الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقالات : سنوات الغربة بقلم دكتور مصطفى محمود

سنوات الغربة
   
بقلم د مصطفى محمود


النزول الي الدنيا هو بداية سنوات الغربة‏..‏ كلنا جئنا من الغيب عبر أباء وأمهات من خلال تعارف بالصدفة وقصص حب وزواج‏..‏ وربما بدون حب‏..‏ نزلنا في باراشوت صغير جدا لايكاد يري بالعين المجردة‏..‏ لفافه من الجينات في رأس حيوان منوي‏..
يدخل عنق الرحم ويسبح لبضعة أيام ليلتقي بويضة في قناة فالوب في رحم أم لايعرفها سوف تكون الحاضنة لهذه الخلاصة الجينية‏..‏ ويتم التلقيح علي مستوي ميكروسكوبي لايري بالعين بين الحيوان المنوي والبويضة‏.‏
ومن قبل ذلك كان هناك تلقيح في الفراش بين أب وأم هيأت له العواطف ودفعت اليه غريزة جنسية قاهرة بهدف إيصال هذه الرسالة الجينية في رأس هذا الحيوان المنوي الي غايتها المقدرة
كل هذه ملابسات وترتيبات لانعلمها ولم يكن يعلم بها أحد‏..‏ ولكن المعارف البيولوجية في هذا القرن كشفتها لنا‏..‏
والجنين الذي سقط بالباراشوت من عالم الغيب في قناة فالوب وبدأ ينمو ثم ارتحل في الرحم سابحا ليصل اليه بعد بضعة أيام ويزرع نفسه في جدارة ويتغذي وينمو علي دم الأم ثم يدفع به الي الخروج في عملية ولادة قهرية وتقلصات حادة مؤلمة ليخرج الي الدنيا في نوبة من الصراخ ويزحف وهو أعمي الي حلمات ثدي أمه ليرضع في تلقائية خرساء‏.‏
كل هذه القصة اشتركت فيها أيد خفية من وراء الكواليس لانراها ولا نعلمها وظروف هيأتها إرادة من عالم الغيب وترتيبات اشتركت فيها أيد كثيرة لانعرف عنها الا القليل‏.‏
والنتيجة أنه قد جاء إلي الدنيا فلان وتلقفته الأيدي بالحفاوة والترحيب وربما جاء غير مرغوب فيه حيث أراد الكل أن يجيء ولدا فجاء بنتا‏.‏
وبدأت قصة هي الغربة بعينها بالنسبة لهذه المولودة علي غير توقع‏..‏


إننا نسمي الحب والجنس والزواج شهور عسل‏..‏ ولكن سوف يختلف طعم هذا العسل ويتلون بكل ألوان الطيف حسب العشرة والظروف الاجتماعية والظروف الاقتصادية بل والظروف السياسية التي جاء فيها‏..‏ في حرب أم سلام‏..‏ في عسر أم يسر‏..‏ في ألفة أم تنافر‏.‏
حتي الجنس وهو أكثر العلاقات حميمية وأشدها خصوصية هو حالة قهرية غريزية نؤديها مختارين في الظاهر مقهورين في الحقيقة برغبة مغروزة فينا لانملك لها دفعا‏.‏
وهكذا كتب علينا أن تكون هذه الدنيا غربة‏..‏ وأمتع مافيها أشد مايكون غربة‏..‏ حتي أن الشريعة تسمي هذه الحالة الجنسية جنابة أي أن الإنسان يكون فيها محجوبا ويكون كل وجوده مجنب أي في حالة غفلة عن ربه بسبب استغراقه الذاتي في ذاته‏..‏ فهي حالة أشبه بالعمي المؤقت والانفصال
وتأمرنا الشريعة بالغسل الكامل للطهر من هذه الجنابة
والمفهوم الفلسفي لهذه الجنابة أنها ذروة الغربة والانفصال
ولكن الغربة تنساح علي حياتنا الدنيوية كلها لتشمل كل إنشغالاتها فالإغراق في مشتهياتها والسقوط في بريقها والتعلق بمغرياتها يؤدي إلي نفس الشيء إلي إنفصال الإنسان الدنيوي عن حقيقته وعن مصدره وعن أصله وعن نبع الثراء الذي جاء منه وغرقه وهلاكه في لذاتها ومشاغلها‏.‏
يقول ربنا للملائكة عن آدم‏..‏ إني خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏(‏ ص ـ‏71‏ ـ‏72)‏
فسجد الملائكة كلهم أجمعون‏..‏ لم يسجدوا للطين ولكن للروح التي نفخت فيه من الله‏..‏ إنه سجود للأصل والي نبع الثراء ومصدر الرتبة التي أعطيت لآدم
وهذا مايفعله التوحيد في المؤمن‏..‏ إنه يأخذه من الشتات ويرده الي الواحد الي الأصل وينقذه من حالة الانفصال والشتات ويجمعه علي الواحد الأصل‏..‏ وتلك الجمعية هي الهداية‏..‏ إنها المعرفة اليقينية لولي النعمة صاحب الفضل والعطاء
والانفصال عن هذه الجمعية القدسية هو سبب الضياع والشتات والغربة والسقوط والتفرق في التفاصيل والنقوش والزخارف والمشغوليات والغياب عن الصورة الكلية والمعني الكلي للدنيا والوجود‏.‏
والكافر إنسان ضال تائه جاحد للفضل فاقد للإحساس بالبداية والنهاية‏..‏ غائب عن المعني والمغزي والطريق
والغربة والضلال والتوهان هو حال الأغلبية والكثرة من الناس في هذه الدنيا
الغربة هي القاعدة بين هؤلاء الملايين الذين يمشون في الدنيا زائغي الأبصار أشباه مخدرين أشباه نيام مخطوفين عن حقيقتهم مشتتي الأحاسيس في مئات الانشغالات والهموم
والموت لهؤلاء يقظه وانتباه وعودة الي الوطن بعد طول غياب‏..‏ أحيانا عودة كلها ندم‏..‏ وفي القليل كلها فرحة‏..‏ وشهقة راحة بعد طول عناء
هذه هي الدنيا‏..‏ فانظر إلي حالك‏..‏ أي نوع من الناس أنت
هل أنت من الغرقي‏..‏ أم من أهل الغربة‏..‏ أم من أهل الصحو والانتباه أم من أهل المعرفة واليقين‏.‏
والصحو والانتباه مؤلم‏..‏ ولكنه بداية النجاة‏..‏ وهو إدراك الموت قبل الموت‏..‏ واكتشاف حقيقة الدنيا رغم الغرق فيها‏..‏ وهو تذوق شميم الأبدية رغم لحظات الفوت وتسارع الدقائق المفنية‏..‏ والعارف هو صاحب الوقفة عند النفري والايمان عند الصوفية واليقين عند المسلمين‏..‏ وكلها ألفاظ لما لا لفظ له وتوصيف لما لا وصف له في الدنيا وتعريف لما لايعرف بالعقل‏..‏ فالعقل أداة مخلوقة للتعامل مع الدنيا‏..‏ كومبيوتر شخصي لعمل الحسابات الضرورية للتعامل مع الدنيا‏..‏ ولكنه لايصلح للتعامل مع الآخرة ولا للتعامل مع الله‏..‏ ولا لفهم الأبدية‏.‏
الروح وحدها هي التي يمكن أن تدرك الأبدية وتعرف الله وتتعامل علي المستوي اللائق بعظمته
والروح لايمكن حصرها ولاتوصيفها لأنها من نفس المستوي الغيبي من الحقائق
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
القرآن جعلها من عالم الأمر وهو فوق عالم الخلق
ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين‏(54‏ ـ الأعراف‏)‏
ماهو الأمر‏..‏؟
وماهو عالم الأمر‏..‏؟‏!!‏ إنه العالم الخفي الذي له الأمر النافذ علي هذا العالم المادي المحسوس الذي نعيش فيه‏..‏ إنه العالم الذي له الحاكمية علي هذه الدنيا‏..‏ عالم الكلمات الإلهية الحاكمة والمسيطرة وكيف جئنا بكلمة وكيف نموت بكلمة؟‏!!‏
وكيف أن المسيح كلمته سبحانه ألقاها الي مريم؟‏!!‏
وكيف أن يحيي عليه السلام كلمته؟‏!!‏
وكيف أن كل شيء خلق بكلمته؟‏!!‏
الله وحده يعلم‏..‏
فحدود عقلنا هي عالم الخلق وحده‏..‏ عالم المادة ومركباتها وموضوع بحثنا هو عالم الخلق وحده‏..‏ من الكيميا الي الفيزياء الي الفلك ومنتهي حدود عقولنا هي عالم الخلق لايتعداه‏..‏ من الجيولوجيا الي البيولوجيا الي كل العلوم المعروفة‏..‏ أما عالم الأمر‏..‏ عالم الكلمات الحاكمة‏..‏ فلا علم لنا به
وأهل الأدب هم الذين يلزمون حدودهم لايتجاوزونها
أما الفجرة من جباري هذا الزمان فقد حاولوا ان يبسطوا سلطانهم علي كل شيء‏..‏ علي أبداننا وعلي أرواحنا‏..‏ علي اقواتنا وعلي حرياتنا‏..‏ علي الدنيا وعلي الدينونة‏.‏
ولو تمكنت امريكا ان تصوغ العقول علي مرادها‏..‏ لفعلت‏..‏ وإنها لتحاول ان تفعل هذا من خلال إعلام مضلل وفضائيات كاذبة وفنون ومسرح وسينما وصحافة وأمم متحدة وبنك دولي وصندوق نقد وعسكرية متفوقة وجبروت سياسي‏.‏
ومن قبل ذلك حاول كارل ماركس اليهودي ان يعيد تشكيل عقول العالم علي وفاق منهجه الماركسي وفشل وفشلت وسائله‏..‏ وانتهت روسيا وشيوعيتها إلي الإفلاس والتسول‏.‏
وإسرائيل كانت بطول التاريخ تحلم بالسيادة وتريد أن تحكم وتسود بزعم أنها المختارة من الله رب العالمين وأنها جاءت لتحكم وتسود‏.‏
وما كانت سوي الخادم الذي يتسلق علي أكتاف الجبارين بطول التاريخ من ايام الهكسوس الي ايام الانجليز الي ايام التسلط الامريكي‏..‏ وهي الآن علي مرمي حجر من أغراضها‏..‏ ولكنها لن تحقق هذه الاغراض ابدا لان السيادة التي تطمح إليها سيادة شريرة وطموح الي نهب ما لا تملك وطمس مالا يجوز لها ان تطمسه من عقائد وأديان‏.‏
ولن تستطيع امريكا ولا إسرائيل ان تبلغ هذا المدي من التجبر لان الله هو الذي يحكم مقدرات هذه الدنيا وليس البشر‏..‏ وما يحكمها البشر إلا بالوكالة عنه وبإذنه والي المدي الذي يريد والي العلو الذي يسمح به وسيكون لإسرائيل العلو الذي يسمح به رب العالمين ثم يخسف بها الأرض‏.‏
‏.‏ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين‏(54‏ ـ الاعراف‏)‏
وقد قال ربنا إننا سندخل القدس وندمر كل ما عمرت إسرائيل فيها وكل ما أنشأت‏..‏ يقول القرآن لبني اسرائيل‏..‏ فاذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تدبيرا‏(‏ الإسراء ـ‏7)‏ وهذا هو الخسف النهائي بإسرائيل ودولتها
وهذا كلام خالق الكون والحاكم بأمره علي مقدرات الأرض والسماوات وليس بعد كلام الله كلام‏.‏
ولا نعلم كيف ولا متي يكون هذا اليوم
فالله وحده هو الذي يقيم كل الحكومات وهو الذي يسقطها‏,‏ وهو الرافع الخافض من الأزل بلا منازع‏.‏
ولكنه وعد‏..‏ ونحن ننتظر الوعد
وإسرائيل تنتظر الوعد ايضا‏.‏
والباقي علامات استفهام‏..‏ وغربة‏..‏ يعيشها كل الناس برغم كل العلوم التي أحطنا بها وبرغم كل المعارف التي تتوزعها المكتبات وبرغم الأقمار الصناعية والتليفزيون والإنترنت والكمبيوتر‏..‏ فكلها تعطينا صورة تقريبية للقرية الجغرافية التي نسكنها والخضم الكوني الذي نسبح فيه‏..‏ ومن وراء ذلك مجهولات‏..‏ ومن قبل تاريخنا مجهولات‏..‏ ومن بعد موتنا مجهولات‏..‏ ومقدار وعينا هو مجرد ذرة صغيرة في بحر أسرار‏..‏ ولو أدركنا هذا الصغر لما تقاتلنا علي شيء ولمددنا الأيدي بالمعونة لكل محتاج فنحن أحوج منه والي كل طالب علم فنحن اجهل منه ولسجدنا نطلب العلم من العليم والكرم من الكريم والقدرة من القادر ولتغير التاريخ
ولكن هذا لن يحدث‏..‏ ولن يتغير التاريخ‏..‏ ولن تضيء هذه الاستنارة إلا عقولا أقل القليل ممن لا حكم لهم ولا نفوذ علي شيء‏..‏ وستمضي الأغلبية في ضلالها وتسلطها والأقلية في غربتها وقلة حيلتها‏..‏ وقد ضرب علي العقول الحجاب لايرفع عنها إلا ساعة الموت حين لاينفع ندم ولاتجدي معرفة وما أسعد العالم الذي نفعه علمه ساعتها‏..‏
إدعوا ربكم أن تكونوا ذلك العالم الذي عرف قبل فوات الأوان‏.‏