مناظرة عالمين في مجلس المأمون
إذا أردنا من القرآن كلام الله : كان قديمًا ، لأنه يكون إذ ذاك عبارة عن صفة
من صفاته تعالى ، وهي قديمة ، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت
مسموع أو مصحف مصنوع : كان حادثًا .
هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ
الأثر ، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل ، ويقيد ويعذب ،
وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم .
أما الفريق القائل بالحدوث ، ويسمّى ( المعتزلة ) فاتفق له من بعض خلفاء
بني العباس من يأخذ بقوله ، ويحمل الناس عليه ، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد ،
وعامل جبروته أنفذ ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون
بن الرشيد ، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح ، يشدد على
الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه ، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم ،
وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة ، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة
والإرهاق ، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع
في الجانب الشرقي من الرصافة ، وفي غيره من المواضع ، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ
ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن ، وكل
من أظهر مخالفتهم قيد إليهم ، وعرض قوله عليهم ، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا ,
أو نفي من الأرض ، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على
أنفسهم ، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه .
شاع أمر هذه المحنة في بغداد ، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون
خبرها ويتعوذون بالله من شرها : قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص
هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له - : اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس
في بغداد ، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة
أوليائه ، فأطال همي هذا الخبر ، وأطار نومي ، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي
وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد ، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان
يصل إِلَيَّ .
ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده ، ويثبت
عزيمته ، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة ، وكف عاديتها ،
فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه ، ثم
ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة
أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم ، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة
يحول دون اغتياله قبل مناظرته ، واستماع قوله ، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة
الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر ،
صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي
أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى :
الأب : ما تقول في القرآن يا بني ؟
الابن : كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي .
فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد ،
وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم ( رئيس البوليس إذ ذاك
عمرو بن مسعدة ) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة .
الرئيس : أمجنون أنت ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس : موسوس ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس : معتوه ؟
عبد العزيز : لا , والحمد لله ، وإني لَصحيحُ العقلِ , جيّدُ الفهْمِ , ثابتُ المعرفةِ .
الرئيس : فمظلوم أنت ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس لأصحابه : مروا بهما سحبًا إلى منزلي .
فاحتملهما الشرطة ، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا ، وأيديهما في أيديهم يمنة
ويسرة ، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة ، فأُدْخِلا عليه
وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [1] .
الرئيس : مِن أين أنت ؟
عبد العزيز : من أهل مكة .
الرئيس : ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟
عبد العزيز : طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه .
الرئيس : هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير
المؤمنين ! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس .
عبد العزيز : ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين ، والمناظرة بين يديه لا
غير ذلك .
الرئيس : أوَتفعلُ ذلك ؟
عبد العزيز : نعم ، ولذلك قصدت ، وبلغت بنفسي ما ترى ، وتغريري بنفسي
وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في
كتابه ، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [2] .
الرئيس : إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير
المؤمنين فقد حل دمك .
عبد العزيز : إن تكلمت في شيء غير هذا ، وجعلت هذا ذريعة إليه ، فدمي
حلال .
فوثب الرئيس , وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي ، فأخرجوني أنا وابني بين
يديه ، وهو راكب على فرسه ، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا ، وأيدينا في أيديهم ،
حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد . فدخل الرئيس على المأمون ،
وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا ، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر
بي :
الرئيس : أخبرت أمير المؤمنين بخبرك ، وما فعلت ، وما سألته من الجمع
بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه ، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك
إلى ما سألت ، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في
يوم الإثنين الأدنى ، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه ، ويكون هو الحكم
بينكم .
عبد العزيز : أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين ، وأيد دولته .
الرئيس : أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين ، وليس بنا حاجة
إلى حبسك .
عبد العزيز - أدام الله عزك ، أنا رجل غريب ، ولست أعرف في هذا البلد
أحدًا ، ولا يعرفني من أهلها أحد ، فمن أين لي من يكفل بي ، خاصّة مع إظهاري
مقالتي ، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي ، لتبرأوا مني وهربوا من قربي
وأنكروني .
الرئيس : نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم ، وتنصرف
فتصلح من شأنك ، وتتفكر في أمرك ، فلعلك ترجع عن غَيّك ، وتتوب من فعلك ،
فيصفح أمير المؤمنين عنك .
عبد العزيز : ذلك إليك أعزك الله ، فافعل ما رأيت . ولما جاءت غداة يوم
الإثنين ، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة ، وأدخل إلى حجرة رئيس
الشرطة ، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه ، ثم نصحه وحذره وخامة
عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه ، وإنه ليس حينئذ إلا السيف ،
وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه ، وضمن له جائزة
وقضاء ما له من حاجة ، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة
الحق .
الرئيس وقد وقف على رجليه : قد حرصت على خلاصك جهدي ، وأنت
حريص على سفك دمك جهدك .
عبد العزيز : معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني ، وعدل أمير المؤمنين
أوسع من أن يضيق عليّ .
وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا ، وإلى القضاة والفقهاء
الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا ، والقواد
والأولياء [3] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس
الذين يوشك أن يفسدهم ، قال عبد العزيز ثم أذن لي ، فلم أزل أنقل من دهليز إلى
دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [4] .
الحاجب : إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء ؟
عبد العزيز : ما لي إلى ذلك حاجة .
الحاجب : اركع ركعتين .
( عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله ) .
الحاجب : استَخِر الله وقم فادخل .
فأزاح الستر وأخذ الرجال ( التشريفاتية ) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم
في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي . ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا :
( خلوا عنه ) , وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك ، فخلوا عني ، وقد كاد
يتغير عقلي من شدة الجزع ، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح ، وهو
ملء الصحن ، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين ، ما رأيتها قبل ذلك ولا
دخلتها .
قال عبد العزيز : فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان ، وقفت فسمعت
المأمون يقول : أدخلوه قرّبوه ، فلما دخلت من باب الديوان ، وقعت عيني عليه ،
وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد ، فقلت : السلام
عليك , يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته ، ثم قال : ادْنُ مِنّي ، فدنوت منه ، ثم جعل يقول : ادن مني ، فدنوت منه ،
ثم جعل يقول : ادنُ وأدنو ، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً ، حتى صرت إلى
الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم ، والحاجب معي يقدمني ، فلما
انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون : اجلس , فجلست .
وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان - : يا أمير المؤمنين ,
يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه ، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه ، فسمعت
قوله هذا وفهمته ، وما رأيت شخصه ، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة .
قال عبد العزيز : وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع ، وما قد نزل بي
مِن الخوف ، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض ، وأحَبّ أن يؤنسني ، ويسكن
روعتي ، فطفق يكثر كلام جلسائه ، ويكلم عمرو بن مسعدة ( رئيس الشرطة ) ,
ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها ، يريد بذلك كله إيناسي ، وجعل يطيل النظر
إلى الإيوان ويدير نظره فيه ، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ .
فقال : يا عمرو , ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع ، فبادر في قلعه
وعمله . فقال عمرو : قطع الله يد صانعه ، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا .
ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله :
المأمون : ما الاسم ؟
عبد العزيز : عبد العزيز .
المأمون : ابن مَن ؟
عبد العزيز : ابن يحيى بن مسلم .
المأمون : ابْنُ مَن ؟ ( يسأله عن جَدِّه )
عبد العزيز : ابن ميمون الكنانيّ .
المأمون : أوَأنت من كنانة ؟
عبد العزيز : نعم يا أمير المؤمنين .
ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم .
المأمون : مِن أين الرجل ؟
عبد العزيز : مِن الحجاز .
المأمون : ومِن أيّ الحجاز ؟
عبد العزيز : مِن مكة .
المأمون : ومَن تعرف مِن أهل مكة ؟
عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه . إلا
رجلاً ضوى ( لجأ ) إليها أو من جاور بها ، فإني لا أعرفه .
المأمون : أتعرف فلانًا وفلانًا ( وجعل يعدد جماعة من بني هاشم ) .
عبد العزيز : نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم .
المأمون : وأولادهم وأنسابهم ( وذكر شيئًا من ذلك ) .
عبد العزيز : نعم ( وأجابه عما سأل ) .
قال عبد العزيز : وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي ، وبسطي للكلام ، وتسكين
روعتي وجزعي ، فذهب عني ما كنت فيه ، وما لحقني من الجزع ، وجاءت المعونة
من الله عز وجل ، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي ، واجتمع فهمي ، ثم أقبل المأمون
عليّ , وقال : يا عبد العزيز , إنه قد اتصل بي ما كان منك ، وقيامك في المسجد
الجامع ، وقولك : إن القرآن كلام الله إلخ , بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق ،
وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في
مجلسي ، والاستماع منك ومنهم ، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي ،
وأكون أنا الحاكم بينكم ، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك ، وإن تكن
الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك ، وإن استقلت أقلناك .
ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ , وقال : يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره
وأنصفه ، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرحًا ، فانحط علَيّ
فوضع ركبتيه وفخذه الأيسر على فخذي الأيمن فكاد أن يحطمه ، وغمز علَيّ بقوته
كلها ، فقلت : مهلاً ، فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي ، وإنما أمرك
بمناظرتي وإنصافي ، فصاح به المأمون , وقال : تنح عنه ، وكرر ذلك عليه حتى
باعده مني .
ثم أقبل علي المأمون وقال : يا عبد العزيز , ناظره على ما تريد ، واحتج
عليه ، ويحتج عليك ، وتسأله ويسألك ، وتناصفا في كلامكما ، وتحفَّظا ألفاظكما ،
فإني مستمع عليكما ، فنحفظ ألفاظكما . فقلت : السمع والطاعة لأمير المؤمنين ،
ولكن عبد العزيز لم يرد أن يشرع في مناظرة خصمه ما لم ينتقم من ذلك البغيض
الذي عابه لأمير المؤمنين بقبح وجهه ، وتشويه خلقه ، وملخص ما قال في هذا
الصدد : إن يوسف صلوات الله عليه الذي هو أحسن البشر وجهًا ، كان حسنه وبالاً
عليه فظُلِم وسُجِن رجاء تغير حلية وجهه وأن يذهب السجن بحُسْنه ولما وقف الملك
على سَعَة علمه ، وحسن عبارته في تعبير الرؤيا ، صيره على خزائن الأرض ،
واعتزل الأمور وصار كأنه مِن تحتِ يدِه ، وليست هذه المنزلة إلا بعلمه وكلامه ، لا
بجماله وحسن وجهه ، وقال : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ، ولم
يقل : إني حسن جميل ، فوالله ما أبالي يا أمير المؤمنين لو كان وجهي أقبح مما هو
معي ، فقد أعطاني الله ، وله الحمد ، مِن فهم كتابه ، والعلم بتنزيله . فقال المأمون :
وأي شيء أردت بهذا القول ؟ وما الذي دعاك إليه ؟ فقلت : إني سمعت بعض من
هنا يقول يا أمير المؤمنين : ( يكفيك من كلام هذا قبح وجهه ) فأي عيب يلحقني
في صنعة ربي عز وجل ؟ فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ، فقلت : يا أمير
المؤمنين : قد رأيتك تنظر هذا النقش في الحائط ، وتنكر انتفاخ الجص ، وسمعت
عمرًا ( رئيس الشرطة ) يعيب الصانع ، ولا يعيب الجص ، فقال المأمون : العيب
لا على الشيء المصنوع ، إنما العيب على صانعه . فقلت : صدقت يا أمير
المؤمنين , وقلت الحق . فهذا ( يعني جليس السوء ) يعيب ربي لم خلقني قبيحًا .
فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهر ذلك عليه ، ثم قال : يا عبد العزيز ، ناظر صاحبك
فقد طال المجلس بغير مناظرة . ثم أخذا في المناظرة . ولا يمكن أن نتقصى مسائل
المناظرة أو نلخصها لما أن المقام لا يحتمل ذلك ، وإنما نشير إلى بعض ما كان
يجري بين المتناظرين مما فيه دلالة على أخلاق العلماء إذ ذاك ، وعلى كرم أخلاق
المأمون . من ذلك أن بشرًا سأل عبد العزيز سؤالاً ، وكلفه جوابه ، ووافقه المأمون
قائلاً : هذا يلزمك يا عبد العزيز . فعند ذلك جعل ابن الجهم وغيره من شيعة بشر
يضجون ويقولون : ظهر أمر الله وهم كارهون ، جاء الحق وزهق الباطل ، إن
الباطل كان زهوقًا ، وطمعوا في قتل عبد العزيز ، وجثا بِشْر على ركبتيه ، وجعل
يقول : أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن , وأمسك عبد العزيز فلم يتكلم ،
فقال له المأمون : ما لك لا تتكلم يا عبد العزيز ؟ فقال : سألني بشر وهو المناظر
لي ، فضجيج هؤلاء إيش هو ؟ وأنا لم أنقطع ، ولم أعجز عن الجواب ، ولست أتكلم
ما لم يسكتوا . فصاح المأمون لمحمد بن الجهم وغيره : أمسكوا ، فأمسكوا ، وأقبل
علي , وقال : تكلّمْ يا عبد العزيز واحتجَّ لنفسك . فتكلم وأخذا في المناظرة .
قال عبد العزيز : وجعل بشر يصيح ويقول : لو تركته يا أمير المؤمنين يتكلم
لجاء بألف شيء ، فقلت : يا أمير المؤمنين قد ذهبتَ بالحجج , ورضي بشر
وأصحابه بالضجيج والترويج بالباطل ، وقطع المجلس ، وطلب الخلاص ، ولا
خلاص من الله حتى يظهر دينه ويقع الباطل بالحق فيزهقه ، فصاح المأمون ببشر :
أقبل على صاحبك ودع هذا الضجيج ، وكان المأمون قد قعد منا مقعد الحاكم من
الخصوم .
قال عبد العزيز : وكثر تبسم المأمون من قولي ، حتى غطى بيده على فيه ،
وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير .
ومما استدل به بشر على مذهبه قوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ( الأنعام :
102 ) ، والقرآن شيء من تلك الأشياء المخلوقة .
فأجاب عبد العزيز بما خلاصته : قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } ( آل
عمران : 28 ) , فلله نفس ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ } ( آل عمران :
185 ) , فنقول : يا بشر إن نفس الله داخلة في هذه النفوس ؟ فصاح المأمون
بأعلى صوته ، وكان جهوري الصوت ، معاذ الله معاذ الله .
هذا مثال مما كان يجري بين المتناظرين في حضرة المأمون ، ولم يزل عبد
العزيز يدحض حجج خَصْمه ويكسر أقواله بالكتاب والسنة والقياس حتى قال المأمون
له : أحسنت يا عبد العزيز , ثم أمر بعشرة آلاف درهم , فحملت بين يديه وانصرف
من مجلسه على أحسن حال وأجملها .
قال عبد العزيز : فسُرّ المسلمون جميعًا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع
الباطل , وانكشف عن قلوبهم ما كان اكتنفها من الغم والحزن , وجعل الناس يجيئون
إليّ أفواجًا ، حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفًا على نفسي وعليهم من مكروه
يلحقنا ، فقالوا : لا بُدَّ أنْ تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه ، فهبت ذلك وتخوفت
سوء عاقبته ، فلما ألحّوا علَيّ ، قلت : أنا أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يجوز علَيّ
فيه شيء ولا حجر في ذكره ، فرضوا ، فأمليت عليهم أوراقًا مختصرة لأقطعهم بها
عن نفسي ، وعن ملازمة بابي
من صفاته تعالى ، وهي قديمة ، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت
مسموع أو مصحف مصنوع : كان حادثًا .
هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ
الأثر ، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل ، ويقيد ويعذب ،
وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم .
أما الفريق القائل بالحدوث ، ويسمّى ( المعتزلة ) فاتفق له من بعض خلفاء
بني العباس من يأخذ بقوله ، ويحمل الناس عليه ، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد ،
وعامل جبروته أنفذ ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون
بن الرشيد ، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح ، يشدد على
الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه ، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم ،
وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة ، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة
والإرهاق ، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع
في الجانب الشرقي من الرصافة ، وفي غيره من المواضع ، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ
ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن ، وكل
من أظهر مخالفتهم قيد إليهم ، وعرض قوله عليهم ، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا ,
أو نفي من الأرض ، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على
أنفسهم ، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه .
شاع أمر هذه المحنة في بغداد ، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون
خبرها ويتعوذون بالله من شرها : قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص
هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له - : اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس
في بغداد ، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة
أوليائه ، فأطال همي هذا الخبر ، وأطار نومي ، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي
وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد ، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان
يصل إِلَيَّ .
ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده ، ويثبت
عزيمته ، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة ، وكف عاديتها ،
فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه ، ثم
ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة
أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم ، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة
يحول دون اغتياله قبل مناظرته ، واستماع قوله ، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة
الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر ،
صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي
أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى :
الأب : ما تقول في القرآن يا بني ؟
الابن : كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي .
فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد ،
وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم ( رئيس البوليس إذ ذاك
عمرو بن مسعدة ) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة .
الرئيس : أمجنون أنت ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس : موسوس ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس : معتوه ؟
عبد العزيز : لا , والحمد لله ، وإني لَصحيحُ العقلِ , جيّدُ الفهْمِ , ثابتُ المعرفةِ .
الرئيس : فمظلوم أنت ؟
عبد العزيز : لا .
الرئيس لأصحابه : مروا بهما سحبًا إلى منزلي .
فاحتملهما الشرطة ، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا ، وأيديهما في أيديهم يمنة
ويسرة ، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة ، فأُدْخِلا عليه
وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [1] .
الرئيس : مِن أين أنت ؟
عبد العزيز : من أهل مكة .
الرئيس : ما حملك على ما صنعت بنفسك ؟
عبد العزيز : طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه .
الرئيس : هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير
المؤمنين ! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس .
عبد العزيز : ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين ، والمناظرة بين يديه لا
غير ذلك .
الرئيس : أوَتفعلُ ذلك ؟
عبد العزيز : نعم ، ولذلك قصدت ، وبلغت بنفسي ما ترى ، وتغريري بنفسي
وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في
كتابه ، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [2] .
الرئيس : إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير
المؤمنين فقد حل دمك .
عبد العزيز : إن تكلمت في شيء غير هذا ، وجعلت هذا ذريعة إليه ، فدمي
حلال .
فوثب الرئيس , وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي ، فأخرجوني أنا وابني بين
يديه ، وهو راكب على فرسه ، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا ، وأيدينا في أيديهم ،
حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد . فدخل الرئيس على المأمون ،
وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا ، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر
بي :
الرئيس : أخبرت أمير المؤمنين بخبرك ، وما فعلت ، وما سألته من الجمع
بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه ، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك
إلى ما سألت ، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في
يوم الإثنين الأدنى ، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه ، ويكون هو الحكم
بينكم .
عبد العزيز : أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين ، وأيد دولته .
الرئيس : أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين ، وليس بنا حاجة
إلى حبسك .
عبد العزيز - أدام الله عزك ، أنا رجل غريب ، ولست أعرف في هذا البلد
أحدًا ، ولا يعرفني من أهلها أحد ، فمن أين لي من يكفل بي ، خاصّة مع إظهاري
مقالتي ، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي ، لتبرأوا مني وهربوا من قربي
وأنكروني .
الرئيس : نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم ، وتنصرف
فتصلح من شأنك ، وتتفكر في أمرك ، فلعلك ترجع عن غَيّك ، وتتوب من فعلك ،
فيصفح أمير المؤمنين عنك .
عبد العزيز : ذلك إليك أعزك الله ، فافعل ما رأيت . ولما جاءت غداة يوم
الإثنين ، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة ، وأدخل إلى حجرة رئيس
الشرطة ، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه ، ثم نصحه وحذره وخامة
عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه ، وإنه ليس حينئذ إلا السيف ،
وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه ، وضمن له جائزة
وقضاء ما له من حاجة ، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة
الحق .
الرئيس وقد وقف على رجليه : قد حرصت على خلاصك جهدي ، وأنت
حريص على سفك دمك جهدك .
عبد العزيز : معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني ، وعدل أمير المؤمنين
أوسع من أن يضيق عليّ .
وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا ، وإلى القضاة والفقهاء
الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا ، والقواد
والأولياء [3] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس
الذين يوشك أن يفسدهم ، قال عبد العزيز ثم أذن لي ، فلم أزل أنقل من دهليز إلى
دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [4] .
الحاجب : إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء ؟
عبد العزيز : ما لي إلى ذلك حاجة .
الحاجب : اركع ركعتين .
( عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله ) .
الحاجب : استَخِر الله وقم فادخل .
فأزاح الستر وأخذ الرجال ( التشريفاتية ) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم
في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي . ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا :
( خلوا عنه ) , وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك ، فخلوا عني ، وقد كاد
يتغير عقلي من شدة الجزع ، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح ، وهو
ملء الصحن ، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين ، ما رأيتها قبل ذلك ولا
دخلتها .
قال عبد العزيز : فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان ، وقفت فسمعت
المأمون يقول : أدخلوه قرّبوه ، فلما دخلت من باب الديوان ، وقعت عيني عليه ،
وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد ، فقلت : السلام
عليك , يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال : وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته ، ثم قال : ادْنُ مِنّي ، فدنوت منه ، ثم جعل يقول : ادن مني ، فدنوت منه ،
ثم جعل يقول : ادنُ وأدنو ، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً ، حتى صرت إلى
الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم ، والحاجب معي يقدمني ، فلما
انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون : اجلس , فجلست .
وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان - : يا أمير المؤمنين ,
يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه ، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه ، فسمعت
قوله هذا وفهمته ، وما رأيت شخصه ، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة .
قال عبد العزيز : وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع ، وما قد نزل بي
مِن الخوف ، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض ، وأحَبّ أن يؤنسني ، ويسكن
روعتي ، فطفق يكثر كلام جلسائه ، ويكلم عمرو بن مسعدة ( رئيس الشرطة ) ,
ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها ، يريد بذلك كله إيناسي ، وجعل يطيل النظر
إلى الإيوان ويدير نظره فيه ، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ .
فقال : يا عمرو , ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع ، فبادر في قلعه
وعمله . فقال عمرو : قطع الله يد صانعه ، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا .
ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله :
المأمون : ما الاسم ؟
عبد العزيز : عبد العزيز .
المأمون : ابن مَن ؟
عبد العزيز : ابن يحيى بن مسلم .
المأمون : ابْنُ مَن ؟ ( يسأله عن جَدِّه )
عبد العزيز : ابن ميمون الكنانيّ .
المأمون : أوَأنت من كنانة ؟
عبد العزيز : نعم يا أمير المؤمنين .
ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم .
المأمون : مِن أين الرجل ؟
عبد العزيز : مِن الحجاز .
المأمون : ومِن أيّ الحجاز ؟
عبد العزيز : مِن مكة .
المأمون : ومَن تعرف مِن أهل مكة ؟
عبد العزيز : يا أمير المؤمنين ، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه . إلا
رجلاً ضوى ( لجأ ) إليها أو من جاور بها ، فإني لا أعرفه .
المأمون : أتعرف فلانًا وفلانًا ( وجعل يعدد جماعة من بني هاشم ) .
عبد العزيز : نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم .
المأمون : وأولادهم وأنسابهم ( وذكر شيئًا من ذلك ) .
عبد العزيز : نعم ( وأجابه عما سأل ) .
قال عبد العزيز : وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي ، وبسطي للكلام ، وتسكين
روعتي وجزعي ، فذهب عني ما كنت فيه ، وما لحقني من الجزع ، وجاءت المعونة
من الله عز وجل ، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي ، واجتمع فهمي ، ثم أقبل المأمون
عليّ , وقال : يا عبد العزيز , إنه قد اتصل بي ما كان منك ، وقيامك في المسجد
الجامع ، وقولك : إن القرآن كلام الله إلخ , بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق ،
وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في
مجلسي ، والاستماع منك ومنهم ، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي ،
وأكون أنا الحاكم بينكم ، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك ، وإن تكن
الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك ، وإن استقلت أقلناك .
ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ , وقال : يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره
وأنصفه ، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرحًا ، فانحط علَيّ
فوضع ركبتيه وفخذه الأيسر على فخذي الأيمن فكاد أن يحطمه ، وغمز علَيّ بقوته
كلها ، فقلت : مهلاً ، فإن أمير المؤمنين لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي ، وإنما أمرك
بمناظرتي وإنصافي ، فصاح به المأمون , وقال : تنح عنه ، وكرر ذلك عليه حتى
باعده مني .
ثم أقبل علي المأمون وقال : يا عبد العزيز , ناظره على ما تريد ، واحتج
عليه ، ويحتج عليك ، وتسأله ويسألك ، وتناصفا في كلامكما ، وتحفَّظا ألفاظكما ،
فإني مستمع عليكما ، فنحفظ ألفاظكما . فقلت : السمع والطاعة لأمير المؤمنين ،
ولكن عبد العزيز لم يرد أن يشرع في مناظرة خصمه ما لم ينتقم من ذلك البغيض
الذي عابه لأمير المؤمنين بقبح وجهه ، وتشويه خلقه ، وملخص ما قال في هذا
الصدد : إن يوسف صلوات الله عليه الذي هو أحسن البشر وجهًا ، كان حسنه وبالاً
عليه فظُلِم وسُجِن رجاء تغير حلية وجهه وأن يذهب السجن بحُسْنه ولما وقف الملك
على سَعَة علمه ، وحسن عبارته في تعبير الرؤيا ، صيره على خزائن الأرض ،
واعتزل الأمور وصار كأنه مِن تحتِ يدِه ، وليست هذه المنزلة إلا بعلمه وكلامه ، لا
بجماله وحسن وجهه ، وقال : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ، ولم
يقل : إني حسن جميل ، فوالله ما أبالي يا أمير المؤمنين لو كان وجهي أقبح مما هو
معي ، فقد أعطاني الله ، وله الحمد ، مِن فهم كتابه ، والعلم بتنزيله . فقال المأمون :
وأي شيء أردت بهذا القول ؟ وما الذي دعاك إليه ؟ فقلت : إني سمعت بعض من
هنا يقول يا أمير المؤمنين : ( يكفيك من كلام هذا قبح وجهه ) فأي عيب يلحقني
في صنعة ربي عز وجل ؟ فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ، فقلت : يا أمير
المؤمنين : قد رأيتك تنظر هذا النقش في الحائط ، وتنكر انتفاخ الجص ، وسمعت
عمرًا ( رئيس الشرطة ) يعيب الصانع ، ولا يعيب الجص ، فقال المأمون : العيب
لا على الشيء المصنوع ، إنما العيب على صانعه . فقلت : صدقت يا أمير
المؤمنين , وقلت الحق . فهذا ( يعني جليس السوء ) يعيب ربي لم خلقني قبيحًا .
فازداد المأمون تبسمًا حتى ظهر ذلك عليه ، ثم قال : يا عبد العزيز ، ناظر صاحبك
فقد طال المجلس بغير مناظرة . ثم أخذا في المناظرة . ولا يمكن أن نتقصى مسائل
المناظرة أو نلخصها لما أن المقام لا يحتمل ذلك ، وإنما نشير إلى بعض ما كان
يجري بين المتناظرين مما فيه دلالة على أخلاق العلماء إذ ذاك ، وعلى كرم أخلاق
المأمون . من ذلك أن بشرًا سأل عبد العزيز سؤالاً ، وكلفه جوابه ، ووافقه المأمون
قائلاً : هذا يلزمك يا عبد العزيز . فعند ذلك جعل ابن الجهم وغيره من شيعة بشر
يضجون ويقولون : ظهر أمر الله وهم كارهون ، جاء الحق وزهق الباطل ، إن
الباطل كان زهوقًا ، وطمعوا في قتل عبد العزيز ، وجثا بِشْر على ركبتيه ، وجعل
يقول : أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن , وأمسك عبد العزيز فلم يتكلم ،
فقال له المأمون : ما لك لا تتكلم يا عبد العزيز ؟ فقال : سألني بشر وهو المناظر
لي ، فضجيج هؤلاء إيش هو ؟ وأنا لم أنقطع ، ولم أعجز عن الجواب ، ولست أتكلم
ما لم يسكتوا . فصاح المأمون لمحمد بن الجهم وغيره : أمسكوا ، فأمسكوا ، وأقبل
علي , وقال : تكلّمْ يا عبد العزيز واحتجَّ لنفسك . فتكلم وأخذا في المناظرة .
قال عبد العزيز : وجعل بشر يصيح ويقول : لو تركته يا أمير المؤمنين يتكلم
لجاء بألف شيء ، فقلت : يا أمير المؤمنين قد ذهبتَ بالحجج , ورضي بشر
وأصحابه بالضجيج والترويج بالباطل ، وقطع المجلس ، وطلب الخلاص ، ولا
خلاص من الله حتى يظهر دينه ويقع الباطل بالحق فيزهقه ، فصاح المأمون ببشر :
أقبل على صاحبك ودع هذا الضجيج ، وكان المأمون قد قعد منا مقعد الحاكم من
الخصوم .
قال عبد العزيز : وكثر تبسم المأمون من قولي ، حتى غطى بيده على فيه ،
وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير .
ومما استدل به بشر على مذهبه قوله تعالى : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ( الأنعام :
102 ) ، والقرآن شيء من تلك الأشياء المخلوقة .
فأجاب عبد العزيز بما خلاصته : قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } ( آل
عمران : 28 ) , فلله نفس ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ } ( آل عمران :
185 ) , فنقول : يا بشر إن نفس الله داخلة في هذه النفوس ؟ فصاح المأمون
بأعلى صوته ، وكان جهوري الصوت ، معاذ الله معاذ الله .
هذا مثال مما كان يجري بين المتناظرين في حضرة المأمون ، ولم يزل عبد
العزيز يدحض حجج خَصْمه ويكسر أقواله بالكتاب والسنة والقياس حتى قال المأمون
له : أحسنت يا عبد العزيز , ثم أمر بعشرة آلاف درهم , فحملت بين يديه وانصرف
من مجلسه على أحسن حال وأجملها .
قال عبد العزيز : فسُرّ المسلمون جميعًا بما وهبه الله لهم من إظهار الحق وقمع
الباطل , وانكشف عن قلوبهم ما كان اكتنفها من الغم والحزن , وجعل الناس يجيئون
إليّ أفواجًا ، حتى أغلقت بابي واحتجبت عنهم خوفًا على نفسي وعليهم من مكروه
يلحقنا ، فقالوا : لا بُدَّ أنْ تملي علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه ، فهبت ذلك وتخوفت
سوء عاقبته ، فلما ألحّوا علَيّ ، قلت : أنا أذكر لكم بعض ما جرى مما لا يجوز علَيّ
فيه شيء ولا حجر في ذكره ، فرضوا ، فأمليت عليهم أوراقًا مختصرة لأقطعهم بها
عن نفسي ، وعن ملازمة بابي
.........................................................
(1) الشوار : اللباس والزينة ، وكأنه يريد به هنا الملابس ذات الطراز الخاصة برؤساء الشرطة والجند في ذلك العصر .
(2) فليعتبر علماء هذا الزمان .
(3) يريد بهم الموالين للخلافة ، لا أهل الباطن ، كما هو اصطلاح أهل العصور المتأخرة .
(4) أي صحن دار الخلافة ، وهذا الحاجب بمثابة سر تشريفاتي اليوم
(2) فليعتبر علماء هذا الزمان .
(3) يريد بهم الموالين للخلافة ، لا أهل الباطن ، كما هو اصطلاح أهل العصور المتأخرة .
(4) أي صحن دار الخلافة ، وهذا الحاجب بمثابة سر تشريفاتي اليوم