الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقلات : الأغلبية والأقلية بقلم دكتور مصطفى محمود


الأغلبية والأقلية
   
بقلم د مصطفى محمود

لمعاناة هي سلم الوصول إلي رحمة الله‏..‏ والدعاء هو المفتاح إلي باب القبول‏..‏ وقد أكرمني الله أن أصعد هذا الدرج الشاق عدة مرات في حياتي فتداول علي جسمي الجراحون في الكثير من الجراحات حتي كاد لايخلو جسمي العليل من طعنة مشرط‏..‏ وكانت آخر هذه العمليات وهي العملية السادسة والعشرون في مستشفي دارالفؤاد وعلي يد الجراح القدير ذي الأنامل البصيرة الدكتور أسامة سليمان‏..‏
 والمستشفي عالي التجهيز جميل البنيان لا يقل عن أمثاله في أوروبا وأمريكا‏.‏
وقد سمعت من الدكتور محمد عبد الوهاب صاحب ومدير هذا المستشفي عن الحرب المعلنه علي هذا المستشفي وأن قرارا صدر بمنع استدعاء أي طبيب أمريكي أو جراح فرنسي أو أي اسم مشهور في أوروبا للمعاونة في جراحات هذا المستشفي والقرار صدر من وزير الصحة ومن نقيب الأطباء بمظنة أنه حماية لأطبائنا المصريين‏..‏وتساءلت‏..‏ ما وجه الحماية‏..‏ والسفر إلي هذه البلاد الأجنبية سوف يستنزف الملايين من عملتنا الصعبة من خزينتنا المثقلة نفسها ومن جيوب المئات الذين كانوا يحلمون بالسفر‏..‏ وكل هذا الفاقد كان من الممكن توفيره بعمل هذه الجراحات في مصر وبالعملة المصرية‏..‏ وسوف يستفيد اطباؤنا وجراحونا من هذا الباب المفتوح علي العالم بمعرفة كل جديد في علوم طبية متطورة بلا نهاية‏..‏ وقال المفسرون ان هذه القرارات لا يمكن أن تكون قرارات فردية تعسفية وإنما هي دائما نتيجة تشاور ونتيجة مجالس تعقد وأغلبية من الأصوات‏..‏ وأن هذا شأن الديمقراطية في كل مكان‏..‏ وقال البعض ان هذه الأغلبية قد تقع في قبضة أصحاب الأهواء وأصحاب المصالح وجماعات الضغط فلا يأتي من ورائها مصلحة بل مضرة‏..‏ وقال البعض إن خطأ الأغلبية أرحم من تحكم الأقلية وغلبة الفردية وأن هذه موضة هذا الزمان‏.‏
في دنيانا الفوز بالأغلبية يوصلك إلي الفوز بكل شئ فأحزاب الأغلبية هي التي تفوز بالمناصب وهي التي تمثل الشعب أكثر وهي التي تمثل وجهات النظر الأكثر عدلا والأكثر إنصافا‏..‏ وأن تكون مع الأغلبية معناها أن تكون مع الحق ومع أهل الصدارة‏..‏ هذا حال الدنيا‏..‏ أما في الآخرة فيعلمنا ربنا أن الأغلبية علي ضلال‏..‏ وأن الأكثرية في جهنم‏..‏ فأكثر الناس في القرآن لا يعلمون وأكثر الناس لا يفقهون وأكثر الناس لا يؤمنون وأكثر الناس لا يعقلون‏..‏ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل‏..‏ ويقول ربنا عن الأكثرية‏..‏ إن يتبعون إلا الظن‏..‏ فهم علي الباطل دائما وهم الأخسرون علي طول الخط‏..‏ ولن يدخل الجنة في آخر المطاف إلا الأقلية‏.‏
يقول ربنا عن هذه الفئة الناجية‏..‏ وقليل من عبادي الشكور‏..‏ ويقول عن المؤمنين‏..‏ وقليل ما هم‏..‏
وهذه هي القلة المرشحة للفوز بالجنة‏..‏ فلا اعتبار للأغلبية في الآخرة والكثرة لا قيمة لها‏..‏ فنحن أمام إنتقائية صارمة‏..‏ وغربال ضيق الخروق لن ينفذ منه إلا الصفوة وصفوة الصفوة‏..‏
ولن يجرؤ صوت أن يرتفع أمام هذه الانتقائية الربانية الصارمة‏..‏ حتي الملائكة‏..‏ لايتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا‏..‏ ولايشفعون إلا لمن ارتضي‏.‏
ولا شفاعة سوف تخرج أحدا من النار‏..‏ وما ترويه الأحاديث عن أن محمدا عليه الصلاة والسلام سوف يخرج من النار كل المسلمين بذنوبهم فلا يبقي في النار واحد قال لا إله الا الله ولو لمرة واحدة في حياته‏..‏ هي أحاديث تخالف صحيح القرآن‏..‏ فالنبي في القرآن يشكو أمته ولا يتوسط لمذنبيها فيقول لربه‏..‏ يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا‏..‏ وهي شكوي صريحة‏..‏ وكلام مناقض لأي شفاعة‏.‏
ولن ينجو من المذنبين إلا من تكرم عليه رب العزة وفتح له بابا للتوبه قبل الممات‏.‏
الملائكة في طوافهم حول العرش‏..‏ يسبحون لربهم ويستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم قائلين‏..‏ ربنا وقهم السيئات‏..‏ ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم‏.‏
إذن الوسيلة الوحيدة للنجاة من العقاب هي أن يقي ربنا عباده من الوقوع في السيئات أصلا‏..‏ أو يفتح لهم باب التوبه في حياتهم إذا تورطوا فيها‏.‏
وهذه هي أبواب الشفاعة الممكنة‏..‏ وهي دعاء النبي لمسلمي هذه الأمه بأن يختم حياتهم بتوبه
أما الشفاعة بمعني هدم الناموس وإخراج المذنبين من النار وإدخالهم الجنة‏..‏ فهي فوضي الوسايط التي نعرفها في الدنيا‏..‏ ولا وجود لها في الآخره‏..‏ وكل ما جاء بهذا المعني في الأحاديث النبوية مشكوك في سنده ومصدره لأنه يخالف صريح القرآن‏.‏
يقول ربنا عن المجرمين
وما هم بخارجين من النار
وهذا هو القرآن‏..‏ ولا يعقل من نبي القرآن أن يطالب بهدم القرآن
ولكن المسلمين الذين عرفوا بالاتكالية قد باتوا يفعلون كل منكر ويرتكبون عظائم الذنوب اتكالا علي نبيهم الذي سوف يخرجهم في حفنه واحدة من النار ويلقي بهم في الجنة بفضله وكرمه‏..‏ وهم الذي شكاهم إلي ربه في صريح قرآنه وجأر بشكواه قائلا
يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا
والقرآن يقول‏..‏ ولله الشفاعة جميعا‏..‏ وهو بذلك يجمع سلطة الشفاعة جمعية واحدة ويجعلها لله وحده‏..‏ ويقول ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏(3‏ ـ يونس‏)‏
والسبب طبيعي‏..‏ فهو وحده الذي يعلم استحقاقات كل فرد‏..‏ وماذا فعل في دنياه من خير وشر‏..‏ وما هي أعذاره إن كانت له أعذار‏..‏ وهو الوحيد الذي يعلم قلبه وضميره ويعلم سره ويعلم ما هو أخفي من ذلك السر‏.‏
فماذا سوف تضيف هذه الشفاعة لعلم الله؟؟‏!!‏
أتنبئونه بما لا يعلم في السموات والأرض؟؟
ومن ذا الذي يجرؤ أن يعدل حكما حكم به رب العالمين
والقرآن يقول في آية شديدة القطع والوضوح
له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا‏(26‏ ـ الكهف‏)‏
القرآن يقول في قطعية واضحة‏..‏ أن الله لا يشرك في حكمه أحدا‏..‏ ويقول في قرآنه
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع‏(51‏ ـ الانعام‏)‏
ثم يتكرر نفس المعني في آية أخري في سورة السجدة الآية
الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون فأضاف في هذه الآية حرف من‏..‏ مالكم من دونه من ولي ولا شفيع وهو نفي قطعي لأي نوع من ولي أو شفيع

هذه الآيات المحكمات في نفي الشفاعة تجعلنا نعيد النظر بتفهم لأي آية تتكلم عن الشفاعة ونفهمها في حدود المتشابة فلا ننساق وراء هذه الأحاديث الموضوعة التي تملأ كتب السيرة وتدعي بأن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يخرج من النار كل من قال لا إله الا الله‏(‏ وما أسهل أن نقول وما أهون أن ننطق بالكلام ونحن أكثر الأمم كلاما وأقلها التزاما‏)‏
ويوم القيامة يوم عظيم ويوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم يجعل الولدان شيبا‏..‏ ولا يمكن أن يكون محلا لهذا التبسيط ولهذه الخفة في الفهم
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خله ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون‏(‏ البقرة ـ‏254)‏
وللأسف الشديد نحن نقرأ كتب السيرة بتسليم مطلق وكأنها قرآن منزل‏..‏ ومحفوظ‏..‏ والله لم يقل لنا أنه تولي حفظ هذه الكتب‏..‏ وهو لم يحفظ الا القرآن‏..‏ وكل ما عدا القرآن من كتب يجب أن تخضع للنقد مهما عظم شأن أصحابها‏..‏ والإسرائيليات تملأ كتب السيرة وقد دسوا علينا أن الرسول سحر وأن جبريل استخرج له لفافة السحر من البئر‏..‏ وهو كذب صراح بشهادة القرآن نفسه‏..‏ بما روي علي لسان الكفار اتهاما للنبي عليه الصلاة والسلام
إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا‏(47‏ ـ الإسراء‏)‏
فالقرآن ينسب أمثال هذا الاتهام للظالمين من الكفار الذين يريدون تشويه صورة النبي بما لا يليق وبما ليس فيه‏..‏ والآية تكذيب ضمني لهذه الحكايات التي ذكرها كتاب السيرة والتي روت أن النبي عليه الصلاة والسلام بفعل هذا السحر كان يأتي بأفعال ولا يدرك بأنه فعلها ويأتي بأقوال ولا يدري بأنه قالها‏..‏ حتي أخرج له جبريل السحر وتم شفاؤه‏..‏ وهو كلام خطير يطعن في دور النبي عليه الصلاة والسلام كمبلغ عن الله وكرسول
والقرآن صريح في التأكيد علي عصمة النبي عليه الصلاة والسلام
والله يعصمك من الناس‏(67‏ ـ المائدة‏)‏ فهذه المرويات كلها أكاذيب
وليس غريبا أن تمتليء هذه الكتب بالمدسوس من أحاديث الشفاعة فنقرأ في أحدها أن النبي عليه الصلاة والسلام يدخل بشفاعته إلي الجنة رجلا لم يفعل في حياته خيرا قط‏..‏ ويكون هذا الرجل هو آخر الداخلين إلي الجنة
وما الهدف من أمثال هذه الأحاديث المدسوسة سوي إفساد الدين والتحريض علي التسيب والانحلال وفتح باب الجنة سبهلله للكل‏..‏ لأن الشفيع سجد عند قدم العرش وقال متوسلا‏..‏ لا أبرح حتي تدخل كل أمتي الجنة يارب
ومرويات كثيرة رواها أصحابها بلا عدد وبلا حصر وأحيانا بحسن نيه ظنا منهم أنهم يزيدون بها في تمجيد النبي ويرفعون مقامة عند ربه‏..‏ وينسون أنهم بكلامهم يفسدون جلال المشهد ويهدمون جدية اللحظة التي تشيب لها الولدان وتزيغ فيها الأبصار وتنعقد الألسن وتتزلزل الأقدام وتذهل كل مرضعة عما أرضعت
هذه اللحظة الهائلة التي يحشد فيها القرآن كل ألوان الأهوال
اذا الشمس كورت واذا النجوم انكدرت واذا الجبال سيرت واذا العشار عطلت واذا الوحوش حشرت واذا البحار سجرت واذا النفوس زوجت واذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت واذا الصحف نشرت واذا السماء كشطت واذا الجحيم سعرت‏(‏ التكوير ـ‏1‏ ـ‏12)‏
هل هذه لحظه يساوم فيها النبي ربه لإخراج رجل من النار وإدخاله الجنة وهو لم يفعل خيرا قط في حياته
إن لم يكن هذا هو الهزل‏..‏ فماذا يكون‏..‏
وحاشا لله‏..‏ ما كان لرسولنا العظيم أن يفعل هذا‏..‏ إن هي إلا تخرصات وأكاذيب‏..‏ وأقوال مدسوسة‏..‏ ولو إستطاعوا أن يجعلوا منه ابنا لله لفعلوا
إن للإسلام أعداء ولدوا مع ميلاده وكبروا معه ولبسوا ملابسه وصاحبوه بالسوء وحاصروه بالفتن وحفوه بالعداوات وحاولوا تشويهه بالمفتريات‏..‏ ورأيناهم في زماننا يلبسونه لبسة الإرهاب ولن يكفوا عن الكيد له والمكر بأهله‏..‏ إلي قيام الساعة
ولكن القرآن وقف لهم بالمرصاد‏..‏
وحسن فهم القرآن وسلامة تفسيره كان التأمين الحقيقي والضمان الوحيد لسلامة الدين نفسه
اقرؤوا السيرة من خلال القرآن تفهموا السيرة أحسن‏..‏ وتفهموا الدين أحسن ولا تستخفكم الروايات والأحاديث التي تدخلكم الجنة بغير حساب لمجرد انكم تلفظتم بكلمة التوحيد‏..‏ فالتوحيد ليس مجرد كلمة وإنما حقيقة تملأ القلب ويترجمها العمل ويؤكدها السعي في الأرض وفي مصالح الناس وتعبر عنها حركة الحياة بأسرها
وأن ليس للإنسان إلا ما سعي وأن سعيه سوف يري ثم يجزاه الجزاء الأوفي وأن إلي ربك المنتهي‏(‏ النجم‏39‏ ـ‏40‏ ـ‏41)‏
ليس للإنسان إلا ما سعي‏..‏ والسعي هنا يتضمن كل حركة الإنسان ومجموع عمله ونشاطه وثمرات فكره ومجموع خيره وشره ونفعه وضرره إلي وقفة المنتهي أمام ربه حينما تحين الساعة‏..‏ أما الكلام مجرد الكلام فلا يقدم ولا يؤخر
أما قال وقلنا وقالوا فهي شقشقة ألسن ومجرد هراء لن يدخل أحدا جنة ولن ينجي أحدا من نار
تأملات طافت بي وأنا أتأهب للدخول إلي غرفة العمليات قد ألقي فيها ربي أو أفوز منه بجائزة الشفاء
سبحانه لا إله إلا هو ولا رجاء إلا فيه‏.‏