الرواية العجيبة
بقلم د مصطفى محمود
ماذا يحدث لو أننا أدرنا شريط الحوادث في السنوات الخمسين الأخيرة من تاريخ مصر وجلسنا نتفرج.. لاشك سوف نري عجبا.. ثورة عبدالناصر وطرد الملك فاروق.. ومواكب الشعارات.. الاشتراكية.. العدالة.. الحكم للشعب وبالشعب..
انتزاع أراضي الإقطاع من أصحابها والمصانع من ملاكها, وانتزاع وسائل الإنتاج من الأيدي المنتجة لتصبح ملكية دولة.. أصنام جديدة اسمها القطاع العام والتأميم والاشتراكية والتقدمية واليسار.. تفريغ كل الشعب في دوسيه واحد تحت يد الحاكم.. لتصبح لقمتهم في يده ورزقهم في يده وبالتالي حريتهم في يده.. وكعبة جديدة ومنارة جديدة اسمها الكرملين.. ومصدر إلهام.. اسمه.. الفكر الماركسي.
ندير الشريط بسرعة أكبر ونتفرج علي القطاع العام وما حدث فيه.. ساحة كبيرة من الروتين والكسل واللامبالاة, وفقدان الهمة وسوء الانتاج, والحل الاقتصادي يتحول بقدرة قادر الي عجز اقتصادي.. ندير الشريط بسرعة أكبر.. عودة سريعة الي الانفتاح وتصفية القطاع العام ومد الأيدي الي القطاع الخاص.. نفعل ذلك في بلادنا.. ويفعلون مثله في روسيا وفي رومانيا وفي المجر, وبولندة, ويوجوسلافيا, وفي كل مقاعل اليسار.. العالم يعود بخطوة واسعة من اليسار الي اليمين.. ولكن بعد خراب مالطة.. موت عبدالناصر بعد هزيمة عسكرية منكرة وانهيار اقتصادي.. موت ستالين.. وسقوط السفاحين العظام واحدا بعد الآخر.. تشاوشيسكو في رومانيا, وهونيكر في ألمانيا, ومنجستو في إثيوبيا, والشيوعي الآخر في بولند, والرفيق المجري في المجر.. لم تدخل الثورات الاشتراكية في بلد إلا وأتت معها بالسجون والمعتقلات وقطع الألسن والخراب الاقتصادي والحزب الواحد, والرأي الواحد, والتأميم والإفلاس.
مظاهرات اليسار في عهد ديجول أشرفت بالاقتصاد الفرنسي علي انهيار كامل.. واضرابات العمال في انجلترا هبطت بالاسترليني الي الحضيض.. والانقلابات الاشتراكية في أنجولا وموزمبيق وفي باقي إفريقيا وأمريكا اللاتينية صنعت المذابح وأشعلت الحروب, ونشرت البؤس والفقر حيثما حلت.
ندير الشريط بسرعة أكبر.. حرب العبور وانتصار73 وارتفاع العلم المصري علي سيناء وعودة الروح للمنطقة العربية.
الاشتراكية تتراجع في العالم كله.. وقد بلغنا نهاية المد الاشتراكي.. وبدأ الجزر الرهيب.. هزيمة الشيوعية في كل مواقعها.. وغروب الفكر الماركسي من العالم.
هل نذهب الي الكعبة في الكرملين.. لنري ماذا حدث للشارع في موسكو, وما حدث للناس وللسلوكيات العامة ولطموحات المواطن الروسي العادي.
الهزيمة في روسيا وصلت الي النخاع, والمواطن الروسي خلع الثوب السوفيتي وخلع الإيديولوجية السوفيتية, ولبس الثوب الأمريكي والتفكير الأمريكي, والطموحات الأمريكية.. الجينز والهامبورجر والمكدونالد والديسكو والعربات الفارهة والعنف والمافيا والمخدرات والقتل من أجل الدولار.. والنساء الروسيات خلعن لباس العمال الخشن ولبسن لباس الإثارة والسكس والرقص في الحانات لما بعد الفجر, ومصنع اللبان والمجاهرة بالشذوذ.. واحتراف الدعارة.. واليهود يقودون روسيا الي دمار كامل.
غزو ثقافي مدمر.. وركوع للقيم الأمريكية.. وعبادة للنمط الأمريكي.. وتسبيح للإله الأمريكي.. صاحب الجلالة الدولار.
ومثل هذا الغزو حدث بدرجات متفوتة في كل مكان من العالم.
وكانت السينما الأمريكية والأفلام الأمريكية والمسلسلات الأمريكية ورؤوس الأموال الأمريكية, هي رأس الحربة في هذا الاختراق, الذي وصل الي قلب باريس علي ظهر الديزني لاند الفرنسية, لدرجة أدت الي قلق الحكام الفرنسيين وأدت بالرئيس الفرنسي الي التصريح بضرورة فرض قيود علي دخول الفيلم الأمريكي خوفا علي القومية الفرنسية والهوية الفرنسية.. بل وعلي اللغة الفرنسية التي تدهورت علي لسان رجل الشارع وخالطتها الألفاظ الانجليزية والنطق الأمريكي والخناقة الأمريكي.
حالة من العامية الأمريكية والسوقية الأمريكية تنتشر ببطء في أوروبا..وتتسلل عبر الحواجز لتصل الي آسيا وتغزو الهند والفلبين وتايوان وإندونيسيا والدول النامية, وتصطدم بسور الصين العظيم فلا تستطيع اختراق القومية الصينية.. وفي الصين يحدث العكس.. يمد العملاق الصيني يده ليأخذ أغلي ما في أمريكا.. التكنولوجيا والكمبيوتر.. ويأخذ من حرية التجارة ومن اقتصاد السوق بقدر مصلحته.. ثم يرفض الباقي ويغلق علي نفسه الأبواب.. وتفعل اليابان الشيء نفسه ويتطور الاثنان الي عملاقين.. كل واحد محصن داخل قوميته يقف منتصبا في مواجهة أمريكا ليقول.. أنا هنا..
والصين هي العملاق القادم الذي سوف ينافس أمريكا علي القطبية.. وأمريكا تحسب لها من الآن ألف حساب.
أما إفريقيا الممزقة فلا وجود لها علي خريطة المنافسة.. واستراليا مجرد كوكب تابع لشمس الغرب.
أما شرقنا الأوسط السعيد, فكله ملفوف بالراية الأمريكية المتعددة النجوم.. تقوده بالقروض والمعونات وبعصا اسرائيل..
وقلاع العروبة والقومية والوحدة سقطت كالأشباح بهزيمة عبدالناصر.. والرمز الوحيد الباقي الذي يقاوم هذا الغزو الأمريكي الإسرائيلي المكتسح, هو الإسلام.. ولهذا تعلن أمريكا الحرب علي الاسلام في كل مكان ومعها قوي الغرب كله.
والإسلام بطبيعته غير قابل للأمركة وغير قابل للتهويد.. وهو خصم غير هين.
وكانت الحيلة الأولي للتغلب علي الإسلام هي تشويهه بإلصاق تهمة الإرهاب والإجرام بكل ما هو إسلامي, بدأ بمفجري المركز التجاري الأمريكي.. وانتهاء بإمداد هذا المسلسل الدموي بالجديد من الانفجارات كل يوم.
وانكشفت الحيلة حينما اتضح أن الشيخ عمر عبدالرحمن دخل أمريكا بالكارت الأخضر, وكان يتقاضي مرتبا شهريا من المخابرات الأمريكية.. وأن كل الارهابيين كانوا يتلقون التمويل من أرصدة بالخارج.. وان الارهاب كله مصنوع.. وعصاباته مستأجرة ومجندة.. وانه صناعة أجنبية صهيونية مائة في المائة.
وكانت الحيلة الثانية, هي الإلتفاف حول الإسلام ومحاولة اضعافه بإضعاف اللغة العربية التي هي وعاء الدين ووعاء القرآن, بحجة تطوير مناهج التعليم وإصلاح التعليم والنهوض بالتعليم.. وضعف اللغة العربية الذي أصبح واضحا بين شباب المذيعين.. وطغيان العامية في الشعر.. وسوقية الأغاني.. وضياع النطق العربي السليم.. كلها شواهد علي ذلك..
ولكن المعركة لم تحسم بعد.
وسوف تشهد السنوات القادمة هجوما مركزا علي الدين ذاته, وعلي التربية الدينية, وعلي الإعلام الديني, وعلي القيادات الدينية, وعلي اللغة العربية.. ورأينا طلائعها في إعادة طبع رواية أعشاب البحر للشيوعي حيدر حيدر بما فيها من سفاهة وتهجم علي الدين.
وسوف تلجأ الصهيونية وهي الخصم الجديد بعد سقوط الشيوعية الي وسائلها القديمة.. إشاعة الانحلال ونشر المخدرات والجريمة, والعنف والفيلم الهابط, والفن الداعر, والإعلام المخرب.. والإفساد عن طريق الانترنت وتهديد كل من يكتب في حرية بتهمة المعاداة للسامية والتشجيع علي الارهاب.
وسوف نري مزيدا من الكتب التي تعلي من شأن القيم الدنيوية وتكرس المادية وتروج للعلمانية, وتشكك في الدين وتهزأ بالغيب.. وسنري نماذج من الحفاوة بأمثال سلمان رشدي ونسرين تسليمة ونصر أبوزيد وحيدر حيدر.
والغزو الثقافي سوف يتضاعف بزيادة سينما أمريكية مهيمنة تبث قيمها الهابطة وتروج للجنس والعنف والانحلال.
والتطبيع سوف يحاول أن يحقن إسرائيل تحت الجلد, ويحقن المكر الإسرائيلي في الماء والهواء والغذاء الذي نأكله, وفي الاقتصاد الذي نزاوله, وفي التخطيط الذي نباشره, وفي العقلية التي نسوس بها أمورنا.. ومن حسن الحظ أنه مازال يتعثر في بلادنا.
وبيوت الخبرة الأمريكية التي دمرت شاطيء الاسكندرية بفتوي صرف مجاريها في البحر.. مثال حي قد يتكرر في كل مشروع وفي كل تخطيط مستقبلي اذا فتحنا الباب للأيدي الإسرائيلية لتعمل معنا وتفكر لنا.. بحكم التطبيع بلا تحفظ.. والثقة بلا حدود.
إن إسرائيل التي أخرجت لغتها العبرية البائدة من القبر, وتدثرت بها لتصنع لها هوية وقومية وإرثا تاريخيا من العدم, لن تكتفي بأقل من السيادة والهيمنة.. لأنها وجود مختلق مصطنع, لايمكن أن يستمر في الحياة, إلا اذا امتص الحياة من كل ما حوله.. والستة ملايين يهودي إما ان يذوبوا في الستين مليون مصري, وهذا مستحيل( لأنهم ضد الذوبان والانعدام), وإما أن يحاولوا تفكيك هذه الملايين الستين الي شظايا بالمكر والفتن.. وهو ما سوف يحاولونه.. ولا يوجد احتمال ثالث.. والذين يتصورون أن التطبيع فاتحة خير.. ينظرون بدون أعين ويفكرون بدون رؤوس.. والبعض من أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الأحلام في ثراء سريع ومشاريع مشتركة, هؤلاء الذين فرحوا بالتطبيع لا يرون إلا المصالح العاجلة تحت أقدامهم ولا يرون خطر الاحتواء الأمريكي الإسرائيلي علي المدي البعيد, ولا يشهدون الخراب الذي يخطط لبلدهم.
والسد الوحيد الذي يقف أمام هذا الطوفان الذي يدق علي الأبواب هو الروح الدينية في المنطقة العربية وفي مصر بالذات.
والدين في مصر هو الذي شيد معجزة الكرنك.. وهو الذي انتصر علي التتار وقهر الصليبيين, وهو الذي عبر القناة في حرب أكتوبر.. وهو وراء موقف التحدي الذي وقفته الألوف من المحجبات برغم المغريات المضادة وبرغم التليفزيون والسينما, وبرغم الموجة العلمانية التي مازالت تحاول أن تكتب علي الماء وتنقش علي الرمال.. والكل يشاهد مايجري في صلوات العيد وكيف تمتليء الميادين في مصر بملايين الراكعين الساجدين المسبحين.
الدين في مصر حقيقة راسخة.. إسلاما ونصرانية.. وكلاهما ضد إسرائيل.. ويخطيء الحاكم الذي ينسي هذه الحقيقة ويصدق كلام العلمانيين الذين ينصح بالمزيد من التطبيع والمزيد من التطويع والتركيع.
والذين يهرولون الي الحضن الإسرائيلي يهرولون الي حتوفهم.
ولا توجد مصالحة بين الوجود الإسرائيلي الذي جاء بالغزو والاغتصاب وبين الإسلام.. فكل منهما يرفض الآخر وبشدة.
والإسلام ضد القيم الدنيوية الانحلالية, وضد حياة الغواية والشهوات التي تروج لها الأفلام الأمريكية, والغزو الثقافي الغربي والمباديء التلموذية.
ومع ذلك فالإسلام أبعد الأديان عن التزمت والتشدد فباب التوبة والاستغفار مفتوح للخطائين طول العمر الي لحظة الحشرجة.. والقرآن يقول لهم إن الحسنات يذهبن السيئات.. وان التيسير في كل شيء هو الأصل والحلال في كل شيء هو الأصل.. وأن الحرج والتشدد مرفوعان عن المسلم.
والتوبة في الإسلام تمحو كل شيء حتي الكبائر.. حتي الشرك تجبه التوبة والإنابة.
والضرورات في الإسلام لها اعتبار والظروف لها اعتبار.. فأكل الميتة مباح للجائع اذا لم يجد أي وسيلة أخري لسد جوعه.
وهكذا فتح الإسلام الباب للعقول لتفكر وتجتهد دون تحجير ودون تشدد.. ولم ينصب المشانق والمحارق لأحد كما فعل البابوات لعلماء العصور الوسطي.
ولم يضيق الإسلام علي المرأة, بل وسع عليها.. والمرأة أيام الرسوم كانت أكثر حرية منها الآن.. وكانت تخرج للحرب, وكانت تعمل بالتمريض, وكانت تجلس للفقه وكانت تشتغل بالقضاء, وكانت شاعرة وأديبة.
والإسلام شمل بعدله وبره المسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي وامتدت مظلة رعايته لتحتضن الجميع.
والإسلام دين المستقبل ودين الديمقراطية والحرية والتعددية.. وأي مشروع حضاري لا يستلهم الإسلام وعطاءه لن ينجح في بلادنا ولن تمتد له جذور في شعبنا المصري.
وقد فشل مشروع البعث العراقي السوري, وفشل المشروع الاشتراكي الناصري, وفشلت الوحدة العربية التي استلهمت القومية العربية لأنها لم تستلهم عطاء الإسلام..
وسوف يتحطم حلم إسرائيل الكبري علي صخرة الإسلام.
ولن ينجح الغزو الثقافي في إدخال إسرائيل الي القلوب.. فماذا تصنع الكلمات والأغاني والأفلام.. في السر الذي وقر في الأرواح وملأ الأفئدة وأضاء ظلمات النفوس.
إنها لا أكثر من رسوم علي الماء ونقوش علي الرمال.
وهي لا أكثر من ضباب يتبدد عند شروق شمس الوعي وعند أول ترنيمة المنادي.. الله أكبر.
هل انتهي العرض..؟!
إنه يقترب بالفعل من نهايته
والمشهد الختامي كان إعلان المجلس العلمي الأمريكي عن اكتمال تدوين سفر الحياة المعروف باسم الجينوم البشري من3 مليارات حرف كيميائي تلخص مقدرات هذا الكائن اللغز.. الذي اسمه الإنسان.. مصداقا لقول الحق: إنا كل شيء خلقناه بقدر, وقد قالها كلينتون في خطابه.. لا ندري هل قالها عن فقه.. أم أنها كانت مجرد فصاحة زعماء..
فهذا السفر العجيب في حجم أجزاء من الملليمتر وباتساع خمسة ملايين صفحة يتحدي أن يكون له كاتب غير رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علما.
فمن كان يمكن أن يكتب هذا السفر من قديم من الأزل من ثلاثة مليارات حرف كيميائي, وقد خص كل حرف بوظيفة ودور وشأن في حياة هذا المخلوق.. وما سوف يصيبه من علل وأمراض وعجز وقدرة.. ومن رتب هذه الأسباب علي مسبباتها ووقتها بأوقاتها وظروفها ومناسباتها.. إلا أن يكون هو الله القادر السميع البصير العليم بكل شيء.
لقد بلغنا النهاية إذن ياسادة.. وهذه بصمة الخالق العظيم.. وهذا بيانه وبرهانه.. أذنت الرواية بانتهاء بإعلان المانفستو الإلهي( في لغتنا الجينوم البشري)
ولم يبق إلا القليل علي كلمة الختام
توبوا الي الله جميعا .... واركعوا له واسجدوا
فقد طلع فجر اليقين
ماذا يحدث لو أننا أدرنا شريط الحوادث في السنوات الخمسين الأخيرة من تاريخ مصر وجلسنا نتفرج.. لاشك سوف نري عجبا.. ثورة عبدالناصر وطرد الملك فاروق.. ومواكب الشعارات.. الاشتراكية.. العدالة.. الحكم للشعب وبالشعب..
انتزاع أراضي الإقطاع من أصحابها والمصانع من ملاكها, وانتزاع وسائل الإنتاج من الأيدي المنتجة لتصبح ملكية دولة.. أصنام جديدة اسمها القطاع العام والتأميم والاشتراكية والتقدمية واليسار.. تفريغ كل الشعب في دوسيه واحد تحت يد الحاكم.. لتصبح لقمتهم في يده ورزقهم في يده وبالتالي حريتهم في يده.. وكعبة جديدة ومنارة جديدة اسمها الكرملين.. ومصدر إلهام.. اسمه.. الفكر الماركسي.
ندير الشريط بسرعة أكبر ونتفرج علي القطاع العام وما حدث فيه.. ساحة كبيرة من الروتين والكسل واللامبالاة, وفقدان الهمة وسوء الانتاج, والحل الاقتصادي يتحول بقدرة قادر الي عجز اقتصادي.. ندير الشريط بسرعة أكبر.. عودة سريعة الي الانفتاح وتصفية القطاع العام ومد الأيدي الي القطاع الخاص.. نفعل ذلك في بلادنا.. ويفعلون مثله في روسيا وفي رومانيا وفي المجر, وبولندة, ويوجوسلافيا, وفي كل مقاعل اليسار.. العالم يعود بخطوة واسعة من اليسار الي اليمين.. ولكن بعد خراب مالطة.. موت عبدالناصر بعد هزيمة عسكرية منكرة وانهيار اقتصادي.. موت ستالين.. وسقوط السفاحين العظام واحدا بعد الآخر.. تشاوشيسكو في رومانيا, وهونيكر في ألمانيا, ومنجستو في إثيوبيا, والشيوعي الآخر في بولند, والرفيق المجري في المجر.. لم تدخل الثورات الاشتراكية في بلد إلا وأتت معها بالسجون والمعتقلات وقطع الألسن والخراب الاقتصادي والحزب الواحد, والرأي الواحد, والتأميم والإفلاس.
مظاهرات اليسار في عهد ديجول أشرفت بالاقتصاد الفرنسي علي انهيار كامل.. واضرابات العمال في انجلترا هبطت بالاسترليني الي الحضيض.. والانقلابات الاشتراكية في أنجولا وموزمبيق وفي باقي إفريقيا وأمريكا اللاتينية صنعت المذابح وأشعلت الحروب, ونشرت البؤس والفقر حيثما حلت.
ندير الشريط بسرعة أكبر.. حرب العبور وانتصار73 وارتفاع العلم المصري علي سيناء وعودة الروح للمنطقة العربية.
الاشتراكية تتراجع في العالم كله.. وقد بلغنا نهاية المد الاشتراكي.. وبدأ الجزر الرهيب.. هزيمة الشيوعية في كل مواقعها.. وغروب الفكر الماركسي من العالم.
هل نذهب الي الكعبة في الكرملين.. لنري ماذا حدث للشارع في موسكو, وما حدث للناس وللسلوكيات العامة ولطموحات المواطن الروسي العادي.
الهزيمة في روسيا وصلت الي النخاع, والمواطن الروسي خلع الثوب السوفيتي وخلع الإيديولوجية السوفيتية, ولبس الثوب الأمريكي والتفكير الأمريكي, والطموحات الأمريكية.. الجينز والهامبورجر والمكدونالد والديسكو والعربات الفارهة والعنف والمافيا والمخدرات والقتل من أجل الدولار.. والنساء الروسيات خلعن لباس العمال الخشن ولبسن لباس الإثارة والسكس والرقص في الحانات لما بعد الفجر, ومصنع اللبان والمجاهرة بالشذوذ.. واحتراف الدعارة.. واليهود يقودون روسيا الي دمار كامل.
غزو ثقافي مدمر.. وركوع للقيم الأمريكية.. وعبادة للنمط الأمريكي.. وتسبيح للإله الأمريكي.. صاحب الجلالة الدولار.
ومثل هذا الغزو حدث بدرجات متفوتة في كل مكان من العالم.
وكانت السينما الأمريكية والأفلام الأمريكية والمسلسلات الأمريكية ورؤوس الأموال الأمريكية, هي رأس الحربة في هذا الاختراق, الذي وصل الي قلب باريس علي ظهر الديزني لاند الفرنسية, لدرجة أدت الي قلق الحكام الفرنسيين وأدت بالرئيس الفرنسي الي التصريح بضرورة فرض قيود علي دخول الفيلم الأمريكي خوفا علي القومية الفرنسية والهوية الفرنسية.. بل وعلي اللغة الفرنسية التي تدهورت علي لسان رجل الشارع وخالطتها الألفاظ الانجليزية والنطق الأمريكي والخناقة الأمريكي.
حالة من العامية الأمريكية والسوقية الأمريكية تنتشر ببطء في أوروبا..وتتسلل عبر الحواجز لتصل الي آسيا وتغزو الهند والفلبين وتايوان وإندونيسيا والدول النامية, وتصطدم بسور الصين العظيم فلا تستطيع اختراق القومية الصينية.. وفي الصين يحدث العكس.. يمد العملاق الصيني يده ليأخذ أغلي ما في أمريكا.. التكنولوجيا والكمبيوتر.. ويأخذ من حرية التجارة ومن اقتصاد السوق بقدر مصلحته.. ثم يرفض الباقي ويغلق علي نفسه الأبواب.. وتفعل اليابان الشيء نفسه ويتطور الاثنان الي عملاقين.. كل واحد محصن داخل قوميته يقف منتصبا في مواجهة أمريكا ليقول.. أنا هنا..
والصين هي العملاق القادم الذي سوف ينافس أمريكا علي القطبية.. وأمريكا تحسب لها من الآن ألف حساب.
أما إفريقيا الممزقة فلا وجود لها علي خريطة المنافسة.. واستراليا مجرد كوكب تابع لشمس الغرب.
أما شرقنا الأوسط السعيد, فكله ملفوف بالراية الأمريكية المتعددة النجوم.. تقوده بالقروض والمعونات وبعصا اسرائيل..
وقلاع العروبة والقومية والوحدة سقطت كالأشباح بهزيمة عبدالناصر.. والرمز الوحيد الباقي الذي يقاوم هذا الغزو الأمريكي الإسرائيلي المكتسح, هو الإسلام.. ولهذا تعلن أمريكا الحرب علي الاسلام في كل مكان ومعها قوي الغرب كله.
والإسلام بطبيعته غير قابل للأمركة وغير قابل للتهويد.. وهو خصم غير هين.
وكانت الحيلة الأولي للتغلب علي الإسلام هي تشويهه بإلصاق تهمة الإرهاب والإجرام بكل ما هو إسلامي, بدأ بمفجري المركز التجاري الأمريكي.. وانتهاء بإمداد هذا المسلسل الدموي بالجديد من الانفجارات كل يوم.
وانكشفت الحيلة حينما اتضح أن الشيخ عمر عبدالرحمن دخل أمريكا بالكارت الأخضر, وكان يتقاضي مرتبا شهريا من المخابرات الأمريكية.. وأن كل الارهابيين كانوا يتلقون التمويل من أرصدة بالخارج.. وان الارهاب كله مصنوع.. وعصاباته مستأجرة ومجندة.. وانه صناعة أجنبية صهيونية مائة في المائة.
وكانت الحيلة الثانية, هي الإلتفاف حول الإسلام ومحاولة اضعافه بإضعاف اللغة العربية التي هي وعاء الدين ووعاء القرآن, بحجة تطوير مناهج التعليم وإصلاح التعليم والنهوض بالتعليم.. وضعف اللغة العربية الذي أصبح واضحا بين شباب المذيعين.. وطغيان العامية في الشعر.. وسوقية الأغاني.. وضياع النطق العربي السليم.. كلها شواهد علي ذلك..
ولكن المعركة لم تحسم بعد.
وسوف تشهد السنوات القادمة هجوما مركزا علي الدين ذاته, وعلي التربية الدينية, وعلي الإعلام الديني, وعلي القيادات الدينية, وعلي اللغة العربية.. ورأينا طلائعها في إعادة طبع رواية أعشاب البحر للشيوعي حيدر حيدر بما فيها من سفاهة وتهجم علي الدين.
وسوف تلجأ الصهيونية وهي الخصم الجديد بعد سقوط الشيوعية الي وسائلها القديمة.. إشاعة الانحلال ونشر المخدرات والجريمة, والعنف والفيلم الهابط, والفن الداعر, والإعلام المخرب.. والإفساد عن طريق الانترنت وتهديد كل من يكتب في حرية بتهمة المعاداة للسامية والتشجيع علي الارهاب.
وسوف نري مزيدا من الكتب التي تعلي من شأن القيم الدنيوية وتكرس المادية وتروج للعلمانية, وتشكك في الدين وتهزأ بالغيب.. وسنري نماذج من الحفاوة بأمثال سلمان رشدي ونسرين تسليمة ونصر أبوزيد وحيدر حيدر.
والغزو الثقافي سوف يتضاعف بزيادة سينما أمريكية مهيمنة تبث قيمها الهابطة وتروج للجنس والعنف والانحلال.
والتطبيع سوف يحاول أن يحقن إسرائيل تحت الجلد, ويحقن المكر الإسرائيلي في الماء والهواء والغذاء الذي نأكله, وفي الاقتصاد الذي نزاوله, وفي التخطيط الذي نباشره, وفي العقلية التي نسوس بها أمورنا.. ومن حسن الحظ أنه مازال يتعثر في بلادنا.
وبيوت الخبرة الأمريكية التي دمرت شاطيء الاسكندرية بفتوي صرف مجاريها في البحر.. مثال حي قد يتكرر في كل مشروع وفي كل تخطيط مستقبلي اذا فتحنا الباب للأيدي الإسرائيلية لتعمل معنا وتفكر لنا.. بحكم التطبيع بلا تحفظ.. والثقة بلا حدود.
إن إسرائيل التي أخرجت لغتها العبرية البائدة من القبر, وتدثرت بها لتصنع لها هوية وقومية وإرثا تاريخيا من العدم, لن تكتفي بأقل من السيادة والهيمنة.. لأنها وجود مختلق مصطنع, لايمكن أن يستمر في الحياة, إلا اذا امتص الحياة من كل ما حوله.. والستة ملايين يهودي إما ان يذوبوا في الستين مليون مصري, وهذا مستحيل( لأنهم ضد الذوبان والانعدام), وإما أن يحاولوا تفكيك هذه الملايين الستين الي شظايا بالمكر والفتن.. وهو ما سوف يحاولونه.. ولا يوجد احتمال ثالث.. والذين يتصورون أن التطبيع فاتحة خير.. ينظرون بدون أعين ويفكرون بدون رؤوس.. والبعض من أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب الأحلام في ثراء سريع ومشاريع مشتركة, هؤلاء الذين فرحوا بالتطبيع لا يرون إلا المصالح العاجلة تحت أقدامهم ولا يرون خطر الاحتواء الأمريكي الإسرائيلي علي المدي البعيد, ولا يشهدون الخراب الذي يخطط لبلدهم.
والسد الوحيد الذي يقف أمام هذا الطوفان الذي يدق علي الأبواب هو الروح الدينية في المنطقة العربية وفي مصر بالذات.
والدين في مصر هو الذي شيد معجزة الكرنك.. وهو الذي انتصر علي التتار وقهر الصليبيين, وهو الذي عبر القناة في حرب أكتوبر.. وهو وراء موقف التحدي الذي وقفته الألوف من المحجبات برغم المغريات المضادة وبرغم التليفزيون والسينما, وبرغم الموجة العلمانية التي مازالت تحاول أن تكتب علي الماء وتنقش علي الرمال.. والكل يشاهد مايجري في صلوات العيد وكيف تمتليء الميادين في مصر بملايين الراكعين الساجدين المسبحين.
الدين في مصر حقيقة راسخة.. إسلاما ونصرانية.. وكلاهما ضد إسرائيل.. ويخطيء الحاكم الذي ينسي هذه الحقيقة ويصدق كلام العلمانيين الذين ينصح بالمزيد من التطبيع والمزيد من التطويع والتركيع.
والذين يهرولون الي الحضن الإسرائيلي يهرولون الي حتوفهم.
ولا توجد مصالحة بين الوجود الإسرائيلي الذي جاء بالغزو والاغتصاب وبين الإسلام.. فكل منهما يرفض الآخر وبشدة.
والإسلام ضد القيم الدنيوية الانحلالية, وضد حياة الغواية والشهوات التي تروج لها الأفلام الأمريكية, والغزو الثقافي الغربي والمباديء التلموذية.
ومع ذلك فالإسلام أبعد الأديان عن التزمت والتشدد فباب التوبة والاستغفار مفتوح للخطائين طول العمر الي لحظة الحشرجة.. والقرآن يقول لهم إن الحسنات يذهبن السيئات.. وان التيسير في كل شيء هو الأصل والحلال في كل شيء هو الأصل.. وأن الحرج والتشدد مرفوعان عن المسلم.
والتوبة في الإسلام تمحو كل شيء حتي الكبائر.. حتي الشرك تجبه التوبة والإنابة.
والضرورات في الإسلام لها اعتبار والظروف لها اعتبار.. فأكل الميتة مباح للجائع اذا لم يجد أي وسيلة أخري لسد جوعه.
وهكذا فتح الإسلام الباب للعقول لتفكر وتجتهد دون تحجير ودون تشدد.. ولم ينصب المشانق والمحارق لأحد كما فعل البابوات لعلماء العصور الوسطي.
ولم يضيق الإسلام علي المرأة, بل وسع عليها.. والمرأة أيام الرسوم كانت أكثر حرية منها الآن.. وكانت تخرج للحرب, وكانت تعمل بالتمريض, وكانت تجلس للفقه وكانت تشتغل بالقضاء, وكانت شاعرة وأديبة.
والإسلام شمل بعدله وبره المسلم والمسيحي واليهودي والمجوسي وامتدت مظلة رعايته لتحتضن الجميع.
والإسلام دين المستقبل ودين الديمقراطية والحرية والتعددية.. وأي مشروع حضاري لا يستلهم الإسلام وعطاءه لن ينجح في بلادنا ولن تمتد له جذور في شعبنا المصري.
وقد فشل مشروع البعث العراقي السوري, وفشل المشروع الاشتراكي الناصري, وفشلت الوحدة العربية التي استلهمت القومية العربية لأنها لم تستلهم عطاء الإسلام..
وسوف يتحطم حلم إسرائيل الكبري علي صخرة الإسلام.
ولن ينجح الغزو الثقافي في إدخال إسرائيل الي القلوب.. فماذا تصنع الكلمات والأغاني والأفلام.. في السر الذي وقر في الأرواح وملأ الأفئدة وأضاء ظلمات النفوس.
إنها لا أكثر من رسوم علي الماء ونقوش علي الرمال.
وهي لا أكثر من ضباب يتبدد عند شروق شمس الوعي وعند أول ترنيمة المنادي.. الله أكبر.
هل انتهي العرض..؟!
إنه يقترب بالفعل من نهايته
والمشهد الختامي كان إعلان المجلس العلمي الأمريكي عن اكتمال تدوين سفر الحياة المعروف باسم الجينوم البشري من3 مليارات حرف كيميائي تلخص مقدرات هذا الكائن اللغز.. الذي اسمه الإنسان.. مصداقا لقول الحق: إنا كل شيء خلقناه بقدر, وقد قالها كلينتون في خطابه.. لا ندري هل قالها عن فقه.. أم أنها كانت مجرد فصاحة زعماء..
فهذا السفر العجيب في حجم أجزاء من الملليمتر وباتساع خمسة ملايين صفحة يتحدي أن يكون له كاتب غير رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علما.
فمن كان يمكن أن يكتب هذا السفر من قديم من الأزل من ثلاثة مليارات حرف كيميائي, وقد خص كل حرف بوظيفة ودور وشأن في حياة هذا المخلوق.. وما سوف يصيبه من علل وأمراض وعجز وقدرة.. ومن رتب هذه الأسباب علي مسبباتها ووقتها بأوقاتها وظروفها ومناسباتها.. إلا أن يكون هو الله القادر السميع البصير العليم بكل شيء.
لقد بلغنا النهاية إذن ياسادة.. وهذه بصمة الخالق العظيم.. وهذا بيانه وبرهانه.. أذنت الرواية بانتهاء بإعلان المانفستو الإلهي( في لغتنا الجينوم البشري)
ولم يبق إلا القليل علي كلمة الختام
توبوا الي الله جميعا .... واركعوا له واسجدوا
فقد طلع فجر اليقين