الاثنين، 3 مارس 2014

قسم المقالات : جنازة الملك حسين بقلم دكتور مصطفى محمود

جنازة الملك حسين
   
بقلم د مصطفى محمود

جنازة الملك حسين شيعها أكثر من أربعين من الرؤساء والملوك والزعماء‏..‏ ولا شك أن الذين شاهدوها شعروا بالدهشة لرؤية أربعة من رؤساء أمريكا بين المشيعين في الصف الأول وتساءلوا عن السر الذي جمع الأحمر علي الأصفر علي الأبيض علي الأسود‏..‏ والأردن دولة صغيرة محدودة الموارد‏..‏
لكن تصادف وجودها عند ملتقي الأصدقاء والأعداء العرب وعلي خط النار من الوجود الإسرائيلي فكانت محضنا للمشاكل والتصادمات من كل جانب وملتقي للعداوات والصداقات‏..‏ وقد خرج الملك حسين من هذا المأزق بأن خص الذئب الإسرائيلي بخالص مودته وبكي علي مقتل رابين واحتضن أرملته في مشاركة إنسانية ودودة وجعل من نفسه قطب التفاهم ومعقد المصالحات بين الأطراف المتشابكة والعدو الإسرائيلي الذي حوله إلي صديق حميم‏.‏
وبهذه الخصوصية في التودد صنع جنازته وجمع مشيعيه الذين اختلفت ألوانهم وتضاربت مواقفهم‏..‏ من قبل أن يموت بزمن طويل‏..‏ فكل طرف أصبح يشعر بأن الملك حسين هو رجله وهو مندوبه المفوض للتعامل مع نزوات إسرائيل‏..‏ وإسرائيل أصبحت أكثر حرصا عليه‏..‏ ومن لم يأت إلي الجنازة من أجل الملك جاء من أجل عيون إسرائيل‏.‏
ولسان حال إسرائيل يقول لكل العرب‏:‏ من أراد لنفسه جنازة مثل هذه الجنازة المهيبة فليقدم إلي عربون حب كالذي قدمه المرحوم‏..‏ ومن يجئ إلي سوف أجئ له بالعالم فأنا إسرائيل جالبة الأمجاد لكل من يمجدني‏..‏ وقد مضي المرحوم شوطا بعيدا في تأييد جمال عبدالناصر وحارب معه حرب‏67‏ وخسر نصف مملكته ومضي شوطا أبعد في مؤازرة صدام حسين وخسر كل العرب‏..‏ وكان رجل التنازلات في كل تصادم‏..‏ ومن أجل هذا اجتمع حوله هذا الجمع المتنافر‏..‏ وقد خلف لوريثه تركة صعبة من العسير أن ينافسه فيها‏..‏ ونمطا من السياسة من الصعب أن يقلدها‏.‏
ولن يستطيع أي سياسي عربي أن يكون الملك حسين‏.‏ ولن يستطيع أي سياسي عربي أن يقدم لإسرائيل من المودة القلبية ما قدم الملك حسين‏.‏
وإسرائيل تكره كل ما هو عربي وتكره كل ما هو إسلامي وهي لا تضمر لنا إلا العداوة برغم كل ما بذل الملك حسين من خالص الود‏..‏ وعداواتها لنا تاريخية ومتأصلة وحقيقية‏..‏
وما صنعه الملك حسين غير قابل للتكرار‏.‏
وهذه الوجوه المتباينه والمتناقضة التي اجتمعت في جنازتة هي من طرائف التاريخ التي لا تحدث مرتين‏.‏
إن هذا اللاعب الرشيق الذي استطاع أن يلعب علي كل الحبال ويسقط ليقف من جديد في خفة ويتسلل إلي كل القلوب ويغازل الصديق ويناور العدو وينحني للعاصفة ويمني الطامع ويصانع صاحب المصلحة ويؤاخي صاحب السلطان‏..‏ ويعيش هذه الأحوال في بساطة ووداعة طبيعية وكأنها أحواله الشخصية فيقنع كل طرف بأنه يعني كل كلمة يقولها ويمضي الجميع وراءه حتي آخر الشوط وحتي آخر حرف في كتاب العمر‏.‏
وقد لا يوافق البعض علي لعبة تبديل الكراسي التي أتقنها الملك الراحل‏..‏ ولكن هل كان من الممكن أن يفعل شيئا آخر؟‏..‏ وهل كان من الممكن لبلد صغير مثل الأردن وهو الذي يعيش في مهب الأخطار محاصرا بالعداوات والأطماع من كل جانب أن يفعل شيئا آخر؟
من الواضح أنه لم تكن هناك خيارات أخري من البداية‏.‏
وكان رجلنا من الحكمة والتعقل والواقعية بحيث لم يطلب لنفسه أي زعامة دون كيشوتيه ولم يشطح به الخيال إلي بطولات وهمية واكتفي بالواقع يحاول أن يخرج منه بأفضل ما فيه‏.‏
وكانت حياة الرجل درسا لكل صنوف المغامرين الذين حفلت بهم خريطة الشرق الأوسط من حوله‏.‏
ومن ملف الملك حسين إلي ملف صدام حسين بون شاسع وفارق كبير بين عقل وجنون وبين حكمة وتهور وبين صفقة ومقامرة وبين تفاهم ومخاطرة‏.‏
وفي مقامرات صدام حسين قدم المقامر العراقي شعبه رهينة إلي اللاعب الأمريكي واللاعب البريطاني وقدم بلده فريسة للاذلال والاحتلال والتدمير في مقابل شعارات وهمية لا تعشش إلا في رأسه وبطولات زائفة يمليها علي صحفه وجرائده‏..‏ ولا أحد يستطيع أن يساءل صدام حسين فهو الأوحد والملهم والمفوض من العناية الالهية لانقاذ العالم من شرور الاستعمار‏..‏ ومن يعلن مخالفته للزعيم الملهم يقتل لفوره رميا بالرصاص‏,‏ وبهذه الوسيلة السريعة تخلص صدام حسين من جميع منافسيه وانفرد بالسلطان علي جميع مقدرات العراق‏..‏ ولا يعلم الا الله كيف ستكون نهايته أو نهاية العراق‏.‏
وتحرص امريكا علي حياة صدام وعلي استمراره لأنها تستثمر اخطاءه وتنتفع بجنونه كمبرر لتدخلها الاجرامي من وقت لأخر‏..‏ وتدمير العراق وتكسيحه وتبديد ثرواته هدف أمريكي صهيوني‏.‏
وبين عقلانية الملك حسين وجنون صدام نجد كل ألوان الطيف في سياسات المنطقة ونجد أمثال نيتانياهو في إسرائيل كنموذج وسط بين العقل والجنون‏..‏ وتحمي نيتانياهو أمريكا بكل ثقلها وتحميه المجموعة الصهيونية بأموالها وعلاقاتها وإعلامها‏..‏ والشرق الأوسط حقل ألغام بالنسبة لأي حاكم‏..‏ وأي قرار غير عاقل يمكن أن يفجر لغما ويمكن أن يؤدي إلي خسف أرضي يبتلع أبرياء لا دخل لهم بما يحدث‏.‏
ولو سئلت عن تصوري للمستقبل لاعترفت بعجزي عن الرؤية الواضحة‏,‏ فكل العوامل في حالة سيولة وغليان وفوران وتبدل دائم‏..‏ وأطماع الأطراف أكبر من إمكانية المصالحة‏..‏ والمواجهة حتمية ولابد أن نبني استراتيجيتنا علي هذا الاحتمال‏..‏
وبذهاب الملك حسين اختفي عنصر مؤثر من عناصر المصالحة وعلينا أن نعد أنفسنا للأخطر دائما‏,‏ وهذا قدر لحكامنا لا يحسدون عليه‏.‏
وليس صحيحا أن العالم الذي نعيش فيه عالم يحترم العدالة ويطبق القانون‏..‏ فمذابح كوسوفا وجرائم الصرب والمقابر التي تمتلئ بالجماجم في البوسنة ومطاردة الشعب الكردي في كل شبر أرض تشهد علي عجز المؤسسات القانونية التي تحكم هذا العالم‏..‏ وحلف الأطلنطي الذي لم يتخذ قرارا واحدا حاسما لعقاب القتلة وعجز الأمم المتحدة أمام الغارات الأمريكية البريطانية المتكررة علي شعب العراق الأعزل شهادة أخري بعقم هذه المؤسسات‏..‏ واليهود الذين يملأون الدنيا عويلا وبكاء علي الهولوكوست هم أنفسهم الذين أطلقوا الرصاص علي جنودنا العزل المقيدي الأيدي والأرجل في سيناء ودفنوهم أحياء‏.‏
إننا نعيش في عالم مجرم وظالم وأوروبا وأمريكا لها معايير مزدوجة في الحكم علي قتلانا وقتلاهم وهم يستبيحون دماءنا في قوانينهم ويملأون الدنيا صراخا إذا قتل لهم فرد واحد‏..‏ ويصابون بالبكم والصم والعمي إذا حصدت رشاشاتهم المئات منا‏.‏
إنهاغابة تقطر بالدم نابا ومخلبا ولا يسلم فيها الأمر إلا للأقوياء وعلينا أن نفهم هذا جيدا ولا تخدعنا الشعارات والمواثيق‏..‏ وعلينا أن نتعامل مع هذه الدنيا بقانونها‏..‏ وأن نكون أقوياء مسلحين مثلما هم أقوياء مسلحون مزودين بالعلم مثلما هم مزودون بالعلم‏,‏ جاهزين بحلفائنا مثل ما هم جاهزون بجمعهم‏..‏ فلا عذر للضعفاء ولا مكان للعجزة في هذه الغابة التي اسمها الدنيا والذين يسيرون فرادي سوف يأكلهم أول ذئب عابر‏.‏
ونحن وإيران في قارب واحد فالإسلام مستهدف والعدو واحد وهو الصهيونية بخيلها ورجلها والذي يفرق بيننا وبين إيران يهدم قوانا ويشتت عزمنا وعلينا أن نوثق روابطنا بالصين فالصراع سوف يأخذ أبعادا عالمية وعلينا أن نستقطب البعد الآسيوي‏..‏ وخطورة آسيا أنها أسواق وعمق اقتصادي لا تستطيع أمريكا أن تعيش بدونه‏.‏
ولا أحد يريد الحرب ولا أحد يخطط للحرب‏..‏ ولكن ماذا لو اقتحمت علينا الحرب أبوابنا؟‏!‏
وإشعال الحروب هو دأب اليهود بطول التاريخ‏.‏
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين
‏(‏المائدة ـ ‏64).‏
وهذا ليس كلامنا بل كلام الله الذي خلقهم‏.‏
ولأن الله فضح جرائمهم في قرآنه فانهم يحاربون هذا القرآن ويحاربون أهله وسوف تحدث الحرب حتما فعلينا أن نتأهب لها‏.‏
وقد كان الملك حسين يعالج هذه المواقف بالدبلوماسية وبالدموع التي يذرفها علي رابين وبالمودة التي يبذلها لأرملته وباليد المبسوطة دائما بدون شروط وبالسياسة وبالملاينة‏.‏
وقد ذهب الملك ولم تعد بحار الأرض دموعا بالكافية لاغراق هذا الحقد الصهيوني الذي يحيط بنا وهذا قدرنا‏.‏
ولا حول ولا قوة إلا بالله‏