الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقالات : وأشهدهم على أنفسهم بقلم دكتور مصطفى محمود


وأشهدهم على أنفسهم
   
بقلم د مصطفى محمود




مشكلة المسلمين أنهم لم يبلغوا القدوة التي يؤهلهم لها دينهم العظيم ولم يستطيعوا أن يقدموه للعالم في كماله وبساطته وإعجازه وأنهم اختلفوا إلا القليل ممن عصمهم الله‏..‏ وتفرقوا شيعا ومذاهب وانقسموا إلي سنة وشيعة ودروز وأباضية وزيود وإسماعيلية وإثنا عشرية وبهرة وإلي ملل ونحل بلا عدد‏..‏
فرأينا فيهم الصوفية الزهاد لابسي الخرق والمنعمين المترفين لابسي الديباج ورأينا المحجبات والمنتقبات والملثمات‏..‏ وخرج منهم من يقول بأن المرأة لا يجوز لها أن تبرح بيتها ولا أن تخرج لتعمل أولتتعلم وأن هذه هي السنة الصحيحة‏..‏ مع أن السيرة تؤكد أن المرأة خرجت في الغزوات واشتغلت بالتمريض‏..‏ وأنها كانت شاعرة‏..‏ وكانت فقيهة‏..‏ وأن النبي عليه الصلاة والسلام استمع إلي شعر الخنساء وأثني عليها وقال لها‏..‏ هيه يا خناس‏..‏ أي زيدينا‏.‏
واختلف المسلمون في قضية الشفاعة فقال البعض إن للنبي أن يخرج من النار من يشاء بشفاعته‏..‏ مع أن آيات القرآن الكريم قطعية الدلالة‏..‏ وتقول الآيات عن يوم القيامة‏:‏
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله‏(‏ أي لا تملك أي نفس لأي نفس شيئا بإطلاق ودون استثناء‏)..‏ ويقول ربنا لنبيه في القرآن الكريم‏..‏ قل لله الشفاعة جميعا‏..‏ والمعني أن جمعية الشفاعة لله وحده ولا شفاعة إلا بإذنه‏..‏ ولا أحد يعلم مسبقا أيأذن الله لهذا المذنب أم لا يأذن فالأمر لله وحده إليه يرجع الأمر كله لا محسوبيات ولا وساطات وإنما الأمر لله من قبل ومن بعد‏..‏ وهذا نص القرآن ورغم قطعية الآيات وإطلاقها اختلفوا وتعاركوا وتفرقوا شيعا مع أن قرآنهم واحدة‏.‏
وفي حد الزني قال القرآن بالجلد وقال بعضهم بالرجم مع أن القرآن لا توجد به آية رجم واحدة‏..‏ وأكثر من ذلك قال القرآن بشأن الجواري اللائي يزنين فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب‏(25‏ ـ النساء‏).‏
ومعني ذلك أن القتل ـ رجما ـ غير وارد إذ لايوجد نصف موت ولا نصف رجم‏..‏ والمعني الوحيد الممكن هو الجلد‏,‏ فهو الذي يمكن أن يكون له نصف‏..‏ وحينما ووجه الفقهاء بهذا المطب اختلقوا‏:‏ آية قرآنية لم تنزل في كتاب تقول‏:‏ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وأن هذه الآية رفعت وبقي حكمها‏..‏ وهو كلام مختلق فالقرآن كله لم تأت فيه كلمة ثقيلة مثل البتة وليس في الكلمة من روح القرآن شئ‏..‏ والاختلاق واضح والآية التي اختلقوها لا تتماشي مع سلاسة القرآن وجمال نظمه‏..‏ ولكنه داء التفرق والتشرذم والاختلاف وإثارة الفتن وزرع الفرقة بكل وسيلة‏.‏
وبذلك انفرطت الأمة وتحول الحديد إلي برادة والبناء العظيم إلي أطلال والدولة القوية الواحدة الشامخة إلي دويلات‏,‏ وكان ما نري الآن من تركيا العلمانية التي تذيع فضائياتها العملية الجنسية بالصوت والصورة‏..‏ والمملكة العربية السعودية السلفية السنية الملتزمة بحدود الله وشرعه‏..‏ ومصر الوسطية في خياراتها ومواقفها‏..‏ وماليزيا المنفتحة علي تيارات العولمة ونظام السوق إلي آخر المدي‏...‏ وباكستان النووية التي تناطح الهند بتطرفها المناهض للإسلام طول الوقت وإيران التي تمثل إسلام القوة والصمود والتحدي بين جميع الفرقاء‏..‏ والسودان التي تتأرجح بين سلفية الترابي وانفتاحية البشير تبحث لها عن موضع قدم مأمون في أرض الزلازل‏..‏ وإندونيسيا المذبوحة من حكامها ومن التآمر الغربي عليها وفي هذه الرقعة الشطرنجية الواسعة التي اختلفت فيها المواقف واختلفت الظروف السياسية بين دولة إسلامية وأخري واختلفت القوي الفاعلة بين مع وبين ضد استحال أن يكون هناك نمط واحد أو صيغة واحدة للإسلام في ظروف عالمية تتحالف فيها القوي الكبري لتحارب الإسلام بكل الوسائل المتاحة بدعوي أن الإسلام هو الإرهاب‏..‏ وكانت الدولة النموذج للإسلام في نظر أمريكا هي أفغانستان‏..‏ والرجل النموذج هو بن لادن الإرهابي المحترف‏.‏
ومن عجب أن أمريكا اتخذت من بن لادن حليفا لإخراج روسيا من أفغانستان في البداية وقامت بتسليحه ووضعت مخابراتها في خدمته ثم انقلبت عليه بعد أن حقق النصر وأخرج روسيا مهزومة مكسورة الجناح من كابول‏..‏ فقد اختلفت المصالح ساعتها‏,‏ فانقلبت أمريكا علي حليفها وأصبح القبض علي بن لادن والقضاء عليه هو غايتها ومطلبها‏..‏ والسياسة كالعادة لا خلاق لها‏..‏ وحليف الأمس يصبح بين طرفة عين وانتباهتها عدو اليوم‏..‏ لأن المصلحة الأمريكية الآن اقتضت هذا التحول‏,‏ وهناك الآن سياسة جديدة مطلوبة‏,‏ فهي الآن تعاون خصمها القديم روسيا وتمدها بالمال وبالسلاح في حربها للشعب الشيشاني المسلم‏..‏ فالشيوعية انتهت‏..‏ وتم القضاء عليها‏..‏ ولم يبق هناك عدو للعالم الجديد سوي الإسلام‏,‏ والكل يتكتل ليحارب الإسلام‏..‏ وهو موقف يروق كثيرا لإسرائيل‏..‏ كما يروق لأعداء الإسلام القدامي الرفاق الأوروبيين الذين أعلنوا الحرب الصليبية في الماضي‏.‏
لقد تحول الإسلام إلي هدف مشترك لإلقاء السهام وتوجيه الاتهام ظلما وبهتانا‏,‏ فهو معتدي عليه من الكل ومتهم من الدول الكبري صاحبة الشأن بأنه يحتضن الإرهاب‏..‏ كيف؟‏..‏ والإرهاب النووي الأعظم يملكه الأعداء وحدهم‏..‏ تملكه أمريكا وإسرائيل وفرنسا وانجلترا وروسيا والهند‏..‏ ولا توجد دولة إسلامية واحدة تملكه سوي باكستان وهي تابعة لمعسكر العولمة الذي تقوده أمريكا‏..‏ فمن الذي يملك وسائل الإبادة‏..‏؟ إنهم هم‏..‏ أمريكا وروسيا والغرب‏..‏ والإسلام لا يملك إلا كلمة‏..‏ لا إله إلا الله‏..‏ وإلا القرآن‏..‏ يتحدي به الكل‏.‏
وقد ظل القرآن طوال أربعة عشر قرنا من الزمان شامخا قاهرا معجزا يتحدي العقل ويتحدي الزمن ويتحدي العداوة التي أعلنها الغرب علي كل ما هو إسلامي منذ الحروب الصليبية إلي الآن‏..‏ وكأنه يقول‏..‏ أخرجوا ما عندكم‏..‏ هاتوا لنا الجديد في علمكم‏.‏
فلما أخرجوا الجينوم البشري من القمقم‏..‏ وبه معلومات مدونة بالحروف الكيميائية‏..2‏ مليار حرف كيميائي‏..‏ ومساحة من المعلومات تساوي خمسة ملايين صفحة في حيز صغير متناي في الصغر‏..‏ بضعة أجزاء من المللي‏..‏ تحتوي علي مقدرات هذا المخلوق الإنساني وأمراضه وصحته وضعفه وقوته ومواهبه وحظوظه وما سيجري عليه في مخطوطة شاملة لا تكاد تري إلا بميكروسكوب الكتروني‏..‏ هللوا ورقصوا فرحا وقالوا وقد امتلأوا ثقة وغرورا‏..‏ أمريكا‏..‏ أمريكا‏..‏
لقد وجدناها‏..‏ وجدناها‏..‏
ـ ماذا وجدتم؟‏!‏
ـ وجدنا الحجة التي نبحث عنها‏..‏ هذا هو العلم النهائي الذي ليس بعده علم‏..‏ وهذه هي الحجة التي سنلقمكم بها حجرا‏.‏
ـ نعم إنها حجة فعلا‏..‏ ولكنها ليست حجة لكم بل حجة عليكم‏..‏ فهذا الكتيب الذي عثرتم عليه في نواة الخلية شاملا لمقدرات الإنسان وباتساع خمسة ملايين صفحة وفي حيز معجز في صغره ودقته‏..‏ بضعة أجزاء من المللي‏..‏ من الذي كتبه‏..‏ ومن دونه‏..‏ ومن خط حروفه‏(‏ ليس إلا الله من يكتب مثل هذا الكتاب‏).‏
لقد شككتم في القرآن في الماضي وقلتم أخذه نبيكم محمد عمن راهب التقي به في أحد الأديرة‏..‏
فمن كتب الآن هذا الكتيب‏..‏ إذن‏..‏ الله وحده هو القادر علي كتابته ولا يقدر علي هذا النمط المعجز من الكتابة سواه‏.‏
والقرآن يجاوبكم بآيات سورة الأعراف ليشرح ما حدث
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم‏..‏ ألست بربكم‏..‏ قالوا بلي شهدنا‏..‏ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون‏..‏ وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون‏(174‏ ـ الأعراف‏).‏
القرآن يروي قصة الإخراج من الظهور‏..‏ قصة الجنين القادم من الحيوان المنوي والبويضة‏(‏ من قنوات الخصية‏..‏ وخلايا المبيض‏)‏ والأصل الجنيني للخصية والمبيض هي خلايا جاءت من ظهر الجنين‏.‏
وأشهدهم علي أنفسهم‏..‏ إن الله يروي في قرآنه عملية الإشهاد‏..‏ هذا المانفستو الإلهي الذي اسمه الجينوم البشري‏..,‏ كيف أن كل مولود جاء ومعه قصته وحكايته من الأزل مكتوبة في خلاياه ومسطورة في جيناته‏.‏
وما حدث كان عملية إشهاد للعالم كله علي أصل الحكاية‏..‏ من كتبها؟‏!‏ ومن أودعها في هذه الحروف الكيماوية؟‏!..‏ التي اطلعتم عليها بهذه الصورة الجينية فيما أسميتموه بالجينوم البشري‏..‏ وهللتم له وكبرتم وتصايحتم‏.‏
فمن أطلعكم علي تلك الخفايا‏..‏ الله استدرجكم بعلومكم وأجهزتكم حتي كشف لكم المستور من أسرار صنعته‏.‏
ومن عجب أن الله يتبع هذه الآية من سورة الأعراف بالآية‏175‏ والآية‏176‏ والآية‏177‏ وفيها يقول‏:‏
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏,‏ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏,‏ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‏,‏ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون‏,‏ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون
إن الله قد علم أن علماء الغرب لن يرتدعوا بهذا الإشهاد المعجز‏..‏ وأنهم سيركبهم الشيطان الغرور وسيمضون في غيهم وكفرهم وإعجابهم بأنفسهم‏..‏ ووصفهم ربنا بأنهم أشبه بكلاب هذا الزمان‏.‏
وأن مثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث‏..‏ فهذا طبعه الذي يلازمه‏..‏ كما اخترتم أنتم الكفر طبعا ولازمتموه ولازمكم لا تتفكون عنه‏,‏ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون‏,‏ وهو حكم مسبق بني علي علم إلهي مسبق بأن علماء هذا الزمان ماضون في غرورهم وفي إعجابهم بأنفسهم‏..‏ ولن يرتدعوا عن غيهم ولن يفيقوا من غرورهم‏..‏ فهم الذين اكتشفوا وهم الذين علموا‏..‏ وهم الذين اخترعوا‏..‏ وهم الذين أبدعوا‏..‏ وهم الوارثون الوحيدون للحقيقة‏.‏
وهم مثال قائم لكل من تأتيه الحجة فلا يرتدع‏..‏
وأهل الإصرار من جمع الملل وفي جميع الأزمنة يقعون تحت حكم هذه الآية‏,‏ فالكفر بالنسبة لهم أصبح في حكم الطبع‏.‏
والإشهاد بهذا المفهوم الجديد أوسع وأشمل وأوقع من التفسير الذي جاءت به كتب التفاسير القديمة‏..‏ فقد اشتركت الدنيا كلها في هذه المظاهرة الشهودية وكانت موضوع الساعة‏..‏ وموضوع التفاخر والاستعلاء بالنسبة لعلماء الغرب‏..‏ واتخذوا منه حجة علي موقفهم من الدين‏..‏ مع أنه حجة عليهم وليس حجة لهم‏..‏ فهذا كتاب لا يمكن أن يكتبه مخلوق‏..‏
ولا مفر ولا معدي ولا مهرب من القول بأن الذي كتب هو الذي خلق‏..‏ لأن الكتابة جاءت في صميم الخلقة وفي الحشوة المخلوقة ذاتها‏..‏ بالحروف الكيميائية لنفس المخلوق وهو عمل معجز لا يقدر عليه إلا الخالق‏.‏
ولا يستطيع العقل أن يقول بافتراض آخر‏..‏ إلا أن يكون معاندا قد ركب رأسه‏..‏ أو يكون كافرا غلبه طبعه كما الكلب الذي غلبه طبع اللهاث فراح يلهث راغما لا يستطيع أن ينفك عن لهاثه‏.‏
وهذا قرآننا
ما حكمتم عليه‏..‏ بل هو الذي حكم عليكم وكشف دخيلتكم
وما جاء إلا بالحق المبين
ولا يمتنع أن يكون الإشهاد قد حدث في القديم في عالم الذر كما تقول التفاسير القديمة وحدث علي زماننا وعلي أيامنا حينما اشهدنا الله علي صنعته وكشف لنا مستورها في حكاية الجينوم البشري‏.‏
والله يتجلي ببديع صنعته في جميع العصور وحيثما كانت هناك عيون تري وعقول تفكر فهو الظاهر والباطن علي الدوام‏.‏
ولن يتوقف عطاء القرآن علي مر الدهور‏.‏