الخميس، 22 مارس 2012

موسوعة العقيدة - النبوات - تابع المبشرات بنبوته صلى الله عليه وسلم ( البشارات )

المبشرات بنبوته صلى الله عليه وسلم ( الجزء الثانى )
البشارات


(البشارة العاشرة)

        في الباب الخامس والستين من كتاب أشعيا هكذا: 1 (طلبني الذين لم يسألوني قبل ووجدني الذين لم يطلبوني قلت ها أنا ذا إلى الأمة الذين لم يدعوا باسمي) 2 (بسطت يدي طول النهار إلى شعب غير مؤمن الذي يسلك بطريق غير صالح وراء أفكارهم) 3 (الشعب الذي يغضبني أمام وجهي دائماً الذين يذبحون في البساتين ويذبحون على اللبن) 4 (الذين يسكنون في القبور في مساجد الأوثان يرقدون الذين يأكلون لحم الخنزير والمرق المنجس في آنيتهم) 5 (الذين يقولون أبعد عني لا تقرب مني لأنك نجس هؤلاء يكونون دخاناً في رجزي ناراً متقدة طول النهار) 6 (ها مكتوب قدامي لا أسكت بل أردوا كافي جزاء في حضنهم).

        فالمراد بالذين لم يسألوني والذين لم يطلبوني العرب، لأنهم كانوا غير واقفين على ذات اللّه وصفاته وشرائعه، فما كانوا سائلين عن اللّه وطالبين له كما قال اللّه تعالى في سورة آل عمران: {لقد منَّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.

        ولا يجوز أن يراد بهم اليونانيين كما عرفت في البشارة الثانية، والوصف المذكور في الآية الثانية والثالثة يصدق على كل واحد من اليهود والنصارى، والأوصاف المذكورة في الآية الرابعة ألصق بحال النصارى، كما أن الوصف المذكور في الخامسة ألصق بحال اليهود فردهم الباري واختار الأمة المحمدية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة الحادية عشر)

        في الباب الثاني من كتاب دانيال في حال الرؤيا التي رآها بختنصر ملك بابل ونسي، ثم بين دانيال عليه السلام بحسب الوحي تلك الرؤيا وتفسيرها. 31: (فكنت أنت الملك ترى وإذ تمثال واحد جسيم وكان التمثال عظيماً ورفيع القامة واقفاً قبالك ومنظره مخوفاً) 32: (رأس هذا التمثال هو من ذهب إبريز والصدر والذراعان من فضة والبطن والفخذان من نحاس) 33: (والساقان من حديد والقدمان قسم منهما من حديد وقسم منهما من خزف) 34: (فكنت ترى هكذا حتى انقطع حجر من جبل لا بيدين وضرب التمثال في قدميه من حديد ومن خزف فسحقهما) 35: (فانسحق حينئذ مع الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب وصارت كغبار البيدر في الصيف فذرتها الريح ولم يوجد لها مكان والحجر الذي قد ضرب التمثال صار جبلاً وملأ الأرض بأسرها) 36: (فهذا هو الحلم وتنبئ أيضاً قدامك يا أيها الملك بتفسيره) 37: (أنت هو ملك الملوك وإله السماء أعطاك الملك والقوة والسلطان والمجد).

        38: (وجميع ما يسكن فيه بنو الناس ووحوش الحقل وأعطى بيدك طير السماء أيضاً وجعل جميع الأشياء تحت سلطانك فأنت هو الرأس من الذهب) 39: (وبعدك تقوم مملكة أخرى أصغر منك من فضة ومملكة ثالثة أخرى من نحاس وتتسلط على جميع الأرض) 40: (والمملكة الرابعة تكون مثل الحديد كما أن الحديد يسحق ويغلب الجميع هكذا هي تسحق وتكسر جميع هذه) 41: (أما فيما رأيت قسم القدمين وأصابعهما من الخزف الفاخوري وقسماً من حديد تكون المملكة مفترقة وإن كان يخرج من نصبة الحديد حسبما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين) 42: (وأصابع القدمين قسم من حديد وقسم من خزف فتكون المملكة بقسم صلبة وبقسم مسحوقة) 43: (فيما رأيت الحديد مختلطاً بالخزف من طين أنهم يختلطون بزرع بشري بل لا يتلاصقون مثل ما ليس بممكن أن يمتزج الحديد بالخزف) 44: (فأما في أيام تلك الممالك يبعث إله السماء مملكة وهي لن تنقضي قط، ملكها لا يعطى لشعب آخر وهي تسحق وتفنى جميع هذه الممالك أجمعين وهي تثبت إلى الأبد) 45: (وكما رأيت أن من جبل انقطع حجر لا بيدين وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب، فالإله العظيم أظهر للملك ما سيأتي من بعد والحلم هو حقيقي وتفسيره صحيح).

        فالمراد بالمملكة الأولى سلطنة بختنصر، وبالمملكة الثانية سلطنة المادئين الذين تسلطوا بعد قتل بلشاصر بن بختنصر كما هو مصرح به في الباب الخامس من الكتاب المذكور، وسلطنتهم كانت ضعيفة بالنسبة إلى سلطنة الكلدانيين، والمراد بالمملكة الثالثة سلطنة الكيانيين لأن قورش ملك إيران الذي هو بزعم القسيسين كيخسر وتسلط على بابل قبل ميلاد المسيح بخمسمائة وست وثلاثين سنة، ولما كان الكيانيون على السلطنة القاهرة فكأنهم كانوا متسلطين على جميع الأرض والمراد بالمملكة الرابعة سلطنة اسكندر بن فيلفوس الرومي الذي تسلط على ديار فارس قبل ميلاد المسيح بثلثمائة وثلاثين سنة، فهذا السلطان كان في القوة بمنزلة الحديد ثم جعل هذا السلطان سلطنة فارس منقسمة على طوائف الملوك فبقيت هذه السلطنة ضعيفة إلى ظهور الساسانيين ثم صارت قوية بعد ظهورهم فكانت ضعيفة تارة وقوية تارة وتولد في عهد نوشيروان (محمد بن عبد اللّه) صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه اللّه السلطنة الظاهرية والباطنية وقد تسلط متبعوه في مدة قليلة شرقاً وغرباً وعلى جميع ديار فارس التي كانت هذه الرؤيا وتفسيرها متعلقين بها، فهذه هي السلطنة الأبدية التي لا تنقضي وملكها لا يعطى لشعب آخر وسيظهر كمالها عن قريب في زمان الإمام المهدي رضي اللّه عنه لكن الوهن والضعف يقع قبل ظهوره بمدة قليلة كما يشاهد بعض علاماته الآن ثم يزول بظهوره ويكون الدين كله للّه، فهذا الحجر الذي انقطع لا بيدين من جبل وسحق الخزف والحديد والنحاس والفضة والذهب وصار جبلاً عظيماً وملأ الأرض بأسرها هو محمد صلى اللّه عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة الثانية عشر)

        نقل يهوذا الحواري في رسالته الخبر الذي تكلم به أخنوخ الرسول الذي كان سابعاً من آدم عليه السلام ومن عروجه إلى ميلاد المسيح مدة ثلاثة آلاف وسبع عشرة سنة على زعم مؤرخيهم. وأنا أنقل عبارته من الترجمة العربية المطبوعة سنة 1844: (الرب قد جاء في ربواته المقدسة ليدائن الجميع ويبكت جميع المنافقين على كل أعمال نفاقهم التي نافقوا فيها وعلى كل الكلام الصعب الذي تكلم به ضد اللّه الخطاة المنافقون) وقد عرفت في مقدمة الباب الرابع أن استعمال لفظ الرب بمعنى المخدوم والمعلم شائع فلا حاجة إلى الإعادة، وأما لفظ المقدس أو القديس فيطلق في العهدين على المؤمن الموجود في الأرض إطلاقاً شائعاً.

[1] الآية الأولى من الباب الخامس من سفر أيوب هكذا: (فادع الآن أن كان لك مجيب وإلى أحد من القديسين التفت) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض، أما عند علماء بروتستنت فظاهروا ما عند علماء كاتلك فلأن مطهرهم الذي هو موضع آلام أرواح الصالحين إلى أن يحصل لها النجاة بمغفرة البابا، وجد بعد المسيح عليه السلام ولم يكن في زمن أيوب.
[2] والآية الثانية من الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا: (إلى جماعة اللّه التي بقورنثية المقدسين بيسوع المسيح المدعوين قديسين) الخ.
فالمراد بالمقدسين والقديسين المؤمنون بالمسيح الموجودون في قورنثية.
[3] والآية الثالثة عشر من الباب الثاني عشر من الرسالة الرومية هكذا: (مشاركين لحاجة القديسين) الخ.
[4 ، 5] في الباب الخامس عشر منها هكذا: (ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين) 26 (لأن أهل مكدونية واحائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعاً لفقراء القديسين الذين في أورشليم فالمراد بالقديسين في الموضعين المؤمنون الموجودون في أورشليم.
[6] والآية الأولى من الباب الأول من الرسالة إلى أهل فيلبسيوس هكذا: (من بولس وطيماثاوس عبدي يسوع المسيح إلى جميع القديسين بيسوع المسيح بفيلبسيوس) الخ.
فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون بفيلبسيوس).
[7] ووقع في الآية العاشرة من الباب الخامس من الرسالة الأولى إلى طيماثاوس في حال الشماسات هكذا: (غسلت أرجل القديسين) فالمراد بالقديسين ههنا المؤمنون الموجودون على الأرض بوجهين: الأول: أن القديسين الموجودون في السماء أرواح ليس لهم أرجل والثاني: أن الشماسات لا يمكنهن العروج إلى السماء وإذا عرفت استعمال لفظ الرب والمقدس أو القديس فأقول إن المراد بالرب محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالربوات المقدسة الصحابة والتعبير عن مجيئه بقد جاء لكونه أمراً يقينياً فجاء محمد صلى اللّه عليه وسلم في ربواته المقدسة فدان الكفار، وبكت المنافقين والخطاة على أعمال النفاق وعلى أقوالهم القبيحة في اللّه ورسله، فبكت المشركين لعدم تسليم توحيد اللّه ورسالة رسله مطلقاً وعبادتهم الأصنام والأوثان، وبكت اليهود على تفريطهم في حق عيسى ومريم عليهما السلام وبعض عقائدهم الواهية، وبكت أهل التثليث مطلقاً على تفريطهم في توحيد اللّه وإفراطهم في حق عيسى عليه السلام، وبكت أكثرهم على عبادة الصليب والتماثيل وبعض عقائدهم الواهية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(البشارة الثالثة عشر)

        في الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية) 2 (قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات). وفي الباب الرابع من إنجيل متى هكذا: 12 (ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل) 17 (من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات) 23 (وكان يسوع يطوف كل الجليل ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت الخ).

        وفي الباب السادس من إنجيل متى في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: (ليأت ملكوتك) ولما أرسل الحواريين إلى البلاد الإسرائيلية للدعوة والوعظ، وصاهم بوصايا منها هذه الوصية أيضاً: (وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السماوات) كما هو مصرح به في الباب العاشر من إنجيل متى ووقع في الباب التاسع من إنجيل لوقا هكذا: 1 (ودعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض) 2 (وأرسلهم ليكرزوا بملكوت اللّه يشفوا المرضى).

        وفي الباب العاشر من إنجيل لوقا هكذا: (وبعد ذلك عين الرب سبعين آخرين أيضاً وأرسلهم) الخ (فقال لهم) الخ 8 (وأية مدينة دخلتموها وقبلوكم فكلوا مما يقدم لكم) 9 (واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت اللّه) 10 (وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا) 11 (حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت اللّه).


        فظهر أن كلاً من يحيى وعيسى والحواريين والتلاميذ السبعين بشر بملكوت السماوات، وبشر عيسى عليه السلام بالألفاظ التي بشر بها يحيى عليه السلام، فعلم أن هذا الملكوت كما لم يظهر في عهد يحيى عليه السلام فكذلك لم يظهر في عهد عيسى عليه السلام ولا في عهد الحواريين والسبعين بل كل منهم مبشر به ومخبر عن فضله ومترجّ لمجيئه، فلا يكون المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة عيسى عليه السلام، وإلا لما قاله عيسى عليه السلام والحواريون والسبعون أن ملكوت السماوات قد اقترب، ولما علم التلاميذ أن يقولوا في الصلاة وليأت ملكوتك لأن هذه طريقة قد ظهرت بعد ادعاء عيسى عليه السلام النبوة بشريعته، فهو عبارة عن طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم،فهؤلاء كانوا يبشرون بهذه الطريقة الجليلة، ولفظ ملكوت السماوات بحسب الظاهر يدل على أن هذا الملكوت يكون في صورة السلطنة لا في صورة المسكنة، وأن المحاربة والجدال فيه مع المخالفين يكونان لأجله، وأن مبنى قوانينه لا بد أن يكون كتاباً سماوياً، وكل من هذه الأمور يصدق على الشريعة المحمدية، وما قال العلماء المسيحية أن المراد بهذا الملكوت، شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول عيسى عليه السلام، فتأويل ضعيف خلاف الظاهر، ويرده التمثيلات المنقولة عن عيسى عليه السلام في الباب الثالث عشر من إنجيل متى، مثلاً قال: (يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله)، ثم قال: (يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع).
        فشبه ملكوت السماوات بإنسان زارع لا بنمو الزراعة وحصادها، وكذلك شبه بحبة خردل لا بصيرورتها شجرة عظيمة، وشبه بخميرة لا باختمار جميع الدقيق.
وكذا يرد هذا التأويل قول عيسى عليه السلام بعد بيان التمثيل المنقول في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: (لذلك أقول أن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) فإن هذا القول يدل على أن المراد بملكوت السماوات طريقة النجاة نفسها لا شيوعها في جميع العالم وإحاطتها كل العالم، وإلا لا معنى لنزع الشيوع والإحاطة من قوم وإعطائهما لقوم آخرين، فالحق أن المراد بهذا الملكوت هي المملكة التي أخبر عنها دانيال عليه السلام في الباب الثاني من كتابه، فمصداق هذا الملكوت، وتلك المملكة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه أعلم وعلمه أتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(البشارة الرابعة عشر)


        في الباب الثالث عشر من إنجيل متى هكذا: 31 (قدم لهم مثلاً آخر قائلاً يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله) 32 (وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتأوي في أغصانها)، فملكوت السماء طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه نشأ في قوم كانوا حقراء عند العالم لكونهم أهل البوادي غالباً، وغير واقفين على العلوم والصناعات، محرومين عن اللذات الجسمانية والتكلفات الدنيوية سيما عند اليهود لكونهم من أولاد هاجر، فبعث اللّه منهم محمداً صلى اللّه عليه وسلم فكانت شريعته في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل أصغر الشرائع بحسب الظاهر، لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت أكبرها وأحاطت شرقاً وغرباً، حتى أن الذين لم يكونوا مطيعين لشريعة من الشرائع تشبثوا بذيل شريعته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة الخامسة عشر)

        في الباب العشرين من إنجيل متى هكذا: 1 (فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعلة لكرمه) 2 (فاتفق مع العملة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه) 3 (ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين) 4 (فقال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم فمضوا) 5 (وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك) 6 (ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين فقال لهم لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين) 7 (قالوا له لأنه لم يستأجرنا أحد قال لهم اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم) 8 (فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله ادع الفعلة وأعطهم الأجر مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين) 9 (فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً) 10 (فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم ديناراً ديناراً) 11 (وفيما هم يأخذون تذمروا على رب البيت) 12 (قائلين هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر) 13 (فأجاب وقال لواحد منهم يا صاحب ما ظلمتك أما اتفقت معي على دينار) 14 (فخذ الذي لك واذهب فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك) 15 (أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي أم عينك شريرة لأني أنا صالح) 16 (هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون).

        فالآخرون أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فهم يقدمون في الأجر، وهم الآخرون الأولون كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وقال: (إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة السادسة عشر)

        في الباب الحادي والعشرين من إنجيل متى هكذا: 33 (اسمعوا مثلاً آخر كان إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاطه بسياج وحفر فيه معصرة وبنى برجاً وسلمه إلى كرامين وسافر) 34 (ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين وسافر ليأخذ أثماره) 35 (فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً) 36 (ثم أرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين ففعلوا بهم كذلك) 37 (فأخبرا أرسل إليهم ابنه قائلاً يهابون ابني) 38 (وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه) 39 (فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه) 40 (فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين) 41 (قالوا له أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها) 42 (قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البناءون، هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا) 43 (لذلك أقول لكم إن ملكوت اللّه ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره) 44 (ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه) 45 (ولما سمع رؤساء الكهنة، والفريسيون أمثاله، عرفوا أنه تكلم عليهم).

        أقول: إن رب بيت كناية عن اللّه، والكرم كناية عن الشريعة، وإحاطته بسياج وحفر المعصرة فيه وبناء البرج، كنايات عن بيان المحرمات والمباحات والأوامر والنواهي، وأن الكرامين الطاغين كناية عن اليهود، كما فهم رؤساء الكهنة، والفريسيون، أنه تكلم عليهم، والعبيد المرسلين كناية عن الأنبياء عليهم السلام، والابن كناية عن عيسى عليه السلام، وقد عرفت في الباب الرابع أنه لا بأس بإطلاق هذا اللفظ عليه، وقد قتله اليهود أيضاً في زعمهم.
        والحجر الذي رفضه البناءون كناية عن محمد صلى اللّه عليه وسلم، والأمة التي تعمل أثماره كناية عن أمته صلى اللّه عليه وسلم، وهذا هو الحجر الذي كل من سقط عليه ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، وما ادعى العلماء المسيحية بزعمهم، أن هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام، فغير صحيح لوجوه:
(الأول) أن داود عليه السلام، قال في الزبور المائة والثامن عشر هكذا: 22 (الحجر الذي رذله البناءون هو صار رأساً للزاوية) 23 (من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا).

        فلو كان هذا الحجر عبارة عن عيسى عليه السلام وهو من اليهود من آل يهوذا من آل داود عليه السلام، فأي عجب في أعين اليهود عموماً لكون عيسى عليه السلام رأس الزاوية سيما في عين داود عليه السلام خصوصاً لأن مزعوم المسيحيين، أن داود عليه السلام يعظم عيسى عليه السلام في مزاميره تعظيماً بليغاً، ويعتقد الألوهية في حقه بخلاف آل إسماعيل، لأن اليهود كانوا يحقرون أولاد إسماعيل غاية التحقير، وكان كون أحد منهم رأساً للزاوية عجيباً في أعينهم.


(والثاني) أنه وقع في وسط هذا الحجر كل من سقط على هذا الحجر ترضض، وكل من سقط هو عليه سحقه، ولا يصدق هذا الوصف على عيسى عليه السلام لأنه قال: (وإن سمع أحد كلامي، ولم يؤمن، فأنا لا أدينه لأني لم آت لأدين العالم، بل لأخلص العالم).
كما هو في الباب الثاني عشر من إنجيل يوحنا، وصدقه على محمد صلى اللّه عليه وسلم غير محتاج إلى البيان، لأنه كان مأموراً بتنبيه الفجار الأشرار، فإن سقطوا عليه ترضضوا، وإن سقط هو عليهم سحقهم.

(الثالث) قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء، كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار، يتعجبون من حسن بنيانه، إلا موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان، وختم بي الرسل).
ولما ثبتت نبوته بالأدلة الأخرى كما ذكرت نبذاً منها في المسالك السابقة، فلا بأس بأن استدل في هذه البشارة بقوله أيضاً.

(والرابع) أن المتبادر من كلام المسيح أن هذا الحجر غير الابن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة السابعة عشر)

        في الباب الثاني من المشاهدات هكذا: 26 (ومن يغلب، ويحفظ أعمالي إلى النهاية، فسأعطيه سلطاناً على الأمم) 27 (فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أيضاً من عند أبي) 28 (وأعطيه كوكب الصبح) 29 (من له أذن فليسمع ما يقول الروح بالكنائس). فهذا الغالب الذي أعطى سلطاناً على الأمم، ويرعاهم بالقضيب من حديد،هو محمد صلى اللّه عليه وسلم. كما قال اللّه في حقه: {وينصرك اللّه نصراً عزيزاً} وقد سماه سطيح الكاهن صاحب الهراوة، روى أن ليلة ولادته صلى اللّه عليه وسلم انشق إيوان كسرى أنو شروان، وسقط من ذلك أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغارت بحيرة ساوة بحيث صارت يابسة، ورأى الموبذان في نومه أن إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً فقطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فخاف كسرى من حدوث هذه الأمور وأرسل عبد المسيح إلى سطيح الكاهن الذي كان في الشام، ولما وصل عبد المسيح إليه، وجده في سكرات الموت فذكر هذه الأمور عنده، فأجاب سطيح: (إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح مناماً، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت).

        ثم مات سطيح من ساعته، ورجع عبد المسيح، فأخبر أنو شروان بما قال سطيح، قال كسرى إلى أن يملك أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي اللّه عنه، فهلك آخرهم يزدجر في خلافته.
والهراوة بكسر الهاء العصا الضخمة، وكوكب الصبح عبارة عن القرآن، قال اللّه تعالى في سورة النساء:{وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}، وفي سورة التغابن: {فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلنا}.


        قال صاحب صولة الضيغم بعد نقل هذه البشارة، قلت للقسيسين ويت، ووليم عند المناظرة: إن صاحب هذا القضيب من حديد محمد صلى اللّه عليه وسلم، فاضطربا بسماع هذا الأمر، وقالا: إن عيسى عليه السلام، حكم بهذا الكنيسة ثياثيراً، فلا بد أن يكون ظهور مثل هذا الشخص هناك، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم ما راح هناك، قلت: هذه الكنيسة في أية ناحية كانت.
فرجعا إلى كتب اللغة، وقالا: كانت في أرض الروم، قريبة من استانبول.

        قلت: راح أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم في خلافة الفاروق الأعظم، عمر رضي اللّه عنه، إلى هذه البلاد، وفتحوها، وبعد الصحابة، رضي اللّه عنهم، كان المسلمون أيضاً متسلطين عليها في أكثر الأوقات، ثم تسلط سلاطين آل عثمان، أدام اللّه سلطنتهم من المدة المديدة، وهم متسلطون إلى هذا الحين، فهذا الخبر صريح في حق محمد، صلى اللّه عليه وسلم، انتهى كلامه.

        قلت: الفاضل عباس علي الجاجموي الهندي، صنف أولاً كتاباً، كبيراً في رد أهل التثليث، وسماه صولة الضيغم على أعداء ابن مريم، ثم ناظر هو رحمه اللّه ويت، ووليم القسيسين في البلد كانفور من بلاد الهند وألزمهما، ثم اختصر كتابه، وسمىّ المختصر خلاصة صولة الضيغم، ومناظرته كانت قبل أن ناظر صاحب ميزان الحق في أكبر آباد بمقدار اثنتين وعشرين سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(البشارة الثامنة عشر)

        وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، وأنا أنقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 وسنة 1831 وسنة 1844 في بلدة لندن، فأقول: في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 15 (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي) 16 (وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد) 17 (روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم) 26 (والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) 30 (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون).
        وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي) 27 (وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء).
        وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن انطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم) 8 (فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم) 9 (أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي) 10 (وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد) 11 (وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين) 12 (وأن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن) 13 (وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) 14 (وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم) 15 (جميع ما هو الأب فهو لي فمن أجل هذا قلت أن مما هو لي يأخذ ويخبركم).
وأنا أقدم قبل بيان وجه الاستدلال بهذه العبارات أمرين:
الأمر الأول: أنك قد عرفت في الأمر السابع، أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم أن يترجموا غالباً الأسماء، وأن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني، فإذاً لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط، وقد وصلت إلى رسالة صغيرة في لسان أردو من رسائل القسيسين في سنة ألف ومائتين وثمان وستين من الهجرة، وكانت هذه الرسالة طبعت في كلكته وكانت في تحقيق لفظ فارقليط، وادعى مؤلفها أن مقصوده أن ينبه المسلمين على سبب وقوعهم في الغلط من لفظ فارقليط، وكان ملخص كلامه: (أن هذا اللفظ معرب من اللفظ اليوناني فإن قلنا أن هذا اللفظ اليوناني الأصل باراكلي طوس فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا أن اللفظ الأصل بيركلو طوس يكون قريباً من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل بيركلو طوس ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد لكن الصحيح أنه باراكلي طوس) انتهى ملخصاً من كلامه.

        فأقول أن التفاوت بين اللفظين يسير جداً وأن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل بيركلو طوس بياراكلي طوس في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب والأمر السابع من هذا المسلك السادس بنظر الإنصاف، اعتقد يقيناً بأن مثل هذا الأمر من أهل الديانة من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات.
والأمر الثاني: أن البعض ادعوا قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، أنهم مصاديق لفظ، فارقليط مثلاً منتنس المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد، وكان مرتاضاً شديداً وأتقى عهده، ادعى في قرب سنة 177 من الميلاد في آسيا الصغرى الرسالة وقال إني هو الفارقليط الموعود به الذي وعد بمجيئه عيسى عليه السلام وتبعه أناس كثيرون في ذلك كما هو مذكور في بعض التواريخ.
وذكر وليم ميور حاله وحال متبعيه في القسم الثاني من الباب الثالث من تاريخه بلسان أردو المطبوع سنة 1848 من الميلاد هكذا: (أن البعض قالوا أنه ادعى أني فارقليط يعني المعزي روح القدس وهو كان أتقى ومرتاضاً شديداً ولأجل ذلك قبله الناس قبولاً زائداً) انتهى كلامه.
فعلم أن انتظار فارقليط كان في القرون الأولى المسيحية أيضاً ولذلك كان الناس يدعون مصاديقه وكان المسيحيون يقبلون دعاويهم.
وقال صاحب لب التواريخ: (أن اليهود والمسيحيين من معاصري محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا منتظرين لنبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم لأنه ادعى أني هو ذاك المنتظر) انتهى ملخص كلامه.
        فيعلم من كلامه أيضاً أن أهل الكتاب كانوا منتظرين لخروج نبي في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو الحق لأن النجاشي ملك الحبشة لما وصل إليه كتاب محمد صلى اللّه عليه وسلم (فقال أشهد باللّه أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب) وكتب الجواب وكتب في الجواب (أشهد أنك رسول اللّه صادقاً ومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يديه للّه رب العالمين) وهذا النجاشي قبل الإسلام كان نصرانياً، وكتب المقوقس ملك القبط في جواب كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم هكذا: (لمحمد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك) والمقوقس هذا وإن لم يسلم لكنه أقر في كتابه أني قد علمت أن نبياً قد بقي وكان نصرانياً، فهذان الملكان ما كانا يخافان في ذلك الوقت من محمد صلى اللّه عليه وسلم لأجل شوكته الدنيوية، وجاء الجارود بن العلاء في قومه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: واللّه لقد جئت بالحق ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً لقد وجدت وصفك في الإنجيل وبشر بك ابن البتول فطول، التحية لك والشكر لمن أكرمك، لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك محمد رسول اللّه)، ثم آمن قومه وهذا الجارود كان من علماء النصارى وقد أقر بأنه قد بشر بك ابن البتول أي عيسى عليه السلام، فظهر أن المسيحيين أيضاً كانوا منتظرين لخروج نبي بشر به عيسى عليه السلام، فإذا علمت ذلك فأقول أن اللفظ العبراني الذي قاله عيسى عليه السلام مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة، لكني أترك البحث عن الأصل، وأتكلم على هذا اللفظ اليوناني الأصل بيركلو طوس فالأمر ظاهر، وتكون بشارة المسيح في حق محمد صلى اللّه عليه وسلم بلفظ هو قريب من محمد، وأحمد، وهذا وإن كان قريب القياس بلحاظ عاداتهم لكني أترك هذا الاحتمال، لأنه لا يتم عليهم إلزاماً وأقول إن كان اللفظ اليوناني الأصل بارا كلي طوس كما يدعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً، لأن معناه المعزي، والمعين، والوكيل، على ما بين صاحب الرسالة، أو الشافع، كما يوجد في الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816، وهذه المعاني كلها تصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشبه على البشارة الثامنة عشر:

(الشبهة الأولى)

        جاء في هذه العبارة تفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق وهما عبارتان عن الأقنوم الثالث، فكيف يصح أن يراد بفارقليط محمد صلى اللّه عليه وسلم أقول في الجواب: أن صاحب ميزان الحق يدعي في تأليفاته كون ألفاظ روح اللّه وروح القدس وروح الحق وروح الصدق وروح فم اللّه بمعنى واحد، وقال في الفصل الأول من الباب الثاني من مفتاح الأسرار في الصفحة 53 من النسخة الفارسية المطبوعة سنة 1850: (أن لفظ روح اللّه ولفظ روح القدس في التوراة والإنجيل بمعنى واحد) انتهى. فادعى أن هذين اللفظين يستعملان بمعنى واحد في العهدين وقال في حل الإشكال في جواب كشف الأستار: (من له شعور ما بالتوراة والإنجيل فهو يعرف أن ألفاظ روح القدس وروح الحق وروح فم اللّه وغيرها بمعنى روح اللّه فلذلك ما رأيت إثباته ضرورياً) انتهى. فإذا عرفت هذا القول نحن نقطع النظر عن صحة ادعائه وعدم صحته ههنا ونسلم ترادف هذه الألفاظ على زعمه لكنا ننكر أن استعمالها في كل موضع من مواضع العهدين بمعنى الأقنوم الثالث ونقول قولاً مطابقاً لقوله من له شعور ما بكتب العهدين، يعرف أن هذه الألفاظ تستعمل في غير الأقنوم كثيراً، في الآية الرابعة عشر من الباب السابع والثلاثين من كتاب حزقيال قول اللّه تعالى في خطاب ألوف من الناس الذين أحياهم بمعجزة حزقيال عليه السلام هكذا: (فأعطى فيكم روحي).

        ففي هذا القول روح اللّه بمعنى النفس الناطقة الإنسانية لا بمعنى الأقنوم الثالث الذي هو عين اللّه على زعمهم، وفي الباب الرابع من الرسالة الأولى ليوحنا هكذا ترجمة عربية سنة 1760: 1 (أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من اللّه، لأن الأنبياء الكذبة كثيرون قد خرجوا إلى العالم) 2 (بهذا تعرفون روح اللّه، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من اللّه) 6 (نحن من اللّه فمن يعرف اللّه يسمع لنا، ومن ليس من اللّه لا يسمع لنا، من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال). وهذه الجملة الواقعة في الآية الثانية: (بهذا تعرفون روح اللّه).


        وفي التراجم الأخر هكذا ترجمة عربية سنة 1821، وسنة 1831، وسنة 1844: (وبهذا يعرف روح اللّه). ترجمة عربية سنة 1825: (فإنكم تميزون روح اللّه ولفظ روح اللّه في الآية الثانية، ولفظ روح الحق في الآية السادسة، بمعنى الواعظ الحق لا بمعنى الأقنوم الثالث، ولذلك ترجم مترجم ترجمة أردو المطبوعة سنة 1845 لفظ كل روح بكل واعظ، ولفظ الأرواح
بالواعظين في الآية الأولى ولفظ روح في الآية الثانية بالواعظ من جانب اللّه، ولفظ روح الحق في الآية السادسة بالواعظ الصادق، وترجم لفظ روح الضلال بالواعظ المضل، وليس المراد بروح اللّه وروح الحق الأقنوم الثالث الذي هو عين اللّه على زعمهم وهو ظاهر فتفسير فارقليط بروح القدس وروح الحق لا يضرنا لأنهما بمعنى الواعظ الحق، كما أن لفظ روح الحق وروح اللّه بهذا المعنى في الرسالة الأولى ليوحنا، فيصح إطلاقهما على محمد صلى اللّه عليه وسلم بلا ريب

(الشبهة الثانية)

        أن المخاطبين بضميرهم الحواريون، فلا بد أن يظهر فارقليط في عهدهم، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم لم يظهر في عهدهم، أقول هذا أيضاً ليس بشيء، لأن منشأه أن الحاضرين وقت الخطاب لا بد أن يكونوا مراضين بضمير الخطاب وهو ليس بضروري في كل موضع، ألا ترى أن قول عيسى عليه السلام في الآية الرابعة والستين من الباب السادس والعشرين من إنجيل متى في خطاب رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع هكذا: (وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء). وهؤلاء المخاطبون قد ماتوا ومضت على موتهم مدة هي أزيد من ألف وثمانمائة سنة، وما رأوه آتياً على سحاب السماء، فكما أن المراد بالمخاطبين ههنا الموجودون من قومهم وقت نزوله من السماء، فكذلك فيما نحن فيه المراد الذين يوجدون وقت ظهور فارقليط.


(الشبهة الثالثة)

        أنه وقع في حق فارقليط أن العالم لا يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه وهو لا يصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأن الناس رأوه وعرفوه أقول هذا أيضاً ليس بشيء، وهم أحوج الناس تأويلاً في هذا القول بالنسبة إلينا، لأن روح القدس عين اللّه عندهم والعالم يعرف اللّه أكثر من معرفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فلا بد أن نقول أن المراد بالمعرفة المعرفة الحقيقية الكاملة، ففي صورة التأويل لا اشتباه في صدق هذا القول على محمد صلى اللّه عليه وسلم، ويكون المقصود أن العالم لا يعرفه معرفة حقيقية كاملة، وأنتم تعرفونه معرفة حقيقية كاملة، والمراد بالرؤية المعرفة، ولذا لم يعد عيسى عليه السلام لفظ الرؤية بعد لفظ أنتم بل قال وأنتم تعرفونه.
ولو حملنا الرؤية على الرؤية البصرية يكون نفي الرؤية محمولاً على ما هو المراد في قول الإنجيلي الأول في الباب الثالث عشر من إنجيله، وأنقل عبارته عن الترجمة العربية المطبوعة سنة 1816 وسنة 1825: 13 (فلذلك أضرب لهم الأمثال لأنهم ينظرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يستمعون ولا يفهمون) 14 (وقد كمل فيهم تنبأ أشعيا حيث قال إنكم تستمعون سمعاً ولا تفهمون وتنظرون نظراً ولا تبصرون). فلا إشكال أيضاً وأمثال هذين الأمرين وإن كانت معاني مجازية لكنها بمنزلة الحقيقة العرفية. ووقعت في كلام عيسى عليه السلام كثيراً: في الآية السابعة والعشرين من الباب الحادي عشر من إنجيل متى هكذا: (وليس أحد يعرف الابن إلا الأب ولا أحد يعرف الأب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له).
وفي الآية الثامنة والعشرين من الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا: (الذي أرسلني حق الذي أنتم لستم تعرفونه).
وفي الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (لستم تعرفوني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً) 55 (ولستم تعرفونه أي اللّه) الخ.
وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (أيها الأب إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك).
وفي الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 7 (لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه) 8 (قال له فيلبس يا سيد أرنا الأب وكفانا) 9 (قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الأب، فكيف تقول أنت أرنا الأب).

        فالمراد في هذه الأقوال بالمعرفة المعرفة الكاملة وبالرؤية المعرفة، وإلا لا تصح هذه الأقوال يقيناً، لأن العوام من الناس كانوا يعرفون عيسى عليه السلام فضلاً عن رؤساء اليهود، والكهنة، والمشايخ، والحواريين، ورؤية اللّه بالبصر في هذا العالم ممتنعة عند أهل التثليث أيضاً.

(الشبهة الرابعة)

        أنه وقع في حق فارقليط: (أنه مقيم عندكم، وثابت فيكم). ويظهر من هذا القول أن فارقليط كان في وقت الخطاب مقيماً عند الحواريين، وثابتاً فيهم، فكيف يصدق على محمد صلى اللّه عليه وسلم.

        أقول: إن هذا القول في التراجم الأخرى هكذا ترجمة عربية سنة 1816، وسنة 1825: (لأنه مستقر معكم، وسيكون فيكم). والتراجم الفارسية المطبوعة سنة 1816، وسنة 1828، وسنة 1841. وترجمة أردو المطبوعة سنة 1814، وسنة 1839، كلها مطابقة لهاتين الترجمتين، وفي الترجمة العربية المطبوعة سنة 1860 هكذا: (ماكث معكم، ويكون فيكم). فظهر أن المراد بقوله ثابت فيكم الثبوت الاستقبالي يقيناً، فلا اعتراض به لوجه من الوجوه، وبقي قوله مقيم عندكم فأقول: لا يصح حمل هذا القول على معنى هو مقيم عندكم الآن، لأنه ينافي قوله: (أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر)، وقوله: (قد قلت لكم قبل أن يكون، حتى إذا كان تؤمنون)، وقوله: (إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط)، وإذا أُول نقول أنه بمعنى الاستقبال، كما أن القول الذي بعده بمعنى الاستقبال، ومعناه يكون مقيماً عندكم في الاستقبال، فلا خدشة في صدقه أيضاً على محمد صلى اللّه عليه وسلم. والتعبير عن الاستقبال بالحال بل بالماضي في الأمور المتيقنة كثير في العهدين، ألا ترى أن حزقيال عليه السلام أخبر أولاً عن خروج يأجوج ومأجوج، في الزمان المستقبل، وإهلاكهم حين وصولهم إلى جبال إسرائيل.
        ثم قال في الآية الثامنة من الباب التاسع والثلاثين من كتابه هكذا: (ها هو جاء وصار يقول الرب الإله هذا هو اليوم الذي قلت عنه). فانظروا إلى قوله ها هو جاء وصار، وهذا القول في الترجمة الفارسية المطبوعة سنة 1839 هكذا: (ابنك رسيد وبوقوع يبوست) فعبر عن الحال المستقبل بالماضي لكونه يقيناً لا شك فيه وقد مضت مدة أزيد من ألفين
وأربعمائة وخمسين سنة ولم يظهر خروجهم.

        وفي الآية الخامسة والعشرين من الباب الخامس من إنجيل يوحنا هكذا: (الحق الحق أقول لكم أنه تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن اللّه والسامعون يحيون) فانظروا إلى قوله وهي الآن وقد مضت مدة أزيد من ألف وثمانمائة ولم تجيء هذه الساعة والى الآن أيضاً مجهولة لا يعرف أحد متى تجيء


(الشبهة الخامسة)

        في الباب الأول من كتاب الأعمال هكذا: 4 (وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الأب الذي سمعتموه مني) 5 (لأن يوحنا عمد بالماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير). وهذا يدل على أن فارقليط، هو الروح النازل يوم الدار. لأن المراد بوعد الأب هو فارقليط، أقول الادعاء بأن المراد بموعد الأب هو فارقليط، ادعاء محض، بل هو غلط لثلاثة عشر وجهاً وقد عرفتها، بل الحق أن الإخبار عن فارقليط شيء، والوعد بإنزال الروح عليه مرة أخرى شيء آخر وقد وفى اللّه بالوعدين، وقد عبر بالوعد الأول بمجيء فارقليط، وههنا بموعد الأب. غاية الأمر أن يوحنا نقل بشارة فارقليط، ولم ينقلها الإنجيليون الباقون، ولوقا نقل موعد نزول الروح الذي نزل يوم الدار ولم ينقله يوحنا.

        ولا بأس فيه فإنهم قد يتفقون في نقل الأقوال الخسيسة، كركوب عيسى عليه السلام على الحمار وقت الذهاب إلى أورشليم، اتفق على نقله الأربعة، وقد يتخالفون في نقل الأحوال العظيمة، ألا ترى أن لوقا انفرد بذكر إحياء ابن الأرملة من الأموات في نابين، وبذكر إرسال عيسى عليه السلام سبعين تلميذاً، وبذكر إبراء عشرة برص، ولم يذكر هذه الحالات أحد الإنجيليين مع أنها من الحالات العظيمة، وأن يوحنا انفرد بذكر وليمة العرس في قانا الجليل وظهر من يسوع فيه معجزة تحويل الماء خمراً، وهذه المعجزة أول معجزاته، وسبب ظهور مجده وإيمان التلاميذ به، وبذكر إبراء السقيم في بيت صيدا في أورشليم، وهذه أيضاً معجزة عظيمة، والمريض كان مريضاً من ثمان وثلاثين سنة، وبذكر قصة امرأة أخذت في زنا، وبذكر إبراء الأكمه وهذا أيضاً من أعظم معجزاته، وهي مصرحة بهما في الباب التاسع، وبذكر إحياء العاذار من بين الأموات، ولم يذكرها أحد من الإنجيليين مع أنها حالات عظيمة. وهكذا حال متى ومرقس فإنهما انفردا بذكر بعض المعجزات والحالات التي لم يذكرهما غيرهما.

        ولما طال البحث في هذا المسلك، فلنقتصر على هذا القدر من البشارات التي نقلتها عن كتبهم المعتبرة عندهم في زماننا، وأما البشارات التي توجد في كتب أخرى هي ليست معتبرة عندهم في زماننا فما نقلتها. وبعد ما فرغت أنقل عنها بشارة واحدة أيضاً على سبيل الأنموذج.

        فأقول: القسيس سيل نقل في مقدمة ترجمته للقرآن المجيد من إنجيل برنايا بشارة محمدية هكذا: (اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي اللّه عليه لأن اللّه غير راض عن الذنب، ولما اجتنى أمي وتلاميذي لأجل الدنيا سخط اللّه لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العقيدة الغير اللائقة ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك، وإني وإن كنت برياً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي أنه اللّه وابن اللّه، كره اللّه هذا القول واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت، لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول اللّه، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس) انتهت ترجمة كلامه.

        (أقول) هذه البشارة عظيمة وإن اعترضوا أن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا السلف (أقول) لا اعتبار لردهم وقبولهم كما علمت بما لا مزيد عليه في الباب الأول، وهذا الإنجيل من الأناجيل القديمة ويوجد ذكره في كتب القرن الثاني والثالث، فعلى هذا كتب هذا الإنجيل قبل ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم بمئتين سنة، ولا يقدر أحد أن يخبر بغير الإلهام بمثل هذا الأمر قبل وقوعه بمئتين سنة، فلا بد أن يكون هذا قول عيسى عليه السلام، وإن قالوا أن أحداً من المسلمين حرف هذا الإنجيل بعد ظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم، قلت: هذا الاحتمال بعيد جداً لأن المسلمين ما التفتوا إلى هذه الأناجيل الأربعة أيضاً، فكيف إلى إنجيل برنابا، ويبعد أن يؤثر تحريف أحد من المسلمين في إنجيل برنابا تأثيراً يتغير به النسخ الموجودة عند المسيحيين أيضاً، وهم يزعمون أن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أسلموا، نقلوا عن كتب العهدين البشارات المحمدية وحرفوها، فعلى زعمهم أقول أن هؤلاء العلماء الكبار حرفوا على زعمهم، ولم يؤثر تحريف هؤلاء في كتبهم التي كانت موجودة عندهم في مواضع هذه البشارات، فكيف أثر تحريف بعض المسلمين في إنجيل برنابا في النسخ التي كانت عندهم، فهذا الاحتمال واه ضعيف جداً واجب الرد.

(تنبيه) نقلنا هذا الإخبار أولاً في الكتاب الإعجاز العيسوي، عن الترجمة المطبوعة سنة 1850 من الميلاد، وطبع هذا الكتاب سنة 1271 من الهجرة وسنة 1854 من الميلاد واشتهر في أقطار الهند وتراجمهم، وكتبهم تتغير في الطبع المتأخر بالنسبة إلى الطبع المتقدم تغيراً ما، كما قد نبهت في مقدمة الكتاب أيضاً، فإن لم يجد الناظر هذه البشارة في بعض نسخ الترجمة المذكورة المطبوعة في سنة غير السنة المذكورة لا يقع في شك سيما إذا كان هذا البعض من النسخ المطبوعة في سنة متأخرة عن ألف وثمانمائة وأربع وخمسين من الميلاد، لأن علماء بروتستنت لو أسقطوا في طبعهم هذه البشارة من الترجمة المذكورة فلا يستبعد من عادتهم التي صارت، بمنزلة الأمر الطبيعي لهم.
وقال الفاضل حيدر علي القرشي في كتابه المسمى بخلاصة سيف المسلمين الذي هو بلسان أردو في الصفحة 63 و 64: (أن القسيس أو سكان الأرمني ترجم كتاب أشعيا باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست
وستين سنة، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبع انتوني بورتولي ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة: (سبحوا اللّه تسبيحاً جديداً وأثر سلطنة على ظهره واسمه أحمد) انتهت. وهذه الترجمة موجودة عند الأرامن فانظروا فيها) انتهى كلامه.
(أقول) هذه الترجمة لم تصل إلي وما اطلعت عليها لكن هذا الفاضل لعله رآها واطلع عليها، ولا شك أن هذه الفقرة عظيمة النفع، وإن لم تكن هذه الترجمة معتبرة عند علماء بروتستنت، ومن أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل عبد اللّه بن سلام وابني سعية وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم، من علماء اليهود، ومثل بحير اونسطور الحبشي وضفاطر وهو الأسٍقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود، والنجاشي، والسوس، والرهبان الذين جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وغيرهم من علماء النصارى، وقد اعترف بصحة نبوته، وعموم رسالته، هرقل قيصر الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء، ولم يسلموا.

        وروي أنه عليه السلام لما أراد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم، فقال عليه السلام: إن اللّه أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: ما ترى؟ فقال: واللّه لقد عرفتم نبوته، وقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، واللّه ما باهل قوم نبياً إلا هلكوا وإن أبيتم إلا ألف دينكم. فوادعوا الرجل وانصرفوا، فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد غدا محتضناً الحسين، وآخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي اللّه عنه خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا. فقال أسقفهم: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً، لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا. فأذعنوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعاً من حديد. فقال عليه الصلاة والسلام: لو باهلوا لمسخوا قردة، وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللّه نجران وأهله، حتى الطير على الشجر،وهذه الواقعة دلت على نبوته بوجهين:
(الأول) أنه عليه الصلاة والسلام خوّفهما بنزول العذاب عليهم، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه، لأنه لو باهل ولم ينزل العذاب ظهر كذبه، ومعلوم أنه كان من أعقل الناس، فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه، فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بوعد اللّه.
(والثاني) أن القوم كانوا يبذلون النفوس، والأموال، في المنازعة مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فلو لم يعرفوا أنه نبي لما تركوا مباهلته