الملح والنوادر، فقد اتسعت أحياناً لتشمل كل المعارف غير الدينية التي ترقى بالإنسان من جانبيه الاجتماعي والثقافي».
وبهذا المعنى الواسع يجدها الباحث لدى إخوان الصفا [ر] في القرن الرابع الهجري عندما استخدموها في رسائلهم للدلالة على علوم السحر والكيمياء والحساب والمعاملات والتجارة فضلاً عن علوم القرآن والبيان والتاريخ والأخبار.
ويبدو أن هذا المعنى الواسع كان الأساس الذي استند إليه ابن خلدون [ر] (ت808هـ) في إطلاق لفظة الأدب على جميع المعارف سواء أكانت دينية أم دنيوية، فالأدب فيما يراه «لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود به عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم. ثم إنهم إذا أراد أحد هذا الفن قالوا الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف».
ومما يجدر ذكره أن الكلمة استخدمت منذ القرن الثالث الهجري، إلى جانب دلالتها على المعاني التي تقدمت الإشارة إليها، للدلالة على السنن التي يجب أن تراعى عند فئة اجتماعية معينة كالكتّاب أو الندماء أو الوزراء أو القضاة وغير ذلك، ويمكن للمرء أن يشير في هذا الموضع إلى كتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة و«أدب النديم» لكشاجم [ر] (نحو عام 350هـ)، وسواهما من الكتب التي تناولت أدب القاضي وأدب الوزير وأدب الحديث وأدب الطعام وآداب السفر وغيرها.
ومنذ بداية المواجهة العربيةـ الأوربية الشاملة بُعيد الحملة الفرنسية على مصر، أصبحت الكلمة تُستخدم في العربية الحديثة للدلالة على ما يقابل كلمة «literature « الإنكليزية، و«Littérature» الفرنسية،وذلك نتيجة التفاعل الثقافي الذي عاشه الوطن العربي في القرنين الأخيرين. وهي تشير اليوم إلى «الأدب» بوصفه واحداً من الفنون الجميلة الستة أو السبعة، على اختلاف التعريفات ووجهات النظر والتوكيدات التي يلاحظها المرء لدى النقاد العرب ومؤرخي الأدب ودارسيه من العرب المحدثين.
2ـ لدى الأمم الأخرى: استخدمت كلمة «Litteratura» «ليتراتورا» اللاتينية المشتقة من كلمة «Littera» «الحرف» أول ما استخدمت ترجمة لكلمة «grammatiké» «غرامّتيكي» اليونانية، وهي معرفة القراءة والكتابة. وما لبثت أن استخدمت بعدها للدلالة على التبحر والثقافة الأدبية. فشيشرون [ر] ينعت قيصر بهما عندما يذكر أن لديه أدباً وحساً جيداً وذاكرة وتأملاً ودأباً. وفي القرن الثاني للميلاد استخدمت الكلمة للدلالة على «مجموع من الكتابة»، إذ يجد المرء كلاً من تيرتوليان Tertullian وكاسيان Cassian يقابل بين الكتابة الزمنية الوثنية litteratura والكتاب المقدس Scriptura. ويبدو أن الكلمة في العصور القديمة كانت تستخدم عامة للدلالة على مجموع الأدب اليوناني [ر] وتاريخ الأدب ودراسته وما يتصل بذلك من معارف.
وتختفي الكلمة بهذا المعنى في العصور الوسطى ليقتصر استخدام كلمة «ليتراتوس» «litteratus» على من يعرف القراءة والكتابة.
ويلحق الشعر بالنحو والبلاغة بوصفهما يؤلفان - مع المنطق - ما يعرف بالفنون الحرة الثلاثة. ولكن الكلمة لا تلبث أن تعود مع عصر النهضة [ر] إلى الظهور. يلاحظ استخدام كلمة «لتراي - litterae» «آداب» مقترنة غالباً بالصفة «humanae» تمييزاً لها من الكتابات المقدسة، أو بالصفة «bonac» نعت مديح لها. وترد بهذا المعنى في جميع كتابات إراسموس [ر] Erasmus، ورابليه [ر] Rabelais، ودي بيليه [ر] Du Bellay، ومونتيني [ر] Montaigne، وآخرين في حين يستخدم درايدن [ر] Dryden الكلمة للحديث عن «الآداب الجيدة» good letters.
وفي القرن السابع عشر ينبثق مصطلح «Belles Lettres» «الأدب بوصفه فناً جميلاً»، فيقترح شارل بيرو Charles Perrault على كولبير Colbert إنشاء أكاديمية تضم قسماً خاصاً لـ «Belles Lettres» يشمل النحو والفصاحة والشعر. ويبدو أن هذا المصطلح كان مطابقاً في دلالته لمصطلح «الآداب الإنسانية» letters humanies كما يرد في معجم تريفو Dictionnaire de Trevoux الذي يعود إلى عام 1704م، ولا ينطوي على أي من الدلالات غير المستحبة التي تتضمنها صفة «belletistic» التي تستخدم اليوم للدلالة على المغالاة في تذوق الأدب لذاته استناداً إلى ذاتية المتلقي من دون أخذ المعايير النقدية أو الأغراض الأخلاقية أو القيم الجمالية والفنية بالحسبان. وسرعان ما انتشر المصطلح الفرنسي خارج فرنسة، إذ استخدمه توماس رايمر Thomas Rymer في إنكلترة عام 1692، ويغدو هيو بلير Hugh Blair عام 1762 أول أستاذ للبلاغة والأدب بوصفه فناً جميلاً Belles Lettres في جامعة أدنبره.
ويطالع المرء في الحقيقة مصطلح «الأدب» بمعنى الثقافة الأدبية أو التبحر أو ببساطة معرفة اللغات الكلاسيكية منذ العقود الأولى للقرن الثامن عشر. فعلى سبيل المثال يعرف الأدب في طبعة عام 1721 لمعجم تريفو بأنه «مذهب، معرفة معمقة للآداب»، وثمة في «الموسوعة العظيمة» مقالة بتوقيع J.D أي Jaucourt Le chevalier تعرف الأدب بأنه مصطلح «يعني التبحر ومعرفة الBelles Lettres» أو الأدب بوصفه فناً جميلاً.
وقد استخدمت الإنكليزية المصطلح بالطريقة نفسها فجون سيلدن John Selden عالم الآثار يوصف بأنه «شخص ذو أدب لا حدود له»، وبوزويل [ر]Boswell يصف الإيطالي جوسيبي باريتي Giuseppe Baretti بأنه «إيطالي ذو أدب مرموق». وظل هذا الاستعمال سائداً حتى القرن التاسع عشر. فجون بثرام John Pethram يؤلف عام1840م كتاباً بعنوان «تخطيط لتقدم الأدب الأنكلوـ سكسوني في وضعه الحاضر في إنكلترة» يستخدم فيه كلمة الأدب بمعنى دراسة الأدب أو معرفته.
وهكذا يتبين للمرء أن مصطلح «الأدب» قد استخدم منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوربة للدلالة على «مجموع من الكتابة» body of writing على الرغم من أنه يصعب أحياناً إيجاد تفريق واضح في الاستخدام المتزامن بين كل من «الثقافة الأدبية» و«التبحر». وقد شاع هذا الاستخدام في كل من اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنكليزية، وثمة أمثلة عديدة في كل منها لمؤلفات تستخدم المصطلح بهذا المعنى، وجميعها يشير إلى «أنواع الكتابة كلها بما فيها تلك الأنواع المتسمة بطبيعة التبحر كالتاريخ، واللاهوت، والفلسفة، وحتى العلوم الطبيعية». ولم تُضَيّقْ دلالة المصطلح لتشير إلى ما ندعوه اليوم بالأدب الخيالي imaginative literature (القصيدة، الحكاية، المسرحية) بوجه خاص، إلا ببطء شديد.
وباختصار يمكن القول إن مصطلح «الأدب» «literature» أو «الآداب» « letters» قد فهم في العصور القديمة وفي عصر النهضة على أنه يشمل جميع الكتابات النوعية التي يمكن أن تدعي الخلود. ولم ينبثق، إلا ببطء شديد أيضاً في القرن الثامن عشر، الرأي القائل بأن هناك فناً للأدب يضم الشعر والنثر بمقدار كونه «تلفيقاً خيالياً» imaginative fiction، ويستبعد المعلومات أو حتى الإقناع البلاغي، والمحاجة التعليمية، أو السرد التاريخي.
وقد عززت هذا المفهوم المناقشات المتصلة بفكرة الذوق ودور المتذوق، واختراع بومغارتن Baumgarten لمصطلح علم الجمال aesthetics وجهوده مع «كنت» [ر] ولا سيما في كتابه الأخير «نقد الحكم»، في التمييز ما بين الجميل، والجيد، والحقيقي، والمفيد فضلاً عن النهوض البطيء لمكانة الرواية في المجتمع الأوربي، وقاد كل ذلك في نهاية المطاف إلى ظهور مفهوم للأدب مواز لمفهومي الفنون التشكيلية والموسيقى وغيرهما من الفنون الجميلة المعروفة، وغدا الأدب واحداً منها يتبوأ بين أقرانه الستة مكانة بارزة.
نحو تحديد للمصطلح
1 ـ الأدب كل شيء مطبوع: يعرف بعضهم الأدب بأنه «كل شيء مطبوع» everything in print وتعريف كهذا، الذي يدعو إليه إدوين غرينلو Edwin Greenlaw، يقود إلى تماهي الدراسة الأدبية مع تاريخ الحضارة، وفي هذا إنكار للحقل النوعي والمناهج النوعية الخاصة بالدراسة الأدبية.
2 ـ الأدب هو الكتب العظيمة: ويعرف بعضهم الآخر الأدب بأنه «الكتب العظيمة» great books أي الكتب الجديرة بالملاحظة بسبب من شكلها الأدبي أو التعبيري، فضلاً عن امتيازها الفكري العام أحياناً، والحقيقة أن معظم تواريخ الأدب تشمل بعنايتها كتابات الفلاسفة والمؤرخين وعلماء اللاهوت وأصحاب المذاهب الأخلاقية والسياسيين، بل بعض العلماء أيضاً. ولكن المرء يلاحظ أن عنايتها هذه لا تتعدى العروض الخاطفة وربما غير الخبيرة والبعيدة عن السياق المناسب الخاص بكل حقل معرفي تنتمي إليه كتابات هؤلاء. ولا شك في أن قراءة الكتب العظيمة ودراستها أمران مرغوب فيهما. ولكن ذلك لا يغني في موضوعات تراكمية كالعلوم والتاريخ. وفضلاً عن ذلك فإن الاقتصار على الكتب العظيمة في تاريخ الأدب الخيالي يحول بين المرء وبين فهم استمرار التقليد الأدبي، وتطور الأجناس الأدبية، وطبيعة العملية الأدبية نفسها، وينزع ظاهرة محكومة بمختلف الشروط والظروف الخارجية - كالأدب - من سياقها الذي لا غنى عنه في فهم طبيعتها، ووظيفتها، وحدودها.
3 ـ الأدب إنشاء تخييلي تسود فيه الوظيفة الجمالية: الأدب أساساً فن جميل يتخذ من اللغة أداة له، ويتبدى لذلك في هيئة إنشاء discourse. ومما يميز أداة الأدب هذه أنها أداة إنسانية، ابتدعها الإنسان لتكون أداة لتفكيره وتعبيره وتواصله مع أفراد مجتمعه. وأهم من هذا كله أنها أداة الثقافة الموروثة في تجليها لمستخدم هذه اللغة، وأنها، لذلك، أداة التواصل المثلى مع هذه الثقافة. فالفرد إذ يكتسب لغته الأم ويستوعب نظامها بعوامل مختلفة، يستوعب جوانب كثيرة من ثقافته المدونة بهذه اللغة، ومن الثقافات المترجمة إليها، لأنه من الناحية العملية يكتسبها ممارسة، ويواجهها نصوصاً أدبية وغير أدبية من مختلف العصور، يطلع عليها في مختلف مراحل تكوينه اللغوي والفكري والثقافي. وهي لذلك أداة «حافلة بالتراث الثقافي» للمجموعة اللغوية التي تنتمي إليها، وما دوّن فيها أو ترجم إليها من المواريث الثقافية الأخرى، هو حصيلة التراث الثقافي الذي تنطوي عليه.
فالأديب العربي الحديث، مستخدم العربية في إنشائه لنصه، يتواصل مع موروثه الثقافي المشتمل على نصوص القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والشعر العربي من العصر الجاهلي حتى العصر الراهن، ونصوص التاريخ العربي، والقصص، والفكر في مختلف تجلياته، وذلك بالإفادة من اللغة العربية التي تسرب إليه هذا الموروث من حيث يدري ولا يدري.
وعندما ينتج نصه الأدبي فإنه ينشئه بهذه اللغة وقد تشبعت بكل هذا الموروث فضلاً عن المواريث الثقافية الأخرى المترجمة إلى العربية في مختلف العصور.
واللغة في النص الأدبي تؤدي عدة وظائف متفاوتة في أهميتها، والوظيفة الأكثر أهمية والتي تسود عادة غيرها من الوظائف الأخرى وتحكمها في النظام الهرمي الذي تقيمه بينها هي الوظيفة الجمالية aesthetic function وهذه الوظيفة اجتماعية في جوهرها يسندها المجتمع إلى اللغة الأدبية من خلال مؤسساته المختلفة ذات الصلة (المؤسسات التربوية والثقافية والإعلامية).
وربما كان من المهم في هذا السياق ذكر التفريق، بين الأساليب في استخدام اللغة في الأدب، والعلم، والحياة اليومية، الذي بات اليوم موضع تساؤل من جانب منظري الأدب المعاصرين. ومما يلاحظه المرء هنا أن اللغة العلمية المثالية لغة «دلالية» denotative محضة، تهدف إلى التطابق التام والمحكم بين العلامة sign أو الدال، والمشار إليه أو المدلول signified، وأن العلامة في هذه اللغة شفافة أيضاً توجه قارئها من دون التباس إلى ما تشير إليه، كما هو الشأن في الرياضيات أو المنطق الرمزي.
وبمقارنة اللغة العلمية مع اللغة الأدبية تبدو هذه الأخيرة قاصرة لأنها «مفعمة بالالتباسات، وهي،مثلها في ذلك مثل أية لغة تاريخية أخرى، ملأى بالجناس، والزمر الاعتباطية أو اللاعقلانية ومشبعة بالأحداث التاريخية والذكريات والتداعيات. وباختصار إنها شديدة الإيحاء connotative» وهي لذلك في منأى عن أن تكون «إشارية» referential فقط. إن لها جانبها التعبيري expressive فهي تنقل لهجة المتحدث أو الكاتب وموقفه، وتسعى كذلك إلى التأثير في القارئ. وثمة تفريق مهم آخر بين اللغة العلمية واللغة الأدبية يتمثل في تشديد الأخيرة منهما على العلامة نفسها، على رمزية الصوت في الكلمة. وجميع أنواع التقنيات الفنية كالوزن والجناس الاستهلالي وأنساق الصوت إنما اخترعت أساساً لتلفت الانتباه إلى الجانب الصوتي في هذه العلامة.
وأخيراً فإن اللغة الأدبية أكثر حميمية من اللغة العلمية في صلتها بالبنية التاريخية للغة.
وإذا ما مضى المرء من اللغة العلمية إلى لغة الحياة اليومية فإنه يجد صعوبة أكبر في تمييزها من اللغة الأدبية لأن كل ما قيل عن هذه الأخيرة يمكن قوله عن اللغة اليومية وإن كان ذلك بدرجة أقل. ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى ما للغة الأدبية من تسام في وعي العلامة، وقصد وتنظيم محكمين في استغلالها لمصادر اللغة، قد يبلغان درجة يستحيل معها تغيير كلمة أو إضافة كلمة من دون إفساد واضح لتأثير الإنشاء الأدبي ولاسيما في الشعر بأنواعه المختلفة.
ويبدو أن من الأفضل للمرء أن يعد أدباً فقط الإنشاء الذي تكون فيه الوظيفة الجمالية في وضع السائد أو المهيمن والناظم لجميع الوظائف الأخرى التي يمكن للغة أن تؤديها في هذا الإنشاء. فضلاً عن الاستخدام القصدي الواعي المنظم المحكم للغة في الإنشاء الأدبي - هذا الاستخدام الذي يسمح للوظيفة الجمالية بالسيادة والهيمنة في ذاك الإنشاء - فإن هناك سمة أخرى للأدب لا يمكن إغفالها وهي أنه «تخييل» fiction. إن كل شيء في الأدب متخيل ومصنوع بما في ذلك «أنا» الشاعر والشخصيات التاريخية التي تعمر حياة رواية ما، والتي تحيل قارئها على عالم متخيل لا يمكن النظر إليه على أنه واقع تاريخي فعلي.
والإقرار بـ «التخييل» صفة أساسية من الصفات المميزة للأدب يُحيل المرء على آثار من مثل - آثار هوميروس [ر] وامرئ القيس [ر] ودانتي [ر] وشكسبير [ر] أكثر مما يحيله على آثار شيشرون ومونتني وإمرسون [ر] . وتبقى بعض الآثار بين بين. ولكن المفهوم الذي تم تقديمه للأدب في الصفحات السابقة ليس مفهوماً «تقويمياً» بمقدار ما هو مفهوم «وصفي». إنه تصنيف للإنشاءات الفردية التي تسود فيها الوظيفة الجمالية للغة باقي الوظائف الأخرى وتحكمها وتنظم مواقعها في الهرم الذي تشكله في أي من هذه الإنشاءات.
وكل ما قيل وما يمكن قوله عن «الأدب» يؤكد شيئاً أساسياً وهو «أن العمل الأدبي الفني ليس شيئاً بسيطاً، لكنه بالأحرى تنظيم على درجة عالية من التعقيد، وذو سمة طبقية من معان وصلات متعددة». وأن تحليلاً حديثاً للعمل الفني ينبغي أن يبدأ بأسئلة أكثر تعقيداً من مثل نمط وجوده، ونظام طبقاته.وذلك أنه نتاج الإنسان، سر الأسرار الذي ما زال ينتظر من يحل لغزه.
تمييزات
غالباً ما يستخدم مصطلح «الأدب» مقترناً بوصف محدد له كالأدب القومي والأدب العام، والأدب العالمي، والأدب المقارن، ومن الأهمية بمكان إقامة التمييزات الواضحة بين هذه المصطلحات حتى يتم استخدامها استخداماً متسقاً ودقيقاً ومجدياً في آن معاً في أي بحث عن الأدب.
ـ الأدب القومي أو national literature وهو الأدب الخاص بقوم أو شعب من الشعوب.
ويستند الباحثون في تحديده إلى الأسس المستخدمة في إقامة الحدود القومية وهي أسس متنوعة وعديدة غالباً ما تتبوأ فيها اللغة القومية مكانة بارزة.
ـ الأدب العام أو general literature ويقصد به «فن الشعر» poetics أو «الشعرية» أو «نظرية الأدب الداخلية» أو بعبارة أخرى الأعراف conventions والنظم systems، والقوانين canons، والقواعد rules، والمعايير criteria، والقيم values والمقاييسstandards، المستمدة من داخل الأدب، وتكوّن في مجموعها نظاماً متكاملاً يحكم إنتاج الأدب واستهلاكه في جنس أدبي معين، أو مجموعة من الأجناس الأدبية في عدد من التقاليد الأدبية القومية.
ـ الأدب العالمي world literature أو weltliterature وهو مصطلح تعود حقوقه إلى غوته الذي استخدمه أول مرة عام 1827 ليشير به إلى زمن تغدو فيه الآداب كلها أدباً واحداً.
إنه مثال توحيد الآداب جميعها في تركيب واحد عظيم، تؤدي فيه كل أمة دورها في اتساق عظيم.
ـ الأدب المقارن comparative literature وهو مصطلح يعني فيما يعنيه «دراسة الأدب الشفوي» أو «دراسة الصلة بين أدبين قوميين أو أكثر»، أو ما يعرف عادة بالمفهوم الفرنسي للأدب المقارن، أو «دراسة الأدب خلف حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الأدب من جهة ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد من جهة أخرى» أو ما يعرف اليوم بالمفهوم الأمريكي الذي كان ردة فعل على انشغال الفرنسيين وأتباعهم بمسائل التأثر والتأثير واستبعادهم للنقد الأدبي والقضايا الجمالية واستغراقهم في إيمانهم العميق بالمركزية الأوربية.
ويبدو للمرء أن المجاز وحده يستطيع أن يوضح الفروق بين مصطلحات مثل «الأدب القومي»، و «الأدب العالمي»، و«الأدب العام» بسبب التداخل النظري والعملي في استخدامها من جانب الباحثين. وهكذا فإنه يمكن القول إن الأدب القومي دراسة للأدب - بوصفه فناً جميلاًـ ضمن الحدود القومية لذلك الأدب؛ والأدب المقارن دراسة للمناطق الحدودية أو لتخوم الأدب القومي - تخومه النوعية بوصفه أدباً، أو صلاته مع مناطق أخرى من التعبير الإنساني، وتخومه اللغوية بوصفه خاصاً بأمة معينة، أو صلاته بالآداب الأخرى والأدب العالمي هو دراسة للقمم الشامخة التي تستوقف عين الناقد إذ يحلق في السماء الرحبة للأدب، والأدب العام هو دراسة للتضاريس الطبيعية التي يكوّنها مجموع الآداب القومية بصرف النظر عن حدودها اللغوية أو السياسية أو العرقية. وينبغي للدارس، على أي حال، ألا ينسى أن الأدب في النهاية واحد، «كما أن الفن واحد، والإنسانية واحدة، وفي هذا التصور يكمن مستقبل الدراسات الأدبية التاريخية»، ومستقبل دراسة الأدب بوجه عام.
الأجناس الأدبية
الأدب فيض مستمر تنتجه الأمم الحية ما عاشت، ولأنه كذلك فإنه يستعان على دراسته بتقسيمه إلى وحدات تبعاً لمعايير خارجة عنه كالزمان، والمكان، أو وفقاً لمعايير داخلية تمليها الأعمال الأدبية نفسها.
وتصنيف الأدب تبعاً لمعايير من التنظيم أو البنية الداخليين قديم قدم أفلاطون، ومستمر استمرار هذه الظاهرة الإنسانية في مختلف التقاليد الأدبية القومية، وأرسطو، وهوراس، وكوينتيليان، ورجال عصر النهضة من أمثال دانتي وسواه ومن تلاه من مفسري النظرية الكلاسيكية في الأجناس الأدبية، وأعلام الكلاسيكية الجديدة والثائرين بها من نقاد الإبداعية (الرومنتية)، ونقاد القرن العشرين من الشكليين الروس والأرسطيين الجدد من نقاد شيكاغو، ونورثروب فراي وسواه يؤلفون صوى بارزة في محاولة النظر في هذا التصنيف عبر العصور.
والواقع أن كل جنس أدبي رئيسي أو فرعي، عريق أو حديث، مستمر أو منسي، غدا في واقع الأمر مؤسسة تعني الكثير للمهتمين بالأدب أدباء ونقاداً وقراء. وهم يتعاملون مع هذه المؤسسة مثلما يتعاملون مع أية مؤسسة أقامها المجتمع الإنساني،يعبرون عن أنفسهم ويعملون من خلالها أحياناً أخرى، ويثورون بها ويسعون إلى خلق مؤسسات بديلة عنها في أحيان ثالثة، يستجيبون في ذلك كله لحاجاتهم الفنية من جانب، وللحوافز التي يقدمها النقاد والقراء من جانب ثان، وللشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في مجتمعهم من جانب ثالث. وفي تتبع المرء لمسيرة مؤسسة الأجناس الأدبية يمكنه أن يميز الأجناس التالية:
الشعر الغنائي lyrical poetry: وهو جنس أدبي رئيسي قوامه القصيدة والمقطعة. ويعتقد أنه أقدم الأجناس الأدبية، اتصلت نشأته بالغناء في معظم التقاليد الأدبية. وعلى الرغم من أنه كان في بداية نشأته يتوجه، في جزء غير يسير منه، إلى الجمهور ويسعى إلى الاستجابة لذوقه واهتماماته، فقد بات يغلب عليه انصراف الشاعر للتعبير عن ذاته، وهو لهذا جنس أدبي ذاتي، وجل الشعر العربي شعر غنائي يعبر فيه الشاعر عن ذاته، ويفصح فيه عن كوامنها.
ولكنه بسبب نشأته الغنائية وغلبة طابع الإنشاد عليه،ظل يأخذ اهتمامات جمهوره وذوقه بالحسبان وذلك بعد تبنيها والإفصاح عنها من خلال «أنا» الشاعر التي قد تتسع لتشمل الجماعة كما في الشعر الجاهلي أو شعر المناسبات.
الملحمة epic: وهي جنس أدبي شعري موضوعي قديم يقوم على القصيدة القصصية الطويلة التي تسجل حقبة مهمة من تاريخ الأمة التي ينتمي إليها الشاعر أو الأمم التي اتصلت بها ويمثل أبطالها قيم الأمة ومثلها العليا، أو تدور حول البطولة والمغامرات لشخصية أسطورية من شخصيات الأمة تستهوي الأفئدة، أو تتناول المصير الإنساني ولاسيما في بعده الروحي. ويغلب على الملحمة الأسلوب القوي والسامي عادة ولكن بعضها، كما في الملاحم الشعبية العربية، يمكن أن تكتب نثراً مرصعاً بالشعر وربما بلغة أقل سمواً نتيجة غلبة الطابع الجمعي التراكمي على تأليفها.
المسرحية drama: وهي جنس أدبي موضوعي أكثر حداثة نسبياً من الجنسين المتقدمين كانت أداته الغالبة هي الشعر حتى القرن التاسع عشر، وله أنواعه المختلفة التي ربما كان أهمها المأساة tragedy، والملهاة comedy، والمسرحية الهزلية farce، والمسلاة entertainment play (وهي مسرحية قصيرة يغلب عليها الرقص والغناء لشغل الجمهور في أثناء العروض الرئيسية أو قبلها)، ومسرحية المعجزات miracle play (التي تمثل مشاهد من حياة الأولياء والقديسين ومآثرهم)، ومسرحية آلام المسيح passion play التي تصور الأيام الأخيرة من حياة المسيح)، ومسرحية الأسرار المقدسة mystery play، (التي يصدر مؤلفوها فيها عن قصص الكتاب المقدس)، وغيرها.
وثمة فضلاً عن هذه الأنواع المتصلة أساساً بالشكل اليوناني والتي تعدّ تطويراً له، أنواع أخرى كمسرح النو، والكابوكي اليابانيين، ومسرح خيال الظل التركي والعربي، وشعر التعزية الفارسي وغيرها. وعلى الرغم من وجود ظواهر مسرحية عديدة في الأدب العربي القديم فإن المسرحية في الأدب العربي الحديث مستلهمة أساساً من التجربة الأوربية بعيد المواجهة العربية - الأوربية في منعطف القرن التاسع عشر أكثر مما هي تطوير لهذه الظواهر القديمة.
القصة fiction: وهي جنس أدبي نثري موضوعي له أنواع متفاوتة في طولها وأسلوبها، ومن بينها:
1 ـ الرواية the novel وهي سرد تخييلي طويل عادة يجتمع فيه الحديث والتحليل النفسي للشخصيات وتصوير المجتمعات والعالم الخارجي، والأفكار، والمسحة الشاعرية، على تفاوت في أهمية هذه العناصر تبعاً لنوع الرواية، وللرواية أنواع عديدة منها الرواية البوليسية detective novel والرواية التاريخية historical novel ورواية تكون الشخصية bildungsroman ورواية راعي البقر western، والرواية العاطفية sentimental novel، والرواية النفسية psychological novel والرواية المثيرة thriller، وغيرها.
2 ـ القصة القصيرة short story وهي سرد قصصي حديث نسبياً ظهر في أواخر القرن التاسع عشر تكاد تكون لقطة تصويرية موضوعها في الغالب تلك اللحظات العابرة القصيرة في الحياة الإنسانية. وهي جنس صعب جداً بسبب دقة مقوماته وحساسية لغته وتركيزها الشديد.
3 ـ الرواية القصيرة (النوفيلا) novella وهي جنس أدبي فرعي طوره أساساً الكاتب الإيطالي بوكاتشو، في مجموعته الموسومة بـ«الأيام العشرة» Decamerone، التي استلهم فيها «ألف ليلة و ليلة»، واستهوى نمطها بعضاً من أبرز كتاب النثر الأمريكيين مثل هرمن ملفل H.Melville، وهنري جيمس H.James، والعرب مثل غسان كنفاني، وعبد السلام العجيلي، ويحيى حقي وغيرهم.
4 ـ الرومانس romance وهي سرد طويل يغلب عليه التغني بالحب والبطولة. وثمة الحكاية tale وهي سرد خيالي بسيط، والحكاية الرمزية fable والخرافة وغيرها.
السيرة biography : والسيرة الذاتية autobiography، والأولى منهما ترجمة لحياة شخص ما أدى دوراً مهماً في مجتمعه، والثانية ترجمة لحياة مؤلفها.
المقالة essay : وهي جنس أدبي نثري حديث نسبياً أدت الصحافة دوراً كبيراً في تطويره بأنماطه المختلفة، ويطلق المصطلح في الأدب الإنكليزي على المعالجات الجادة لموضوع ما بأسلوب رفيع محكم وتصل المقالة حجم الكتاب المستقل أحياناً.
وفضلاً عن الأجناس الأدبية المتقدم ذكرها والتي تكاد تكون قاسماً مشتركاً بين الآداب القومية المختلفة بما فيها الأدب العربي، هناك أجناس أدبية تكاد تكون مقتصرة عليه منها المقامة وهي قصة قصيرة مسجوعة تتضمن عظة أو ملحة أو نادرة تتخذ معرضاً للبراعة اللغوية والأدبية، وأصل معناها «المجلس» و «الجماعة من الناس» وأشهر كتابها بديع الزمان الهمذاني (ت 393هـ)، والحريري (ت510هـ)، والموشح وسمي كذلك تشبيهاً له بالوشاح أو القلادة التي تنظم حباتها من الأحجار الكريمة، وهو جنس أدبي شعري نشأ في الأندلس نتيجة عوامل عديدة يختلف دارسوه في تقدير أهميتها من بينها انتشار الغناء والموسيقى في الأندلس، والبيئة الأندلسية، والاحتكاك بالآخر وسواها من العوامل. وما لبث أن انتقل إلى المشرق ليغدو واحداً من الفنون السبعة في الأدب العربي التي تضم إلى جانبه المواليا، وكان ما كان، والقوما، والدوبيت، والسلسلة، والزجل وهي أجناس شعرية مختلفة ظهرت في عصور مختلفة نتيجة لمؤثرات داخلية وخارجية متنوعة، ويظهر بعضها تحللاً ملحوظاً من اللغة والعروض السائدين، وهي على وجه الإجمال أجناس فرعية عاشت، خلا الموشح والزجل، على هامش الأجناس الأدبية العربية الرئيسية.
نظرية الأدب
يستند الكاتب في ممارسته للأدب إلى أعراف ومعايير ومقاييس ونظم وقواعد وقوانين تؤلف في مجموعها الفكر الأدبي السائد في عصرها. وعلى الرغم من أنه نادراً ما يفصح عنها فإن طبيعة ممارسته ذاتها تعكس إيمانه الضمني بها على نحو أو آخر. والناقد الناظر في حصيلة ممارسة الكاتب، أو في النص الأدبي - يختاره ويشرحه ويحلله ويوازن بينه وبين غيره ويحكم عليه - يستند كذلك إلى مجموعة مماثلة (أو مغايرة في وجه من الوجوه أو كلياً) من هذه الأعراف والمعايير والمقاييس والنظم والقواعد والقوانين، تيسرله التمييز ما بين المخالف، والمرفوض، والمقبول والمتميز، والمتألق في ممارسة الكاتب، ومع أن الناقد يكون عادة أكثر ميلاً من الكاتب، إلى الإفصاح عن الفكر الأدبي الذي يشكله مجموعها فإن منظّر الأدب أو الباحث في نظرية الأدب وحده الذي يعنى بالكشف عن هذا الفكر على نحو صريح وبيّن ومنظم بسعيه إلى إقامة الإطار المرجعي frame of reference النظري الذي يحكم الممارستين الأدبية والنقدية ويفسرهما في آن معاً. وتتناول نظرية الأدب أو ما يعرف بالإنكليزية «theory of literature»، وبالفرنسية بـ«théorie de le litterature» جانبين اثنين مهمين في فن الأدب هما طبيعته ووظيفته.
وواقع الحال أن جميع نظريات الأدب،بما فيها النظريات العربية والإسلامية، التي تفتق عنها الذهن البشري عبر العصور شغلت بهذين الجانبين على تفاوت في توزيع اهتمامها فيما بينهما. ففي حين ركزت النظرية الشكلية اهتمامها على طبيعة الأدب، انصرفت النظريات الأخلاقية إلى الحفاوة بوظيفته، مع إقرارها جميعاً بالصلة المتبادلة بين طبيعة الأدب ووظيفته. وهذا الإقرار الضمني والصريح أمر متوقع. فطبيعة أي شيء مرتبطة على نحو عضوي بالوظيفة التي يراد له أن يؤديها.
لقد تبين مما تقدم أن الأدب إنشاء تخييلي تتسنم فيه الوظيفة الجمالية موقع السيادة، والناظر في وظيفة هذا الإنشاء في مختلف العصور والتقاليد النقدية يتبين له أنها راحت بين قطبي مقولة هوراس في أن الشعر «متعة وفائدة». ففي حين استبعد أفلاطون الشعراء ومهمتهم لأنهم لم يستطيعوا أن يدللوا على أن الشعر مفيد بمقدار ما هو ممتع، أعاد أرسطو إلى الشعراء مكانتهم عندما بين أن الشعر المسرحي، خاصة، يحقق، بإثارته عاطفتي الخوف والشفقة، تطهيراً للنفس البشرية يماثل المناعة التي يوفرها اللقاح الطبي للشخص السليم، وجاء هوراس من بعدهما ليؤكد أن أفضل الشعر ما جمع بين المتعة والفائدة.
أما في العصور الوسطى عندما هيمنت الكنيسة هيمنة شاملة في أوربة كان من الطبيعي أن تؤكد المؤسسة الدينية أن الأدب فائدة أكثر منه متعة، وأن يثور عصر النهضة، بالمقابل بهذا التصرف الأخلاقي. وما لبث نقاد الاتباعية الجديدة، بعد قرون من العودة إلى المصادر الاتباعية، أن عادوا للاحتفاء بالجانب الشكلي، ليضيق الإبداعيون بهذه الحفاوة ويؤكدوا الدور الاجتماعي للأدب، إذ الشاعر نبي ومصلح في نظرهم. ولكن تغليب الجانب الفردي والعاطفي في الإبداعية تعرض لهجوم نقاد الواقعية الذين حفزتهم الماركسية وغيرها من الفلسفات الاجتماعية على ربط الأدب بالبنية الكلية للمجتمع الإنساني، وعلى تثمين الأدب بمقدار ما يقدمه من إسهام في عملية التحول الاجتماعي الصاعد. وهكذا يجد المرء في القرن العشرين هذا الإلحاح الكبير للنقد الماركسي على ضرورة قيام الأدب بتصوير عملية الصراع في المجتمع الرأسمالي والوقوف مع القوى السائدة التي استنفذت أغراض وجودها بهدف قيام مجتمع اللاطبقات، مثلما يجد الانتشار الواسع بعيد الحرب العالمية الثانية لمفهوم الالتزام الوجودي بوصفه خياراً حراً للكاتب لممارسة دوره المنشود في المجتمع الحديث. ومع التحولات الجديدة التي يشهدها العالم اليوم تغدو وظيفة الأدب أكثر تعقيداً، ولكنها تبقى جزءاً من وظيفة الفن عامة وهي القيام الأمين على المثل الرفيعة والقيم الإنسانية السامية التي لا تكون المجتمعات البشرية إنسانية بحق من دونها.
أما العرب فقد مالوا إلى تأكيد وظيفة الشاعر في العصر الجاهلي في الدفاع عن قبيلته وإعلاء شأنها بين القبائل، ولكن الإسلام قلل كثيراً من أهمية هذا الدور ونزّه القرآن عن الشعر، مثلما نفى صفة الشاعر عن محمد r. ولم يدم هذا الارتباط الوثيق بين الأدب والأخلاق طويلاً إذ سرعان ما أعيد تأكيد أن «الشعر نكد بابه الشر إذا دخل في باب الخير لان»، كما يقول الأصمعي، وأنه لذلك لا يؤخذ بميزان الأخلاق.
واقترن هذا الفصل بين الأدب والأخلاق بموقف دفاعي عن الشعر (الصولي [ر] والقاضي الجرجاني [ر] وغيرهما) من دون الشعر الذي ربما حوكم بمقاييس أخلاقية (الباقلاني [ر] وابن بسام [ر]، أو هوجم، بوحي من أفلاطون وسوء فهم لأرسطو، من جانب النقاد الذين استلهموا الثقافة اليونانية (مسكويه [ر] وابن رشد [ر]) وغيرها (ابن حزم [ر])، لأسباب تربوية. واستمر هذا الإلحاح على الجوانب الشكلية سائداً في الفكر الأدبي العربي حتى العصر الحديث، ولكن المواجهة الشاملة مع أوربة في القرنين الأخيرين وحرص الأدباء العرب المحدثين على أن يؤدوا دورهم كاملاً في بناء الحياة العربية الجديدة أسندوا إلى الأدب العربي الحديث وظيفة الإسهام في عملية التحديث والتحرر الوطني والاجتماعي من جانب، وبناء الإنسان العربي الحديث بالقيم العربية الأصيلة والمفاهيم المعاصرة من جانب آخر.
حدود الأدب
الأدب إنشاء أداته اللغة، ينتجه إنسان من أحد الجنسين، له عمر محدد، وتكوين ثقافي محدد، وحياة نفسية خاصة به. وهو كائن اجتماعي يعيش في محيط اجتماعي يكون وسطاً لنشاطاته المختلفة، ولهذا المنتج ميوله وأهواؤه ووجهاته السياسية والفكرية كما أن له ظروفه الاقتصادية ومكانته الاجتماعية، والأدب الذي ينتجه ليس إلا جزءاً من كل في نشاطاته المختلفة، وهو لذلك يتبادل التأثير وهذه النشاطات، ولاسيما تلك التي تنتهي بإنتاج معرفي أو فني كالفكر والفلسفة والتاريخ والأسطورة والفنون الجميلة و العلوم غيرها.
وأي معنيّ بالأدب ودرسه مضطر إلى النظر في صلات الأدب بهذه الفعاليات وحصيلتها بغرض الوصول إلى فهم أفضل لهذه الظاهرة المعقدة.
الأدب والفكر: يشترك الأدب والفكر (الفلسفة ضمناً) في أنهما نتاجان إنسانيان، (فمنتجهما إنسان)، وأن أداتهما أداة إنسانية هي اللغة الطبيعية (مع اختلاف وظيفتها في كل منهما) وأن كلاً منهما يحمل وجهة نظر منتجة في الإنسان والحياة والكون على نحو مباشر أو غير مباشر وأنهما يتبادلان التأثير فيما بينهما على نحو شامل وعميق.
فأما عن كون منتجهما إنساناً فأمر بين. وكثيراً ما يجمع بين الأدب والفكر في إنتاجه، والأدباء - المفكرون، والمفكرون - الأدباء ظاهرة شائعة في مختلف الأزمنة شيوعها في مختلف التقاليد الثقافية (التوحيدي [ر] والمعرفي [ر] وابن حزم [ر] وأفلاطون [ر] ودانتي [ر] وكولريدج [ر] وروسو [ر] وماركس [ر] وإليوت [ر] وسارتر [ر] وماوتسي تونغ [ر] وغيرهم كثير).
والحقيقة أن المتتبع لتاريخ الآداب المختلفة، والأوربية منها على نحو خاص، يرى أن الارتباط بين الأدب والفكر والفلسفة «آخذ بالازدياد والتعمق، بل إنه يأخذ اليوم طابعاً منظماً يعرفه التاريخ الأدبي من قبل، والصراع الأدبي في العالم اليوم تابع - ولو جزئياً - للصراع الفكري، وأن أي تاريخ أدبي لأوربة (على سبيل المثال )، لا بد أن يكون شديد الالتصاق بتاريخ الأفكار».
وأما أداتهما واحدة، فإن كليهما يستخدمان اللغة الطبيعية، وإن كان توظيفهما لها متبايناً. ففي حين تسود الوظيفة الجمالية الوظائف الأخرى في لغة الأدب، تسود لغة الفكر أي وظيفة أخرى. ذلك أن اللغة الطبيعية في الفكر أداة للتفكير وللتعبير عن هذا التفكير في آن معاً. فهي أداة يفكر بها مثلما هي أداة يوصف بها هذا التفكير، إنها من جانب ما لغة، ومن جانب آخر اصطلاح لغة عن اللغة أو meta- language.
وأما أن كلاً منهما يحمل وجهة نظر منتجة فذلك أمر في غاية الوضوح. فالأدب وجهة نظر في الحياة والإنسان والكون تتخذ لنفسها لبوس الفن، والفكر وجهة نظر في الحياة والإنسان والكون تقدم نفسها مباشرة على الرغم من تألقها فنياً في بعض الأحيان. وعلى هذا فإن الأدب، وإن انطوى على فكر عميق، يغلب عليه التضمين والإيحاء وعدم المباشرة، في حين تطغى على الفكر الصراحة والمباشرة اللتان قد تقتلان الفن، وعلى الرغم من أن الفكر قد يعزز بعض القيم الفنية كالتعقيد والتماسك، فإنه يمكن أن يكون عبئاً غير مرغوب فيه في العمل الأدبي، وخاصة إذا لم يكن متمثلاً. وعلى نحو مماثل فإن الأدب يمكن أن يسهل سبل انتشار الفكر في كثير من الأحيان (كما هو الشأن في كثير من المؤلفات التي كانت تبشر بالوجودية مثلاً)، إلا أنه يمكن أن يدفع الثمن غالياً فيعرض عنه القراء بوصفه أدباً وفكراً معاً، عندما يعرضون عنه بصفته فكراً تجاوزته الشروط التاريخية.
الأدب والمجتمع: كل ما في الأدب يكاد يكون اجتماعياً. فالأدب بداية ظاهرة اجتماعية لا تنهض إلا في مجتمع. وهو ممارسة اجتماعية يتخذ من اللغة أداة له، واللغة مؤسسة اجتماعية. وهذه الممارسة تستند إلى أعراف وقيم ومقاييس ومعايير وقوانين فنية وجمالية لا تنبثق إلا في مجتمع، أي إنها اجتماعية في جوهرها، وهي كذلك لا تتم إلا ضمن مؤسسات اجتماعية. والأديب فضلاً عن ذلك «عضو في مجتمع، وذو وضع اجتماعي معين، إنه يتلقى مقداراً ما من الاعتراف والمكافأة الاجتماعيين وهو يخاطب جمهوراً مهما كان هذا الجمهور افتراضياً» وكذلك «فإن للأدب وظيفة اجتماعية، أو فائدة لا يمكن أن تكون فردية صرفة. ولذا فإن الكثرة الكاثرة من المسائل التي تثيرها الدراسة الأدبية مسائل اجتماعية على الأقل في النهاية أو ضمناً: مسائل التراث والعرف، والمعايير والأجناس، الرموز والأساطير».
لذا فإن من الطبيعي أن يتبادل الأدب التأثير مع المجتمع الذي ينتج فيه، وأقل مسوغ لهذا التأثير المتبادل كون الأدب جزءاً لا يتجزأ من الممارسات الاجتماعية للفرد التي تكون مجموع صلاته بالمجتمع الذي يعيش فيه، ولعل هذا كان وراء نشوء حقل معرفي خاص بهذه الصلة الوثيقة هو علم اجتماع الأدب sociology of literature الذي يدرس مسائل مختلفة مثل الأصول الاجتماعية للكاتب، وعلاقات الإنتاج والاستهلاك في الأدب، والمضامين الاجتماعية للأدب، وتأثير الأدب في المجتمع وغيرها. وعلى الرغم من إقرار المرء بهذه الصلة بين الأدب والمجتمع فإن عليه أن يذكر دوماً «أنّ للأدب مسوغه وغرضه الخاصين به»، ولا يمكن أن يكون بديلاً من علم الاجتماع، كما يظن من يحاول أن يستخدمه بوصفه وثيقة اجتماعية، أو علم السياسة، فإن له منطقه الخاص حتى في أكثر وجوهه اجتماعية.
الأدب وعلم النفس: من الطبيعي أن تكون علاقة الأدب بعلم النفس وثيقة جداً، وأن يكون التأثير المتبادل بينهما واسعاً وجوهرياً في آن معاً. وعندما احتُفل فرويد [ر]، بمناسبة عيد ميلاده السبعين، بأنه مكتشف اللاوعي، أنكر هذا اللقب وصحح الكلام بقوله: «إن الشعراء والفلاسفة قبلي اكتشفوا اللاوعي، وما اكتشفته هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي».
والحقيقة أنه بمقدار إفادة علم النفس (الفرويدي بوجه خاص) من الآثار الأدبية المختلفة في تصوراته عن النفس الإنسانية ومناطقها وآليات عملياتها المختلفة بما فيها عملية الخلق الفني، وعن عقدها وغير ذلك، فإن استبصارات علم النفس قد عززت الكثير من جوانب الممارسة الأدبية، ولاسيما في الشعر، والرواية، والسيرة، والمسرحية، والكتاب اليوم يمارسون عملهم مستندين إلى أرضية أكثر رسوخاً في دراستهم النفس الإنسانية التي هي المحور الذي يدور حوله الأدب. وأكثر من هذا فإن كون منتج الأدب ومتلقيه إنساناً عزز الصلة الوثيقة بين الأدب وعلم النفس الذي انصرف في جانبه الأدبي أو ما يسمى بعلم نفس الأدب psychology of literature، إلى العناية بعملية الخلق الفني لدى الكاتب من جهة، وآليات الاستقبال لدى المتلقي من جهة ثانية، ولعل ذلك يتضح أكثر ما يتضح في الاتجاه النقدي والموسوم بالنقد الاستقبالي receptionist criticism، أو نقد استجابات القارئ reader- response criticism الذي غدا واحداً من أبرز اتجاهات النقد المعاصر على جانبي الأطلسي. وفضلاً عما تقدم فإن عالم الأدب ولاسيما في جانبه النفسي أصبح، مع استخدامات معطيات علم النفس في مقاربته، أكثر إثارة وغنى ومتعة وفائدة، وهذا ما عزز تفهم الإنسان لنفسه ولغيره وساعده في تواصله معه.
الأدب والتاريخ: «الشعر ديوان العرب» الذين اتخذوا من شعرهم سجلاً لهم: لأنسابهم من جهة، ووقائعهم وأيامهم من جهة ثانية، ومواجهاتهم مع ما يحيط بهم من أمم من جهة ثالثة. والحقيقة أن الصلة بين الأدب والتاريخ قديمة قدم الأدب نفسه، وكثير من نصوص الأدب القديم: المصري، والآشوري، والبابلي، والسومري، والآرامي، واليوناني هي مصادر في التاريخ السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي مثلما هي مصادر في التاريخ الأدبي، والملاحم القديمة (غلغامش، الإلياذة، والأوذيسة، والإنيادة وغيرها) أمثلة بينة على ذلك.
والشأن نفسه في الملاحم الشعبية وفي الكثير من نصوص الأدب الشعبي وشعر الفتوح الإسلامية بصفة خاصة. ففضلاً عن القيمة الأدبية لهذه النصوص ثمة قيمة فوق - أدبية extra- literary تتمثل أساساً في تلك الإشارات الكثيرة إلى حوادث وتواريخ ووقائع في حياة الأمة في مختلف العصور.
وإذا تجاوز المرء غنى المصادر الأدبية بالإشارات التاريخية، وهو أمر ملحوظ في مختلف التقاليد الأدبية من جهة، وعلى امتداد العصور من جهة أخرى، فإنه يجد أن هذه الصلة تطرح نفسها على نحو صارخ في جنسين أدبيين مهمين في العصور المتأخرة لمختلف الآداب وهما الرواية والسيرة، كما طرحت نفسها من قبل على نقاد الاتباعية الجديدة في قضية المسرحية التاريخية.
فطبيعة كل من هذين الجنسين المهمين تثير مسألة صلة الأدب بالتاريخ ولاسيما في الرواية التاريخية والسيرة الذاتية. ودارس الرواية التاريخية على سبيل المثال لا يسعه إلا أن يقارن بين الوقائع التاريخية المستلهمة كما تعرضها كتب التاريخ، والوقائع التاريخية نفسها كما تقدمها الرواية. وهذا التوازي المفترض أو المزعوم أو الواقع فعلاً ليس كل شيء فثمة مسائل أخرى جديرة بالتوقف عندها مثل مشروعية استخدام التاريخ في الرواية، ومقدار حرية الروائي في تطويع هذا التاريخ على النحو الذي يخدم رؤيته للعالم، ودرجة معقولية التفسيرات التي ينطوي عليها استلهامه للوقائع التاريخية ومقدار اتساقها الداخلي، وغير ذلك.
أما السيرة فإن وقائع حياة موضوعها تؤلف المادة الأساسية لمحتواها، وكاتبها لا يسعه تجاهل البعد التاريخي لما يقوم به، مثلما لا يستطيع تجاهل التداخل الذي يواجهه في عمله بين ممارسة الأديب وممارسة المؤرخ. فالسيرة «جنس أدبي قديم. فهي أولاً - من ناحية التسلسل الزمني ومن الناحية المنطقية - جزء من علم التاريخ».
و«مشكلات كاتب السيرة هي ببساطة مشكلات المؤرخ. إن عليه أن يفسر وثائقه، ووسائله، وتقارير شهود العيان، والذكريات، وبيانات السير الذاتية، وأن يقرر في مسائل تتصل بما هو أصلي أو غير ذلك، وبوثوقية شهود العيان وما شابهها. وفي الكتابة الفعلية للسيرة، يواجه مشكلات العرض الزمني، والانتقاء، والتكتم أو التصريح. والعمل الواسع بالأحرى الذي تم في السيرة بوصفها جنساً يتناول مسائل كهذه، ليست بأي حال أدبية من الناحية النوعية» على حد تعبير مؤلفي نظرية الأدب.
وإشكاليات هذا التداخل المعقد والمثير بين ممارسة الكتابة الأدبية وممارسة الكتابة التاريخية، ربما تغدو أكثر تعقيداً وصعوبة في كتابة السيرة الذاتية التي يكون موضوعها ومؤلفها واحداً، نتيجة صعوبة انسلاخ المؤلف عن موضوعه، واستحالة ترك فسحة بينهما تتيح مقداراً كافياً من التأمل الموضوعي في العمل المؤدى، وهي مسائل تظفر باهتمام متزايد من قبل الباحثين المعاصرين في نظرية الأدب والنقد من مختلف الاتجاهات.
الأدب والأسطورة: عندما يذكر الأدب اليوناني تذكر الأساطير اليونانية على أنها العنصر الذي يكاد يتحدى الفناء والنسيان. إذ لا تزال الأساطير اليونانية تعيش في ذاكرة الأمم الأوربية وغيرها تستلهم ويعاد صوغها وتحور وتطور وتسقط على الواقع في مختلف العصور ولاسيما العصر الحديث. وحال الأساطير اليونانية ليس فريداً، وإن كان مميزاً. ذلك أن الأسطورة في جوهرها أدب إنساني تنتجه الأمم في مراحل نموها الأولى، وهي بالمعنى الواسع للكلمة قصة مجهولة المؤلف «تتحدث عن المصائر والأصول». والواقع أن الأسطورة أدب الإنسان القديم، وعنصر مكون في نسيج أدبه عبر العصور، ولا سبيل إلى فهم أدبه الفهم الحق من دون العودة إلى ينابيعه الأولى من جهة، وتتبع مكوناته الأساسية من جهة أخرى. إن الصلة بين الأدب والأسطورة صلة عضوية وجوهرية، عززتها الاهتمامات المتزايدة بعلم الأساطير [ر] والأنتروبولوجية والفولكور [ر]، وبالأنماط المختلفة لاستلهامات الأسطورة من جانب مختلف الفنون الجميلة وبعض المعارف الإنسانية كعلم النفس، بل إن هذه كانت وراء ظهور ما يسمى بالنقد الأسطوري أو نقد النماذج الأولى archetypal criticism، الذي أقام دعائمه نورثروب فراي Northrop Frye في كتابه «تشريح النقد» Anatomy of Criticism (1957).
الأدب والفنون الجميلة: قد يختلف الناس في تعريفهم للأدب أو فهمهم لطبيعته أو في تحديدهم لوظيفته أو بيان حدوده، ولكنهم سيجمعون على أنه واحد من الفنون الجميلة الستة أو السبعة إن أضيفت إليها السينما. وربما كان هذا الإجماع أقدم مما يبدو للوهلة الأولى، فهو يعود لأفلاطون وتلميذه أرسطو، اللذين نظرا إلى الفنون عامة على أنها محاكاة، بل إن أرسطو رأى أن الاختلاف بين الفنون إنما يرجع إلى اختلافها في أداة المحاكاة أو في موضوعها أو في نمطها. ولذا فإن توثيق الصلة بين الأدب والفنون الجميلة أمر مفروغ منه، إذ الأدب مجرد عضو في أسرة. وإن ما يجمع بين أفرادها أكثر مما يفرق.
فالفنون الجميلة، وبينها الأدب، تتبادل الاستلهام فيما بينها، وكثيراً ما تستنزل الموسيقى وحيها من الشعر، وتستلهم الفنون التشكيلية الأدب، ويستوحي الأدب من العمارة والتصوير والموسيقى وغيرها. وكثيراً ما يؤدي فنان واحد عدداً من هذه الفنون معاً.فشاعر العصور القديمة كان العازف على الآلة الموسيقية، والمؤلف الموسيقي، والمنشد في آن معاً، والشعر في مختلف التقاليد الأدبية نشأ نشأة غنائية، وصلته بالفنون الجميلة الأخرى كالموسيقى والغناء والرقص كانت باستمرار قوية، وحسب المرء أن يشير في هذا السياق إلى المسرحيات الغنائية والأوبرا وسواها في التقاليد الغربية، وإلى الموشحات ورقص السماح في الثقافة العربية الاتباعية، والمسرحية الغنائية في الثقافة العربية الحديثة. وأكثر من هذا فإن الشعر العربي على مر العصور حافظ على كونه فناً سمعياً بمعنى أنه كان باستمرار ينظم ليلقى وينشد أكثر مما كان ينظم ليقرأ، كما هو شأن الشعر العربي الحديث. والشعر، حتى الحر منه free verse والمرسل لا يكاد يستغني عن عنصر الموسيقى فيه. فوزنه يقوم على العروض الذي يحكم جانب الإيقاع فيه، وجمله وبناه الصرفية وحروفه وأصواته توفر له عنصر اللحن مما يدرس عادة تحت عنوان الموسيقى الداخلية. بل إن ثمة من يحاول اليوم أن يدرس عنصر الإيقاع في أجناس أدبية غير الشعر الغنائي من مثل الرواية والمسرحية وغيرهما، ويحاول أن يقنع ليس بوجوده وحسب بل بوضوحه أيضاً. ولا ينسى المرء بالطبع أن الشعر قد سعى في بعض أطواره إلى أن يقترب من الموسيقى كما هو شأن الشعر الرمزي، وأن الكثير منه كان يؤلف في مختلف العصور والثقافات ليلحن ويغنى، وهو أمر شائع شيوعاً أكبر من أن يحتمل أي تمثيل. ومع «أن تضافر الشعر والموسيقى موجود على نحو أكيد» فإن «أسمى الشعر لا يميل إلى الموسيقى وأعظم الموسيقى تقف من دون حاجة إلى كلمات».
وكما سعى الشعر إلى أن يكون له تأثير الموسيقى، فإنه سعى إلى أن يكون رسماً بالكلمات، بل إن الكثير من الصور التي يحفل بها أحياناً تتسامى لتبلغ في تأثيرها الرسم وربما تفوقه، ولعل هذا ما حفز الكثير من الرسامين والفنانين التشكيليين على استلهام الشعر، وخاصة صوره. وتسعى الرواية باستمرار إلى أن ترسم بالكلمات صورة حية وغنية بالتفاصيل الدقيقة عن الواقع الاجتماعي والطبيعي الذي تصوره في فصولها، مثلما تسعى إلى رسم صور دقيقة لشخصياتها حتى ليكاد بعضها يصبح أنموذجاً وجزءاً من حياة الناس (دون كيشوت، وآنا كارنينا، والسيد أحمد عبد الجواد وغيرها).
وإذا ما تجاوز المرء الموسيقى والرقص والتصوير فإنه يلاحظ بسهولة أن الفن المسرحي يقوم أساساً على نص أدبي، وكذا الشأن في الفن السابع والفنون المستحدثة الأخرى كالمسرحية الإذاعية والتلفزيونية، والمسلسلات التمثيلية في كل من الإذاعة والتلفزيون فإنها جميعاً تقوم في كثير من الأحيان على تطوير نصوص من أجناس أدبية مختلفة كالقصة القصيرة والرواية وتطويعها وإعدادها للتقديم في وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة، بل إن هذه الفنون قد حفزت الكثير من الكتاب على الكتابة لهذه الوسائل مما أدخل تغيرات نوعية مهمة في كتابة الأجناس الأدبية التقليدية ذاتها.
وفضلاً عما تقدم فإن تطور الاهتمام بعلم نفس الفن psychology of art، وبعلم اجتماع الفن sociology of art عزز من وحدة الفنون الجميلة بما فيها الأدب. وكذا الشأن في الاتجاهات الفنية والفكرية والثقافية التي لم تكتف بتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية، فتجاوزت حدود الفنون الجميلة فيما بينها، كما هو الحال في الاتباعية الجديدة والإبداعية [ر] والباروك [ر] والسريالية [ر] ونزعة الحداثة [ر]، ونزعة ما بعد الحداثة post - modernism وغيرها. وربما كان هذا وراء اهتمام الدارسين بمقارنة الفنون الجميلة على أساس من تأثيرها في المتلقي، أو خلفيتها الاجتماعية والثقافية، والقيام بالدراسات البنيوية والمقارنة التي تتخطى الحدود بين هذه الفنون.
ومع ذلك فإن على المرء أن يؤكد أن لكل فن جميل أداته الخاصة به «فالفنان لا يتصور على نحو عقلي عام، وإنما من خلال المادة الملموسة، وللأداة الملموسة تاريخها الخاص بها، والذي يختلف غالباً عن تاريخ أية أداة أخرى».
وكذلك فإن «كل فن من الفنون الجميلة - الفنون التشكيلية والأدب والموسيقى تطوره الفردي، مع سرعة مختلفة، وبنية داخلية مختلفة العناصر، ولا شك أن الفنون الجميلة على صلة مستمرة فيما بينها، ولكن هذه الصلات ليست تأثيرات تبدأ من نقطة معينة وتحدد تطور الفنون الأخرى. إنها ينبغي أن تتصور بالأحرى على أنها مخطط معقد من الصلات الجدلية التي تعمل في كلا الاتجاهين، من فن إلى آخر وبالعكس، وربما تتحول تماماً ضمن الفن الذي دخلت فيه».
الأدب والعلوم: ليست المقابلة بين الأدب والعلم، وبين لغة الأدب ولغة العلم، هي كل ما بين الأدب والعلوم من صلة، وليس العلم مجرد نقيض للأدب. فالعلوم جزء لا يتجزأ من التكوين الثقافي للكاتب الذي يصدر عنه في إنتاجه للأدب وبالتالي فهي مكون من مكونات نسيج إنشائه الأدبي وهي كذلك جزء من المجال المهيمن في مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني (بالمعنى الذي يذهب إليه توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية The Structure of Scientific Revolutions، أو ما يعرف أحياناً بروح العصر geistegeschichte أو المناخ العام السائد في حقبة إنسانية معينة، وهي اليوم موضوع أساسي ومهم من موضوعات الأدب (قصص الخيال العلمي (science fiction.
أما عن كون العلوم جزءاً لا يتجزأ من التكوين الثقافي للكاتب فذلك أمر بين تشهد عليه الأمثلة الكثيرة من الكتاب الذين تعكس آثارهم حجم المكوِّن العلمي في ثقافتهم مثلما تدلل عليه آثار الكتاب الذين جمعوا بين العلم والأدب ولاسيما في العصر الحديث (سومرست موم [ر] وعبد السلام العجيلي وشكيب الجابري ويوسف إدريس ونوال السعداوي وعبد الرحمن منيف وغيرهم).
أما عن كونها جزءاً مهماً من المناخ العام السائد فأمر يلاحظه المرء من هيمنة أفكار معينة، علمية في غالبها، على الشخصيات الروائية وعلى أنماط تفكيرها وسلوكها تعكس روح عصر إنتاج الآثار الأدبية (أعمال الطبيعيين الفرنسيين مثلاً) التي تتضمنها من مثل نظرية النشوء والارتقاء، والعوامل الوراثية، وغيرها.
وأما عن كون العلوم قد أصبحت موضوعاً أساسياً من موضوعات الأدب فأمر يتضح من الانتشار الواسع لقصص الخيال العلمي [ر] الذي يتخذ من عالم الفضاء والمحيطات والطبيعة والخلية والمورثات والهندسة الوراثية وغيرها موضوعاً له، ويطلق العنان فيها للخيال لتصور أشياء جلها يقع في دائرة الطموح الإنساني، والفضول الإنساني، أكثر مما يقع في دائرة الواقع الإنساني، ولذلك غدا حافزاً مهماً من حوافز التقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم اليوم.
نقد الأدب
نقد الأدب أو النقد الأدبي تفكير منظم واضح ومحدد عن الأدب يتخذ لنفسه صيغة الإنشاء اللغوي discourse، وهو لذلك إنشاء لغوي عن إنشاء لغوي آخر هو الأدب. وأهم ما يميز النقد الأدبي من غيره من أنواع النقد الأخرى أنه يستخدم الأداة نفسها التي يستخدمها موضوعها في حين يشارك النقد الأدبي موضوعه وهي اللغة الطبيعية natural language (تمييزاً لها من اللغات الاصطناعية الأخرى كلغة إشارات المرور، ولغة الثياب،ولغة الرتب العسكرية، وغيرها). ذلك أن أنواع النقد التشكيلي، لا تستخدم العلامات الموسيقية، أو الألوان، أو المواد الأخرى التي يستخدمها موضوعها في حين يشارك النقد الأدبي موضوعه - الأدب - في الأداة التي يستخدمها وبالتالي في مكوناته الأساسية مما يعزز الصلة العضوية بين النقد الأدبي والأدب على الدوام.
ولكن اشتراك الإنشائين النقدي والأدبي في الأداة والمكونات الأساسية لا يعني محو كل تفريق بينهما، وتبقى لكل منهما هويته الخاصة به التي يعرف بها. والحقيقة أن الإنشاء النقدي critical discourse يستخدم اللغة الطبيعية استخداماً مختلفاً عن استخدام الإنشاء الأدبي literary discourse لها. فإذا كان لكل إنشاء لغوي عدة وظائف يؤديها في آن معاً فإن مما لا شك فيه أن الوظيفة السائدة والناظمة لغيرها من الوظائف في الإنشاء الأدبي هي الوظيفة الجمالية aesthetic function في حين تستخدم اللغة في الإنشاء النقدي لتسهيل عملية التفكير في الإنشاء الأدبي موضوع النقد، ولذلك فإنها تكاد تكون في مجملها مصطلحات terms ومفاهيم concepts توظف بوعي وقصد لدلالاتها المحددة تحديداً دقيقاً ضمن إطار الإشارة الناظم للعملية النقدية.
ومع هذا الفارق الأساسي في توظيف كل من النقد الأدبي والأدب للغة الطبيعية، فإن الصلة بينهما وثيقة. فالنقد الأدبي تتحدد هويته وطبيعته بموضوعه. ويتأتى هذا التحديد من حضور الأدب في النص النقدي الذي يراوح بين الحضور الصريح (كما في النقد التطبيقي) والحضور الضمني (كما في النقد النظري) والحضور بالفعل (كما هو الشأن في مختلف ضروب النقد الأدبي النظري والتطبيقي) أو الحضور بالقوة (في النقد النظري الطليعي الذي يحاول توجيه عملية الإنتاج الأدبي في مجتمعه وجهة جديدة).
وهناك على أية حال نوعان رئيسان من النقد الأدبي هما:
النقد التطبيقي أو العملي: أو ما يسمى عادة في النظرية النقدية المعاصرة بالتفسير interpretation وليس بالمعنى الذي ذهب إليه رتشاردز Richards وهو مواجهة للنصوص الأدبية من جانب الناقد الذي يحاول بجملة من العمليات العقلية أن يضع يده على الآلية الداخلية للإنتاج الأدبي، متوخياً من ذلك توجيه الأديب إلى تطوير عمله، وتيسير استيعاب النص المنقود وتذوقه والحكم عليه من جانب القارئ.
وربما كان من أبرز هذه العمليات:
الشرح الذي يسعى إلى إيضاح كل ما غمض في النص من علامات لغوية وإشارات ثقافية أو غيرها بغرض تأسيس العمليات التالية على أرضية من الفهم السليم لهذا النص:
ـ التحليل الذي يفكك بنية النص المعقدة إلى وحداتها المكونة على مختلف المستويات بهدف الكشف عن آليات الإنتاج الأدبي، وبيان مختلف جوانب الجهد الفني الذي بذله الكاتب في إنتاجه لنصه.
ـ التفسير الذي يحاول أن يبين دلالة النص الكلية من خلال إعادة بناء، قد تكون جذرية، لمكوناته المختلفة وتوجيهها الوجهة التي تتسق مع هذه البنية الدالة signifying structure التي ندعوها بالنص.
ـ الموازنة التي تهدف إلى توضيح جوانب من أداء الكاتب في مستوياته المختلفة بمقارنة هذا الأداء مع صور أخرى من أداء الكتاب الآخرين في المستويات ذاتها، وبالطبع فإن المشابهات والاختلافات التي يخرج بها الناقد الأدبي من موازناته تيسر عليه، وعلى القارئ فيما بعد، معرفة منزلة الكاتب بالقياس إلى الكتّاب الآخرين وتكشف عما يميزه منهم.
الحكم وهو العملية الأخيرة التي تؤدي إليها كل العمليات المتقدمة، وتكاد تكون النتيجة النهائية التي تقود إليها المقدمات السابقة. وعلى الرغم من أن بعضاً من أبرز النقاد المعاصرين يفضلون أن يدعوا الحكم على الآثار الأدبية للزمن، فإن كثيرين غيرهم يلحون على ضرورة هذه العملية، لأن النقد يقوم أساساً على التميّز ومجرد اختيار نص ما لمواجهته ثم شرحه وتحليله وتفسيره وموازنته ينطوي على حكم ضمني بجدارته بهذه العملية جميعها، وبالتالي فإنه ليس ثمة ضرورة للنفور من الحكم على الأثر الأدبي ما دام يستند إلى معرفة خبيرة وعميقة ومتدرجة تسوِّغ للناقد الذي يقدمها بين يدي حكمه - هذا الحكم الذي يعني الكثيرين من القراء ممن لا يتيسر لهم الوقت أو الخبرة النوعية فيستندون إلى هذا الحكم في قراءتهم للنصوص المتاحة لهم.
النقد النظري: theoretical criticism: أو الشعرية poetics كما يفضل بعض نقاد العرب المعاصرين نعته، أو نظرية الأدب الداخلية. وهو حقل معرفي قديم - جديد، ظفر منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين باهتمام متزايد، وغدا اليوم تخصصاً محترماً تؤلف فيه الكتب، وتعقد له المؤتمرات وتنظم من أجله الأقسام، وتحدث له الكراسي في الجامعات، وتصدر في جوانبه المتشعبة الدوريات في مختلف اللغات. الهدف الأساسي من هذا الحقل المضي إلى ما وراء النقد التطبيقي أو العملي practical criticism الذي تقدم الحديث عنه، لأنه، أي التفسير، لا يعدو أن يكون مواجهة لأمثلة مختلفة من الإنشاءات الأدبية الفردية، ونظرية الأدب المعاصرة تريد للنقد أن يخرج من مواجهته لهذه الإنشاءات بالكشف عن النظام الداخلي الذي يحكمها إنتاجاً واستهلاكاً في مستوياتها المختلفة، إنها تريد أن تستنبط النظام الأدبي الذي جعل الأدب أمراً ممكناً متأسية في ذلك بصنيع علماء اللغة المعاصرين الذين يعنون بالنظام اللغوي langue مما يجعل اللغة أمراً ممكناً.
ويستند هذا التأسي إلى حقيقة واضحة وضوحاً صارخاً هي أن الأدب إنشاء لغوي من نوع ما، فهو لذلك شكل من أشكال الممارسة اللغوية، «نشاط لغوي يتم ضمن بنية اجتماعية مثل أشكال الإنشاء الأخرى. وهو قابل للدراسة قابلية الإنشاءات الأخرى» ولذا فإن من الطبيعي أن يتطلع المرء إلى النظام اللغوي، ويرى فيه للوهلة الأولى حاكماً لإنتاج هذا الإنشاء اللغوي الفردي الموسوم بالأدب. ولكن لو كان الأمر على هذا النحو لاستوى الناس جميعاً في كتابة الأدب وفي تذوقه عند قراءته. ولكنهم لا يستوون حتى في الأداء اللغوي linguistic performance. بمختلف أشكاله وضروبه على الرغم من اشتراكهم فيما يسمى بالقدرة اللغوية linguistic competence. ومعنى هذا أن الدارس مضطر للبحث عن شيء آخر، غير هذا النظام اللغوي، يحكم إنتاج الإنشاء الأدبي literary discourse المتميز أساساً بسيادة الوظيفة الجمالية فيه.
ولذا فقد رأت فئة واسعة من نقاد الأدب، بعد أن تبينت أن النظام اللغوي لا يمكن أن يفسر أدبية الأدب، أن تستلهم الأنموذج اللغوي linguistic model في سعيها لاستخلاص نظام يحكم إنتاج الإنشاء الأدبي يمكن أن يدعى بالنظام الأدبي literary system. وما دام البحث عن النظام اللغوي الخاص بلغة ما la langue يبدأ من تفحص الإنشاءات اللغوية الفردية parole بجميع أشكالها آنياً (تزامنياً) synchronically وتاريخياً diachronically ودراستها دراسة متمعنة بغرض وضع اليد على ما يجعل اللغة أمراً ممكناً، أي بغرض تحديد الأعراف، والقوانين، والأنظمة، والقواعد التي تيسر الأداء اللغوي وتجعله ممكناً، فإنه يمكن لناقد الأدب في بحثه عن النظام الأدبي الخاص بأدب أمة أن يبدأ من دراسة الإنشاءات الأدبية الفردية، أو النصوص التي ينتجها الأدباء في مختلف الأجناس الأدبية، وبعد أن يستغرق جملة وافية منها يستطيع أن يخرج بالنظام الذي يحكمها إنتاجاً واستهلاكاً. وبالطبع فإن مستويات استغراق النظام الأدبي يمكن أن تتدرج من إنتاج كاتب ما ، إلى إنتاج جنس أدبي ما بلغة ما، في زمن ما، في مكان ما، إلى إنتاج جنس أدبي ما بلغة ما، لأمة برمتها، إلى الإنتاج الأدبي كله في مختلف الأجناس الأدبية لأمة من الأمم في الزمان والمكان. والمهم في ذلك كله أن يمضي الباحث في نظرية الأدب الداخلية من النصوص إلى ما وراءها حتى يقوّم من ذلك كله النظام الأدبي الذي تستند إليه، والذي يجعل إنتاجها واستهلاكها أمراً ممكناً بالدرجة الأولى. وبهذا يغدو النقد الأدبي النظري معرفة فكرية صحيحة كما يقول نورثروب فراي بعد أن يكون قد عاد إلى المهمة التي تولاها أول ما تولاها أرسطو في كتابه «فن الشعر». إن على نقاد الأدب كما يذكر فراي بحق أن يفترضوا «أن هناك بنية كلية من المعرفة، قابلة للفهم، وممكنة، عن الشعر، وأنها ليست الشعر نفسه، ولا تجربته، بل فن الشعر بالمعنى الأرسطي للكلمة» أي «فن الأدب» الذي كان يتخذ من الشعر أداة له في مختلف الأجناس الأدبية التي عرفها عصر أرسطو وهي: الشعر الملحمي، والشعر المسرحي، والشعر الغنائي، أو الملحمة والمسرحية والشعر الغنائي. وهكذا يمكن القول إن هناك أيضاً بنية كلية من المعرفة، قابلة للفهم، وممكنة التصوّر عن الأدب، وأنها ليست الأدب نفسه، ولا تجربته، بل نظرية الأدب الداخلية، أو النظام الأدبي الذي يجعل الأدب ممكناً في الأساس، وهذه البنية الكلية من المعرفة هي النقد النظري أو الشعري أو نظرية الأدب الداخلية poetics، تعددت الأسماء والمسمى واحد.