أبقراط
أخذ أبقراط مبادئ الطب الكهنوتي وأوليات التشريح عن أبيه هراقليط، ثم تتلمذ لأشهر الأطباء العلمانيين الذين عرف طبهم باسم الطب الدنيوي. وبعد أن اتسعت معارفه الطبية أصبح طبيباً جوالاً ينتقل من مدينة إلى أخرى يعالج المرضى ويغني معلوماته. فكان كثير الترحال، زار مقدونية وشواطئ البحر الأسود وآسيا الصغرى، ونزل مدينة حمص، ثم انتقل إلى دمشق فعالج المرضى فيها، وعلم التلاميذ في أحد رياضها، وعاد بعد تجواله الطويل إلى قوس مسقط رأسه فأسس فيها مدرسة للطب نحو سنة 420 ق.م، لكنه مالبث أن تركها ليقطن في لاريسة التي أنشأ فيها مدرسة للطب وقضى فيها بقية حياته.
الطب الأبقرطي
مارس أبقراط الطب على آلاف المرضى في قوس وفي المدن التي زارها، فذاعت شهرته حتى كان من بين مرضاه حكام وملوك، واستدعته أثينة ليحاول إيقاف وباء الطاعون الذي تفشى فيها، كما دعاه الملك أرتاحشويرش الثاني (404-358 ق.م)
Artaxerxes، ملك الفرس، للحدّ من وباء ألمَّ ببلاده وعرض عليه المال الوفير لكنه رفضه لأنّ ذاك الملك كان عدواً لبلاده.
كان لأبقراط فضل كبير في نقد المعارف الطبية القديمة. فقد استطاع أن يحرر المعالجة من تأثير الطب الكهنوتي والمفاهيم الفلسفية، فأوجب الاعتماد الكلي على العلاج الطبي والابتعاد عن الطقوس والرقى السحرية، وكان يكره الخفاء ويبغض الأساطير، ويعتقد أن للأمراض جميعها عللاً طبيعية، وإن كان يشير أحياناً على المريض الاستعانة بالصلاة والدعاء. ولما كان للفلسفة في ذاك الحين تأثير بالغ في طرق المعالجة فقد دفعه ذلك إلى القول: «إن النظريات الفلسفية لاشأن لها بالطب ولاموضع لها فيه، وإن العلاج يجب أن يقوم على شدة العناية بالملاحظة، وعلى تسجيل كل حالة من الحالات السريريّة وكل حقيقة من الحقائق المرضية، وإن الاهتداء بالأعمال الطبية إنما يكون بالخبرة والتجربة العملية». فهو يرفض كل ما هو سابق للتجربة ولايأخذ إلا بالاستنتاج المنطقي الصادر عن حوادثها. ولقد سعى أبقراط إلى أن يجعل الطب علماً موضوعياً ويعطيه شكلاً متكاملاً، فكان يتبع في فحصه الاستجواب والقرع والجسّ، كما كان يدقق في مفرغات المريض ويدرس الشروط التي يعيش فيها من مكان وغذاء ومناخ. ومع هذا فإن الطب الإغريقي لم يخلُ من تأثير الفلسفة إذ كان أبقراط يأخذ بنظرية الأخلاط التي ترتكز على وجود الأخلاط الأربعة: الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ويقول إن الإنسان يتمتع بالصحة الكاملة إذا امتزجت هذه العناصر بنسبها الصحيحة، أما في حالات المرض أو الموت فينقص بعضها أو يزيد أو يفسد، كما يقول إن هذه الأخلاط تتأثر بالجو والطعام ومزاج الفرد واختلاف محيطه. ولكن على الرغم من هذه الآراء الخيالية كلها في الأخلاط، لابد من النظر بإعجاب إلى الملاحظات التي أوحت له بها مشاهداته كتأثير العمر والفصول والمناخ وغيرها.
كان أبقراط يؤمن بالعدوى في الإصابة بالجرب والرمد والسل، ووصف في بعض كتبه لوحات سريرية كثيرة عن الصرع والكزاز والتهاب الغدة النكفية وحمى النفاس وحمى الثلث وحمى الربع وبعض آفات غشاء الجنب والرئتين، ولكنه لم يأت على ذكر الحصبة والخناق (الدفتريا) والحمى القرمزية، كما أنه فسر سبب التقيحات تفسيراً خاطئاً. وكان تصوره لطبيعة جهاز الدوران مغلوطاً، فقد كان يرى أن الهواء هو العامل الحيوي في حركة الدم، إضافة إلى أنه لم يفرق بين الشرايين والأوردة، كما لم يقدم جديداً في الجملة العصبية، وقد تبنى رأي ألقميون
Alcmeon في عمل الدماغ فكان يقول: «به نفكر ونبصر ونسمع ونميز القبيح من الجميل والغثّ من السمين».
والمعارف التّشريحية عند ابقراط محدودة إلا فيما يتصل بالعظام. فقد تخيّل مقعداً من الخشب يحمل ملفافات تسمح بالشدّ لردّ الخلوع والكسور المتبدلة وإعادة العظام المصابة إلى مواضعها. وقد ذكر في بعض كتبه تعليمات تتناول تحضير غرف العمليّات الجراحية وتنظيم الضوء فيها وتنظيف اليدين والعناية بالأدوات الجراحية وإيضاح طريقة استخدامها وسبل تضميد الجروح وما إلى ذلك. وقد تركت ملاحظاته الدقيقة التي دونها بموضوعية بعض العلامات التي لاتزال ذات قيمة. فهناك عدد من الأعراض والمتلازمات التي لايزال الأدب الطبي ينسبها إليه كالأصابع الأبقراطية، وهو ضرب من تشوه الأصابع يتصف بتضخيم عضلات السلاميات الأخيرة وانعطاف الأظافر نحو راحة اليد، وأكثر ما تشاهد الأصابع الأبقراطية في حالات القصور الرئوي المزمن، وفي الآفات القلبية الوعائية المزرِّقة، وفي بعض إصابات السّبيل الهضمي كالتشمّعات والسّلائل المعويّة. وهناك السّحنة الأبقراطية وهي السّحنة الشديدة الضعف التي يبدو بها المريض وهو في النزع الأخير، وقد وصفها أبقراط وصفاًَ حسناً. وهناك أيضاً الرّج الأبقراطي، وهو طريقة استقصاء سمعية لصدر مريض مصاب بانصباب في الجنب ممزوج بهواء.
لم تختلف المواد الدوائية التي استعملها أبقراط عن تلك التي كانت تستعمل في عصره. وأكثر ما كان يعتمده منها: المقيئات والرحضات الشرجية والحجامة والكمادات والمراهم والتدليك، ولم يلجأ كثيراً إلى الاستدماء. وكان اعتماده على نوع الغذاء والصوم والحمامات المعدنية والتمارين الرياضية والهواء النقي أكبر من اعتماده على الأدوية، فمن أقواله مثلاً: «عش عيشة صحية تنج من الأمراض إلا إذا انتشر وباء في البلد أو أصابتك حادثة». ومنها: «إذا مرضت ثم اتبعت نظاماً صالحاً في الأكل والحياة أتاح لك ذلك أحسن فرص الشفاء». وكذلك قوله: «كلما أكثرنا من تغذية الأجسام المريضة زدنا تعريضها للأذى».
كان الأطباء اليونان قبل أبقراط ينتقلون من مدينة إلى أخرى كلما دعتهم الحاجة إلى هذا الانتقال. أما في زمنه فقد استقروا في مدنهم واتخذوا عيادات لأنفسهم يداوون فيها المرضى. وقد أنشأ أبقراط في بستان له قريب من داره مكاناً أفرده للمرضى واستعان بمساعدين يقومون على أمرهم وسماه مجمع المرضى.
كتبه
ينسب إلى أبقراط زهاء ستين كتاباً أصبح من الثابت أنها ليست من عمل رجل واحد. ومن العسير التفريق بين الكتب التي وضعها وتلك التي ألفها تلاميذه المقربون أو التي كتبها بعض المؤلفين المتأخرين الذين تأثروا بما أحاط به من هالة أسطورية فنسبوها إليه. وفي هذه المجموعة من الكتب التي تولى شرحها كثيرون نظريات ومشاهدات كثيرة دقيقة إلى جانب قدر غير قليل من التناقضات والأخطاء الكبيرة. وقد نقل إلى العربية في العصر العباسي عدد من الكتب التي تحمل اسمه ذكر منها صاحب الفهرست «كتاب عهد بقراط بتفسير جالينوس»، الذي ترجمه حنين إلى السّريانية وأضاف إليه، وترجمه حبيش وعيسى بن يحيى إلى العربية.
وكتاب «الفصول بتفسير جالينوس» الذي ترجمه حنين إلى العربية.
وكتاب «تقدمة المعرفة بتفسير جالينوس» فقد ترجم حنين متنه إلى العربية ثم ترجم التفسير عيسى بن يحيى.
وكتاب «الأمراض الحادة بتفسير جالينوس»، وهو خمس مقالات ترجم عيسى بن يحيى ثلاثاً منها. وكتاب :الكسر بتفسير جالينوس»، ترجمه حنين إلى العربية.
وكتاب «إبيديميا» نقله إلى العربية عيسى بن يحيى. وكتاب «الأخلاط بتفسير جالينوس»، نقله إلى العربية عيسى بن يحيى.
وكتاب «قاطيطيون بتفسير جالينوس» ترجمه حنين إلى العربية.
وكتاب «الماء والهواء بتفسير جالينوس» ترجم حنين متنه إلى العربية وترجم التفسير حبيش بن الحسن.
وكتاب «طبيعة الإنسان بتفسير جالينوس»، ترجم حنين متنه إلى العربية وترجم التفسير عيسى بن يحيى.
ويقول كارا دي فو
Carra De Vaux في دائرة المعارف الإسلامية: «لم يكتف علماء المشرق بترجمة مؤلفات هذا الطبيب اليوناني العظيم ولكنهم أضافوا إليها شروحاً وتفاسير، وفسروا كتابيه: تقدمة المعرفة، والفصول». كذلك كتب ثابت بن قرة موجزاً لكتاب بقراط عن الماء والهواء والبلدان، وصنف الفيلسوف الكندي الطب البقراطي عن منهج بقراط في الطب.
آداب الطب والطبيبكانت صناعة الطب قبل أبقراط كنزاً وذخيرة يكنزها الآباء ويدخرونها لأبنائهم، وكانت محصورة في بيت واحد منسوب إلى أسقلبيوس. وقد خاف أبقراط على هذه المهنة من الزوال حين رأى أنها توشك أن تبيد لقلة الأبناء الذين يتوارثونها، فنقلها إلى سائر الناس، ورأى أن ينشرها بينهم، فكان بذلك أول من علم الغرباء الطب كأنهم أبناؤه, ومن أقواله: «إن الجود بالخير يجب أن يعم كل من يستحقه قريبا ًكان أو بعيداً». ولكن مهنة الطب بعد أن انتشرت قاست من أعمال بعض فاسدي الذمة، فسعى أبقراط إلى رفع شأن مهنته بتأكيده منزلة الأخلاق التي يجب على الطبيب أن يتحلى بها، والسلوك الذي عليه أن ينهجه، والهيئة التي يجب أن يتصف بها.
وذكر ابن أبي أصيبعة وصية أبقراط المعروفة بترتيب الطب والتي قال فيها: «ينبغي أن يكون المتعلم للطب، في جنسه حراً، وفي طبعه جيداًُ، حديث السّن، معتدل القامة، متناسب الأعضاء، جيد الفهم، حسن الحديث، صحيح الرأي عند المشورة، عفيفاً، شجاعاً، غير محب للفضة، مالكاً لنفسه عند الغضب، ولايكون تاركاً له في الغاية، ولايكون بليداً. ينبغي أن يكون مشاركاً للعليل، مشفقاً عليه، حافظاً للأسرار، لأن كثيراً من المرضى يوقفوننا على أمراض بهم لايحبون أن يقف عليها غيرهم. وينبغي أن يكون محتملاً للشتيمة، لأن قوماً من المبرسمين وأصحاب الوسواس السوداوي يقابلوننا بذلك، وينبغي لنا أن نحتملهم عليه، ونعلم أنه ليس منهم، وأن السبب فيه المرض الخارج عن الطبيعة. وينبغي أن يكون حلق رأسه معتدلاً مستوياً، لايحلقه ولا يدعه كالجمة، ولايستقصي قص أظافير يديه، ولايدعها تعلو على أطراف أصابعه. وينبغي أن تكون ثيابه بيضاء نقية لينة، ولايكون في مشيه مستعجلاً لأن ذلك دليل على الطيش، ولامتباطئاً لأنه يدل على فتور النفس. وإذا دعي إلى المريض فليقعد متربعاً، ويختبر منه حاله بسكون وتأن، لابقلق واضطراب، فإن هذا الشكل والزي والترتيب عندي أفضل من غيره».
ومما لاريب فيه أن الجزء الذي يتناول آداب الطب في كتابات أبقراط أجمل ما ينسب إليه، فاسمه مقترن دوماً بالقسم الذي يحمل اسمه، ويبقى هذا العهد الميثاق الأساسي الذي يوجه سلوك الطبيب. ولاتزال كليات الطب في العالم كله توجب على طلابها قبل تخرجهم أداء قسم فيه الكثير من الروح الأبقراطية مع تعديل يتفق والتقدم العلمي وثقافة المجتمع. وقد جاء ذكر هذا القسم في «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» مع بعض التعديل، وأما الصيغة الأساسية التي تنسب إلى أبقراط فهي:
«أقسم بأبولو الطبيب وأسقلبيوس وهيجيا وباناسيا وجميع الآلهة والإلهات وأشهدها جميعاً علي بأن أبر بهذا القسم وأفي بهذا العهد بقدر ما تسمح به قواي وقدرتي. أقسم أني سأضع معلمي في الطب في منزلة أبوي، وأن أشركه في مالي الذي أعيش به، وأن أقوم بأوده إن احتاج إلى ذلك، وأن أعد أبناءه إخوة لي، فإذا رغبوا في تعلم الطب علمتهم إياه من دون أجر أو إلزام بشرط، وأن ألقن أبنائي وأبناء أستاذي والتلاميذ الذين ارتبطوا بالالتزام وبالقسم بحسب قانون الطب الإرشادات والدروس الشفهية وسائر المعلومات الأخرى، وألا ألقنها أحداً سواهم. وأقسم أن أستخدم العلاج لمنفعة المرضى بحسب مقدرتي وحكمتي، وأن أمتنع في استخدامه عن فعل فيه أذى أو ظلم، وألا أعطي أحداً سماً إذا طلب إلي أن أفعل ذلك، وألا أشير بفعله، وألا أضع لامرأة فرزجة تسقط جنينها، وأن أقضي حياتي وأمارس فني في النقاوة والطهر، وألا أشق مثانة فيها حصيات، بل أتخلى عن ذلك لمن يحترف هذا العمل، وألا أدخل منز
لاً إلا لمنفعة المرضى، وأن أتحرز عن كل إساءة مقصودة أو أذى متعمد، وأن أمتنع بوجه خاص عن إغواء أي امرأة أو فتى سواء أكان من الأحرار أم الأرقاء، وألا أتحدث بما لايجوز إفشاؤه مما أرى أو أسمع في أثناء علاج المرضى أو في أوقات أخرى معتبراً أن الكتمان واجب علي. فإذا ألزمت نفسي بإطاعة هذا القسم ولم أحنث به، فإني أرجو أن أنعم بحياتي وبمهنتي وأن أبقى دوماً وأبداً محموداً في الناس جميعاً، أما إذا نقضت هذا العهد وحنثت بقسمي فليحل بي نقيض ما رجوت»
(460-377 ق.م)
Hippocrates أكثر أطباء اليونان تجديداً وشهرة في زمانه حتى إنه لقب في بعض المقامات بأبي الطب. ولد في جزيرة قوس Cos إحدى جزر الدوديكانيز، وتوفي في مدينة لاريسة Larissa من منطقة تسالية في جنوبي اليونان. وهو من أسرة أسقلبيادس Asclepiades.
أبقراط أو بقراط أو بقرات