الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقالات : حول موضوع الشفاعة بقلم دكتور مصطفى محمود


حول موضوع الشفاعة
   
بقلم د مصطفى محمود

جاءتني ردود كثيرة علي موضوع الشفاعة في مقالي السابق اختار منها هذا الرد من الدكتور عبد العظيم المطعني من جامعة الأزهر‏.‏ يقول الدكتور الفاضل‏..‏ وردت في القرآن آيات تفيد نفي الشفاعة في الآخرة وآيات أخري تنص علي إثباتها ووردت أحاديث نبوية كثيرة تثبت الشفاعة ولا تنفيها‏..‏ وهذا الاختلاف الظاهري حمل بعض الفرق الاسلامية قديما كالمعتزلة وبعض المفسرين حديثا علي القول بنفي الشفاعة في الآخرة مطلقا‏..
‏ ويضيف بعض الباحثين أمورا يراها مؤيدة لجانب النفي علي الاثبات‏..‏ فيقول إن اثبات الشفاعة في الآخرة مخالف للقرآن وأنها لو حدثت لكانت نوعا من المحاباة والظلم والمحسوبية‏..‏ وهذه أمور نهي الله عنها في الدنيا فكيف يسمح بوقوعها في الآخرة حيث لا تجزي كل نفس الا بما عملت؟
والنظرة المتأملة تقول بغير ذلك‏,‏ فليست الشفاعة في الآخرة منفية نفيا مطلقا كما انها ليست واقعة وقوعا مطلقا‏..‏ وورود بعض العبارات بين النفي والاثبات في القرآن والحديث ظاهرة وواردة كثيرة الوقوع‏..‏ ولعلماء الأمة رضي الله عنهم مسالك عديدة في فهم هذا المنهج ومحامل يحملون عليها النصوص الشرعية التي بينها تعارض في الظاهر‏..‏ اما الأخذ بجانب واغفال الآخر فيوقع اصحابه في الخطأ ويفتح ابوابا للخلاف‏,‏ الاسلام بريء منها‏.‏
والآيات التي جاء فيها نفي الشفاعة في القرآن نوعان‏:‏
ماورد فيها نفي الشفاعة نفيا مطلقا وهي آية واحدة في قوله تعالي في سورة البقرة الآية‏..254..‏ أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون‏.‏
وما ورد فيه نفي الشفاعة نفيا مقيدا ومنه الآيات الآتية‏:‏
فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏(‏ المدثر‏48)‏
والآية الثانية‏....‏ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع‏(‏ غافر‏-18)‏
والنفي في الحالين هو نفي الشفاعة عن اهل الكفر والظلم‏(‏ فهو نفي مسبب‏)‏ وكذلك الشرك‏.‏
ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
اما النفي المطلق في الآية‏254‏ سورة البقرة فمعناه عدم امكان وقوع الشفاعة اصلا لأنه لا أحد مأذون فيها‏.‏
أما الآيات التي ورد فيها جواز الشفاعة في الآخرة‏:‏
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏..(‏ البقرة‏-255)‏
يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا‏(‏ طه‏-109)‏
وهي ايات لا تنفي الشفاعة اصلا وانما تربطها بالاذن للشافع والمشفوع فيه‏.‏
وليست الشفاعة محسوبية وانما هي تكريم للشافع ورحمة من الله للمشفوع فيه ممن يعلم الله انهم من اهل الرحمة ومن اهل التقوي‏.‏
وبهذا يقف الدكتور عبد العظيم المطعني موقفا معتدلا بين النفي مطلقا وبين الإباحة مطلقا بأن يجعل الشفاعة مشروطة وليست نهبا لكل من يطمع فيها‏..‏ كما انه يحول دون هذه الاتكالية التي يرتاح اليها كل مسلم فيتصور انه من اهل الجنة مهما فعل‏..‏ وكيف يدخل النار ومعه الشفيع الاعظم الذي لا ترد شفاعته‏..‏ وهي اتكالية اوردت بهذه الامة الي حتفها‏.‏
ولاشك ان ا لدكتور المطعني علي حق لسبب آخر مهم‏..‏ هو ان موضوع الشفاعة وتفاصيل ما سيجري فيها والآخرة وأسرارها وحسابها‏..‏ هي أمور غيبية لا يستطيع احد ان يقطع بما سيحدث فيها‏.‏
والقطع في هذه المسائل مستحيل والتعصب فيها الي جانب دون الآخر هو تطاول بغير علم خاصة اذا جاء القرآن بنفي الشفاعة في بعض اياته وجاء بجوازها في آيات اخري‏.‏
والمرجع الوحيد للحق هو الله وحده في الحالين‏..‏ ولا احد يعلم بمشيئته‏..‏ كما انه لا سلطان لاحد علي هذه المشيئة بحال‏.‏
والحكمة القرآنية في هذا التعتيم في قضية الشفاعة‏..‏ ان الله اراد لنا ان نعيش علي حذر عظيم وعلي خوف عظيم طول الوقت من هذا اليوم وان يخلق فينا برحمته مشاعر التقوي التي هي درعنا الوحيد التي ستحفظنا من التردي‏.‏
وانا ارتاح جدا لهذا الفهم للدكتور عبد العظيم المطعني وأري أنه يعد مدخلا مأمونا لهذه الخلافية الشائكة التي كثيرا ما فتحت الباب للفتن بين القدماء والمحدثين‏.‏
ويجول بذهني موضوع الآخرة والحساب والجنة والجحيم واهوال القيامة وانا اطالع في التليفزيون مشاهد الشتات والتهجير والتجويع والمطاردة لتسعمائة الف من مطاريد كوسوفا والامهات تبكي والاطفال كالتماثيل المشدوهة تحملق في الفراغ في رعب واتساءل‏:‏
أيخطر بذهن هذا الرجل المجنون ميلوسوفيتش فكرة الآخرة والحساب ام يظن في عمي التعصب انه سوف يكافأ علي طرده للمسلمين الكفرة وتطهيره للأرض من ارجاسهم‏!!‏ وانه سوف يؤجر علي عمله بالجنة‏.‏
ان الرجل مسيحي اورثوذكسي‏..‏ وقد فعل الكاثوليك في اسبانيا عند سقوط الحكم الاسلامي بالمسلمين أسوأ بكثير مما فعل‏..‏ فقد أحرقوا المسلمين أحياء وهذه هي اوروبا التي تتشدق بحقوق الانسان والتسامح الديني والعلم والحرية والفن والثقافة الرفيعة‏.‏
هل يعلمون ما فعل صلاح الدين الايوبي القائد المسلم بالملك الصليبي حينما سقط في يده أسيرا‏..‏ وكيف أحسن وفادته وعالجه واطلق سراحه؟
وهل يعلمون ما فعل القادة المسلمون بكسري يزدجرد بعد سقوط فارس؟‏..‏ لقد تزوج كبار القادة من بناته‏..‏ لم يأسروهن ولم يغتصبوهن‏.‏
وهل سمعوا او تسامعوا بوثيقة الأمان التي كتبها النبي لرهبان دير سانت كاترين والتي امنهم فيها علي حياتهم وعلي املاكهم وعلي حرياتهم وعلي اداء شعائرهم؟
وهؤلاء هم العرب المتوحشون والبدو الاجلاف كما يصفهم اهل اوروبا‏..‏ من هو الجلف الحقيقي بين هؤلاء؟
اني لا أري في أوروبا علما ولا حضارة‏..‏ بل أري قشرة براقة وظاهرا خلابا يخفي حقيقة خنزيرية ونزوات بهيمية ورغبات محمومة في السيادة والسيطرة‏..‏ انهم صناع الموت‏..‏
هم الذين صنعوا القنابل النووية والقنابل الجرثومية والغازات السامة واسلحة الدمار الشامل‏..‏ وهم الذين ابتدعو تشويه الطبيعة بالهندسة الوراثية وهم الذين لوثوا الهواء بالعوادم والانهار بالمبيدات‏.‏
انهم يتقنون صناعة الموت لأن شاغلهم الوحيد ان يسودوا ويغلبوا ويحكموا ويستغلوا ويستعبدوا‏,‏ وأول ما نزل المستعمرون منهم افريقيا كان همهم الأول خطف العبيد وترحيلهم في السلاسل‏15‏ مليون عبد رحلوهم في السلاسل وشحنوهم بالبحر الي امريكا وانجلترا‏.‏
وهؤلاء العبيد هم الذين بنوا امريكا وانجلترا‏..‏ وعاشوا وماتوا خدما باللقمة‏,‏ وهتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار ولينين وستالين وميلوسوفيتش وميلادتش وكارادتش‏(‏ سفاح البوسنة‏)‏ قبيلة الشياطين والمردة التي انطلقت كالرياح السموم تأكل في طريقها الأخضر واليابس‏..‏ هؤلاء طلائع حضارتهم‏..‏
وأعود فأطالع ثمار تلك الحضارة وحصادها‏..‏ ذلك الطراد المؤلم الذي يجري علي ارض كوسوفا ومئات الألوف‏..‏ تسعمائة ألف من النساء والأطفال والعجائز يهرولون امام موت زاحف‏..‏ ولا مجير‏..‏ ولا منقذ من قذائف المدافع التي تطاردهم كالمطر‏.‏
امريكا تضرب الصرب من الجو‏..‏ فيرد ميلوسوفتش الضرب مضاعفا علي اهالي كوسوفا علي الارض‏..‏ وليس في خطة امريكا انقاذ المسلمين وانما هدفها اعلان السيادة علي اوروبا بأي ثمن ولا احد يفوز بالسيادة سوي الموت والدمار وتجري حرب العماليق في الجو‏..‏ ويجري القتل عن بعد‏..‏ ويقتل الطيار اطفالا لا يعرفهم‏..‏ ويتوالد هذاالجنون كما يتوالد البعوض في المستنقع الآسن‏..‏ ليلد كل يوم جنونا أشد‏..‏ وتلقي امريكا كل يوم بأسراب جديدة من الطائرات في ساحة القتال‏.‏
وتدور الحلقة المفرغة‏..‏ وتأخذ الجميع السكرة‏..‏ ولا أحد يفكر في ان الموت يلاحقه‏..‏ ولا احد يفكر فيما بعد هذا الموت‏..‏ ولا احد يفكر في وقفة حساب‏.‏
ويؤمن المسيحي بأن المسيح قد افتدي الخطائين بدمه علي الصليب‏..‏ وانه الفادي لكل البؤساء في الارض‏..‏ ويؤمن المسلمون بأن الذي صلب لم يكن هو المسيح وانما شبه للموجودين انه هو‏..‏ هو‏..‏
‏[‏وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه‏]‏ سورة النساء‏157..‏ وذلك زيادة في التكريم
اما المادي والعلماني والمنكرون والملحدون من كل ملة وهم الاكثرية فلا يؤمنون بشيء ولا يرون ان وراء الدنيا شيئا ولا يخشون بعثا ولا حسابا ولا نشورا‏..‏ ومن يمت عندهم سوف يشبع موتا فليس وراءنا ولا امامنا الا دنيا واحدة نأخذها غلابا او تضيع علينا‏.‏
وتبقي المفاجأة الكبري حينما ينجلي كل هذا الضباب ساعة الحشرجة‏..‏ حينما تتجلي الحقيقة ويكتشف الميت انه لم يمت وانه سوف يواجه اعماله‏..‏ ولن تساوي امجاد الدنيا وانتصاراتها ساعتها شيئا‏..‏ وسوف يسيطر علي النفوس ساعتها رعب بلا حدود‏.‏
هل سيجد ميلوسوفتش ساعتها الشفيع الذي يشفع له؟‏!!!‏
لقد أراحوا انفسهم في اوروبا من هذه الاسئلة‏..‏ اما عندنا في مصر فالميزان والحساب مرسوم علي كل حجر ومنقوش في كل قلب من آلاف السنين‏..‏ وشاغل المصري طوال حياته كان وقفة الحساب‏..‏ هذا هو تراثنا القديم من قبل اليهودية والمسيحية والاسلام‏..‏ وبرديات كتاب الموتي في الاهرام هي بقايا صحف النبي ادريس‏.‏
نحن ارض النبوات والرسالات القديمة‏..‏ والدين عندنا هو حشوة حياتنا ولبها ولبابها‏..‏ ومن اجل هذا سبقت حضارة مصر كل الحضارات‏..‏ وسوف يحرسنا هذا الخوف المقدس الي يوم يقضي الله لهذه الدنيا بالفناء‏.