الجمعة، 20 يناير 2012

شخصيات تاريخية : الإمام أحمد بن حنبل


الامام أحمد بن حنبل
وفيه مقدمة وجزئين
الجزء الأول

هو الإمام حقا ، وشيخ الإسلام صدقا، أبو عبد الله ، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي ، أحد الأئمة الأعلام . هكذا ساق نسبه ولده عبد الله ، واعتمده أبو بكر الخطيب في " تاريخه " وغيره .

وقال الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم في كتاب " مناقب أحمد " : حدثنا صالح بن أحمد ، قال : وجدت في كتاب أبي نسبه ، فساقه إلى مازن ، كما مر ، ثم قال : ابن هذيل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة ، كذا قال : هذيل ، وهو وهم وزاد بعد وائل : ابن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم ، صلوات الله عليه .

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا صالح بن أحمد فذكر النسب ، فقال فيه ذهل على الصواب . وهكذا نقل إسحاق الغسيلي عن صالح . وأما قول عباس الدوري ، وأبي بكر بن أبي داود : إن الإمام أحمد من بني ذهل بن شيبان فوهم ، غبطهما الخطيب وقال : إنما هو من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة ، ثم قال : وذهل بن ثعلبة هم عم ذهل بن شيبان بن ثعلبة. فينبغي أن يقال فيه : أحمد بن حنبل الذهلي على الإطلاق . وقد نسبه أبو عبد الله البخاري إليهما معا .

وأما ابن ماكولا فمع بصره بهذا الشأن وهم أيضا . وقال في نسبه : مازن بن ذهل بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة ، وما تابعه على هذا أحد . وكان محمد والد أبي عبد الله من أجناد مرو ، مات شابا له نحو من ثلاثين سنة . ورُبي أحمد يتيما ، وقيل : إن أمه تحولت من مرو ، وهي حامل به.

فقال صالح ، قال لي أبي : ولدت في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة قال صالح : جيء بأبي حمل من مرو ، فمات أبوه شابا ، فوليته أمه .

وقال عبد الله بن أحمد ، وأحمد بن أبي خيثمة : ولد في ربيع الآخر .

قال حنبل : سمعت أبا عبد الله ، يقول : طلبت الحديث سنة تسع وسبعين ، فسمعت بموت حماد بن زيد ، وأنا في مجلس هشيم .

قال صالح : قال أبي : ثقبت أمي أذني فكانت تصر فيهما لؤلؤتين ، فلما ترعرعت ، نزعتهما ، فكانت عندها ، ثم دفعتهما إلي ، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهما .

قال أبو داود : سمعت يعقوب الدورقي ، سمعت أحمد يقول : ولدت في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة شيوخه : طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة ، في العام الذي مات فيه مالك ، وحماد بن زيد . فسمع من إبراهيم بن سعد قليلا، ومن هشيم بن بشير فأكثر ، وجود ، ومن عاد بن عباد المهلبي ، ومعتمر بن سليمان التيمي ، وسفيان بن عيينة الهلالي ، وأيوب بن النجار ، ويحيى بن أبي زائدة ، وعلي بن هاشم بن البريد وقران بن تمام ، وعمار بن محمد الثوري ، والقاضي أبي يوسف ، وجابر بن نوح الحماني ، وعلي بن غراب القاضي ، وعمر بن عبيد الطنافسي ، وأخويه يعلى ، ومحمد ، والمطلب بن زياد ، ويوسف بن الماجشون ، وجرير بن عبد الحميد ، وخالد بن الحارث ، وبشر بن المفضل ، وعباد بن العوام ، وأبي بكر بن عياش ، ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي ، وعبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، وعبدة بن سليمان ، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، والضر بن إسماعيل البجلي ، وأبي خالد الأحمر ، وعلي بن ثابت الجزري ، وأبي عبيدة الحداد ، وعبيدة بن حميد الحذاء ، ومحمد بن سلمة الحراني ، وأبي معاوية الضرير ، وعبد الله بن إدريس ، ومروان بن معاوية ، وغندر ، وابن علية ، ومخلد بن يزيد الحراني ، وحفص بن غياث ، وعبد الوهاب الثقفي ، ومحمد بن فضيل ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والوليد بن مسلم ، ويحيى بن سليم حديثا واحدا ، ومحمد بن يزيد الواسطي ، ومحمد بن الحسن المزني الواسطي ، ويزيد بن هارون ، وعلي بن عاصم ، وشعيب بن حرب ، ووكيع فأكثر ، ويحيى القطان فبالغ ، ومسكين بن بكير ، وأنس بن عياض الليثي ، وإسحاق الأزرق ، ومعاذ بن معاذ ، ومعاذ بن هشام ، وعبد الأعلى السامي ، ومحمد بن أبي عدي ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله بن نمير ، ومحمد بن بشر ، وزيد بن الحباب ، وعبد الله بن بكر ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وأبي عاصم ، وعبد الرزاق ، وأبي نعيم ، وعفان ، وحسين بن علي الجعفي ، وأبي النضر ، ويحيى بن آدم ، وأبي عبد الرحمن المقرئ ، وحجاج بن محمد ، وأبي عامر العقدي ، وعبد الصمد بن عبد الوارث ، وروح بن عبادة ، وأسود بن عامر ، ووهب بن جرير ، ويونس بن محمد ، وسليمان بن حرب ، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد ، وخلائق إلى أن ينزل في الرواية عن قتيبة بن سعيد ، وعلي بن المديني ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وهارون بن معروف ، وجماعة من أقرانه . فعدة شيوخه الذين روى عنهم في " المسند " مائتان وثمانون ونيف .

قال عبد الله : حدثني أبي ، قال حدثنا علي بن عبد الله ، وذلك قبل المحنة . قال عبد الله : ولم يحدث أبي عنه بعد المحنة بشيء .

قلت : يريد عبد الله بهذا القول أن أباه لم يحمل عنه بعد المحنة شيئا ، وإلا فسماع عبد الله بن أحمد لسائر كتاب " المسند " من أبيه كان بعد المحنة بسنوات في حدود سنة سبع وثمان وعشرين ومائتين ، وما سمع عبد الله شيئا من أبيه ولا من غيره إلا بعد المحنة ، فإنه كان أيام المحنة صبيا مميزا ما كان حله يسمع بعد والله أعلم .

حدث عنه البخاري حديثا ، وعن أحمد بن الحسن عنه حديثا آخر في المغازي . وحدث عنه مسلم ، وأبو داود بجملة وافرة ، وروى أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجه عن رجل عنه ، وحدث عنه أيضا ولداه صالح وعبد الله ، وابن عمه حنبل بن إسحاق ، وشيوخه عبد الرزاق ، والحسن بن موسى الأشيب ، وأبو عبد الله الشافعي ، لكن الشافعي لم يسمه ، بل قال : حدثني الثقة . وحدث عنه علي بن المديني ، ويحيى بن معين ، ودحيم ، وأحمد بن صالح ، وأحمد بن أبي الحواري ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، وأحمد بن إبراهيم الدورقي ، وأحمد بن الفرات ، والحسن بن الصباح البزار ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، وحجاج بن الشاعر ، ورجاء بن مرجي ، وسلمة بن شبيب ، وأبو قلابة الرقاشي ، والفضل بن سهل الأعرج ، ومحمد بن منصور الطوسي ، وزياد بن أيوب ، وعباس الدوري ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، وحرب بن إسماعيل الكرماني ، وإسحاق الكوسج ، وأبو بكر الأثرم ، وإبراهيم الحربي ، وأبو بكر المروذي وأبو زرعة الدمشقي ، وبقي بن مخلد ، وأحمد بن أصرم المغفلي ، وأحمد بن منصور الرمادي ، وأحمد بن ملاعب ، وأحمد بن أبي خيثمة ، وموسى بن هارون ، وأحمد بن علي الأبار ، ومحمد بن عبد الله مطين وأبو طالب أحمد بن حميد ، وإبراهيم بن هانئ النيسابوري ، وولده إسحاق بن إبراهيم ، وبدر المغازلي ، وزكريا بن يحيى الناقد ، ويوسف بن موسى الحربي ، وأبو محمد فوران ، وعبدوس بن مالك العطار ، ويعقوب بن بختان ، ومهني بن يحيى الشامي ، وحمدان بن علي الوراق ، وأحمد بن محمد القاضي البرتي ، والحسين بن إسحاق التستري ، وإبراهيم بن محمد بن الحارث الأصبهاني ، وأحمد بن يحيى ثعلب ، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، وإدريس بن عبد الكريم الحداد ، وعمر بن حفص السدوسي ، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، ومحمد بن عبد الرحمن السامي ، وعبد الله بن محمد البغوي ، وأمم سواهم . وقد جمع أبو محمد الخلال جزءا في تسمية الرواة عن أحمد سمعناه من الحسن بن علي ، عن جعفر ، عن السلفي ، عن جعفر السراج عنه ، فعد فيهم وكيع بن الجراح ، ويحيى بن آدم .

قال الخطيب في كتاب " السابق " : أخبرنا أبو سعيد الصيرفي ، حدثنا الأصم ، حدثنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا الثقة من أصحابنا ، عن يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، أن عمر قال : إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة .

قال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو زرعة أن أحمد أصله بصري ، وخطته بمرو ، وحدثنا صالح سمعت أبي يقول : مات هشيم فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاث وثمانين ، وأول رحلاتي إلى البصرة سنة ست . وخرجت إلى سفيان سنة سبع فقدمنا ، وقد مات الفضيل بن عياض . وحججت خمس حجج ، منها ثلاث راجلا ، أنفقت في إحداها ثلاثين درهما . وقدم ابن المبارك في سنة تسع وسبعين ، وفيها أول سماعي من هشيم ، فذهبت إلى مجلس ابن المبارك ، فقالوا : قد خرج إلى طرسوس ، وكتبت عن هشيم أكثر من ثلاثة آلاف . ولو كان عندي خمسون درهما ، لخرجت إلى جرير إلى الري . قلت : قد سمع منه أحاديث. قال : وسمعت أبي يقول : كتبت عن إبراهيم بن سعد في ألواح ، وصليت خلفه غير مرة ، فكان يسلم واحدة . وقد روى عن أحمد من شيوخه ابن مهدي . فقرأت على إسماعيل بن الفراء ، أخبرنا ابن قدامة ، أخبرنا المبارك بن خضير ، أخبرنا أبو طالب اليوسفي ، أخبرنا إبراهيم بن عمر ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان ، سمعت ، عبد الرحمن بن مهدي ، يقول : كان أحمد بن حنبل عندي ، فقال : نظرنا فيما كان يخالفكم فيه وكيع ، أو فيما يخالف وكيع الناس ، فإذا هي نيف وستون حديثا .

روى صالح بن أحمد ، عن أبيه ، قال : مات هشيم ، وأنا ابن عشرين سنة ، وأنا أحفظ ما سمعت منه .

ومن صفته :

قال ابن ذريح العُكْبَرِي : طلبت أحمد بن حنبل فسلمت عليه ، وكان شيخا مخضوبا طوالا أسمر شديد السمرة . قال أحمد : سمعت من علي بن هاشم سنة تسع سبعين ، فأتيته المجلس الآخر ، وقد مات . وهي السنة التي مات فيها مالك ، وأقمت بمكة سنة سبع وتسعين ، وأقمت عند عبد الرزاق سنة تسع وتسعين . ورأيت ابن وهب بمكة ، ولم أكتب ، عنه .

قال محمد بن حاتم : ولِي حنبل جد الإمام سَرْخَس ، وكان من أبناء الدعوة ، فحُدثتُ أنه ضربه المسيَّب بن زهير ببخارى لكونه شغَّب الجند .

وعن محمد بن عباس النحوي ، قال : رأيت أحمد بن حنبل حسن الوجه ، رَبْعة ، يخضب بالحناء خضابا ليس بالقاني ، في لحيته شعرات سود ، ورأيت ثيابه غلاظا بيضا ، ورأيته معتما وعليه إزار .

وقال المروذي : رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعا خاشعا . فإذا كان بَرّا ، لم يتبين منه شدة خشوع ، وكنت أدخل ، والجزء في يده يقرأ .

رحلته وحفظه :

قال صالح : سمعت أبي يقول : خرجت إلى الكوفة ، فكنت في بيت تحت رأسي لبنة ، فحججت ، فرجعت إلى أمي ، ولم أكن استأذنتها .

وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله ، يقول : تزوجت وأنا ابن أربعين سنة ، فرزق الله خيرا كثيرا .

قال أبو بكر الخلال في كتاب " أخلاق أحمد " ، وهو مجلد : أملَى عليّ زهير بن صالح بن أحمد ، قال : تزوج جدي عباسة بنت الفضل من العرب ، فلم يولد له منها غير أبي . وتوفيت فتزوج بعدها ريحانة ، فولدت عبد الله عمي ، ثم توفيت ، فاشترى حُسْنا ، فولدت أم علي زينب ، وولدت الحسن والحسين توأما وماتا بقرب ولادتهما ، ثم ولدت الحسن ومحمدا ، فعاشا حتى صارا من السن إلى نحو من أربعين سنة ، ثم ولدت سعيدا . قيل : كانت والدة عبد الله عَوراء ، وأقامت معه سنين .

قال المروذي : قال لي أبو عبد الله : اختلفت إلى الكتاب ، ثم اختلفت إلى الديوان ، وأنا ابن أربع عشرة سنة . وذكر الخلال حكايات في عقل أحمد وحياته في المكتب وورعه في الصغر .

حدثنا المروذي : سمعت أبا عبد الله ، يقول : مات هشيم ولي عشرون سنة ، فخرجت أنا والأعرابي رفيق كان لأبي عبد الله ، قال : فخرجنا مشاة ، فوصلنا الكوفة ، يعني : في سنة ثلاث وثمانين ، فأتينا أبا معاوية ، وعنده الخلق ، فأعطى الأعرابي حَجَّة بستين درهما ، فخرج وتركني في بيت وحدي ، فاستوحشت ، وليس معي إلا جراب فيه كتبي ، كنت أضعه فوق لبنة ، وأضع رأسي عليه . وكنت أذاكر وكيعا بحديث الثوري ، وذكر مرة شيئا ، فقال : هذا عند هشيم ؟ فقلت : لا. وكان ربما ذكر العشر أحاديث فأحفظها ، فإذا قام ، قالوا لي ، فأُمليها عليهم .

وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال لي أبي : خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف ، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد ، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام .

وحدثنا عبد الله بن أحمد : سمعت سفيان بن وكيع ، يقول : أحفظ عن أبيك مسألة من نحو أربعين سنة . سئل عن الطلاق قبل النكاح ، فقال : يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن علي وابن عباس ونيف وعشرين من التابعين ، لم يروا به بأسا . فسألت أبي عن ذلك ، فقال : صدق ، كذا قلت .

قال : وحفظت أني سمعت أبا بكر بن حماد ، يقول : جمعت أبا بكر بن أبي شيبة ، يقول : لا يقال لأحمد بن حنبل : من أين قلت ؟ وسمعت أبا إسماعيل الترمذي ، يذكر عن ابن نمير ، قال : كنت عند وكيع ، فجاءه رجل ، أو قال : جماعة من أصحاب أبي حنيفة ، فقالوا له : هاهنا رجل بغدادي يتكلم في بعض الكوفيين ، فلم يعرفه وكيع . فبينا نحن إذ طلع أحمد بن حنبل ، فقالوا : هذا هو ، فقال وكيع : هاهنا يا أبا عبد الله ، فأفرجوا له ، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون . وجعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا لوكيع : هذا بحضرتك ترى ما يقول ؟ فقال : رجل يقول : قال رسول الله ، أيش أقول له ؟ ثم قال : ليس القول إلا كما قلت يا أبا عبد الله ، فقال القوم لوكيع : خدعك والله البغدادي .

قال عارِم : وضع أحمد عندي نفقته ، فقلت له يوما: يا أبا عبد الله ، بلغني أنك من العرب . فقال : يا أبا النعمان ، نحن قوم مساكين فلم يزل يدافعني حتى خرج ، ولم يقل لي شيئا .

قال الخلال : أخبرنا المروذي : أن أبا عبد الله ، قال : ما تزوجت إلا بعد الأربعين . وعن أحمد الدورقي ، عن أبي عبد الله ، قال : نحن كتبنا الحديث من ستة وجوه وسبعة لم نضبطه ، فكيف يضبطه من كتبه من وجه واحد ؟! قال عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة : أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب . فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر ، والأثر ، وفتوى التابعي ، وما فُسِّر ، ونحو ذلك وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك .

قال ابن أبي حاتم : قال سعيد بن عمرو : يا أبا زرعة ، أأنت أحفظ ، أم أحمد ؟ قال : بل أحمد . قلت : كيف علمت ؟ قال : وجدت كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه . فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه ، وأنا لا أقدر على هذا . وعن أبي زرعة قال : حُزِرَتْ كتب أحمد يوم مات ، فبلغتْ اثني عشر حِملا وعِدلا . ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ، ولا في بطنه حدثنا فلان ، كل ذلك كان يحفظه .

وقال حسن بن منبه : سمعت أبا زرعة ، يقول : أخرج إليّ أبو عبد الله أجزاء كلها سفيان سفيان ، ليس على حديث منها " حدثنا فلان " ، فظننتها عن رجل واحد ، فانتخبت منها . فلما قرأ ذلك علي جعل يقول : حدثنا وكيع ، ويحيى ، وحدثنا فلان ، فعجيت ، ولم أقدر أنا على هذا .

قال إبراهيم الحربي : رأيت أبا عبد الله ، كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين . وعن رجل قال : ما رأيت أحدأ أعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد . أحمد بن سلمة : سمعت ابن راهويه ، يقول : كنت أجالس أحمد وابن معين ، ونتذاكر فأقول : ما فقهه ؟ ما تفسيره ؟ فيسكتون إلا أحمد .

قال أبو بكر الخلال : كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ، ثم لم يلتفت إليها .

قال إبراهيم بن شماس : سألنا وكيعا عن خارجة بن مصعب ، فقال : نهاني أحمد أن أحدِّث عنه .

قال العباس بن محمد الخلال : حدثنا إبراهيم بن شماس ، سمعت وكيعا وحفص بن غياث ، يقولان : ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى ، يعنيان : أحمد بن حنبل . وقيل : إن أحمد أتى حسينا الجعفي بكتاب كبير يشفع في أحمد ، فقال حسين : يا أبا عبد الله ، لا تجعل بيني وبينك منعما فليس تحَمَّل عليّ بأحد إلا وأنت أكبر منه . الخلال : حدثنا المروذي ، أخبرنا خضر المروذي بطرسوس ، سمعت ابن راهويه ، سمعت يحيى بن آدم ، يقول : أحمد بن حنبل إمامنا .

الخلال : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا الأثرم ، حدثني بعض من كان مع أبي عبد الله ، أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم ، فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم ، ويرتفع الصوت بينهما ، وكان يحيى بن آدم واحد أهل زمانه في الفقه .

الخلال : أخبرنا المروذي ، سمعت محمد بن يحيى القطان ، يقول : رأيت أبي مكرَّما لأحمد بن حنبل ، لقد بذل له كُتُبه ، أو قال : حديثه .

وقال القواريري : قال يحيى القطان : ما قدم علينا مثل هذين؛ أحمد ويحيى بن معين . وما قدم عليّ من بغداد أحب إليّ من أحمد بن حنبل .

وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شقّ علَى يحيى بن سعيد يوم خرجتُ من البصرة .

عمرو بن العباس : سمعت عبد الرحمن بن مهدي ، ذكر أصحاب الحديث ، فقال : أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل . قال : فأقبل أحمد ، فقال ابن مهدي : من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري ، فلينظر إلى هذا .

قال المروذي : قال أحمد : عنيت بحديث سفيان ، حتى كتبته عن رجلين ، حتى كلمنا يحيى بن آدم ، فكلم لنا الأشجعي ، فكان يخرج إلينا الكتب ، فنكتب من غير أن نسمع . وعن ابن مهدي ، قال : ما نظرت إلى أحمد إلا ذكرتُ به سفيان .

قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : خالف وكيعٌ ابنَ مهدي في نحو من ستين حديثا من حديث سفيان ، فذكرت ذلك لابن مهدي ، وكان يحكيه عني . عباس الدوري : سمعت أبا عاصم يقول لرجل بغدادي : من تعدون عندكم اليوم من أصحاب الحديث ؟ .

قال : عندنا أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبو خيثمة ، والمُعَيْطي ، والسُّويدي ، حتى عدَّ له جماعة بالكوفة أيضا وبالبصرة . فقال أبو عاصم : قد رأيت جميع من ذكرت ، وجاءوا إليَّ ، لم أر مثل ذاك الفتى ، يعني : أحمد بن حنبل .

قال شجاع بن مخلد : سمعت أبا الوليد الطيالسي ، يقول : ما بالمصرين رجل أكرم عليّ من أحمد بن حنبل . وعن سليمان بن حرب ، أنه قال لرجل : سَلْ أحمد بن حنبل ، وما يقول في مسألة كذا ؟ فإنه عندنا إمام .

الخلال : حدثنا علي بن سهل ، قال : رأيت يحيى بن معين عند عفان ، ومعه أحمد بن حنبل ، فقال : ليس هنا اليوم حديث . فقال يحيى : ترد أحمد بن حنبل ، وقد جاءك ؟ فقال : الباب مقفل ، والجارية ليست هنا . قال يحيى : أنا أفتح ، فتكلم على القُفل بشيء ، ففتحه . فقال عفان : أفشَّاش أيضا؟! وحدثهم .

قال : وحدثنا المروذي : قلت لأحمد : أكان أُغميَ عليك ، أو غُشِي عليك عند ابن عيينة ؟ قال : نعم ، في دهليزه زَحَمني الناس ، فأُغمي عليّ .

وروي أن سفيان ، قال يومئذ : كيف أحدث وقد مات خير الناس ؟ .

وقال مُهَنَّى بن يحيى : قد رأيت ابن عيينة ، ووكيعا ، وبقية ، وعبد الرزاق ، وضَمْرَة ، والناس ، ما رأيت رجلا أجمع من أحمد في علمه وزهده وورعه . وذكر أشياء .

وقال نوح بن حبيب القومسي : سلمت على أحمد بن حنبل في سنة ثمان وتسعين ومائة بمسجد الخَيْف ، وهو يُفتي فُتيا واسعة .

وعن شيخ أنه كان عنده كتاب بخط أحمد بن حنبل ، فقال : كنا عند ابن عيينة سنة ، ففقدت أحمد بن حنبل أياما ، فدللت على موضعه ، فجئت ، فاذا هو في شبيه بكهف في جياد . فقلت : سلام عليكم ، أدخل ؟ فقال : لا . ثم قال : ادخل ، فدخلت ، وإذا عليه قطعة لِبْدٍ خَلَق ، فقلت : لم حجبتني ؟ فقال : حتى استترت . فقلت : ما شأنك ؟ قال : سرقت ثيابي . قال : فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم ، فعرضتها عليه ، فامتنع ، فقلت : قرضا ، فأبى ، حتى بلغت عشرين درهما ، ويأبى . فقمت ، وقلت : ما يحل لك أن تقتل نفسك . قال : ارجع ، فرجعت ، فقال : أليس قد سمعت معي من ابن عيينة ؟ قلت : بلى . قال : تحب أن أنسخه لك ؟ قلت : نعم . قال : اشتر لي ورقا . قال : فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين .

الحاكم : سمعت بكران بن أحمد الحنظلي الزاهد ببغداد ، سمعت عبد الله بن أحمد ، سمعت أبي يقول : قدمت صنعاء ، أنا ويحيى بن معين ، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته ، وتخلف يحيى ، فلما ذهبت أدق الباب ، قال لي بقال تجاه داره : مهْ ، لا تدق ، فإن الشيخ يهاب . فجلست حتى إذا كان قبل المغرب ، خرج فوثبت إليه ، وفي يدي أحاديث انتقيتُها ، فسلمت ، وقلت : حدثني بهذه رحمك الله ، فإني رجل غريب . قال : ومن أنت ؟ وزبرني . قلت : أنا أحمد بن حنبل ، قال : فتقاصر ؟ وضمني إليه ، وقال : بالله أنت أبو عبد الله ؟ ثم أخذ الأحاديث ، وجعل يقرؤها حتى أظلم ، فقال للبقال : هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب ، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب .

الخلال : حدثنا الرمادي ، سمعت عبد الرزاق ، وذكر أحمد بن حنبل ، فدمعت عيناه ، فقال : بلغني أن نفقته نفدت ، فأخذت بيده ، فأقمته خلف الباب ، وما معنا أحد ، فقلت له : إنه لا تجتمع عندنا الدنانير ، إذا بعنا الغلة ، أشغلناها في شيء . وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها ، وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء . فقال لي : يا أبا بكر ، لو قبلت من أحد شيئا ، قبلت منك .

وقال عبد الله : قلت لأبي : بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير ؟ .

قال : نعم . وأعطاني يزيد بن هارون خمس مائة درهم -أظن- فلم أقبل ، وأعطى يحيى بن معين ، وأبا مسلم ، فأخذا منه .

وقال محمد بن سهل بن عسكر : سمعت عبد الرزاق ، يقول : إن يعشْ هذا الرجل ، يكون خلفا من العلماء .

المروذي : حدثني أبو محمد النسائي ، سمعت إسحاق بن راهويه ، قال : كنا عند عبد الرزاق أنا وأحمد بن حنبل ، فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد ، فلم يكبر هو ولا أنا ولا أحمد ، فقال لنا : رأيت معمرا والثوري في هذا اليوم كبرا ، وأني رأيتكما لم تكبرا فلم أكبر ، فلم لم تكبرا ؟ قلنا : نحن نرى التكبير ، ولكن شُغلنا بأي شيء نبتدئ من الكتب .

أبو إسحاق الجوزجاني ، قال : كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق ، فسها ، فسأل عنه عبد الرزاق ، فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئا. رواها الخلال ، قال : سمعت أبا زرعة القاضي الدمشقي عن الجوزجاني .

قال الخلال : حدثنا أبو القاسم بن الجبلي ، عن أبي إسماعيل الترمذي ، عن إسحاق بن راهويه ، قال : كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق ، وكانت معي جارية ، وسكنَّا فوق ، وأحمد أسفل في البيت . فقال لي : يا أبا يعقوب : هو ذا يعجبني ما أسمع من حركتكم . قال : وكنت أطلع فأراه يعمل التكك ، ويبيعها ، ويتقوت بها هذا أو نحوه .

قال المروذي : سمعت أبا عبد الله ، يقول : كنت في إِزْرِي من اليمن إلى مكة . قلت : اكتريت نفسك من الجمالين ؟ قال : قد اكتريت لكتبي ، ولم يقل لا . وعن إسماعيل ابن عُلَيَّة : أنه أقيمت الصلاة ، فقال : هاهنا أحمد بن حنبل ، قولوا له يتقدم يصلي بنا .

وقال الأثرم : أخبرني عبد الله بن المبارك شيخ سمع قديما ، قال : كنا عند ابن عُليَّة ، فضحك بعضنا وثم أحمد . قال : فأتينا إسماعيل بعد فوجدناه غضبان ، فقال : تضحكون وعندي أحمد بن حنبل! .

قال المروذي : قال لي أبو عبد الله : كنا عند يزيد بن هارون ، فوهم في شيء ، فكلمته ، فأخرج كتابه ، فوجده كما قلت ، فغيره فكان إذا جلس ، يقول : يا ابن حنبل ، ادْنُ ، يا ابن حنبل ، ادن هاهنا . ومرضت فعادني ، فنطحه الباب .

المروذي : سمعت جعفر بن ميمون بن الأصبغ ، سمعت أبي يقول : كنا عند يزيد بن هارون ، وكان عنده المُعَيْطي ، وأبو خيثمة ، وأحمد ، وكانت في يزيد -رحمه الله- مداعبة ، فذاكره المعيطي بشيء . فقال له يزيد : فقدتك ، فتنحنح أحمد فالتفت إليه ، فقال : من ذا ؟ قالوا : أحمد بن حنبل ، فقال : ألا أعلمتموني أنه هاهنا ؟ .

قال المروذي : فسمعت بعض الواسطين يقول : ما رأيت يزيد بن هارون ترك المزاح لأحد إلا لأحمد بن حنبل .

قال أحمد بن سنان القطان : ما رأيت يزيد لأحد أشد تعظيما منه لأحمد بن حنبل ، ولا أكرم أحدا مثله ، كان يقعده إلى جنبه ، ويوقِّره ، ولا يمازحه .

وقال عبد الرزاق : ما رأيت أحدا أفقه ولا أورع من أحمد بن حنبل . قلت : قال هذا ، وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن جريج .

وقال حفص بن غياث : ما قدم الكوفة مثل أحمد .

وقال أبو اليمان : كنت أشبه أحمد بأرطاة بن المنذر .

وقال الهيثم بن جميل الحافظ : إن عاش أحمد سيكون حجة على أهل زمانه .

وقال قتيبة : خير أهل زماننا ابن المبارك ، ثم هذا الشاب ، يعني : أحمد بن حنبل ، وإذا رأيت رجلا يحب أحمد ، فاعلم أنه صاحب سنة . ولو أدرك عصر الثوري ، والأوزاعي ، والليث ، لكان هو المقدم عليهم . فقيل لقتيبة : يضم أحمد إلى التابعين ؟ قال : إلى كبار التابعين .

وقال قتيبة : لولا الثوري ، لمات الورع ، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين ، أحمد إمام الدنيا . قلت : قد روى أحمد في " مسنده " عن قتيبة كثيرا . وقيل لأبي مُسهر الغساني : تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها ؟

قال : شاب في ناحية المشرق ، يعني : أحمد .

قال المُزَني : قال لي الشافعي : رأيت ببغداد شابا إذا قال : حدثنا ، قال الناس كلهم : صدق . قلت : ومن هو ؟ قال : أحمد بن حنبل .

وقال حرملة : سمعت الشافعي يقول : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ، ولا أعلم ، ولا أفقه ، ولا أتقى من أحمد بن حنبل .

وقال الزعفراني : قال لي الشافعي : ما رأيت أعقل من أحمد ، وسليمان بن داود الهاشمي .

قال محمد بن إسحاق بن راهويه : حدثني أبي ، قال : قال لي أحمد بن حنبل : تعال حتى أريك من لم يُرَ مثله ، فذهب بي إلى الشافعي ، قال أبي : وما رأى الشافعي مثل أحمد بن حنبل . ولولا أحمد وبَذْلُ نفسه ، لذهب الإسلام - يريد المحنة .

ورُوِي عن إسحاق بن راهويه ، قال : أحمد حجة بين الله وبين خلقه .

وقال محمد بن عبدويه : سمعت علي بن المديني ، يقول : أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيدا كان له نظراء . وعن ابن المديني ، قال : أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة .

وقال أبو عبيد : انتهى العلم إلى أربعة : أحمد بن حنبل وهو أفقههم ، وذكر الحكاية .

وقال أبو عبيد : إني لأتدين بذكر أحمد . ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه.

وقال الحسن بن الربيع : ما شبهت أحمد بن حنبل إلا بابن المبارك في سمته وهيئته .

الطبراني : حدثنا محمد بن الحسين الأنماطي ، قال : كنا في مجلس فيه يحيى بن معين ، وأبو خيثمة ، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ، فقال رجل : فبعض هذا ، فقال يحيى : وكثرة الثناء على أحمد تستنكر ! لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ، ما ذكرنا فضائله بكمالها . وروى عباس ، عن ابن معين قال : ما رأيت مثل أحمد .

وقال النُّفيلي : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين .

وقال المروذي : حضرت أبا ثور سئل عن مسألة ، فقال : قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيخنا وإمامنا فيها كذا وكذا .

وقال ابن معين : ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة : يعلى بن عبيد ، والقعنبي وأحمد بن حنبل .

وقال ابن معين : أرادوا أن أكون مثل أحمد ، والله لا أكون مثله أبدا .

وقال أبو خيثمة : ما رأيت مثل أحمد ، ولا أشد منه قلبا .

وقال علي بن خشرم : سمعت بشر بن الحارث ، يقول : أنا أُسأل عن أحمد بن حنبل ؟ ! إن أحمد أُدخل الكير ، فخرج ذهبا أحمر .

وقال عبد الله بن أحمد : قال أصحاب بشر الحافي له حين ضرب أبي : لو أنك خرجت فقلت : إني على قول أحمد ، فقال : أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؟!.

القاسم بن محمد الصائغ : سمعت المروذي ، يقول : دخلت على ذي النون السجن ، ونحن بالعسكر ، فقال : أي شيء حال سيدنا ؟ يعني : أحمد بن حنبل .

وقال محمد بن حماد الظهراني : سمعت أبا ثور الفقيه ، يقول : أحمد بن حنبل أعلم أو أفقه من الثوري .

وقال نصر بن علي الجهضمي : أحمد أفضل أهل زمانه .

قال صالح بن علي الحلبي : سمعت أبا همام السكوني يقول : ما رأيت مثل أحمد بن حنبل ، ولا رأى هو مثله . وعن حجاج بن الشاعر ، قال : ما رأيت أفضل من أحمد ، وما كنت أحب أن أُقتل في سبيل الله ، ولم أُصَلِّ على أحمد ، بلغ والله في الإمامة أكبر من مبلغ سفيان ومالك .

وقال عمرو الناقد : إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديث لا أُبالي من خالفني .

قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل ، أيهما أحفظ ؟ فقال : كانا في الحفظ متقاربين ، وكان أحمد أفقه ، إذا رأيت من يحب أحمد ، فاعلم أنه صاحب سنة .

وقال أبو زرعة : أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقه ، ما رأيت أحدا أكمل من أحمد .

وقال محمد بن يحيى الذُّهْلي : جعلت أحمد إماما فيما بيني وبين الله .

وقال محمد بن مهران الجمال : ما بقي غير أحمد .

قال إمام الأئمة ابن خزيمة : سمعت محمد بن سحتويه ، سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي ، وذكر أحمد بن حنبل ، فقال : رحمه الله ، عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، وبالصالحين ما كان ألحقه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها .

قال أبو حاتم : كان أبو عمير من عباد المسلمين . قال لي : أمِلَّ عليّ شيئا عن أحمد بن حنبل . وروي عن أبي عبد الله البوشنجي : قال : ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل ، ولا أعقل منه .

وقال ابن وارة : كان أحمد صاحب فقه ، صاحب حفظ ، صاحب معرفة.

وقال النسائي : جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه والورع والزهد والصبر . وعن عبد الوهاب الوراق : قال : لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : فردوه إلى عالمه رددناه إلى أحمد بن حنبل ، وكان أعلم أهل زمانه .

وقال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة ، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، ما رأيته ذكر الدنيا قط .

قال صالح بن محمد جزرة : أفقه من أدركت في الحديث أحمد بن حنبل .

قال علي بن خلف : سمعت الحميدي ، يقول : ما دمت بالحجاز ، وأحمد بالعراق ، وابن راهويه بخراسان لا يغلبنا أحد . الخلال : حدثنا محمد بن ياسين البلدي ، سمعت ابن أبي أويس ، وقيل له ذهب أصحاب الحديث ، فقال : ما أبقى الله أحمد بن حنبل ، فلم يذهب أصحاب الحديث .

وعن ابن المديني ، قال : أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب . الحسين بن الحسن أبو معين الرازي : سمعت ابن المديني ، يقول : ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد ، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب ، ولنا فيه أسوة . وعنه قال : أحمد اليوم حجة الله على خلقه .

أخبرنا عمر بن عبد المنعم ، عن أبي اليُمن الكندي ، أخبرنا عبد الملك بن أبي القاسم ، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري ، أخبرنا أبو يعقوب القرّاب ، أخبرنا محمد بن عبد الله الجوزقي ، سمعت أبا حامد الشرقي ، سمعت أحمد بن سلمة ، سمعت أحمد بن عاصم ، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام ، يقول : انتهى العلم إلى أربعة : أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه ، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له ، وإلى علي بن المديني وهو أعلمهم به ، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له .

إسحاق المنجنيقي : حدثنا القاسم بن محمد المؤدب ، عن محمد بن أبي بشر ، قال : أتيت أحمد بن حنبل في مسألة ، فقال : ائتِ أبا عبيد؛ فإن له بيانا لا تسمعه من غيره . فأتيته فشفاني جوابه . فأخبرته بقول أحمد ، فقال : ذاك رجل من عمال الله ، نشر الله رداء عمله ، وذخر له عنده الزلفى ، أما تراه محببا مألوفا . ما رأت عيني بالعراق رجلا اجتمعت فيه خصال هي فيه ، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم ، فإنه لكما قيل : يـزينك إمـا غـاب عنـك فـإن دنـا

رأيــت لــه وجهــا يسـرك مقـبلا يعلـم هـذا الخلق مـا شــذ عنهـم

مـن الأدب المجـهول كهفــا ومعقــلا ويحســن فــي ذات الإلــه إذا رأى

مَضيمـا لأهــل الحـق لا يسـأم البَـلا وإخـوانـه الأدنَــوْن كـل مـوفـق

بصـير بأمـر الله يسمـو علـى العُــلا وبإسنادي إلى أبي إسماعيل الأنصاري : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم ، أخبرنا نصر بن أبي نصر الطوسي ، سمعت علي بن أحمد بن خُشَيش ، سمعت أبا الحديد الصوفي بمصر ، عن أبيه ، عن المزني ، يقول : أحمد بن حنبل يوم المحنة ، أبو بكر يوم الردة ، وعمر يوم السقيفة ، وعثمان يوم الدار ، وعلي يوم صِفين .

قال أحمد بن محمد الرُّشْدِيني : سمعت أحمد بن صالح المصري ، يقول : ما رأيت بالعراق مثل هذين : أحمد بن حنبل ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، رجلين جامعين لم أر مثلهما بالعراق . وروى أحمد بن سلمة النيسابوري ، عن ابن وارة ، قال : أحمد بن حنبل ببغداد ، وأحمد بن صالح بمصر ، وأبو جعفر النفيلي بحران ، وابن نمير بالكوفة ، هؤلاء أركان الدين .

وقال علي بن الجنيد الرازي : سمعت أبا جعفر النفيلي ، يقول : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين .

وعن محمد بن مصعب العابد ، قال : لسوطٌ ضُرِبَه أحمد بن حنبل في الله أكبر من أيام بشر بن الحارث .

قلت : بشر عظيم القدر كأحمد ، ولا ندري وزن الأعمال ، إنما الله يعلم ذلك .

قال أبو عبد الرحمن النهاوَندي : سمعت يعقوب الفسوي ، يقول : كتبت عن ألف شيخ ، حجتي فيما بيني وبين الله رجلان : أحمد بن حنبل ، وأحمد بن صالح . وبالإسناد إلى الأنصارى شيخ الإسلام : أخبرنا أبو يعقوب ، أخبرنا منصور بن عبد الله الذهلي ، حدثنا محمد بن الحسن بن علي البخاري ، سمعت محمد بن إبراهيم البوشنجي ، وذكر أحمد بن حنبل ، فقال : هو عندي أفضل وأفقه من سفيان الثوري ، وذلك أن سفيان لم يُمتَحَن بمثل ما امتحن به أحمد ، ولا علم سفيان ومن يقدم من فقهاء الأمصار كعلم أحمد بن حنبل ؛ لأنه كان أجمع لها ، وأبصر بأغاليطهم وصَدُوقهم وكذوبهم . قال : ولقد بلغني عن بشر بن الحارث أنه قال : قام أحمد مقام الأنبياء . وأحمد عندنا امتحن بالسراء والضراء ، فكان فيهما معتصما بالله .

قال أبو يحيى الناقد : كنا عند إبراهيم بن عرعرة ، فذكروا يعلى بن عاصم ، فقال رجل : أحمد بن حنبل يضعفه . فقال رجل : وما يضره إذا كان ثقة ؟ فقال ابن عرعرة : والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضرهما .

وقال الحنيني : سمعت إسماعيل بن الخليل ، يقول : لو كان أحمد بن حنبل في بني إسرائيل لكان آية .

وعن علي بن شعيب ، قال : عندنا المثل الكائن في بني إسرائيل ، من أن أحدهم كان يُوضَع المنشار على مفرق رأسه ، ما يصرفه ذلك عن دينه . ولولا أن أحمد قام بهذا الشأن ، لكان عارا علينا أن قوما سبكوا ، فلم يخرج منهم أحد .

قال ابن سلم : سمعت محمد بن نصر المروزي ، يقول : صرت إلى دار أحمد بن حنبل مرارا ، وسألته عن مسائل ، فقيل له : أكان أكثر حديثا أم إسحاق ؟ قال : بل أحمد أكثر حديثا وأورع . أحمد فاق أهل زمانه . قلت : كان أحمد عظيم الشأن ، رأسا في الحديث ، وفي الفقه ، في التَّألُّه . أثنى عليه خلق من خصومه ، فما الظن بإخوانه وأقرانه ؟ ! ! وكان مهيبا في ذات الله . حتى لقال أبو عبيد : ما هِبتُ أحدا في مسألة ، ما هبت أحمد بن حنبل .

وقال إبراهيم الحربي : عالم وقته سعيد بن المسيب في زمانه ، وسفيان الثوري في زمانه ، وأحمد بن حنبل في زمانه .

قرأت على إسحاق الأسدي : أخبركم ابن خليل ، أخبرنا اللبان ، عن أبي علي الحداد ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا محمد بن يونس ، حدثني سليمان الشاذكوني ، قال : يشبه علي بن المديني بأحمد بن حنبل ؟ أيهات !! ما أشبه السُّك باللُّك لقد حضرت من ورعه شيئا بمكة: أنه أرهن سطلا عند فامِيّ فأخذ منه شيئا ليقوته . فجاء ، فأعطاه فكاكه ، فأخرج إليه سطلين ، فقال : انظر أيهما سطلك ؟ فقال : لا أدري أنت في حل منه ، وما أعطيك ، ولم يأخذه . قال الفامي : والله إنه لسطله ، وإنما أردت أن أمتحنه فيه .

وبه إلى أبي نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الأبار : سمعت محمد بن يحيى النيسابوري ، حين بلغه وفاة أحمد ، يقول : ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم .

قلت : تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع .

قال أحمد بن القاسم المقرئ : سمعت الحسين الكرابيسي ، يقول : مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مثل قوم يجيئون إلى أبي قُبَيْس يريدون أن يهدموه بنعالهم .

الطبراني : حدثنا إدريس بن عبد الكريم المقرئ ، قال : رأيت علماءنا مثل الهيثم بن خارجة ، ومصعب الزبيري ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأخيه ، وعبد الأعلى بن حماد ، وابن أبي الشوارب وعلي بن المديني ، والقواريري ، وأبي خيثمة ; وأبي معمر ، والوركاني وأحمد بن محمد بن أيوب ، ومحمد بن بكار ، وعمرو الناقد ، ويحيى بن أيوب المقابري ، وسريج بن يونس ، وخلف بن هشام ، وأبي الربيع الزهراني ، فيمن لا أحصيهم ، يعظمون أحمد ويجلونه ويوقرونه ويبجلونه ويقصدونه للسلام عليه .

قال أبو علي بن شاذان : قال لي محمد بن عبد الله الشافعي : لما مات سعيد بن أحمد بن حنبل ، جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله بن أحمد ، فقام إليه عبد الله ، فقال : تقوم إليّ قال : والله لو رآك أبي ، لقام إليك ، فقال إبراهيم : والله لو رأى ابن عيينة أباك ، لقام إليه .

قال محمد بن أيوب العُكبَرِي : سمعت إبراهيم الحربي ، يقول : التابعون كلهم ، وآخرهم أحمد بن حنبل -وهو عندي أجلهم- يقولون : من حلف بالطلاق أن لا يفعل شيئا ثم فعله ناسيا ، كلهم يلزمونه الطلاق .

وعن الأثرم قال : ناظرت رجلا ، فقال : من قال بهذه المسألة ؟ قلت : من ليس في شرق ولا غرب مثله ، قال : من ؟ قلت : أحمد بن حنبل .

وقد أثنى على أبي عبد الله جماعة من أولياء الله ، وتبرَّكوا به . روى ذلك أبو الفرج ابن الجوزي ، وشيخ الإسلام ، ولم يصح سند بعض ذلك .

أخبرنا إسماعيل بن عميرة ، أخبرنا ابن قدامة ، أخبرنا أبو طالب بن خضير ، أخبرنا أبو طالب اليوسفي ، أخبرنا أبو إسحاق البرمكي ، أخبرنا علي بن عبد العزيز ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، حدثنا أبو زرعة ، وقيل له . اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي ؟ قال : بل اختيار أحمد فإسحاق. ما أعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل ، وما رأيت أحدا أجمع منه .

في فضله وتألهه وشمائله :

وبه قال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن أحمد ، قال دخلت على أبي يوما أيام الواثق -والله يعلم على أي حال نحن- وقد خرج لصلاة العصر ، وكان له لِبْدٌ يجلس عليه ، قد أتى عليه سنون كثيرة حتى بلي ، وإذا تحته كتاب كاغد فيه : بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضيق ، وما عليك من الدين ، وقد وجهت إليك بأربعة آلاف درهم على يدي فلان ، وما هي من صدقة ولا زكاة ، وإنما هو شيء ورثته من أبي . فقرأت الكتاب ، ووضعته .

فلما دخل ، قلت : يا أبة ، ما هذا الكتاب ؟ فاحمرَّ وجهه ، وقال : رفعته منك . ثم قال : تذهب لجوابه ؟ فكتب إلى الرجل : وصل كتابك إليّ ، ونحن في عافية . فأما الدين ، فإنه لرجل لا يرهقنا ، وأما عيالنا ، ففي نعمة الله . فذهبت بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل ، فلما كان بعد حين ، ورد كتاب الرجل مثل ذلك ، فرد عليه بمثل ما رد . فلما مضت سنة أو نحوها ، ذكرناها ، فقال : لو كنا قبلناها ، كانت قد ذهبت .

وشهدت ابن الجروي ، وقد جاء بعد المغرب ، فقال لأبي : أنا رجل مشهور ، وقد أتيتك في هذا الوقت ، وعندي شيء قد اعتددته لك ، وهو ميراث ، فأحب أن تقبله . فلم يزل به . فلما أكثر عليه ، قام ودخل . قال صالح : فأخبرت عن ابن الجروي أنه قال : قلت له : يا أبا عبد الله ، هي ثلاثة آلاف دينار . فقام وتركني .

قال صالح : ووجه رجل من الصين بكاغد صيني إلى جماعة من المحدثين ، ووجه بقِمَطْر إلى أبي ، فردَّه ، وولد لي مولود فأهدى صديق لي شيئا . ثم أتى على ذلك أشهر ، وأراد الخروج إلى البصرة ، فقال لي : تكلم أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة ، فكلمته فقال : لولا أنه أهدى إليك ، كنت أكتب له .

وبه قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، قال : بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن ، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه ، وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة ، فلم يقبلها .

وبعث ابن طاهر حين مات أحمد بأكفان وحنوط ، فأبى صالح أن يقبله ، وقال : إن أبي قد أعد كفنه وحنوطه ، ورده ، فراجعه ، فقال : إن أمير المؤمنين أعفى أبا عبد الله مما يكره ، وهذا مما يكره ، فلست أقبله .

وبه : حدثنا صالح ، قال : قال أبي : جاءني يحيى بن يحيى -قال أبي : وما أخرجت خراسان بعد ابن المبارك رجلا يشبه يحيى بن يحيى- فجاءني ابنه ، فقال : إن أبي أوصى بمبطنة له لك ، وقال : يذكرني بها .

فقلت : جيء بها . فجاء برزمة ثياب ، فقلت له : اذهب رحمك الله ، يعني : ولم يقبلها .

قلت : وقيل : إنه أخذ منها ثوبا واحدا .

وبه قال : حدثنا صالح قال : قلت لأبي : أن أحمد الدورقي أُعطي ألف دينار . فقال : يا بني ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى .

وبه : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثني عبيد القاري ، قال : دخل على أحمد عمه ، فقال : يا ابن أخي ، أيش هذا الغم ؟ وأيش هذا الحزن ؟ فرفع رأسه ، وقال : يا عم ، طُوبى لمن أخمل الله ذكره .

وبه : سمعت أبي يقول : كان أحمد إذا رأيته ، تعلم أنه لا يظهر النسك ، رأيت عليه نعلا لا يشبه نعال القراء ، له رأس كبير معقد ، وشراكه مسبل ، ورأيت عليه إزارا وجبة برد مخططة . أي : لم يكن بزيّ القُراء .

وبه : حدثنا صالح : قال لي أبي : جاءني أمس رجل كنت أحب أن تراه ، يبنا أنا قاعد ، في نحر الظهيرة ، إذا برجل سلم بالباب ، فكأن قلبي ارتاح ، ففتحت ، فإذا أنا برجل عليه فروة ، وعلى رأسه خرقة ، ما تحت فروِهِ قميص ، ولا معه ركوة ولا جراب ولا عكاز ، قد لوَّحته الشمس . فقلت : ادخل ، فدخل الدهليز ، فقلت : من أين أقبلت ؟ قال : من ناحية المشرق أريد الساحل ، ولولا مكانك ما دخلت هذا البلد ، نويت السلام عليك .

قلت : على هذه الحال ؟ قال : نعم . ما الزهد في الدنيا ؟ قلت : قصر الأمل ، قال : فجعلت أعجب منه ، فقلت في نفسي . ما عندي ذهب ولا فضة . فدخلت البيت ، فأخذت أربعة أرغفة ، فخرجت إليه ، فقال : أوَيَسُرُّك أن أقبل ذلك يا أبا عبد الله ؟ قلت : نعم . فأخذها ، فوضعها تحت حضنه ، وقال : أرجوأن تكفيني إلى الرَّقة . أستودعك الله . فكان يذكره كثيرا .

وبه : كتب إليَّ عبد الله بن أحمد ، سمعت أبي ، وذكر الدنيا ، فقال : قليلها يجزئ ، وكثيرها لا يجزئ ، وقال أبي : وقد ذكر عنده الفقر فقال : الفقر مع الخير .

وبه حدثنا صالح ، قال : أمسك أبي عن مكاتبة ابن راهويه ، لما أدخل كتابه إلى عبد الله بن طاهر وقرأه .

وبه قال : ذكر عبد الله بن أبي عمر البكري ، سمعت عبد الملك بن عبد الحميد الميموني ، قال : ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدنا ، ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ، ولا أنقى ثوبا بشدة بياض ، من أحمد بن حنبل رضي الله عنه.

كان ثيابه بين الثوبين ، تسوى ملحفته خمسة عشر درهما ، وكان ثوب قميصه يؤخذ بالدينار ونحوه ، لم يكن له دقة تُنكر ، ولا غِلظ ينكر ، وكان مَلحفته مهذبة .

وبه حدثنا ، صالح ، قال : ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ، ينفض الغبار عنها ، ويُصَيِّرها في قصعة ، ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح . وما رأيته اشترى رمانا ولا سفرجلا ولا شيئا من الفاكهة ، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها خبز وعنبا وتمرا .

وقال لي : كانت والدتك في الظلام تغزل غزلا دقيقا ، فتبيع الأستار بدرهمين أقل أو أكثر ، فكان ذلك قوتنا ، وكنا إذا اشترينا الشيء ، نستره عنه كيلا يراه ، فيوبخنا ، وكان ربما خُبِزَ له ، فيجعل في فَخَّارة عدسا وشحما وتمرات شهريز فيجيء الصبيان ، فيصوِّت ببعضهم ، فيدفعه إليهم ، فيضحكون ولا يأكلون. وكان يأتدم بالخل كثيرا .

قال: وقال أبي: إذا لم يكن عندي قطعة ، أفرح .

وكان إذا توضأ لا يدع من يستقي له ، وربما اعتللت فيأخذ قدحا فيه ماء ، فيقرأ فيه ، ثم يقول : اشرب منه ، واغسل وجهك ويديك .

وكانت له قلنسوة خاطها بيده ، فيها قطن ، فإذا قام بالليل لبسها .

وكان ربما أخذ القدوم ، وخرج إلى دار السكان ، يعمل الشيء بيده .

واعتل فتعالج .

وكان ربما خرج إلى البقال ، فيشتري الجُرْزَة الحطب والشيء ، فيحمله بيده .

وكان يتَنوَّر في البيت . فقال لي في يوم شتوي : أريد أدخل الحمام بعد المغرب ، فقل لصاحب الحمام . ثم بعث إليَّ : إني قد أضربت عن الدخول . وتنوَّر في البيت .

وكنت أسمعه كثيرا يقول : اللهم سلِّم سلِّم .

وبه حدثنا أحمد بن سنان ، قال : بُعث إلى أحمد بن حنبل حيث كان عندنا أيام يزيد جوز ونبق كثير فقبل ، وقال لي : كل هذا .

قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أبي ، وذُكر عنده الشافعي -رحمه الله- فقال : ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه . ثم قال عبد الله : كل شيء في كتاب الشافعي حدثنا الثقة فهو عن أبي .

الخلال : حدثنا المروذي ، قال : قدم رجل من الزهاد ، فأدخلته على أحمد ، وعليه فروٌ خَلَقٌ ، وخُرَيْقة على رأسه وهو حاف في برد شديد ، فسلم ، وقال : يا أبا عبد الله ، قد جئت من موضع بعيد ، وما أردت إلا السلام عليك ، وأريد عَبَّادان ، وأريد إن أنا رجعت ، أسلِّم عليك . فقال : إن قدر . فقام الرجل وسلم ، وأبو عبد الله قاعد ، فما رأيت أحدا قام من عند أبي عبد الله ، حتى يقوم هو إلا هذا الرجل . فقال لي أبو عبد الله : ما ترى ما أشبهه بالأبدال ، أو قال : إني لأذكر به الأبدال . وأخرج إليه أبو عبد الله أربعة أرغفة مشطورة بكامَخ وقال : لو كان عندنا شيء ، لَوَاسَيْنَاك .

وأخبرنا المروذي : قلت لأبي عبد الله : ما أكثر الداعي لك ! قال : أخاف أن يكون هذا استدراجا بأي شيء هذا ؟ وقلت له : قدم رجل من طرسوس ، فقال : كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل ، رفعوا أصواتهم بالدعاء ، ادعوا لأبي عبد الله ، وكنا نمد المنجنيق ، ونرمي عن أبي عبد الله . ولقد رمي عنه بحجر ، والعِلج على الحصن متترس بدَرَقَة فذهب برأسه وبالدَّرَقة . قال : فتغير وجه أبي عبد الله ، وقال : ليته لا يكون استدراجا . قلت : كلا .

وعن رجل قال : عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر ، يظنون أنه من الملائكة .

وقال آخر : نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة .

قلت : هذا غلوٌ لا ينبغي؛ لكن الباعث له حب ولي الله في الله .

قال المروذي : رأيت طبيبا نصرانيا خرج من عند أحمد ومعه راهب ، فقال : إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله .

وأدخلت نصرانيا على أبي عبد الله ، فقال له : إني لأشتهي أن أراك منذ سنين . ما بقاؤك صلاح للإسلام وحدهم ، بل للخلق جميعا ، وليس من أصحابنا أحد إلا وقد رضي بك . فقلت لأبي عبد الله : إني لأرجو أن يكون يُدعى لك في جميع الأمصار . فقال : يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه ، فما ينفعه كلام الناس .

قال عبد الله بن أحمد : خرج أبي إلى طرسوس ماشيا ، وحج حجتين أو ثلاثا ماشيا ، وكان أصبر الناس على الوحدة ، وبِشْرٌ لم يكن يصبر على الوحدة . كان يخرج إلى ذا وإلى ذا .

قال عباس الدوري : حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا ، قال : كانت أمي مقعدة من نحو عشرين سنة . فقالت لي يوما : اذهب إلى أحمد بن حنبل ، فسله أن يدعو لي ، فأتيت ، فدققت عليه وهو في دهليزه ، فقال : من هذا ؟ قلت : رجل سألتني أمي وهي مُقعدة أن أسألك الدعاء . فسمعت كلامه كلام رجل مغضب . فقال : نحن أحوج أن تدعو الله لنا ، فوليت منصرفا . فخرجت عجوز ، فقالت : قد تركته يدعو لها . فجئت إلى بيتنا

ودققت الباب ، فخرجت أمي على رجليها تمشي .

هذه الواقعة نقلها ثقتان عن عباس .

قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاث مائة ركعة . فلما مرض من تلك الأسواط ، أضعفته ، فكان يصلي كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة .

وعن أبي إسماعيل الترمذي : قال : جاء رجل بعشرة آلاف من ربح تجارته إلى أحمد فردها . وقيل : إن صيرفيا بذل لأحمد خمس مائة دينار ، فلم يقبل .

ومن آدابه :

قال عبد الله بن أحمد : رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- فيضعها على فيه يُقَبِّلها . وأحسب أني رأيته يضعها على عينه ، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به .

ورأيته أخذ قصعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فغسلها في حُبّ الماء ، ثم شرب فيها ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به ، ويمسح به يديه ووجهه .

قلت : أين المتنطع المنكر على أحمد ، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويمس الحجرة النبوية ، فقال : لا أرى بذلك بأسا . أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع .

قال أحمد بن سعيد الدارمي : كتب إليَّ أحمد بن حنبل : لأبي جعفر -أكرمه الله- من أحمد بن حنبل .

قال عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري : حدثنا أبي ، قال : مضى عمي أحمد بن سعد إلى أحمد بن حنبل ، فسلم عليه . فلما رآه ، وثب قائما وأكرمه .

وقال المروذي : قال لي أحمد : ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به ، حتى مر بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة دينارا فأعطيت الحجام دينارا حين احتجمت .

وعن المروذي : كان أبو عبد الله لا يدخل الحمام ، ويتنور في البيت ، وأصلحت له غير مرة النُّورة ، واشتريت له جلدا ليده يدخل يده فيه ، ويتنور .

وقال حنبل : رأيت أبا عبد الله إذا أراد القيام ، قال لجلسائه : إذا شئتم .

وقال المروذي : رأيت أبا عبد الله قد ألقى لختان درهمين في الطست .

وقال عبد الله : ما رأيت أبي حدث من غير كتاب إلا بأقل من مائة حديث . وسمعت أبي يقول : قال الشافعي : يا أبا عبد الله : إذا صح عندكم الحديث ، فأخبرونا حتى نرجع إليه أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا ، فإذا كان خبر صحيح ، فأعلمني حتى أذهب اليه ، كوفيا كان أو بصريا أو شاميا . قلت : لم يحتج إلى أن يقول حجازيا ، فإنه كان بصيرا بحديث

الحجاز ، ولا قال مصريا ، فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما.

الطبراني : حدثنا موسى بن هارون : سمعت ابن راهويه ، يقول : لما خرج أحمد إلى عبد الرزاق ، انقطعت به النفقة ، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء ، وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ .

قال عبد الله بن أحمد : حدثني إسماعيل بن أبي الحارث ، قال : مر بنا أحمد ، فقلنا لإنسان : اتبعه ، وانظر أين يذهب . فقال : جاء إلى حنك المروزي فما كان إلا ساعة حتى خرج . فقلت لحنَّك بَعْدُ : جاءك أبو عبد الله ؟ قال : هو صديق لي ، واستقرض مني مائتي درهم ، فجاءني بها ، فقلت : ما نويت أخذها ، فقال : وأنا ما نويت إلا أن أردها إليك .

أبو نعيم : حدثنا الطبراني ، حدثنا محمد بن موسى البربري ، قال : حمل إلى الحسن الجروي ميراثه من مصر مائة ألف دينار ، فأتى أحمد بثلاثة آلاف دينار ، فما قبلها .

أبو نعيم : حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا شاكر بن جعفر ، سمعت أحمد بن محمد التستري ، يقول : ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها ، فبعث إلى صديق له ، فاقترض منه دقيقا ، فجهزوه بسرعة ، فقال : كيف ذا ؟ قالوا : تنور صالح مُسْجَر ، فخبزنا فيه ، فقال : ارفعوا ، وأمر بسدِّ باب بينه وبين صالح .

قلت : لكونه أخذ جائزة المتوكل .

قال يحيى بن معين : ما رأيت مثل أحمد ، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير .

قال عبد الله بن أحمد : كان أبي يقرأ كل يوم سبعا ، وكان ينام نومة

خفيفة بعد العشاء ، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو .

وقال صالح : كان أبي إذا دعا له رجل ، قال : ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته ، الأعمال بخواتيمها وقال أبي في مرضه : أخرج كتاب عبد الله بن إدريس ، فقال : اقرأ علي حديث ليث : إن طاوسا كان يكره الأنين في المرض . فما سمعت لأبي أنينا حتى مات . وسمعه ابنه عبد الله يقول : تمنيت الموت ، وهذا أمر أشد علي من ذلك ، ذاك فتنة الضرب والحبس ، كنت أحمله ، وهذه فتنة الدنيا .

قال أحمد الدورقي : لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق ، رأيت به شحوبا بمكة . وقد تبين عليه النصب والتعب ، فكلمته ، فقال : هين فيما استفدنا من عبد الرزاق .

قال عبد الله : قال أبي : ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه إلا المجلس الأول ، وذلك أنا دخلنا بالليل ، فأملى علينا سبعين حديثا . وقد جالس معمرا تسع سنين . وكان يكتب عنه كل ما يقول.

قال عبد الله : من سمع من عبد الرزاق بعد المائتين ، فسماعه ضعيف .

قال موسى بن هارون : سئل أحمد : أين نطلب البدلاء ؟ فسكت ثم قال : إن لم يكن من أصحاب الحديث فلا أدري .

قال المروذي : كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت ، خنقته العبرة . وكان يقول : الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب ، وإذا ذكرت الموت ، هان علي كل أمر الدنيا . إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس . وإنها أيام قلائل . ما أعدل بالفقر شيئا . ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر .

وقال : أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف ، قد بُليت بالشهرة ، إني أتمنى الموت صباحا ومساء .

قال المروذي : وذكر لأحمد أن رجلا يريد لقاءه ، فقال : أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له . وقال : لقد استرحت ، ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت أن لا أحدث ، وليتنا نترك ، الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث . فقلت له : إن فلانا ، قال : لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها ، قال : زهد في الناس . فقال : ومن أنا حتى أزهد في الناس ؟ الناس يريدون أن يزهدوا في .

وسمعته يكره للرجل النوم بعد العصر ، يخاف على عقله .

وقال : لا يفلح من تعاطى الكلام ، ولا يخلو من أن يتجهم وسئل عن القراءة بالألحان ، فقال : هذه بدعة لا تسمع .

ومن سيرته :

قال الخلال : قلت لزهير بن صالح : هل رأيت جدك ؟ قال : نعم .

مات وأنا في عشر سنين ، كنا ندخل إليه في كل يوم جمعة أنا وأخواني ، وكان بيننا وبينه باب ، وكان يكتب لكل واحد منا حبتين حبتين من فضة في رقعة إلى فامي يعامله . وربما مررت به وهو قاعد في الشمس ، وظهره مكشوف فيه أثر الضرب بين ، وكان لي أخ أصغر مني اسمه علي ، فأراد أبي أن يختنه ، فاتخذ له طعاما كثيرا ، ودعا قوما ، فوجه إليه جدي : بلغني ما أحدثته لهذا ، وأنك أسرفت ، فابدأ بالفقراء والضعفاء . فلما أن كان من الغد ، حضر الحجام ، وحضر أهلنا ، جاء جدي حتى جلس عند الصبي ، وأخرج صريرة ، فدفعها إلى الحجام ، وقام فنظر الحجام في الصريرة ، فإذا درهم واحد . وكنا قد رفعنا كثيرا من الفرش ، وكان الصبي على مصطبة مرتفعة من الثياب الملونة ، فلم ينكر ذلك .

وقدم علينا من خراسان ابن خالة جدي ، فنزل على أبي ، فدخلت معه إلى جدي ، فجاءت الجارية بطبق خلاف ، وعليه خبز وبقل وملح ، وبغضارة ، فوضعتها بين أيدينا، فيها مصلية فيها لحم وصلق كثير ، فأكل معنا ، وسأل ابن خالته عمن بقي من أهله بخراسان في خلال الأكل ، فربما استعجم عليه ، فيكلمه جدي بالفارسية ، ويضع اللحم بين يديه وبين يدي . ثم أخذ طبقا إلى جنبه ، فوضع فيه تمر وجوز ، وجعل يأكل ويناول الرجل .

قال الميموني : كثيرا ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء ، فيقول : لبيك لبيك .

وعن المروذي ، قال : لم أرَ الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد . كان مائلا إليهم ، مقصرا عن أهل الدنيا ، وكان فيه حلم ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار ، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل ، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر .

قال عبد الله : رأيت أبي حرج على النمل أن يخرجوا من داره ، فرأيت النمل قد خرجن بعد نملا سودا ، فلم أرهم بعد ذلك .

ومن كرمه :

الخلال : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدب : كنت آتي أباك فيدفع إليَّ الثلاثة دراهم وأقل وأكثر ويقعد معي ، فيتحدث ، وربما أعطاني الشيء ، ويقول : أعطيتك نصف ما عندنا . فجئت يوما ، فأطلت القعود أنا وهو . قال : ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة . فقال : هذا نصف ما عندنا . فقلت : هي أحب إليَّ من أربعة آلاف من غيرك .

قال المروذي : رأيت أبا عبد الله ، وجاءه بعض قرابته فأعطاه درهمين . وأتاه رجل فبعث إلى البقال ، فأعطاه نصف درهم .

وعن يحيى بن هلال ، قال : جئت أحمد فأعطاني أربعة دراهم .

وقال هارون المستملي : لقيت أحمد بن حنبل ، فقلت : ما عندنا شيء . فأعطاني خمسة دراهم ، وقال : ما عندنا غيرها .

قال المروذي : رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه ، وقال : ربما واسى من قوته . وكان إذا جاءه أمر يهمه من أمر الدنيا ، لم يفطر وواصل .

وجاءه أبو سعيد الضرير ، وكان قال قصيدة في ابن أبي دؤاد ، فشكى إلى أبي عبد الله ، فقال : يا أبا سعيد ، ما عندنا إلا هذا الجذع . فجيء بحمال ، قال فبعته بتسعة دراهم ودانِقين. وكان أبو عبد الله شديد الحياء ، كريم الأخلاق ، يعجبه السخاء .

قال المروذي : سمعت أبا الفوارس ساكن أبي عبد الله ، يقول : قال لي أبو عبد الله : يا محمد ، ألقي الصبي المقراض في البئر ، فنزلت فأخرجته . فكتب لي إلى البقال : أعطه نصف درهم . قلت : هذا لا يسوى قيراط . والله لا أخذته . قال : فلما كان بعد ، دعاني ، فقال : كم عليك من الكراء ؟ فقلت : ثلاثة أشهر . قال : أنت في حل . ثم قال أبو بكر الخلال : فاعتبروا يا أولي الألباب والعلم ، هل تجدون أحدا بلغكم عنه هذه الأخلاق ؟ ! !.

حدثنا علي بن سهل بن المغيرة ، قال : كنا عند عفان مع أحمد بن حنبل وأصحابهم ، وصنع لهم عفان . حملا وفالوذج ، فجعل أحمد يأكل من كل شيء قدموا إلا الفالوذج. فسألته ، فقال : كان يقال : هو أرفع الطعام فلا يأكله . وفي حكاية أخرى : فأكل لقمة فالوذج .

وعن ابن صبح ، قال : حضرت أبا عبد الله على طعاء ، فجاءوا بأرز ، فقال أبو عبد الله : نعم الطعام ، إن أكل في أول الطعام أشبع ، وإن أكل في آخره هضم . ونقل عن أبي عبد الله إجابة غير دعوة .

قال حمدان بن علي : لم يكن لباس أحمد بذاك ، إلا أنه قطن نظيف .

وقال الفضل بن زياد : رأيت على أبي عبد الله في الشتاء قميصين وجبة ملونة بينهما، وربما لبس قميصا وفروا ثقيلا. ورأيته عليه عمامة فوق القلنسوة ، وكساء ثقيلا. فسمعت أبا عمران الوركاني ، يقول له يوما : يا أبا عبد الله ، هذا اللباس كله ؟ فضحك ، ثم قال: أنا رقيق في البرد ، وربما لبس القلنسوة بغير عمامة .

قال الفضل بن زياد : رأيت على أبي عبد الله في الصيف قميصا وسراويل ورداء ، وكان كثيرا ما يتشح فوق القميص .

الخلال : أخبرنا الميموني : ما رأيت أبا عبد الله عليه طيلسان قط ، ولا رداء ، إنما هو إزار صغير .

وقال أبو داود : كنت أرى أزرار أبي عبد الله محلولة . ورأيت عليه من النعال ومن الخفاف غير زوج ، فما رأيت فيه مخضرا ولا شيئا له قبالان .

وقال أبو داود : رأيت على أبي عبد الله نعلين حمراوين لهما قبال واحد .

الخلال : حدثنا محمد بن الحسين ، أن أبا بكر المروذي حدثهم في آداب أبي عبد الله ، قال : كان أبو عبد الله لا يجهل ، وإن جهل عليه حلم واحتمل ، ويقول : يكفي الله . ولم يكن بالحقود ولا العجول ، كثير التواضع ، حسن الخلق ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظ . وكان بحب في الله ، ويبغض في الله ، وإذا كان في أمر من الدين ، اشتد له غضبه . وكان يحتمل الأذى من الجيران .

قال حنبل : صليت بأبي عبد الله العصر ، فصلى معنا رجل يقال له محمد بن سعيد الختلي ، وكان يعرفه بالسنة . فقعد أبو عبد الله بعد الصلاة ، وبقيت أنا وهو والختلي في المسجد ما معنا رابع . فقال لأبي عبد الله : نهيت عن زيد بن خلف أن لا يكلم ؟ قال : كتب إليَّ أهل الثغر يسألوني عن أمره ، فكتبت إليهم ، فأخبرتهم بمذهبه وما أحدث ، وأمرتهم أن لا يجالسوه ، فاندفع الختلي على أبي عبد الله ، فقال : والله لأردنك إلى محبسك ، ولأدقَّنَّ أضلاعك ... في كلام كثير. فقال لي أبو عبد الله : لا تكلمه ولا تجبه .

وأخذ أبو عبد الله نعليه وقام فدخل ، وقال : مر السكان أن لا يكلموه ولا يردوا عليه . فما زال يصيح ، ثم خرج . فلما كان بعد ذلك ، ذهب هذا الختلي إلى شعيب ، وكان قد ولي على قضاء بغداد ، وكانت له في يديه وصية ، فسأله عنها ، ثم قال له شعيب : يا عدو الله ، وثبت على أحمد بالأمس ، ثم جئت تطلب الوصية ، إنما أردت أن تتقرب إليَّ بذا ، فزبره ، ثم أقامه . فخرج بعد إلى حسبة العسكر .

وسرد الخلال حكايات فيمن أهدى شيئا إلى أحمد ، فأثابه بأكثر من هديته .

قال الخلال : حدثنا إبراهيم بن جعفر بن حاتم : حدثني محمد بن الحسن بن الجنيد ، عن هارون بن سفيان المستملي ، قال : جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد يفرق الدراهم التي جاءته من المتوكل ، فأعطاني مائتي درهم . فقلت : لا تكفيني . قال : ليس هنا غيرها ، ولكن هو ذا ، أعمل بك شيئا أعطيك ثلاث مائة تفرقها . قال : فلما أخذتها ، قلت : ليس والله أعطي أحدا منها شيئا ، فتبسم .

قال عبد الله : ما رأيت أبي دخل الحمام قط .

الخلال : حدثنا عبد الله بن حنبل : حدثني أبي ، قال : قيل لأبي عبد الله لما ضرب وبرئ ، وكانت يده وجعة مما علق ، وكانت تضرب عليه ، فذكروا له الحمام ، وألحوا عليه ، فقال لأبي : يا أبا يوسف ، كلم صاحب الحمام يخليه لي ، ففعل ثم امتنع ، وقال : ما أريد أن أدخل الحمام .

زهير بن صالح : حدثنا أبي قال : سمعت أبي كثيرا يتلو سورة الكهف ، وكثيرا ما كنت أسمعه ، يقول : اللهم سلم سلم .

وحدثنا عن يونس بن محمد ، عن حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : اللهم سلِّم سلِّم .

أخبرنا عبد الحافظ بن بدران ، أخبرنا موسى بن عبد القادر ، أخبرنا سعيد بن أحمد ، أخبرنا علي بن أحمد ، أخبرنا المخلص حدثنا أبو القاسم البغوي : سمعت أحمد بن حنبل يقول في سنة ثمان وعشرين ومائتين ، وقد حدث بحديث معونة في البلاء : اللهم رضينا ، اللهم رضينا .

وقال المروذي : رأيت أبا عبد الله يقوم لورده قريبا من نصف الليل حتى يقارب السحر . ورأيته يركع فيما بين المغرب والعشاء .

وقال عبد الله : ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم ، وكان يكثر الدعاء ويخفيه ، ويصلي بين العشاءين . فإذا صلى عشاء الآخرة ، ركع ركعات صالحة ، ثم يوتر وينام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيصلي .

وكانت قراءته لينة ، ربما لم أفهم بعضها . وكان يصوم ويدمن ، ثم يفطر ما شاء الله . ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض . فلما رجع من العسكر ، أدمن الصوم إلى أن مات .

قال المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول : حججت على قدمي حجتين ، وكفاني إلى مكة أربعة عشر درهما .

تركه للجهات جملة : عن محمد بن يحيى خادم المزني عنه ، قال : قال الشافعي : لما دخلت على الرشيد ، قال : اليمن يحتاج إلى حاكم ، فانظر رجلا نوليه .

فلما رجع الشافعي إلى مجلسه ، ورأى أحمد بن حنبل من أمثلهم ، كلمه في ذلك ، وقال : تهيأ حتى أدخلك على أمير المؤمنين . فقال : إنما جئت لأقتبس منك العلم ، وتأمرني أن أدخل في القضاء ، ووبخه . فاستحيا الشافعي .

قلت : إسناده مظلم .

قال ابن الجوزي : قيل : كان هذا في زمان الأمين .

وأخبرنا ابن ناصر ، أخبرنا عبد القادر بن محمد ، أنبأنا البرمكي ، أخبرنا أبو بكر عبد العزيز ، أخبرنا الخلال ، أخبرني محمد بن أبي هارون ، حدثنا الأثرم ، قال : أخبرت أن الشافعي قال لأبي عبد الله : إن أمير المؤمنين ، يعني: محمدا ، سألني أن ألتمس له قاضيا لليمن ، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق ، فقد نلت حاجتك ، وتقضي بالحق ، قال للشافعي : يا أبا عبد الله ، إن سمعت هذا منك ثانية ، لم ترني عندك .

فظننت أنه كان لأبي عبد الله ثلاثين سنة ، أو سبعا وعشرين .

الصندلي : حدثنا أبو جعفر الترمذي ، أخبرنا عبد الله بن محمد البلخي أن الشافعي كان كثيرا عند محمد بن زبيدة ، يعني : الأمين ، فذكر له محمد يوما اغتمامه برجل يصلح للقضاء صاحب سنة . قال : قد وجدت .

قال : ومن هو ؟ فذكر أحمد بن حنبل . قال : فلقيه أحمد ، فقال : أخمل هذا واعفني ، وإلا خرجت من البلد .

قال صالح بن أحمد : كتب إليَّ إسحاق بن راهويه : إن الأمير عبد الله بن طاهر وجَّه إليَّ ، فدخلت إليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله . فقالت : ما هذا ؟ قلت : كتاب أحمد بن حنبل ، فأخذه وقرأه ، وقال : إني أحبه ، وأحب حمزة بن الهَيْصَم البوشنجي؛ لأنهما لم يختلطا بأمرالسلطان . قال : فأمسك أبي عن مكاتبة إسحاق .

قال ابراهيم بن أبي طالب : سمعت أحمد بن سعيد الرباطي ، يقول : قدمت على أحمد بن حنبل ، فجعل لا يرفع رأسه إليَّ ، فقلت : يا أبا عبد الله ، إنه يكتب عني بخراسان ، وإن عاملتني هذه المعاملة رَمَوا حديثي ، قال : يا أحمد ، هل بُدُّ يوم القيامة من أن يقال : أين عبد الله بن طاهر وأتباعه ؟ فانظر أين تكون منه .

قال عبد الله بن بشر الطالقاني : سمعت محمد بن طارق البغدادي ، يقول : قلت لأحمد بن حنبل : أستمد من محبرتك ، فنظر إليَّ ، وقال : لم يبلغ ورعي ورعك هذا ، وتبسم .

قال المروذي : قلت لأبي عبد الله : الرجل يقال في وجهه : أحببتَ السنة ، قال : هذا فساد لقلبه .

الخلال : أخبرني محمد بن موسى ، قال : رأيت أبا عبد الله ، وقد قال له خراساني : الحمد لله الذي رأيتك ، قال : اقعد ، أي شيء ذا ؟ من أنا ؟ وعن رجل قال : رأيت أثر الغمّ في وجه أبي عبد الله ، وقد أثنى عليه .

شخص ، وقيل له : جزاك الله عن الإسلام خيرا . قال : بل جزى الله . الإسلام عني خيرا . من أنا وما أنا ؟ !

الخلال : أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي ، قال : مسحت يدي على أحمد بن حنبل ، وهو ينظر ، فغضب ، وجعل ينفض يده ويقول : عمَّن أخذتم هذا .

وقال خطاب بن بشر : سألت أحمد بن حنبل عن شيء من الورع ، فتبين الاغتمام عليه إزراء على نفسه .

وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين ، فقال : أسأل الله أن لا يمقتنا . أين نحن من هؤلاء ؟ !!

قال الأبار : سمعت رجلا سأل أحمد بن حنبل ، قال : حلفت بيمين لا أدري أيش هي ؟ فقال : ليتك إذا دريت دريتُ أنا .

قال إبراهيم الحربي : كان أحمد يجيب في العرس والختان ، ويأكل . وذكر غيره أن أحمد ربما استعفى من الإجابة . وكان إن رأى إناء فضة أو منكرا ، خرج . وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس ، ويعود المريض ، وكان يكره المشي في الأسواق ، ويؤثر الوحدة .

قال أبو العباس السراج : سمعت فتح بن نوج ، سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : أشتهي ما لا يكون ، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس .

وقال الميموني : قال أحمد : رأيت الخلوة أروَحَ لقلبي .

قال المروذي : قال لي أحمد : قل لعبد الوهاب : أخملْ ذكرك؛ فإني أنا قد بليت بالشهرة .

وقال محمد بن الحسن بن هارون : رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق ، يكره أن يتبعه أحد .

قلت : إيثار الخمول والتواضع ، وكثرة الوجل من علامات التقوى والفلاح .

قال صالح بن أحمد : كان أبي إذا دعا له رجل ، يقول : الأعمال بخواتيمها .

وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا عليَّ ولا لي .

وعن المروذي قال : أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله -وكان رجلا صالحا- فقال : إن أمي رأت لك مناما ، هو كذا وكذا . وذكرت الجنة ، فقال : يا أخي ، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا .

وخرج إلى سفك الدماء . وقال : الرؤيا تسر المؤمن ولا تغرُّه .

قال المروذي : بال أبو عبد الله في مرض الموت دما عبيطا ، فأريته الطبيب ، فقال : هذا رجل قد فتت الغم أو الخوف جوفه . وروي عن المروذي ، قال : قلت لأحمد : كيف أصبحت ؟ قال : كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض ، ونبيه يطالبه بأداء السنة ، والملكان يطلبانه بتصحيح العمل ، ونفسه تطالبه بهواها ، وإبليس يطالبه بالفحشاء ، وملك الموت يراقب قبض روحه ، وعياله يطالبونه بالنفقة ؟ !

الخلال : أخبرنا المروذي ، قال : مررت وأبو عبد الله متوكئ على يدي فاستقبلتنا امرأة بيدها طنبور ، فأخذته فكسرته ، وجعلت أدوسه ، وأبو عبد الله واقف منكس الرأس . فلم يقل شيئا ، وانتشر أمر الطنبور . فقال أبو عبد الله : ما علمت أنك كسرت طنبورا إلى الساعة .

قال الميموني : قال لي القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي : قال لي أحمد : أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم سَحَرا .

وعن إبراهيم بن هانئ النيسابوري ، قال : كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي وذكر من اجتهاده في العبادة أمرا عجبا . قال : وكنت لا أقوى معه على العبادة ، أفطر يوما واحدا ، واحتجم .

قال الخلال : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا العباس بن أبي طالب : سمعت إبراهيم بن شماس ، قال : كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يُحيي الليل .

قال عمر بن محمد بن رجاء : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي ، فكان كثير المذاكرة له ; فسمعت أبي يوما يقول : ما صليت اليوم غير الفريضة . استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي .

وعن عبد الله بن أحمد ، قال : كان في دهليزنا دكان ، إذا جاء من يريد أبي أن يخلو معه ، أجلسه ثم ، وإذا لم يرد ، أخذ بعضادتي الباب ، وكلمه . فلما كان ذات يوم ، جاء إنسان ، فقال لي : قل : أبو إبراهيم السائح . قال : فقال أبي : سلم عليه ، فإنه من خيار المسلمين . فسلمت عليه ، فقال له أبي : حدثني يا أبا إبراهيم . قال : خرجت إلى موضع ، فأصابتني علة ، فقلت : لو تقربت إلى الدير لعل من فيه من الرهبان يداويني .

فإذا بسبع عظيم يقصدني ، فاحتملني على ظهره حتى ألقاني عند الدير .

فشاهد الرهبان ذلك فأسلموا كلهم . وهم أربع مائة . ثم قال لأبي : حدثني يا أبا عبد الله . فقال : رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا أحمد ، حُجَّ ، فانتبهت ، وجعلت في المِزْود فتيتا ، وقصدت نحو الكوفة . فلما تقتضَّى بعض النهار ، إذا أنا بالكوفة . فدخلت الجامع ، فإذا أنا بشاب حسن الوجه ، طيب الريح . فسلمت وكبرت ، فلما فرغت من صلاتي ، قلت : هل بقي من يخرج إلى الحج ؟ فقال : انتظر حتى يجيء أخ من إخواننا ، فإذا أنا برجل في مثل حالي . فلم نزل نسير ، فقال له الذي معي : رحمك الله ، ارفق بنا . فقال الشاب : إن كان معنا أحمد بن حنبل ، فسوف يرفق بنا . فوقع في نفسي أنه الخضر ، فقلت للذي معي : هل لك في الطعام ؟ فقال : كل مما تعرف ، وآكل مما أعرف . فلما أكلنا ، غاب الشاب . ثم كان يرجع بعد فراغنا . فلما كان بعد ثلاث ، إذا نحن بمكة .

هذه حكاية منكرة .

قال القاضي أبو يعلى : نقلت من خط أبي إسحاق بن شاقلا : أخبرني عمر بن علي ، حدثنا جعفر الرزاز جارنا ، سمعت أبا جعفر محمد بن المولى ، سمعت عبد الله فذكرها . فلعلها من وضع الرزاز .

أنبئونا عن ابن الجوزي ، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك ، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق ، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي ، حدثنا أبو جعفرمحمد بن يعقوب الصفار ، قال : كنا عند أحمد بن حنبل ، فقلت : ادع الله لنا . فقال : اللهم إنك تعلم أنك لنا على أكثر مما نحب ، فاجعلنا لك على ما تحب . اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسموات والأرض : اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ اللهم وفقنا لمرضاتك ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك .

رواتها أئمة إلى الصفار ، ولا أعرفه . وهي منكرة .

أخبرنا عمر بن القواس ، عن الكندي ، أخبرنا الكروخي ، أخبرنا شيخ الإسلام الأنصاري ، أخبرنا أبو يعقوب ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر : سمعت الرمادي ، سمعت عبد الرزاق ، وذكر أحمد ، فدمعت عينه . وقال : قدم وبلغني أن نفقته نفدت ، فأخذت عشرة دنانير ، وعرضتها عليه ، فتبسم ، وقال : يا أبا بكر ، لو قبلت شيئا من الناس ، قبلت منك . ولم يقبل مني ، شيئا .

الخلال : أخبرني أبو غالب علي بن أحمد ، حدثني صالح بن أحمد ، قال : جاءتني حُسْن ، فقالت : قد جاء رجل بتليسة فيها فاكهة يابسة ، وبكتاب . فقمت فقرأت الكتاب ، فإذا فيه : يا أبا عبد الله ، أبضعت ، لك بضاعة إلى سمرقند ، فربحت ، فبعثت بذلك إليك أربعة آلاف ، وفاكهة أنا لقطتها من بستاني ورثته من أبي . قال : فجمعت الصبيان ودخلنا ، فبكيت وقلت : يا أبة ، ما ترِقّ لي من أكل الزكاة ؟ ثم كشف عن رأس الصبية ، وبكيت . فقال : من أين علمت ؟ دع حتى أستخير الله الليلة . قال : فلما كان من الغد . قال : استخرت الله ، فعزم لي أن لا آخذها . وفتح التليسة ففرقها على الصبيان . وكان عنده ثوب عشاري ، فبعث به إلى الرجل ، ورد المال .

عبد الله بن أحمد : سمعت فوران ، يقول : مرض أبو عبد الله ، فعاده الناس ، يعني : قبل المائتين . وعاده علي بن الجعد ، فترك عند رأسه صُرَّة ، فقلت له عنها ، فقال : ما رأيت . اذهب فردها إليه .

أبو بكر بن شاذان : حدثنا أبو عيسى أحمد بن يعقوب ، حدثتني فاطمة بنت أحمد بن حنبل ، قالت : وقع الحريق ، في بيت أخي صالح ، وكان ، قد تزوح بفتية ، فحملوا إليه جهازا شبيها بأربعة آلاف دينار ، فأكلته النار فجعل صالح ، يقول : ما غمني ما ذهب إلا ثوب لأبي . كان يصلي فيه أتبرك به وأصلي فيه . قالت : فطفئ الحريق ، ودخلوا فوجدوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حوله وسلم .

قال ابن الجوزي : وبلغني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم ، فأحرق ما فيها إلا كتابا كان فيه شيء بخط الإمام أحمد . قال : ولما وقع الغرق ببغداد في سنة 554 ، وغرقت كتبي ، سلم لي مجلد فيه ورقتان بخط الإمام .

قلت : وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مائة ببغداد عام على مقابر مقبرة أحمد ، وأن الماء دخل في الدهليز علو ذراع ، ووقف بقدرة الله ، وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغبارها ، وكان ذلك آية .

أبو طالب : حدثنا المروذي : سمعت مجاهد بن موسى ، يقول : رأيت أحمد ، وهو حدث ، وما في وجهه طاقة ، وهو يُذكَر .

وروى حرمي بن يونس ، عن أبيه : رأيت أحمد أيام هشيم وله قدر .

قال أحمد بن سعيد الرباطي : سمعت أحمد بن حنبل ، يقول : أخذنا هذا العلم بالذل ، فلا ندفعه إلا بالذل .

محمد بن صالح بن هانئ : حدثنا أحمد بن شهاب الإسفراييني : سمعت أحمد بن حنبل ، وسئل عمن نكتب في طريقنا ، فقال : عليكم بهناد ، وبسفيان بن وكيع ، وبمكة ابن أبي عمر ، وإياكم أن تكتبوا ، يعني : عن أحد من أصحاب الأهواء ، قليلا ولا كثيرا . عليكم بأصحاب الآثار والسنن .

عبد الله بن أحمد : كتب إليَّ الفتح بن شخرف أنه سمع موسى بن حزام الترمذي ، يقول : كنت أختلف إلى أبي سليمان الجوزجاني في كتب محمد ، فاستقبلني أحمد بن حنبل ، فقال : إلى أين ؟ قلت : إلى أبي سليمان . فقال : العجب منكم ! تركتم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يزيد عن حميد ، عن أنس ، وأقبلتم على ثلاثة إلى أبي حنيفة -رحمه الله- أبو سليمان ، عن محمد ، عن أبي يوسف ، عنه! قال : فانحدرت إلى يزيد بن هارون . بن عدي : أخبرنا عبد الملك بن محمد ، حدثنا صالح بن أحمد :

سمعت أبي ، يقول : والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ، ولوددت أني أنجو كفافا .

الحاكم : حدثنا أبو علي الحافظ ، سمعت محمد بن المسيب ، سمعت زكريا بن يحيى الضرير ، يقول : قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مفتيا ؟ يكفيه مائة ألف ؟ فقال : لا . إلى أن

قال : فيكفيه خمس مائة ألف حديث ؟ قال : أرجو .

المحنة :

قال عمرو بن حكام : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق علمه تفرد به عمرو ، وليس بحجة .

وقال سليمان بن بنت شرحبيل ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن سليمان

التيمي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه أو سمعه غريب فرد .

وقال حماد بن سلمة ، ومعلى بن زياد -وهذا لفظه- عن أبي غالب ، عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر .

إسحاق بن موسى الخطمي : حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا يعقوب بن محمد بن عبد الرحمن القاري ، عن أبيه ، عن جده ، أن عمر كتب إلى معاوية : أما بعد، فالزمْ الحق ، ينزلك الحق منازل أهل الحق ، يوم لا يُقضى إلا بالحق .

وبإسناد واه عن أبي ذر : أبى الحق أن يترك له صديقا .

الصدع بالحق عظيم ، يحتاج إلى قوة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به ، والقوي بلا إخلاص يُخْذَل ، فمن قام بهما كاملا ، فهو صدَّيق . ومن ضعف ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب . ليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوة إلا بالله .

سفيان الثوري ، عن الحسن بن عمرو ، عن محمد بن مسلم مولى حكيم بن حزام ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم ، فقد تُوُدِّع منهم هكذا رواه جماعة عن سفيان .

ورواه النضر بن إسماعيل ، عن الحسن ، فقال : عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا . ورواه سيف بن هارون عن الحسن ، فقال : عن أبي الزبير : سمعت عبد الله بن عمرو مرفوعا .

سفيان الثوري ، عن زبيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لا يحقرن أحدكم نفسه أن يزَى أمرا لله فيه مقال ، فلا يقول فيه ، فيقال له : ما منعك ؟ فيقول : مخافة الناس . فيقول : فإياي كنت أحق أن تخاف رواه الفريابي وأبو نعيم وخلاد عنه .

حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ، وإذا وضع السيف عليهم ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله .

الحسين بن موسى : حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ، حدثنا عبد العزيز بن يحيى المكي ، حدثنا سليم بن مسلم ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لله عند إحداث كل باعة تكيد الإسلام ولي يذب عن دينه " . الحديث . هذا موضوع ، ما رواه ابن جريج .

كان الناس أمة واحدة ، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر . فلما استشهد قُفْلُ باب الفتنة عمر -رضي الله عنه- وانكسر الباب ، قام رءوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا . وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل ، ثم وقعة صفين . فظهرت الخوارج ، وكفرت سادة الصحابة ، ثم ظهرت الروافض والنواصب .

وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة ، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها .

إلى بعد المائتين ، فظهر المأمون الخليفة -وكان ذكيا متكلما ، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل ، وعرَّب حكمة اليونان ، وقام في ذلك وقعد ، وخبَّ ووضع ، ورفعت الجهمية والمعتزلة رءوسها ، بل والشيعة ، فإنه كان كذلك . وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن ، وامتحن العلماة ، فلم يمهل . وهلك لِعامه ، وخلَّى بعده شرا وبلاء في الدين . فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله -تعالى- ووحيه وتنزيله ، لا يعرفون غير ذلك ، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول ، وأنه إنما يضاف إلى الله -تعالى- إضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله . فأنكر ذلك العلماء . ولم تكن الجمهية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولِي المأمون ، كان منهم ، وأظهر المقالة .

روى أحمد بن إبراهيم الدروقي ، عن محمد بن نوح : أن الرشيد ، قال : بلغني أن بشر بن غياث المريسي ، يقول : القرآن مخلوق ، فلله عليّ إن أظفرني به ، لأقتلنه . قال الدورقي : وكان متواريا أيام الرشيد فلما مات الرشيد ، ظهر ، ودعا إلى الضلالة .

قلت : ثم إن المأمون نظر في الكلام ، وناظر ، وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته .

قال أبو الفرج بن الجوزي : خالطه قوم من المعتزلة ، فحسنوا له القول بخلق القرآن ، وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ ، ثم قوي عزمه ، وامتحن الناس .

أخبرنا المسلم بن محمد في كتابه : أخبرنا أبو اليمن الكندي ، أخبرنا أبو منصور الشيباني ، أخبرنا أبو بكر الخطيب ، أخبرنا أبو بكر الحيري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب ، أخبرني الحسن بن شاذان الواسطي ، حدثني ابن عرعرة ، حدثني ابن أكثم ، قال : قال لنا المأمون : لولا مكان يزيد بن هارون ، لأظهرت أن القرآن مخلوق . فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، ومن يزيد حتى يتقى ؟ فقال : ويحك ! إني أخاف إن أظهرته فيرد علي يختلف الناس ، وتكون فتنة ، وأنا أكره الفتنة . فقال الرجل : فأنا أخبر ذلك منه ، قال له : نعم . فخرج إلى واسط ، فجاء إلى يزيد ، وقال : يا أبا خالد ، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ، ويقول لك : إني أريد أن أظهر خلق القرآن ، فقال : كذبت على أمير المؤمنين . أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه. فإن كنت صادقا ، فاقعد . فإذا اجتمع الناس في المجلس ، فقل . قال : فلما أن كان الغد ، اجتمعوا .

فقام ، فقال كمقالته ، فقال يزيد : كذبت على أمير المؤمنين ، إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه ، وما لم يقل به أحد . قال : فقدم ، وقال : يا أمير المؤمنين ، كنت أعلم ، وقص عليه ، قال : ويحك يلعب بك !!

قال صالح بن أحمد : سمعت أبي ، يقول : لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة ، قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طرسوس ، يعني : المأمون ، فكان فيما قرئ علينا : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ و هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فقلت وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قال صالح : ثم امتحن القوم ، ووجه بمن امتنع إلى الحبس ، فأجاب القوم جميعا غير أربعة : أبي ، ومحمد بن نوح ، والقواريري ، والحسن بن حماد سجادة . ثم أجاب هذان ، وبقي أبي ومحمد في الحبس أياما ، ثم جاء كتاب من طرموس بحملهما مُقيَّدين زميلين .

الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبو معمر القطيعي ، قال : لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة ، وكان أحمد بن حنبل قد أُحْضِر فلما رأى الناس يجيبون ، وكان رجلا لينا ، فانتفخت أوداجه ، واحمرت عيناه ، وذهب ذلك اللين . فقلت : إنه قد غضب لله ، فقلت أبشر : حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي سلمة ، قال : كان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إذا أريد على شيء من أمر دينه ، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون .

أخبرنا عمر بن القواس ، عن الكندي ، أخبرنا الكروخي ، أخبرنا شيخ الإسلام ، أخبرنا أبو يعقوب ، حدثنا الحسين بن محمد الخفاف : سمعت ابن أبي أسامة ، يقول : حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة : يا أبا عبد الله ، أو لا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل ؟ قال : كلا ، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة ، وقلوبنا بعد لازمة للحق .

الأصم : حدثنا عباس الدوري : سمعت أبا جعفر الأنباري ، يقول : لما حمل أحمد إلى المأمون ، أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمت عليه ، فقال : يا أبا جعفر ، تعنَّيت . فقلت : يا هذا أنت اليوم رأس ، والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ، ليجيبنّ خلق ، وإن أنت لم تُجب ، ليمتنعن خلق من الناس كثير . ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت ، لا بد من الموت ، فاتق الله ولا تجب .

فجعل أحمد يبكي ، ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر ، أعد علي فأعدت عليه ، وهو يقول : ما شاء الله .

قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي : حدثنا الفضل بن زياد ، سمعت أحمد بن حنبل يقول : أول يوم امتحنه إسحاق ، لما خرج من عنده ، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة ومائتين ، فقعد في مسجده ، فقال له جماعة : أخبرنا بمن أجاب . فكأنه ثقل عليه ، فكلموه أيضا . قال : فلم يجب أحد من أصحابنا ، والحمد لله . ثم ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ما أرادوا . فقال : هو مجعول محدث . وامتحنهم مرة مرة ، وامتحنني مرتين مرتين . فقال لي : ما تقول في القرآن ؟ قلت : كلام الله غير مخلوق .

فأقامني وأجلسني في ناحية ، ثم سألهم ، ثم ردني ثانية ، فسألني وأخذني في التشبيه . فقلت : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فقال لي : وما السميع البصير ؟ فقلت : هكذا قال تعالى .