السبت، 25 فبراير 2012

موسوعة الأدب العربى : الأدب المقارن


الأدب المقارن

 الأدب المقارن هو فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر ينتمى كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التى ينتمى إليها الأدب الآخر، وفى العادة إلى لغة غير اللغة التى ينتمى إليها أيضا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدبٍ قومىٍّ ما ونظيره فى غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بغية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسؤولة عن ذلك. كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التى بينها وإبراز تأثير أحدها فى غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التى ارتسمت فى ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب... إلخ. وهذا التعريف قد تمت صياغته وبلورته من خلال التعاريف والمفاهيم المتعددة لهذا الفرع من فروع العلم، تلك المفاهيم والتعريفات التى تتباين حسب تباين المدرسة أو الشخصية التى تقود هذا التيار أو ذاك من تيارات البحث المختلفة، وهو يختلف قليلا أو كثيرا عن التعاريف الموجودة فى كتب الأدب المقارن. وقد سرنى أن أجد التعريف الذى أورده كل من "TheFreeDictionary" وموسوعة الــ"Wikipedia" الحرة على المشباك متفقا مع تعريفى هذا، إذ يقول المعجم ببساطة إن الأدب المقارن هو "Study of literary works from different cultures (often in translation) "، كما تقول الموسوعة بنفس البساطة إنه "Critical scholarship dealing with the literatures of several different languages". ومع ذلك نرى معجم الــ"infoplease" المشباكى مثلا ما زال يعرف الأدب المقارن وفى ذهنه المفهوم الفرنسى له، إذ يقول إنه  "The study of the literatures of two or more groups differing in cultural background and, usually, in language, concentrating on their relationships to and influences upon each other". فالأدب المقارن، حسب هذا التعريف، يركز على الصلات بين الآداب وعملية التأثر والتأثير اللذين تتبادلهما. وميادين الأدب المقارن متعددة: فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبى كالقصة أو المسرحية أو المقال أو المقامة أو القصيدة أو الملحمة أو الأنقوشة (أى "الإبيجرامة") فى أدبين مختلفين أو أكثر، وقد يكون ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبى من هذه الأجناس فى أدب ما ونظيراتها فى أدب آخر، كنظام العروض والقافية أو الموشحات مثلا، وقد يكون ميدانه الصور الخيالية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية فى الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذى يُحْدثه كتاب أو كاتب ما فى نظيره على الناحية الأخرى أو مجرد الموازنة بينهما لما يُلْحَظ من تشابههما مثلا، وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسية والرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما فى أدب أمة أو أمم أخرى... وهكذا (انظر فى ذلك فهرس كل من كتاب فان تيجم: "الأدب المقارن"/ ترجمة سامى الدروبى/ دار الفكر العربى/ القاهرة، وكتاب م. ف. جويار: "الأدب المقارن"/ ترجمة د. محمود غلاب ومراجعة د. عبد الحليم محمود/ لجنة البيان العربى/ القاهرة/ 1956/ سلسلة الألف كتاب_ العدد 44، وكتاب د. محمد غنيمى هلال: "الأدب المقارن"/  دار نهضة مصر/ القاهرة/ 1977م، وكتاب كلود بيشوا وأندريه ميشيل روسو: "الأدب المقارن"/ ترجمة د. رجاء عبد المنعم جبر/ مكتبة دار العروبة/ الكويت/ 1980م، وكتاب د. الطاهر أحمد مكى: "الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه"/ دار المعارف/ 1405هـ- 1985م، وكتاب د. بديع جمعة: "دراسات فى الأدب المقارن"/ ط3). 
عرف الناقد الأمريكي هنري رماك الأدب المقارن: "الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معين، ودراسة العلاقات بين الأدب من جهة ومناطق أخرى من المعرفة والاعتقاد من جهة أخرى، وذلك من مثل الفنون (كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى) والفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية (كالسياسة والاقتصاد والاجتماع)، والعلوم والديانة، وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة أدب معين مع أدب آخر أو آداب أخرى، ومقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإنساني". ويعرف ميدان الأدب المقارن توجهين أساسيين؛ الأول تمثله تاريخيا المدرسة الفرنسية، أما الثاني فهو اتجاه المدرسة الأمريكية، وكان بعد مؤتمر"شابل هيل" الذي عقد سنة 1958،حيث قدم فيه روني ويلك نقدا حادا للمدرسة الفرنسية، رافضا إغراقها في تتبع حقائق التأثير والتأثر دون الاهتمام بالنص في حد ذاته. والأدب المقارن فرع من فروع العلم يُدرسُ من خلاله الأدب القومي من حيث تأثره أو تأثيره في آداب قومية أخرى. وهو بوصفه فرعا من فروع العلم يخرج من منطقة الإبداع الأدبي إلى منطقة دراسة الإبداع الأدبي. كما أن مصطلح (الأدب المقارن) غير دقيق في مدلوله على المراد، لأن الأدب المقارن منهج في الدراسة وليس أدبا إبداعيا، والصواب أن يقال في المصطلح: (الدراسة المقارنة للأدب) أو نحو ذلك من المصطلحات، لكن مصطلح (الأدب المقارن) شاع وذاع وراج بين الباحثين لخفته وسهولته.
أشهر مدارس الأدب المقارن مدرستان: المدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية.
المدرسة الفرنسية
وقد ارتبطت بالمنظور التاريخي للأدب، إذ يرى دارسو الأدب الأعمال الأدبية في صورة أعمال منتظمة في نسق تاريخي، ويطبقون مقولات التأريخ وفلسفته ومناهجه في دراساتهم الأدبية. وتبدأ هذه المقولات بمقولة (النسبية الزمانية والمكانية) أي أن لكل زمان ومكان تقاليد وأذواقا ومعايير وأعرافا ونظما سياسية واقتصادية واجتماعية تحكم هذا المكان والزمان، ثم إن هذه االتقاليد والأذواق والمعايير... تتغير بمرور الزمان واختلاف الأمكنة، وعليه؛ فلابد من الرجوع بالعمل الأدبي حين دراسته إلى فضائه الزماني والمكاني، وأن لا نفسره أو نحكم عليه بأعين عصرنا الحاضر، وإنما بأعين معاصريه.
ثم تأتي مقولات التاريخ الأخرى التي يُطبقها أصحاب المدرسة الفرنسية من مثل: السببية، والنشوء والتطور للظواهر الأدبية...، واليقينية وهي تخص العمل الأدبي في توثيقه.
من أشهر أقطاب المدرسة الفرنسية: فان تيجم، فرنسو جويار،رينيه إيتامبل عتالالاةن تاللا
المدرسة الأمريكية
ولعل من أبرز من تزعمها رينيه ويليك الذي يرى ضرورة أن يدرس الأدب المقارن كله من منظور عالمي، ومن خلال الوعي بوحدة التجارب الأدبية والعمليات الخلاقة، أي أنه يرى أن الأدب المقارن هو الدراسة الأدبية المستقلة عن الحدود اللغوية العنصرية والسياسية، وهو يعيب على المدرسة الفرنسية أنها تحصر الأدب المقارن في المنهج التاريخي، بينما تتسع الرؤية الأمريكية لتربط بين المنهج التاريخي والمنهج النقدي، باعتبارهما عاملين ضروريين في الدراسة المقارنة
ويحتاج مصطلح "الأدب المقارَن" (وهو فى الواقع ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسى المعروف: "La Littérature Comparée") بعضا من التحليل والتوضيح، وكذلك التسويغ أيضا، فالواقع (كما هو بيِّنٌ ظاهر) أننا هنا لسنا بصدد "أدب" بل فرع من فروع "العلم" يدرس الأدب، فكيف إذن حدث هذا؟ إنه الاختصار، أو إذا كان يحلو لك فقل إنه الخطأ الشائع الذى يقال فى مثل هذه الحالة إنه خير من الصواب. والصواب هو أن هذا العلم يقوم بمقارنة الآداب القومية المختلفة والموازنة بينها، ومعرفة ما فيها من عناصر مشتركة أو مختلفة والأسباب المسؤولة عن ذلك، والتعرف على الصلات التى تربطها بعضها ببعض فى حالة وجود مثل تلك الصلات، والمعابر التى انتقل من خلالها عنصر أو أكثر من هذا الأدب أو ذاك إلى غيره من الآداب القومية الأخرى... إذن فنحن لسنا بصدد "أدب" بل بصدد "علم"، اللهم إلا إذا فهمنا كلمة "أدب: Littérature, Literature" بمعناها الواسع، أى "الكتابة"، أو قلنا إن ثمة كلمة محذوفة على سبيل الاختصار، والتقدير: "دراسة الأدب المقارَن"، أو "تاريخ الأدب المقارَن"، أو كما فى الألمانية: "علم الأدب المقارَن: verglaichende literaturwissen schaft". وهناك تسميات أخرى لم يُكْتَب لها التوفيق والانتشار مثل: "التاريخ المقارِن للآداب" أو "تاريخ الآداب المقارَنة" أو "التاريخ الأدبى المقارِن"، أو "تاريخ الآداب المقارِن"، أو "الآداب الحديثة المقارَنة" أو "الأدب العالمى"، أو "الأدب بالمقارنة"، أو "الأدب بطريق المقارنة"، وذلك رغم ما تتمتع به بعض التسميات من اختصار ودقة كمصطلح "مقارنة الأدب" (وهى التسمية التى يستعملها الأندونيسيون)، أو "المقارنة الأدبية" الذى عنون به د. أحمد كمال زكى كتابا له فى هذا الموضوع، و"المقارنة بين الآداب" الذى اتخذه العقاد عنوانا لأحد مقالاته فى مجلة "الكتاب" المصرية فى 1948م، والذى أقترح أن يُخْتَصَر إلى "مقارنة الآداب" طلبا لمزيد من الخفة على الذهن واللسان كما تقتضى طبيعة المصطلح، ومن ثم يكون أسهل تداولا لمن يريد. وهناك "خطاب المقارنة"، الذى اقترحه عز الدين المناصرة فى مقاله: "الرائد التاريخى للأدب المقارن فى الوطن العربى" المنشور فى كتاب "الفلسطينيون والأدب المقارن: روحى الخالدى- إدوارد سعيد- عز الدين المناصرة- حسام الخطيب"/ فريال غزولى وآخرون/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ سلسلة "كتابات نقدية"- العدد 102/ 2000م/ 5- 52. ويجد القارئ اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح ومسوغاته فى ص 13)، وكذلك مصطلح "النقد المقارن" للكاتب نفسه (انظر مقال خديجة بن شرفى المنشور فى الكتاب السابق/ 111- 137. ويجد القارئ الكلام عن اقتراح الكاتب باستبدال المصطلح فى ص 117، 120، 130). وقد اختصر الدكتور أحمد كمال زكى مصطح "الأدب المقارن" إلى كلمة واحدة فقط هى "المقارن"، مستعملا النعت وحده دون المنعوت. ومن يدرى؟ فقد تشيع مع الأيام هذه التسمية وتحلّ الكلمة الواحدة محل الكلمتين، على عادة الذهن واللسان البشرى اللذين يميلان فى أمور الواقع العملى إلى الاختصار عند كثرة التكرار، وبخاصة عن طريق الاستعاضة عن النعت والمنعوت معًا بالنعت قائمًا برأسه. أما المصطلح الإنجليزى فلا يستخدم اسم المفعول: "compared" (من الفعل "compare: يقارن"  كما هو الحال فى المصطلح الفرنسى)، بل صفة النسب: "comparative"، وهو ما يمكن ترجمته بــ"الأدب المقارَنىّ" أو "الأدب التقارُنىّ" أو "أدب المقارنة" (انظر فى مشكلة المصطلح د. محمد غنيمى هلال/ الأدب المقارن/ دار نهضة مصر/ 1977م/ 15- 16، ود. الطاهر أحمد مكى/ الأدب المقارن- أصوله وتطوراته ومناهجه/ 194، ود. عطية عامر/ دراسات فى الأدب المقارن/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1989م/ الفصل الأول كله بدءا من ص 12، ود. أحمد درويش/ الأدب المقارن- النظرية والتطبيق/ ط 2/ دار الثقافة العربية/ 1413هـ- 1992م/ 3- 4، ود. على شلش/ الأدب المقارن بين التجرتين الأمريكية والعربية/ دار الفيصل الثقافية/ الرياض/ 1415هـ- 1995م/ 113)، ود. إبراهيم عبد الرحمن محمد/ الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق/ الشركة المصرية العالمية للنشر- لونجمان/ 2000م/ 5- 6). نخلص من هذا إلى القول بأن مصطلح "الأدب المقارن"، الذى استعمله خليل هنداوى وفخرى أبو السعود على التوالى فى مقالاتهما بمجلة "الرسالة" فى عام واحد (هو عام 1936م) بفارق ثلاثة أشهر تقريبا، كان هو المصطلح الذى قُدِّر له الشيوع بل الانتشار الكاسح على مدار هذه العقود السبعة، حتى الآن على الأقل. وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن أوجّه الالتفات إلى أن د. على شلش يرى أن صاحب هذا المصطلح فى الحالتين هو أحمد حسن الزيات لا هنداوى ولا أبو السعود، وإن لم يقدم دليلا قاطعا على ذلك، بل استنتجه مجرد استنتاج، قائلا إن الزيات قد أضاف إلى العنوان الأصلى لكل من الكاتبين مصطلح "الأدب المقارن" (انظر كتابه: "الأدب المقارن بين التجربتين الأمريكية والعربية"/114- 115)، أما د. حسام الخطيب فقد عزا إلى هنداوى استخدام المصطلح لأول مرة، على حين جرد أبو السعود من قصد استخدامه بعد هذا بقليل فى مقالاته فى نفس الموضوع، ناسبا إلى الزيات أنه هو واضع ذلك المصطلح فى عناوين المقالات المذكورة (انظر كتابه: "آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ 153- 158).
وتشترط المدرسة الفرنسية، كما ألمحنا، أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارنتهما، بيد أن هذا شرطٌ تحكمىٌّ، أو قل: إنه شرط غير مُلْزِم ولا لازم، والمهم أن تكون المقارنة بين أدبَىْ أمتين مختلفتين، سواء كُتِب هذان الأدبان بلغتين مختلفتين كما هو الغالب أو كانا يصطنعان ذات اللغة كما هو الحال مثلا بين الأدب الإنجليزى والأدب الهندى المكتوب بلغة جون بول، أو بين الأدب الفرنسى والأدب الجزائرى المصبوب فى قالب لسان الفرنسيس… إلخ. إن المراد هو تمتين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف لديها فى الذوق والإبداع وتتبع المسارات التى انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى فى حالة وجودها وإمكان تتبعها. وإذا كانت  المدرسة الفرنسية فى الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التى ثبت وجودها فعلا بين الأمم والشعوب، فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل فنستشرف وجود مثل هذه الصلات أو نعمل على خلقها خلقا؟ بل هل هناك ما يقطع بعدم وجود علاقة بين عملين أو ظاهرتين أو تيارين أدبيين لم يتضح لنا أنه كانت بينهما يوما هذه العلاقة؟ لا أظن. ذلك أن من الممكن جدا أن يكون موليير على سبيل المثال قد سمع بــ"بخلاء" الجاحظ بطريقة أو بأخرى حين ألّف مسرحيته الشهيرة: "البخيل"، وأن يكون لامارتين على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبى أو البحترى عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتا منها مترجَمةً إلى الفرنسية ولو شفويا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفنى مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التى دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونا بالشرق العربى وزار سوريا وفلسطين ولبنان وسجل هذه الرحلة فى كتاب من أربعة أجزاء هو "Voyage en Orient"، وتمنى لو بقى فى بلاد الأَرْز طول حياته، بل لقد قيل إنه ذو أصول عربية. وقد يكون تأثَّر فى نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسى أو غير فرنسى كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين أو بهما معا. وربما كان تأثير المتنبى أو البحترى سلبيا، بمعنى أن الشاعر الفرنسى لم يستحسن الطريقة التى تناول بها الشاعر العربى موضوعه أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذى نظم فيه عمله أو الجو النفسى الذى سيطر عليه أو الغرض الذى نظم قصيدته من أجله… إلخ. ترى هل كان هناك قبل آسين بلاثيوس، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الإسبانى ببضعة أعوام، من كان يعرف أن "قصة المعراج" قد تُرْجِمَتْ إلى عدة لغات أوربية منها اللاتينية قبل أن يكتب دانتى "كوميدياه الإلهية"؟ لقد تعرض بلاثيوس لهجوم شديد ومعارضة عنيفة عندما طلع على الناس بأن دانتى قد تأثر بتلك القصة، إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد تُرْجِمَت فعلا قبل وضع دانتى عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل؟ (انظر د. الطاهر أحمد مكى/ الأدب المقارن- أصوله وتطوره ومناهجه/ دار المعارف/ 1407 هـ- 1987م/ 218- 219). ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة ولو على سبيل الاحتمال، أفلا تستحق المقارنة بين الذوقين والأسلوبين وتقويم العناصر الفنية فى الأثرين الأدبيين أن نقوم بمثل تلك المقارنة، على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال فى الآخر وإغناءً لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تُخْلَق خلقا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التى تقف خلف نقاط القوة أو الضعف، وهل هى راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هى بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التى ينتسب إليها؟ أم ترى ينبغى أن ننتظر قيام مثل تلك الصلات أوّلاً، حتى إذا قامت وتيقَّنّا من قيامها ووقوع التأثير والتأثر بين الطرفين فعندئذ، وعندئذ فقط، يمكننا أن نتقدم ونقوم بعملية المقارنة؟ أما أنا فأحبّذ مبادرة الأمور والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الاستباقية هذه، ومن ثم لا أجد أية غضاضة فيما صنعه شفيق جبرى مثلا فى مقالاته فى مجلة "الثقافة" المصرية فى 1939م من المقارنة النقدية بين "بحيرة" كل من البحترى ولامرتين والأخرى، وبين "بخلاء" الجاحظ و"بخيل" موليير، ولا ما صنعه د. صفاء خلوصى من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه د. عبد الرزاق حميدة فى كتابه: "الأدب المقارن" حين وازن بين "رسالة الغفران" للمعرى و"الكوميديا الإنسانية" لدانتى مقارنة جمالية خالصة، فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين. ثم ألا يستحق البحث عن السر فى وجود تشابه بين عملين أدبيين دون أن يكون بينهما أية صلةٍ عناءَ المقارنة بينهما تأكيدًا بأن هناك ضروبا من التشابه بين البشر على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأجناسهم؟
    يُعدُّ مصطلح «الأدب المقارن» comparative literature مصطلحاً خلافياً لأنه ضعيف الدلالة على المقصود منه. وقد نقده كثير من الباحثين ولكنهم في النهاية آثروا الاستمرار في استعماله نظراً لشيوعه. فمثلاً عدّه بول فان تييغم Paul Van Tieghem[ر] مصطلحاً غير دقيق, واقترح مصطلحات أخرى أقرب دلالة إِلى موضوعه مثل: «تاريخ الأدب المقارن», و «التاريخ الأدبي المقارن», و «تاريخ المقارنة». واقترح ماريوس فرانسوا غويار M.F.Guyard مصطلحاً بديلاً هو «تاريخ العلاقات الأدبية الدولية». والملاحظ أن كلمة «تاريخ» هي المضافة في مختلف الاقتراحات البديلة, ذلك أن الأدب المقارن هو في الأصل تاريخ للعلاقات المتبادلة بين الآداب وللصلات والمشابهات المتجاوزة للحدود اللغوية والجغرافية, وفيما بعد أضيفت الحدود المعرفية.
    وعلى أية حال يبدو أن افتقار المصطلح إِلى الدقة كان له بعض فضل في الإِبقاء على وحدة هذا النسق المعرفي وفي مقدرته على استيعاب مناطق معرفية جديدة, أخذت تدخل نطاقه بعد منتصف القرن العشرين.
    وترجع نشأة الأدب المقارن إِلى العقد الثالث من القرن التاسع عشر, وربما إِلى سنة 1827 حين بدأ الفرنسي أبل فييمان Abel Villemain يلقي محاضرات في السوربون بباريس حول علاقات الأدب الفرنسي[ر] بالآداب الأوربية الأخرى. والجدير بالذكر أنه استعمل فيها مصطلح «الأدب المقارن» وإِليه يعود الفضل في وضع الأسس الأولى لمنطقه ومنطقته, في وقت بدأ يشهد تصاعد اهتمام العلوم الإِنسانية في أوربة بالبعد المقارني في المعرفة, إِذ نشأ «القانون المقارن» و«فقه اللغة المقارن» و«علم الاجتماع المقارن» وغيرها. وتعدُّ فرنسة المهد الأول للأدب المقارن, إِذ استمرت تطوراته بعد فييمان, وكان لذلك عوامل لغوية وسياسية واجتماعية وثقافية متداخلة أدّت إِلى أن يكون الفرنسيون أول من تنبّه إِلى قيمة التراث المشترك بينهم وبين المناطق الأوربية الأخرى, مما خلق الأساس الأول للتفكير المقارني.
    وفي البدء كان التطور بطيئاً, فبعد فييمان ظهر جان جاك أمبير Ampére وألقى في مرسيلية سنة 1830 محاضرات في الأدب المقارن لفتت إِليه الأنظار وأتاحت له أن ينتقل بعد ذلك بسنتين إِلى باريس ليلقي محاضرات حول علاقات الأدب الفرنسي بالآداب الأجنبية. وفي سنة 1835 ظهرت مقالات فيلاريت شال Chales على صفحات مجلة باريس مؤكدة العلاقات المتينة بين الآداب الأوربية.
    وعند نهاية القرن التاسع عشر أخذت تتلاحق التطورات وظهر جوزيف تكست Texte  في ليون (1896) وحاضر في الأدب الأوربي, وخلفه على منبر ليون فرنان بالدنسبرجيه F.Baldensperger الذي ألف كتابه «غوتة في فرنسة» سنة 1904, ثم سُمي أستاذاً في السوربون حينما أحدث فيها كرسي للأدب المقارن سنة 1910 وظهرت بعد ذلك مجلات وفهارس, وعرف الأدب المقارن طريقه إِلى التطور النسقي منذ مطلع القرن العشرين. وإِلى جانب فرنسة سجلت بعض البلدان الأوربية إِسهاماً نسبياً في نشأة الأدب المقارن, وكانت إِسهاماتها تتزايد مع تزايد نزعة «العالمية» في المعرفة ومع تزايد قوة الاتصالات والمواصلات في العالم. وقد ظهر أول كتاب في بريطانية عن الأدب في أوربة بين عامي 1837-1839, لهنري هالام H.Hallam, غير أن التطورات بعده كانت شديدة البطء. وفي ألمانية تأخر ظهور الأدب المقارن حتى ثمانينات القرن التاسع عشر, واشتُهر من مؤسيسه ك مورهوف K.D.Morhof وشميدت Schmidt كارييه M.Carriére,  ولم يدخل الأدب المقارن نطاق الدراسة المنظمة إِلا بعد سنة 1887 بفضل ماكس كوخ Max Koch الذي أصدر مجلة «الأدب المقارن». ولكن دخول الأدب المقارن إِلى مناهج الجامعة لقي معارضة شديدة وتأخر حتى مطلع القرن العشرين.
    وتعرقل ظهور الأدب المقارن في إِيطالية بسبب حدة النزعة القومية. وفي عام 1861 أمكن إِنشاء كرسي له في جامعة نابولي. ولكن كروتشه B.Croce[ر] تصدى للأدب المقارن وشنّ على أنصاره حملة قوية وحاول تسفيه منطقه, وبذلك كان له أثر في تاريخ تطور الدراسة المقارنة في إِيطالية بسبب ما كان يتمتع به من نفوذ فكري.
    وإِذا كانت نهاية القرن التاسع عشر قد شهدت تطور الأبحاث التطبيقية في الأدب المقارن وبدء الاعتراف به في الجامعات فإِن بداءة القرن العشرين شهدت تأسيس الوعي النظري لمنهج الأدب المقارن. وقد تابعت فرنسة تطورها السباق فنشأت فيها كراسٍ جديدة للأدب المقارن في الجامعات. ومنذ سنة 1911 أخذ فان تيغم ينشر مقالات نظرية في المنهج المقارني. وفي عقد واحد تبلورت نظرته إِلى الأدب المقارن في مقالاته في مجلة «الأدب المقارن» ورصيفتها مجلة «مكتبة الأدب المقارن».
    وفي عام 1931 أصدر فان تييغم أول كتاب نظري عرفه العالم بعنوان «الأدب المقارن», وظل هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في بابه حتى اليوم, وترجم إِلى عدد كبير من اللغات, ومنها اللغة العربية في منتصف القرن العشرين. وتتابعت بعد ذلك المؤلفات الفرنسية في الأدب المقارن نظرية وتطبيقاً, ومن أشهرها كتاب غويار «الأدب المقارن» عام 1951 وترجم كذلك إِلى العربية عام 1956. وبدءاً من هذا التاريخ أخذت تظهر في فرنسة تحديات لما يمكن تسميته بالنظرية الفرنسية التقليدية في الأدب المقارن, وكان أبرزها الهجوم الحاد الذي شنّه رنيه إِيتيامبل R.Etiemble على فان تييغم وغويار, وظهر بعد ذلك في كتابه «الأزمة في الأدب المقارن».
    وقد تعثر الأدب المقارن في الدول الأوربية الأخرى ولم يصب تطوراً في بريطانية ربما حتى تسعينات القرن العشرين وكذلك كان شأن ألمانية وإِيطالية والاتحاد السوفييتي. وإِن كان ملاحظاً أنه ابتداء من الستينات انتعش الأدب المقارن في القارة الأوربية والعالم كله, وذلك مع ازدياد نشاط الرابطة الدولية للأدب المقارن AILC. وزاد من قوة هذا التطور النشاط الأمريكي المتسارع في مجال البحث المقارني وفي المؤتمرات الدولية, والحق أنه في سنوات معدودات حقق المقارنون الأمريكيون حضوراً مرموقاً في مختلف أوجه البحث المقارني مع أن الولايات المتحدة دخلت متأخرة نسبياً في حقل الأدب المقارن. ومن أجل استكمال الخريطة العامة لنشأة الأدب المقارن تحسن الإِشارة إِلى التواريخ الرئيسية التالية:
    1889 تولى تشارلز جيلي C.M.Geyley تقديم مادة النقد الأدبي المقارن في جامعة ميشيغن, ثم انتقل إِلى جامعة كاليفورنية وأنشأ عام 1902 قسماً للأدب المقارن. 1890-1891 أنشأت جامعة هارفرد أول كرسي للأدب المقارن في أمريكة, تحول عام 1904 إِلى قسم كامل. وفي سنة 1946 تولى رئاسته هاري ليفين Harry Levin وأعاد النظر في برامجه, وخلفه ولتر كايزر W.Kaiser.
    1902 جرى إِحياء كرسي قديم للأدب العام يعود إِلى سنة 1886 في جامعة كورنل Cornell على يد كوبر الذي أصبح فيما بعد رئيساً لقسم كامل للأدب المقارن فيها من 1927-1943.
    على أن دراسة الأدب المقارن في أمريكة ظلت حتى العشرينات مختلطة بـ «الأدب العام» و«أدب العالم» و«الروائع» و«الإِنسانيات». وفي الأربعينات بدأ يظهر تميزه في الجامعات وصاحب ذلك ظهور مجلات للأدب المقارن في عدة جامعات مثل أوريغون Oregon عام 1949. ومن أهم التطورات في هذا المجال صدور المجلد الأول من «الكتاب السنوي للأدب العام والمقارن Yearbook of General and Comparative Literature» وذلك عن جامعة (نورث كارولينة) عام 1952.
    وفي عام 1961 انتقلت إِدارة الكتاب إِلى جامعة إِنديانة Indiana, وما زال يصدر عنها حتى اليوم.
    ومنذ الخمسينات بدأت تتوالى الكتب الجامعية في الأدب المقارن, وتسود فيها طريقة التأليف الجماعي أو الدراسات المجموعة, وتتنوع مادة هذه الكتب بين النظرية والتطبيق كما تتنوع وجهات النظر. ومن أبرز التطورات في تاريخ الأدب المقارن تأسيس الرابطة الدولية للأدب المقارن عام 1955. وتعقد هذه الرابطة مؤتمراتها العامة كل ثلاث سنوات ولها نشاطات متنوعة, وقد عقد مؤتمرها الأول في البندقية بإِيطالية. ومنذ ذلك الحين انحصرت مؤتمراتها واجتماعاتها في العواصم الغربية, حتى عام 1991 عندما عقد مؤتمرها الثالث عشر في طوكيو, وفي ذلك إِيذان بتزايد إِسهام اليابان في الأدب المقارن, وبخروج الرابطة جغرافياً من بوتقة الغرب. على أن الأدب المقارن بقي حتى اليوم علماً غربياً, وبقي إِسهام المنظومة الاشتراكية فيه محدوداً, وأقل منه إِسهام البلدان النامية.
    ومنذ البدء اختلط مفهوم «الأدب المقارن» بمفهومي «الأدب العام» و«الأدب العالمي». والملاحظ أنه حتى نهاية الثمانينات وبعد كل ذلك التطور المهم الذي حققه الأدب المقارن, ما زالت هذه المفهومات مختلطة حتى في بعض الجامعات العريقة. ومن هنا كان الربط الدائم بين الأدب المقارن والأدب العام في تسميات الأقسام الجامعية في دول أوربية كثيرة. كذلك يلاحظ أن الكتاب السنوي الأمريكي ما زال يحمل تسمية الأدب العام إِلى جانب الأدب المقارن. وقد آن أوان التفريق بين هذه الحقول المعرفية الثلاثة.
    فالأدب العالمي world literature مصطلح من وضع غوته[ر], وكان ينطوي على حلم بزمان تصير فيه كل الآداب أدباً واحداً. ولكنه تحول بالتدريج إِلى الدلالة على تلك السلسلة الذهبية من الأعمال الأدبية التي قدمتها قرائح من مختلف شعوب العالم, وترجمت إِلى اللغات المختلفة, واكتسبت صفة الخلود, وارتفعت إِلى مصاف الروائع classics المعترف بقيمتها الفنية والفكرية في كل أنحاء العالم, وبالطبع تنضوي هذه الروائع تحت تخصصات الأدب المقارن. والملاحظ أن سلسلة الروائع العالمية ظلت حتى ستينات القرن العشرين تحت تأثير المركزية الأوربية Euro- centralism, ولكنها أخذت تتسع بالتدريج لبعض الأعمال خارج نطاق الغرب, ربما بتأثير نمو التبادل الثقافي والتوسع في مفهوم الجوائز الأدبية العالمية.
    أما الأدب العام general literature فمصطلح استعمل غالباً لوسم تلك الكتابات التي يصعب أن تُصنَّف تحت أي من الدراسات الأدبية والتي تبدو ذات أهمية متجاوزة لنطاق الأدب القومي. وهي أحياناً تشير إِلى الاتجاهات الأدبية أو المشكلات أو النظريات العامة في الأدب, أو الجماليات. كما صُنِّفت تحت هذا العنوان مجموعات النصوص والدراسات النقدية والتعليقات التي تتناول مجموعة من الآداب ولا تقتصر على أدب واحد. وهكذا يتطابق الأدب العام أحياناً مع مبادئ النقد ونظرية الأدب, أي مع كل دراسة أدبية تركز على التنظير ولا تقتصر أمثلتها على أدب واحد.
    ويقل استعمال مصطلح «الأدب العام» اليوم ويكاد ينحصر في الدلالة على أنواع متفرقة من الدراسات الأدبية التي يصعب أن تُصنف في نطاق الأدب القومي أو العالمي أو المقارن.
    ولم تزل الخلافات بشأن منطق الأدب المقارن ومنطقته قائمة حتى اليوم وإِن كانت تضيق تدريجياً لتفسح في المجال لمفهوم مشترك سيجري تحديد عناصره هنا بعد استعراض تاريخيّة اتجاهات الأدب المقارن.
    إِن المفهوم الأصلي للأدب المقارن هو مفهوم ما يسمّى جوازاً «المدرسة الفرنسية التقليدية», إِذ حدد مؤسسها الفعلي بول فان تييغم الأدب المقارن «بأنه دراسة آثار الآداب المختلفة من ناحية علاقاتها بعضها ببعض» كما أكد جان ماري كاريه أن الأدب المقارن يعتمد على مفهوم التأثر والتأثير من خلال الصلات بين الآداب أو الأدباء من بلدان مختلفة, واستبعد المقارنات غير القائمة على الصلات من منهجية الأدب المقارن. كما رفض كل من كاريه وغويار فكرة التطابق بين الأدب العام والأدب المقارن. وعدّ غويار الأدب العام والأدب العالمي « مطمعين غَيْبييّن» وآثر أن يسمي الأدب المقارن, تاريخ العلاقات الأدبية الدولية. وقد تمسكت هذه المدرسة بالمنهجية التاريخية الصارمة, وحاولت تمييز منهجية الأدب المقارن ومنطقه ومنطقته من سائر الدراسات الأدبية واقتربت من العلمية والحياد, وتناولت أحياناً بمهارة, وأحياناً بآلية جامدة, مسائل مثل الشهرة الأدبية والنفوذ مثل غوتة في فرنسة, وطوّرت منهجاً يذهب إِلى أبعد من جمع المعلومات التي تتعلق بالمراجعات والترجمات والتأثيرات ليتفحص الصورة الفنية ومفهوم كاتب معيّن في وقت معيّن إِلى جانب عوامل النقل المتعددة كالحوليات والمترجمين والصالونات والمسافرين, وكذلك وجّهت انتباهها إِلى عوامل التلقي والجو الخاص والوضع الأدبي الذي أدخل فيه الكاتب الأجنبي, وبالإِجمال :«فقد تم جمع كثير من الشواهد عن الوحدة الصميمة بين الآداب الأوربية خاصة, كما ازدادت معرفتنا بالتجارة الخارجية للأدب».
    غير أن هذه المدرسة ما كادت تستوي على قدميها وتحقق وجوداً أكاديمياً معترفاً به حتى انبثقت من أحشائها أصوات معترضة تنكرها أشد إِنكار, وقام رنيه إِيتيامبل في الخمسينات, على رأس مجموعة من الكتاب اليساريين, بمهاجمة هذه المدرسة على أساس أنها تمثل المركزية الأوربية الاستعمارية وأنها قدمت آداب العالم جميعاً كما لو كانت منبثقة من بحر الآداب الأوربية أو منصبةً فيه, ولم تُعط آداب آسيا وإِفريقية وأمريكة اللاتينية حقها من البحث والاستقصاء. وقد هاجم إِيتيامبل زميله غويار واتهمه بالتعصب الإِقليمي والقومي وتركيز كل أضواء التأثير على الأدب الفرنسي, وطالب المقارنين أن ينحّوا جانباً «كل شكل من أشكال الشوفينية والإِقليمية وأن يعترفوا أخيراً أن حضارة الإِنسانية التي جرى في سياقها تبادل القيم على مدى آلاف السنين لا يمكن أن تُفهم أو تتذوق من دون إِشارات متواصلة إِلى هذه التبادلات التي تقتضي تركيبتها منا ألاّ نركّز نظام بحثنا حول لغة واحدة معينة أو بلد واحد معيّن».
    وابتداء من الستينات بدأت الأفكار الأمريكية ذات الطابع العملي والانفتاحي تسيطر على ساحة الأدب المقارن. وقدم رينيه ويلك نظرات تركيبية شمولية وفي الوقت نفسه انبرى هنري رِماك H.Remak بتقديم اتجاه جاد للخروج من المعضلة, وذلك في مقالة منقحة ومزيدة ومفصلة عام 1971, وفيها راجع مفهومات الأدب المقارن واتجاهاته بنفسٍ علمي جريء ومسؤول وانتهى إِلى توسيع منطقه ومنطقته على النحو التالي:
    «الأدب المقارن هو دراسة الأدب خلف حدود بلد معيّن, ودراسة العلاقات بين الأدب ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى, والفلسفة, والتاريخ, والعلوم الاجتماعية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع, والعلوم, والديانة, وغير ذلك. وباختصار هو مقارنة الأدب بمناطق أخرى من التعبير الإِنساني».
    ويلاحظ على هذه التعريف: أنه ينطلق من فكرة التأثر والتأثير ليتجاوزها إِلى المشابهة أي أنه يركز على العلاقات ولا يجعلها شرطاً لازماً, وأنه يضيف بعداً جديداً إِلى منطقة الأدب المقارن بدفعه إِلى دراسة العلاقات بين الأدب وحقول المعرفة الأخرى ولاسيما الفنون. وبذلك يسجل نقطة إِضافية شديدة الأهمية. وقد بدا رماك متساهلاً في موضوع صلة الأدب المقارن بالتذوق الأدبي, ولكنه بالنتيجة احتفظ بجوهر منطق الأدب المقارن وهو دراسة الأدب خارج حدوده الجغرافية واللغوية والمعرفية. وتبدو نظرية رماك أكثر قبولاً اليوم في العالم.
    ومن الملاحظ أن بلدان أوربة الشرقية لم توجه عناية خاصة للأدب المقارن, وكانت منطلقاتها بوجه عام مستوحاة من ثورة إِيتيامبل. وتُعدُّ هنغارية ويوغسلافية أكثرها احتفاءً بالأدب المقارن.
    والملاحظ أنه جرى دائماً تساؤل حول وظيفة الأدب المقارن وامتحان لها. ومثل هذا التساؤل لا يتم عادة إِلا على الحقول المعرفية المستجدة, ذلك أن العلوم لا تقدم نفسها تقديماً نفعياً مباشراً. ومع ذلك يمكن القول إِن الأدب المقارن:
    ـ يقدم فهماً للأدب أفضل وأكثر شمولاً وأقدر على تجاوز جزئية أدبية منفصلة أو عدة جزئيات معزولة.
    ـ ويميز ما هو محلي وما هو إِنساني مشترك.
    ـ ويحدد الصلات والمشابهات بين الآداب المختلفة وبين الأدب وحقول المعرفة الأخرى.
    ـ ويسهم في تخليص الأقوام من النزعة الشوفينية والنرجسية المسيطرة في مجال الآداب القومية المختلفة.
    ـ ويقدم للنقد الأدبي ودارسي الأدب فرصة ممتازة لتوسيع آفاق معرفتهم وتوثيق أحكامهم حتى الجمالية منها, لأن المقارنة تبقى أقوى أسلحة الناقد إِقناعاً.
    ـ ويقدم فرصة ممتازة لتطور نظرية أدبية قائمة على فهم طبيعة امتدادات الأدب خارج حدوده.
    وقد جرت الإِشارة في ثنايا البحث إِلى أعلام الأدب المقارن البارزين وإِلى أبرز المؤسسات والمنظمات والمجلات التي تُعنى به وتضع نفسها في خدمة مجالاته.
    وإِذا انتقل الدارس إِلى الأدب العربي وجد أن الأدب المقارن حقل معرفي فتي لا تكاد تبين له أصول في التراث الأدبي القديم, ذلك أنه كان لدى العرب في الماضي اعتداد خاص باللغة والشعر وإِشاحة نسبية عن آداب الأمم الأخرى, مما أدّى إِلى أن يكون نشاطهم في حقل التبادل الأدبي أقل من نشاطهم في الحقول المعرفية الأخرى كالعلوم والفلسفة على أن غير العرب تأثروا تأثراً واضحاً بالأدب العربي فدرسوه وألّفوا على غراره. وفي عصرنا الحاضر ما زال هذا التيار من الاعتداد بالأدب واللغة فاعلاً بحيث يخلق رأياً عاماً لا يستريح إِلى المقارنات مع الآداب الأخرى ويجهد في تأكيد الأصول العربية للفنون الأدبية الوافدة كالقصة والمسرح. ومن الملاحظ أن معظم الأدباء البارزين في عصر النهضة كانوا أكثر انفتاحاً في مجال التفاعلات الأدبية, ووضعوا أساساً لنهضة الأدب المقارن في عصرنا. وكان لرواد النهضة الأدبية في الشام أثر كبير في الاستنارة الأدبية, وهكذا لمعت, إِلى جانب بناة النهضة من أبناء الكنانة مثل رفاعة الطهطاوي[ر] وعلي مبارك[ر] والشيخ حسن المرصفي, أسماء شامية مبكرة في مجال المقارنة مثل أديب إِسحاق[ر] وأحمد فارس الشدياق[ر] ونجيب الحداد, وتميز من بينهم علمان بارزان, هما سليمان البستاني[ر] وروحي الخالدي[ر], وضعا حجر الأساس للبحث التطبيقي في الأدب المقارن على الرغم من أنهما لم يشيرا إِلى المصطلح بكلمة واحدة.
    وتتلخص جهود البستاني في هذا الحقل بتعريب «الإِلياذة» الذي استغرق منه ثماني سنوات (1887-1895) وبمقدمتها المقارنية التي استغرقت منه ثماني سنوات أخرى, وقد أنجز شروح الإِلياذة ومقدماتها في 200 صفحة أواخر سنة 1903. وأجرى البستاني مقارنات جريئة بين الملحمة اليونانية والشعر القصصي العربي وأكد وجود ملاحم عربية قصيرة تختلف عن الملاحم الإِفرنجية الطويلة, وانطلق من هذه المقارنة للتوصل إِلى أحكام شاملة تتعلق بالشعر الجاهلي والشعر اليوناني القديم, وحكم لصالح الشعر الجاهلي, وأشار بعد ذلك إِلى التشابه بين عبقرية ابن الرومي[ر] وعبقرية هوميروس[ر]. وكذلك كتب البستاني مقالاً حوى شيئاً من تاريخ الشعر عند العرب والإِفرنج. وهكذا يكون البستاني صاحب سبق لا ينكر في مجال الدراسة المقارنة, وإِن كانت مقارناته تدل على أن ثقافته الأصلية كانت عربية تقليدية وأن ما قرأه من أفكار أدبية غربية ليس أكثر من نوافذ صغيرة للمقارنة.
    وعند منعطف القرن التاسع عشر, على أية حال, ساد مناخ عام للمقارنة, أسهم فيه الشاعر أحمد شوقي[ر], وكتاب مثل خليل ثابت وأسعد داغر ونقولا فياض[ر] ويعقوب صروف[ر], وحملت مجلة «المقتطف» آنذاك رسالة الوعي المتفتح.
    وإِذا ترك الدارس الأشخاص وانتقل إِلى الأعمال المفردة فإِنه يجد أن الكتاب العربي الأول المكرس للأدب المقارن التطبيقي هو كتاب «تاريخ علم الأدب عند الإِفرنج والعرب وفكتور هوغو» للكاتب المقدسي روحي بن ياسين الخالدي. وقد نُشر الكتاب مقالات متسلسلة في مجلة «الهلال» بين سنتي 1902ـ1903,ثم طبعته دار الهلال سنة 1904 وطبع ثانية سنة 1912, وأعيد طبعه سنة 1985.
    وهذا الكتاب مؤلف نوعي في الأدب المقارن التطبيقي لا تنقصه سوى التسمية المقارنية, وتتصدره على الغلاف الفقرة المقارنية التالية:
    «وهو يشتمل على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب عند الإِفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب إِبان تمدنهم إِلى عصورهم الوسطى, وما اقتبسه الإِفرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصاً على يد فكتور هوغو. ويلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفيلسوف ووصف مناقبه ومواهبه ومؤلفاته ومنظوماته وغير ذلك».
    وكتب الخالدي مقدمة للكتاب بالفرنسية تنبئ عن حسه المقارني. وأورد في كتابه مقارنات ومقابلات ودراسات للتبادلات الأدبية بين العرب والفرنجة, وترجمات وتعليقات, تدل كلها على أنه كان شديد الالتصاق بالمنهج المقارني.
    وتوالى بعد الخالدي الاهتمام بالدراسات التطبيقية ذات الطابع المقارني, ومن أقدمها سلسلة مقالات نشرها فخري أبو السعود على صفحات «الرسالة» في الأعوام 1935-1937 وقابل فيها بين الأدب العربي والأدب الإِنكليزي من دون اعتناء بناحية التأثر والتبادل. وفي عام 1935 كذلك ظهر الجزء الثالث من كتاب الأديب الحلبي قسطاكي الحمصي[ر] المعنون «منهل الورّاد في علم الانتقاد» وتضمن بحثاً مطولاً عن «الموازنة بين الكوميدية الإِلهية ورسالة الغفران», وفي الثلاثينات أيضاً نشر عبد الوهاب عزام دراسات في مجلة «الرسالة» حول العلاقات بين الأدب العربي والأدب الفارسي. وفي الأربعينات ظهر كتاب لإِلياس أبو شبكة بعنوان «روابط الفكر بين العرب والفرنجة» ظهرت الطبعة الثانية من الكتاب عن دار المكشوف في بيروت عام 1945, وهو ذو موضوع مقارني واضح. وبالتدريج انتعش هذا النوع من الدراسات واغتنى وتعددت وجهاته.
    ومن الملاحظ أن اسم فخري أبو السعود ورد آنفاً في باب الدراسات التطبيقية خلافاً لما درجت عليه المصادر العربية حتى الآن من نسبة الريادة النظرية إِليه. ويبدو أن فخري أبو السعود لم يستخدم مصطلح الأدب المقارن ولم يكشف عن معرفة به, على الرغم من سبقه في مجال الدراسة التقابلية أي غير القائمة على التأثر والتأثير, وأن مصطلح الأدب المقارن ظهر في «الرسالة» أول ما ظهر على يد الكاتب الشامي خليل هنداوي في سلسلة مقالات تلقي ضوءاً جديداً على ناحية من الأدب العربي هو, اشتغال العرب بالأدب المقارن أو ما يسميه الفرنجة Littérature Comparée, في كتاب «تلخيص كتاب أرسطو في الشعر» لفيلسوف العرب الأول ابن رشد. وقد ظهر هذا العنوان في «الرسالة» (الأعداد من 154-156 من المجلة) بتاريخ 8/6/1936, وتكرر في أعداد ثلاثة تالية. وحملت المقالة الأولى مقدمة نظرية عن الأدب المقارن ومنهجه ومزاياه تُعد الأولى من نوعها في الأدب العربي.
    والجدير بالذكر أن مقرر الأدب المقارن ظهر أولاً في أدبيات دار العلوم بالقاهرة سنة 1938, ولكن المصطلح اختفى بعد ذلك ليظهر في أواخر الأربعينات في سلسلة من الكتب الجامعية تعاقبت بمعدل كتاب كل سنتين تقريباً, وصدر أولها سنة 1948 في القاهرة بعنوان «من الأدب المقارن» لنجيب العقيقي, تضمّن شذرات من الأدب العام والنقد النظري غير ذات صلة مباشرة بالعنوان. وفي عام 1949 ظهر كتاب عبد الرزاق حميدة «في الأدب المقارن» كما ظهر عام 1951 كتاب مقارني لإِبراهيم سلامة. وكان أهم تطور تأليفي في الموضوع ظهور كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال بعنوان «الأدب المقارن» في القاهرة عام 1953. ويُعد هلال بحق مؤسس الأدب العربي المقارن, وكان كتابه أول محاولة عربية ذات وزن أكاديمي في منهجية الأدب المقارن, وبدا شديد التمسك بمبادئ المدرسة الفرنسية التقليدية. وفيما بعد طبع الكتاب عدة طبعات وخرّج جيلاًَ كاملاً من المهتمين بالأدب المقارن.
    وبعد الخمسينات تطور تدريس الأدب المقارن في الجامعات العربية بخطوات غير حثيثة. وألفت كتب جامعية متفرقة اعتمدت كثيراً على كتاب غنيمي هلال. ولكن بدأت تبرز في الثمانينات اتجاهات جديدة على يد الجيل التالي, مؤذنة بحلول مرحلة نهوض جديدة أكثر وعياً للتطورات العالمية الحية.
    ومن أهم تطورات الأدب المقارن العربي قيام «الرابطة العربية للأدب المقارن» التي عقدت الملتقى التحضيري في جامعة عنابة بالجزائر عام 1983, والملتقى الأول في عنابة أيضاً عام 1984, ثم المؤتمر الثاني في جامعة دمشق 1986, والثالث في مراكش 1989. ويشير وضع الثقافة العربية المعاصرة إِلى أن الأدب المقارن يبشر بمستقبل ذي شأن في رحاب الجامعات العربية وخارجها