الأولون والآخرون
بقلم د مصطفى محمود
اكان للإسلام في الماضي حضور في سياسة الدولة وفي حياة الفرد وفي معني كلمة عروبة وفي الأمة العربية كلها من المحيط إلي الخليج.. وكانت الشريعة الإسلامية هي عين القانون السائد وكانت هي التي تحكم حركة المسلم في كل الأقطار الإسلامية في زمان الخلافة..
ولكن الاستعمار الفرنسي والإنجليزي والأمريكي الذي بدأ يحكم أخيرا سلوك الأفراد من خلال الاقتصاد الحر والعولمة تدخل في صياغة حياة المسلمين والإخوة المسيحيين علي اتساع رقعة الشرق الأوسط والشمال الافريقي والعالم كله.. وتراجع الإسلام وتراجعت معه المسيحية الأصولية في تقهقر منتظم خطوة بعد خطوة لتكتفي بحضور محدود في الكنيسة والمسجد ومنبر رمزي في الأزهر والفاتيكان.. وانسحبت المرجعية الدينية الي قرآن محفوظ يتلي وأناجيل مدونة يقدسها المسلمون والنصاري.. في بحر طام من العلمانية المتحررة من كل الشرائع المتحللة من الأخلاق.. في شبه إجماع علي التحرر من كل المقدسات والحياة في وثنية جديدة بلا أصنام.. معبودها الوحيد.. هوي النفس ولذاتها ومشتهيات الجسد ورغائبه.. وضمير جديد لا يخشي إلا القانون المدني الوضعي ولا يحسب حسابا لأي سلطة سوي سلطة الشرطة وضباط الأمن.. وفيما عدا ذلك.. الدنيا لك تغترف منها كما تشاء.
وفي هذا البحر الطام تراجع الإسلام إلي رقعة صغيرة هي مساحة السجادة وإلي مخبأ مستور هو القلب.. لمن كان له قلب وألقي السمع وهو شهيد.
وفي قلوب هذه القلة المباركة يسكن الإسلام الحقيقي التي بلغها الإعلام الإلهي كاملا غير منقوص.. والله وحده يعلم تعدادها.. هل هي بضعة ملايين.. أو أقل.. أو أكثر.؟
وكم من هؤلاء اشتمل إيمانه القلب والقالب وسكن الوجدان والبنيان ؟؟ وكم منهم وقف إيمانه عند حدود القلب وقصر عن شمول الجوارح.. وكم منهم اكتفي باللسان وبالإسلام الشفوي وبشهادة لا إله إلا الله
يقول ربنا عن المؤمنين.. وقليل ماهم
وسيظل هذا القول نافذا إلي يوم القيامة..
لقد بدأ الإسلام غريبا
وسيعود غريبا
ونحن الآن في زمان هذه الغربة.. رغم كثرة المساجد وجلبة الميكروفونات وضجيج المنابر ونداءات المآذن.. وهرولة المصلين.. وصراخ المتشددين.. فهم إلي الآن قليلون.
وهم يزدادون قلة.. يوما بعد يوم.. رغم أن المسلمين يزدادون كثرة في العدد والمطحنة الأمريكية تطحن من النفوس مايقبل الطحن
والمطحنة الدنيوية تذرو الباقي هباء
والأرحام تدفع
والأرض تبلع..
والتاريخ ماض لا يلوي علي شيء
هل تكون للإسلام عودة ؟؟
سؤال يلح علي ذهني دواما
ربما بعد كوارث آخر الزمان حينما تزول طواغيت الدنيا
والله يختار الأصلح دائما
والنظام عند الله أفضل من اللا نظام ولو كان علي رأسه طاغوت..
فالفوضي شر مطلق وخراب مطلق
والله قد يترك العولمة بشرورها لأنها شكل من أشكال النظام.. والنظام أفضل من الفوضي.. والعلمانية تسمح للمؤمن بأن يؤمن في مواجهة أغلبية تخالفه طالما أنه يحتفظ بإيمانه لنفسه ولا يتدخل في اختيارات الآخرين.. ولا يكره أحدا.. وهذا لن ينقض قانون الابتلاء الكوني وسيظل المؤمن قادرا علي اختيار الإيمان.. وفي ناموس الله وسنته ألا يكره أحدا علي عبادته.
ويقول ربنا عن المؤمنين ثلة من الأولين وقليل من الآخرين أي أن الكثرة من المؤمنين كانت للأولين.. أما الآخرون المؤمنون فسيكونون قلة في آخر الزمان.. لأن الحريات العلمانية لن تشجع علي إيمان المؤمن وإن كانت لن تمنعه من اختيار الإيمان إذا أراد.
والله وحده يعلم كيف سيكون حال الآخرين..
ونحن ولاشك في ظروف أفضل من ظروف هؤلاء الآخرين في آخر الزمن وفي ختام أيام الدنيا.
ولم تبلغ الروح الحلقوم بعد
ومازلنا نقول لا إله إلا الله بالفم المليان ومازال يقوم بحق هذه الشهادة القادرون عليها.. وفي أقصي الأرض في بلاد الشيشان من يقاتل دونها وإن عدم النصير.
ومازال للطامعين في جنة الله فرصة.. لم تأت بعد العلامات الكبري للساعة.. ولم تغلق أبواب التوبة..
سبحوا ربكم واعبدوه ياإخوة وأنتم في عافية فلا أحد يعلم متي تفاجئنا النهاية
ولا تقولوا مع الشاعر الجالس علي مائدة الشراب
دعنا نعش يوما وفي العمر فسحة
وربك غفار وربكم أكرم
فلا أحد يدري متي تطول هذه الفسحة.. وهل نجد فيها فسحة فعلا لنعود إلي الله وإلي أنفسنا.. أم تفجأنا الزلزلة فتموت في فمنا الكلمات ويطبق علينا صمت القبور.
وقصة صراع الإيمان والكفر علي هذه الأرض التي انتهت بغلبة الكفر وشيوع المادية والإلحاد.. هي قصة غلبة المصالح الدنيوية العاجلة علي إنسان قصير النظر متعجل بطبعه.
خلق الإنسان من عجل(37 ـ الأنبياء) هكذا يقول ربنا.
وهذا هو الامتحان الصعب الذي طرح علي الإنسان من البداية.. لأن الله كان يريد لفردوسه الصفوة وكان يريد استخلاص هذه الصفوة من الخبث الكثير.. وكان يعلم أن أكثر الناس لا يفقهون وأن أكثر الناس لا يعقلون.. وأن أكثرهم كالأنعام بل هم أضل.. ومع ذلك اقتضت رحمته أن يعطي الجميع فرصة متساوية وأن تصل كلماته وكتبه وهديه وإلهامه إلي الجميع.
وقد وصلت كلماته وكتبه عبر الرسل والأنبياء وعبر العلماء وعبر المطابع وعبر أجهزة الراديو والتليفزيون والانترنت بجميع اللغات وساهمت مخترعات الكفرة في نشرها بأكثر مما ساهمت وسائل المؤمنين.
وأوحي الله إلينا من خلال عقولنا وضمائرنا ونفوسنا وأرواحنا ومن خلال ملائكته.
واقتضت عدالة الامتحان أن يطلق علينا شياطينه حتي يبلغنا وسواس أبالسته مع خواطر ملائكته من جميع الجهات لنختار علي علم وعلي بينة ونفعل مايحلو لنا بعد عزم ومراودة وتدبر وتفكر.. وليجد كل منا بغيته.. الذي أراد أن يقتل واستولي عليه شيطانه تركه الله ليقتل.. والذي أراد أن يسرق وأستولي عليه طمعه تركه الله ليسرق والذين أقاموا المذابح للشعوب تركوا ليباشروا الذبح علي راحتهم والظالمون ظلموا والجبارون تجبروا والسفاحون سفحوا والعلماء عكفوا في محاريب العلم والفنانون سبحوا في سموات الإلهام.
وأهل الخير والصالحون والمفكرون والبناءون هواة الجمال فتح لهم ربنا كنوز إلهامه والأولياء والصوفيون تنزل عليهم بأنواره.
يقول القرآن عن رب العزة في سورة إبراهيم
وآتاكم من كل ماسألتموه(34 ـ إبراهيم)
اختار لنا ربنا من كل بستان الزهرة التي تناسب سؤلنا والفكرة التي تناسب استعدادنا وطبيعتنا.
والله مخرج ماكنتم تكتمون(72 ـ البقرة)
أخرج الله منا مانكتم من مواهب ومانخفي من أطماع ومانضمر من نيات وخفايا.. لنتعرف علي فضله وإلهامه وهباته.. وأيضا لنتعرف علي شرورنا وآثامنا وخطايانا.. ولنكون علي بينة من أنفسنا ومن أعمالنا.
وماجري لنا وماجري علينا يؤكد أن هناك بعثا وأن هناك مساءلة وأن هناك وقفة وأن هناك خاتمة بدونها تبدو حياتنا عبثية وتبدو دنيانا مصادفات عشوائية بلا سياق وبلا نتيجة.
البعث حقيقة.. بدونها تفتقر الحكاية إلي المعني
وكفة الحياة بدون البعث ساقطة
والبعث سوف يعيد الكفة الي اعتدالها وسوف يكشف لنا المعني والعبرة والغاية من كل ماحدث, فلسنا مسرح عرائس نتحرك بالخيوط وينتهي العرض بإسدال ستار.. وماكان ربنا يلهو.. تعالي ربنا سبحانه عن ذلك علوا كبيرا..
بل هناك معني وغاية من كل ماحدث
وسوف يلقي كل مجرم جزاءه.
فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد علي الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولي بها صليا وإن منكم إلا واردها كان علي ربك حتما مقضيا( مريم68 ـ71)
سيؤتي بنا جميعا في مشهد رهيب جامع ليوقف بنا في حلقة حول الجحيم لنراها رأي العين, ثم ينزع من كل شيعة أيهم أشد إجراما ويلقي به في سعيرها..
وهذا هو مشهد الورود الجامع المذكور في القرآن.. ثم يحتم القرآن بلا لبس أو إبهام مجيء ذلك اليوم كان علي ربك حتما مقضيا( مريم71)
لا كلام عن عذاب نفسي أو رمزي بل هو إلقاء في النار ومباشرة للجحيم.
وسوف يكون لنا أجسام من نوع آخر تتحمل أهوال السعير.. وسوف يتكلم أهل النار وهم في النار ويتحاورون ويتلاعنون.. كلما دخلت أمة لعنت أختها(38 ـ الأعراف) إنها أبدان من نوع آخر.
وسوف يكون لنا في النار حياة وطعام وشراب فيأكل أهلها الزقوم ويشربون الماء الحميم
والجنة خلود ولا موت والنار خلود ولا موت
يقول ربنا عن أهل النار وأهل الجنة فمنهم شقي وسعيد(104 ـ هود)
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك(105 ـ106 ـ هود)
واستثناء المشيئة هنا لا يعلم معناه إلا الله
أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ( هود ـ108)
واستثناء المشيئة هنا لا يعني الاخراج من الجنة فالعطاء غير مجذوذ أي غير منقطع.. وربما كانت المشيئة تعني الخروج من الجنة إلي جنات أخري وسماوات وحيوات متنوعة بلا انتهاء
والآخرة عوالم من الأسرار يبوح القرآن عنها بمقدار.
ولا يصح أن نقرأ ماجاء في القرآن بشأن الآخرة كما نقرأ رواية خيالية أو اسطورة من أساطير ألف ليلة.. فالقرآن دقيق وهو حق مطلق وصدق مطلق.. والله يتحدث عن واقع سيقع حتما وعقلنا المحدود يفهم علي قدر استطاعته دون تأويل.. فنحن هنا أمام القادر بلا حدود..
والعاقل من يرتدع ويلزم حدوده دون جدل فالفارق كبير بين رب يتكلم وإنسان يتكلم.. والبون شاسع بين نص بشري ونص إلهي.. وبين قرآن محكم يتحدي ربنا بكلماته العلماء والبلغاء.. وبين كلام مرسل يأتينا عفو الخاطر في صورة مقال أو رواية.
يقول ربنا لنبيه
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(5 ـ المزمل)
فهو ليس أي قول.. بل هو القول الثقيل
ولو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله( الحشر ـ21)
الجبال تتصدع من الخشية إذا نزل عليها هذا القول.
إن القول الثقيل ليس تعبيرا مجازيا.. وإنما هو أمر ثقيل لا تحتمله الجبال وعبر كلمات القرآن تصلنا رسالة يتصدع لها القلب وهو يصغي
وهذا شعور يعرفه كل مؤمن.
إن مباشرة الكلمة القرآنية للقلب هي التي صنعت هذا الدين وهي التي أطلقت الأولين من المسلمين كالزوابع في كل أرجاء الأرض.. يفتحون أقطارها يحملون معهم شعلة التوحيد أينما ساروا.
كم من الأميال قطع عقبة بن نافع علي فرسه من جبال مكة الشهباء الي أقصي الشمال الافريقي في الصحراء الليبية الجرداء
إنها رواية من روايات الفروسية العجيبة تخطف القلب
وكيف انطفأ سراج القلب وتفرقت الأمة أشتاتا لا تجتمع علي كلمة
تلك رواية الأولين والآخرين عبر قرن من الزمان.. هل تكون لهذه البطولات عودة؟!!
ذلك سؤال يجيب عنه التاريخ
ولا أري لهذه الصحوة بوادر..
بل أري سحبا منذرة
إلا أن يشاء ربي أمرا.
وفي هذا البحر الطام تراجع الإسلام إلي رقعة صغيرة هي مساحة السجادة وإلي مخبأ مستور هو القلب.. لمن كان له قلب وألقي السمع وهو شهيد.
وفي قلوب هذه القلة المباركة يسكن الإسلام الحقيقي التي بلغها الإعلام الإلهي كاملا غير منقوص.. والله وحده يعلم تعدادها.. هل هي بضعة ملايين.. أو أقل.. أو أكثر.؟
وكم من هؤلاء اشتمل إيمانه القلب والقالب وسكن الوجدان والبنيان ؟؟ وكم منهم وقف إيمانه عند حدود القلب وقصر عن شمول الجوارح.. وكم منهم اكتفي باللسان وبالإسلام الشفوي وبشهادة لا إله إلا الله
يقول ربنا عن المؤمنين.. وقليل ماهم
وسيظل هذا القول نافذا إلي يوم القيامة..
لقد بدأ الإسلام غريبا
وسيعود غريبا
ونحن الآن في زمان هذه الغربة.. رغم كثرة المساجد وجلبة الميكروفونات وضجيج المنابر ونداءات المآذن.. وهرولة المصلين.. وصراخ المتشددين.. فهم إلي الآن قليلون.
وهم يزدادون قلة.. يوما بعد يوم.. رغم أن المسلمين يزدادون كثرة في العدد والمطحنة الأمريكية تطحن من النفوس مايقبل الطحن
والمطحنة الدنيوية تذرو الباقي هباء
والأرحام تدفع
والأرض تبلع..
والتاريخ ماض لا يلوي علي شيء
هل تكون للإسلام عودة ؟؟
سؤال يلح علي ذهني دواما
ربما بعد كوارث آخر الزمان حينما تزول طواغيت الدنيا
والله يختار الأصلح دائما
والنظام عند الله أفضل من اللا نظام ولو كان علي رأسه طاغوت..
فالفوضي شر مطلق وخراب مطلق
والله قد يترك العولمة بشرورها لأنها شكل من أشكال النظام.. والنظام أفضل من الفوضي.. والعلمانية تسمح للمؤمن بأن يؤمن في مواجهة أغلبية تخالفه طالما أنه يحتفظ بإيمانه لنفسه ولا يتدخل في اختيارات الآخرين.. ولا يكره أحدا.. وهذا لن ينقض قانون الابتلاء الكوني وسيظل المؤمن قادرا علي اختيار الإيمان.. وفي ناموس الله وسنته ألا يكره أحدا علي عبادته.
ويقول ربنا عن المؤمنين ثلة من الأولين وقليل من الآخرين أي أن الكثرة من المؤمنين كانت للأولين.. أما الآخرون المؤمنون فسيكونون قلة في آخر الزمان.. لأن الحريات العلمانية لن تشجع علي إيمان المؤمن وإن كانت لن تمنعه من اختيار الإيمان إذا أراد.
والله وحده يعلم كيف سيكون حال الآخرين..
ونحن ولاشك في ظروف أفضل من ظروف هؤلاء الآخرين في آخر الزمن وفي ختام أيام الدنيا.
ولم تبلغ الروح الحلقوم بعد
ومازلنا نقول لا إله إلا الله بالفم المليان ومازال يقوم بحق هذه الشهادة القادرون عليها.. وفي أقصي الأرض في بلاد الشيشان من يقاتل دونها وإن عدم النصير.
ومازال للطامعين في جنة الله فرصة.. لم تأت بعد العلامات الكبري للساعة.. ولم تغلق أبواب التوبة..
سبحوا ربكم واعبدوه ياإخوة وأنتم في عافية فلا أحد يعلم متي تفاجئنا النهاية
ولا تقولوا مع الشاعر الجالس علي مائدة الشراب
دعنا نعش يوما وفي العمر فسحة
وربك غفار وربكم أكرم
فلا أحد يدري متي تطول هذه الفسحة.. وهل نجد فيها فسحة فعلا لنعود إلي الله وإلي أنفسنا.. أم تفجأنا الزلزلة فتموت في فمنا الكلمات ويطبق علينا صمت القبور.
وقصة صراع الإيمان والكفر علي هذه الأرض التي انتهت بغلبة الكفر وشيوع المادية والإلحاد.. هي قصة غلبة المصالح الدنيوية العاجلة علي إنسان قصير النظر متعجل بطبعه.
خلق الإنسان من عجل(37 ـ الأنبياء) هكذا يقول ربنا.
وهذا هو الامتحان الصعب الذي طرح علي الإنسان من البداية.. لأن الله كان يريد لفردوسه الصفوة وكان يريد استخلاص هذه الصفوة من الخبث الكثير.. وكان يعلم أن أكثر الناس لا يفقهون وأن أكثر الناس لا يعقلون.. وأن أكثرهم كالأنعام بل هم أضل.. ومع ذلك اقتضت رحمته أن يعطي الجميع فرصة متساوية وأن تصل كلماته وكتبه وهديه وإلهامه إلي الجميع.
وقد وصلت كلماته وكتبه عبر الرسل والأنبياء وعبر العلماء وعبر المطابع وعبر أجهزة الراديو والتليفزيون والانترنت بجميع اللغات وساهمت مخترعات الكفرة في نشرها بأكثر مما ساهمت وسائل المؤمنين.
وأوحي الله إلينا من خلال عقولنا وضمائرنا ونفوسنا وأرواحنا ومن خلال ملائكته.
واقتضت عدالة الامتحان أن يطلق علينا شياطينه حتي يبلغنا وسواس أبالسته مع خواطر ملائكته من جميع الجهات لنختار علي علم وعلي بينة ونفعل مايحلو لنا بعد عزم ومراودة وتدبر وتفكر.. وليجد كل منا بغيته.. الذي أراد أن يقتل واستولي عليه شيطانه تركه الله ليقتل.. والذي أراد أن يسرق وأستولي عليه طمعه تركه الله ليسرق والذين أقاموا المذابح للشعوب تركوا ليباشروا الذبح علي راحتهم والظالمون ظلموا والجبارون تجبروا والسفاحون سفحوا والعلماء عكفوا في محاريب العلم والفنانون سبحوا في سموات الإلهام.
وأهل الخير والصالحون والمفكرون والبناءون هواة الجمال فتح لهم ربنا كنوز إلهامه والأولياء والصوفيون تنزل عليهم بأنواره.
يقول القرآن عن رب العزة في سورة إبراهيم
وآتاكم من كل ماسألتموه(34 ـ إبراهيم)
اختار لنا ربنا من كل بستان الزهرة التي تناسب سؤلنا والفكرة التي تناسب استعدادنا وطبيعتنا.
والله مخرج ماكنتم تكتمون(72 ـ البقرة)
أخرج الله منا مانكتم من مواهب ومانخفي من أطماع ومانضمر من نيات وخفايا.. لنتعرف علي فضله وإلهامه وهباته.. وأيضا لنتعرف علي شرورنا وآثامنا وخطايانا.. ولنكون علي بينة من أنفسنا ومن أعمالنا.
وماجري لنا وماجري علينا يؤكد أن هناك بعثا وأن هناك مساءلة وأن هناك وقفة وأن هناك خاتمة بدونها تبدو حياتنا عبثية وتبدو دنيانا مصادفات عشوائية بلا سياق وبلا نتيجة.
البعث حقيقة.. بدونها تفتقر الحكاية إلي المعني
وكفة الحياة بدون البعث ساقطة
والبعث سوف يعيد الكفة الي اعتدالها وسوف يكشف لنا المعني والعبرة والغاية من كل ماحدث, فلسنا مسرح عرائس نتحرك بالخيوط وينتهي العرض بإسدال ستار.. وماكان ربنا يلهو.. تعالي ربنا سبحانه عن ذلك علوا كبيرا..
بل هناك معني وغاية من كل ماحدث
وسوف يلقي كل مجرم جزاءه.
فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد علي الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولي بها صليا وإن منكم إلا واردها كان علي ربك حتما مقضيا( مريم68 ـ71)
سيؤتي بنا جميعا في مشهد رهيب جامع ليوقف بنا في حلقة حول الجحيم لنراها رأي العين, ثم ينزع من كل شيعة أيهم أشد إجراما ويلقي به في سعيرها..
وهذا هو مشهد الورود الجامع المذكور في القرآن.. ثم يحتم القرآن بلا لبس أو إبهام مجيء ذلك اليوم كان علي ربك حتما مقضيا( مريم71)
لا كلام عن عذاب نفسي أو رمزي بل هو إلقاء في النار ومباشرة للجحيم.
وسوف يكون لنا أجسام من نوع آخر تتحمل أهوال السعير.. وسوف يتكلم أهل النار وهم في النار ويتحاورون ويتلاعنون.. كلما دخلت أمة لعنت أختها(38 ـ الأعراف) إنها أبدان من نوع آخر.
وسوف يكون لنا في النار حياة وطعام وشراب فيأكل أهلها الزقوم ويشربون الماء الحميم
والجنة خلود ولا موت والنار خلود ولا موت
يقول ربنا عن أهل النار وأهل الجنة فمنهم شقي وسعيد(104 ـ هود)
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك(105 ـ106 ـ هود)
واستثناء المشيئة هنا لا يعلم معناه إلا الله
أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ماشاء ربك عطاء غير مجذوذ( هود ـ108)
واستثناء المشيئة هنا لا يعني الاخراج من الجنة فالعطاء غير مجذوذ أي غير منقطع.. وربما كانت المشيئة تعني الخروج من الجنة إلي جنات أخري وسماوات وحيوات متنوعة بلا انتهاء
والآخرة عوالم من الأسرار يبوح القرآن عنها بمقدار.
ولا يصح أن نقرأ ماجاء في القرآن بشأن الآخرة كما نقرأ رواية خيالية أو اسطورة من أساطير ألف ليلة.. فالقرآن دقيق وهو حق مطلق وصدق مطلق.. والله يتحدث عن واقع سيقع حتما وعقلنا المحدود يفهم علي قدر استطاعته دون تأويل.. فنحن هنا أمام القادر بلا حدود..
والعاقل من يرتدع ويلزم حدوده دون جدل فالفارق كبير بين رب يتكلم وإنسان يتكلم.. والبون شاسع بين نص بشري ونص إلهي.. وبين قرآن محكم يتحدي ربنا بكلماته العلماء والبلغاء.. وبين كلام مرسل يأتينا عفو الخاطر في صورة مقال أو رواية.
يقول ربنا لنبيه
إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا(5 ـ المزمل)
فهو ليس أي قول.. بل هو القول الثقيل
ولو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله( الحشر ـ21)
الجبال تتصدع من الخشية إذا نزل عليها هذا القول.
إن القول الثقيل ليس تعبيرا مجازيا.. وإنما هو أمر ثقيل لا تحتمله الجبال وعبر كلمات القرآن تصلنا رسالة يتصدع لها القلب وهو يصغي
وهذا شعور يعرفه كل مؤمن.
إن مباشرة الكلمة القرآنية للقلب هي التي صنعت هذا الدين وهي التي أطلقت الأولين من المسلمين كالزوابع في كل أرجاء الأرض.. يفتحون أقطارها يحملون معهم شعلة التوحيد أينما ساروا.
كم من الأميال قطع عقبة بن نافع علي فرسه من جبال مكة الشهباء الي أقصي الشمال الافريقي في الصحراء الليبية الجرداء
إنها رواية من روايات الفروسية العجيبة تخطف القلب
وكيف انطفأ سراج القلب وتفرقت الأمة أشتاتا لا تجتمع علي كلمة
تلك رواية الأولين والآخرين عبر قرن من الزمان.. هل تكون لهذه البطولات عودة؟!!
ذلك سؤال يجيب عنه التاريخ
ولا أري لهذه الصحوة بوادر..
بل أري سحبا منذرة
إلا أن يشاء ربي أمرا.