الأحد، 18 نوفمبر 2012

موسوعة الأخلاق الإسلامية : العدل

العدل

معنى العدل لغة واصطلاحاً
معنى العدل لغة:
عَدَلَ يَعْدِلُ فهو عادِلٌ من عُدولٍ وعَدْلٍ بلَفْظ الواحِدِ وهذا اسمٌ للجَمع. رجُلٌ عَدْلٌ وامرأةٌ عَدْلٌ وعَدْلَةٌ. وعَدَّلَ الحُكْمَ تَعديلاً: أقامَهُ.
والعدل: خلاف الجَوَر. يقال: عَدَلَ عليه في القضيّة فهو عادِلٌ. وبسط الوالي عَدْلَهُ ومَعْدِلَتَهُ ومَعْدَلَتَهُ. وفلان من أهل المَعْدَلَةِ. وهو ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم. (1)
معنى العدل اصطلاحاً:
العدل هو: (أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه) (2).
وقيل هو: (عبارة عن الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينا) (3).
وقيل هو: (استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير) (4).

(1) ((الصحاح في اللغة)) للجوهري (5/ 1760)، ((لسان العرب)) لابن منظور (11/ 430). ((القاموس المحيط)) للفيروز آبادي (ص1030).
(2) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 81).
(3) ((التعريفات)) للجرجاني (ص147).
(4) ((تهذيب الأخلاق)) للجاحظ (ص 28).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الفرق بين العدل وبعض الصفات
الفرق بين العدل والقسط:
(القسط: هو العدل البين الظاهر ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا وقد يكون من العدل ما يخفى ولهذا قلنا إن القسط هو النصيب الذي بينت وجوهه وتقسط القوم الشيء تقاسموا بالقسط) (1).
الفرق بين العدل والإنصاف:
(الإنصاف: إعطاء النصف، والعدل يكون في ذلك وفي غيره ألا ترى أن السارق إذا قطع قيل إنه عدل عليه ولا يقال إنه أنصف، وأصل الإنصاف أن تعطيه نصف الشيء وتأخذ نصفه من غير زيادة ولا نقصان، وربما قيل أطلب منك النصف كما يقال أطلب منك الإنصاف ثم استعمل في غير ذلك مما ذكرناه، ويقال أنصف الشيء إذا بلغ نصف نفسه، ونصف غيره إذا بلغ نصفه) (2).

(1) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 428).
(2) ((الفروق اللغوية)) لأبي هلال العسكري (ص 80).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أهمية العدل
أرسل الله رسله وأنزل معهم ميزان العدل، ليقوم الناس بالقسط، وما ذلك إلا لأهميته، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]
ووردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تأمر بالعدل وترغب فيه، وتمدح من يقوم به،
يقول ابن القيم رحمه الله: (فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسموات فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليست مخالفة له) (1).

(1) ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 19).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،آثار وفوائد العدل
1 - العدل ميزان الله في الأرض به يؤخذ للمظلوم من الظالم.
2 - من قام بالعدل نال محبة الله سبحانه قال تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]
3 - بالعدل يحصل الوئام بين الحاكم والمحكوم. 4 - العدل أساس الدول والملك. 5 - بالعدل يستتب الأمن في البلاد.
6 - بالعدل تحصل الطمأنينة في النفوس.
7 - العدل سبب لدخول غير المسلمين إلى الإسلام.
8 - بالعدل يسود في المجتمع التعاون والتماسك.
الأمر بالعدل ومدح من يقوم به
الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في القرآن الكريم
أمر الله بإقامة العدل وحث عليه ومدح من قام به وذلك في آيات كثيرة منها:
1 - آيات فيها الأمر بالعدل منها:
- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]
قال السعدي رحمه الله: (فالعدل الذي أمر الله به يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية والمركبة منهما في حقه وحق عباده، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى، وولاية القضاء ونواب الخليفة، ونواب القاضي.
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمرهم بسلوكه، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات، بإيفاء جميع ما عليك فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب، والإحسان فضيلة مستحب) (1).
- وقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135]
يقول ابن كثير رحمه الله: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله: شُهَدَاءَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ أي: ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا، خالية من التحريف والتبديل والكتمان؛ ولهذا قال: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أي: اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه، وإن كان مَضرة عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه) (2).
- وقال سبحانه: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15]
يقول تعالى ذكره: (وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه ... وعن قتادة، قوله: ((وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه)) (3). والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه) (4).
2 - آيات فيها مدح من يقوم بالعدل:
- قال سبحانه: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181]

(1) ((تفسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 447).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/ 433).
(3) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (21/ 517).
(4) ((جامع البيان)) للطبري (21/ 517).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،قال ابن كثير رحمه الله: (يقول تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أي: ومن الأمم أُمًّةٌ قائمة بالحق، قولا وعملا يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يقولونه ويدعون إليه، وَبِهِ يَعْدِلُونَ يعملون ويقضون.
وقد جاء في الآثار: أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية، هي هذه الأمة المحمدية.
قال سعيد، عن قتادة في تفسير هذه الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (1) [الأعراف:159]) (2).
- وقال عز من قائل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:76]
(يقول الله تعالى هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه) (3).
الأمر بالعدل ومدح من يقوم به في السنة النبوية:
لقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم العدل، ورغب فيه، وقد وردت نصوص حديثية تدل على تطبيقه قواعد العدل، منها:
- عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السّمع والطّاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أين كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم)) (4).
- وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) (5).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (فالعدل واجب في كل شيء لكنه في حق ولاة الأمور آكد وأولى وأعظم لأن الظلم إذا وقع من ولاة الأمور حصلت الفوضى والكراهة لهم حيث لم يعدلوا) (6).

(1) رواه الطبري في ((جامع البيان)) (13/ 286).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 516).
(3) ((جامع البيان)) للطبري (17/ 262).
(4) رواه النسائي (4153)، وأحمد (3/ 441) (15691) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (23/ 272)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 91)، والألباني في ((صحيح النسائي)) (4164).
(5) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485).
(6) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 641).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، وعن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ أحبّ النّاس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم منه مجلسا: إمام عادل، وأبغض النّاس إلى الله، وأبعدهم منه مجلسا: إمام جائر)) (1).
قال الحافظ: (المراد به صاحب الولاية العظمى ويلتحق به كل من ولي شيئا من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: ((إن المقسطين عند الله .... )) (2) قال وأحسن ما فسر به العادل الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط وقدمه في الذكر لعموم النفع به) (3).
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم، الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السّماء ويقول: بعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) (4).
قال الغزالي: (فيه أن الإمارة والخلافة من أفضل العبادات إذا كانتا مع العدل والإخلاص ولم يزل المتقون يحترزون منها ويهربون من تقلدها لما فيها من عظيم الخطر إذ تتحرك به الصفات الباطنة ويغلب على النفس حب الجاه والاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا) (5).
- وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((سبعة يظلّهم الله تعالى في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عدل، وشابّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إنّي أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) (6).
قال ابن رجب: (وأول هذه السبعة: الإمام العادل. وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى منبر من نور عَلَى يمين الرحمن، وذلك جزاء لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها. وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله) (7).

(1) رواه الترمذي (1329)، وأحمد (3/ 55) (11542) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. ومثله قال البغوي في ((شرح السنة)) (5/ 314)، وقال الذهبي في ((المهذب)) (8/ 4069): فيه عطية ضعيف. وضعفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1156).
(2) رواه ابن حبان (10/ 336)، وابن أبي شيبة (7/ 39) (34035)، واللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (699) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن العربي كما في ((التذكرة للقرطبي)) (223)، وابن تيمية في ((تلبيس الجهمية)) (5/ 485).
(3) ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 145).
(4) رواه الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، وأحمد (2/ 304) (8030) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/ 152)، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير)) (3520)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((تخريج المسند)) (15/ 189).
(5) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 324).
(6) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) ((فتح الباري)) لابن رجب (4/ 59).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أقوال السلف والعلماء في العدل
- قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: (إنّ الله إنّما ضرب لكم الأمثال، وصرف لكم القول لتحيا القلوب، فإنّ القلوب ميّتة في صدورها حتّى يحييها الله، من علم شيئا فلينفع به، إنّ للعدل أمارات وتباشير، فأمّا الأمارات فالحياء والسّخاء والهين واللّين. وأمّا التّباشير فالرّحمة. وقد جعل الله لكلّ أمر بابا، ويسّر لكلّ باب مفتاحا، فباب العدل الاعتبار، ومفتاحه الزّهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزّهد أخذ الحقّ من كلّ أحد قبله حقّ، والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ... ). (1).
- (وقدم على عمر بن الخطاب رجل من أهل العراق فقال لقد جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب فقال عمر ما هو قال شهادات الزور ظهرت بأرضنا فقال عمر أو قد كان ذلك قال نعم فقال عمر والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدول) (2).
- وقال ربعيّ بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد الفرس لما سأله ما جاء بكم؟ فقال: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتّى نفيء إلى موعود الله ... ) (3).
- وقال عمرو بن العاص: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) (4).
- وقال ميمون بن مهران: (سمعت عمر يقول: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل إني لأريد الأمر وأخاف أن لا تحمله قلوبكم فأخرج معه طمعا من الدنيا فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا) (5).
- (وخطب سعيد بن سويد بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل) (6).
- وقال ابن حزم رحمه الله: (أفضل نعم الله تعالى على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه، وعلى الحقّ وإيثاره) (7).
- وقال ابن تيمية رحمه الله: (العدل نظام كلّ شيء فإذا أقيم أمر الدّنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة) (8).
- وقال أيضا: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام) (9).
- وقال ابن القيّم رحمه الله تعالى: (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق وأنه عدل فوق عدلها ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها) (10).

(1) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 485)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 43).
(2) رواه مالك في ((الموطأ)) (2/ 720).
(3) رواه الطبري في ((تاريخ الرسل والملوك)) (3/ 520)، وذكره ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/ 39).
(4) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 33).
(5) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (45/ 181)، وذكره الذهبي في ((تاريخ الإسلام)) (7/ 197).
(6) ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (1/ 27).
(7) ((الأخلاق والسير)) لابن حزم (ص: 90).
(8) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146).
(9) ((مجموع الفتاوى)) (28/ 146).
(10) ((الطرق الحكمية)) (ص: 5).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أقسام العدل
(والعدل ضربان:
- مطلق: يقتضي العقل حسنه، ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا، ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو: الإحسان إلى من أحسن إليك، وكف الأذية عمن كف أذاه عنك.
- وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع، ويمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة، كالقصاص وأروش الجنايات، وأصل مال المرتد. ولذلك قال: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ [البقرة:194]، وقال: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا [الشورى:40]، فسمي اعتداء وسيئة، وهذا النحو هو المعني بقوله: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فإن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأقل منه) (1).

(1) ((مفردات ألفاظ القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص552).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،صور العدل
لا ريب أن المظاهر والصور التي يدخل فيها العدل كثيرة فمنها:
1 - عدل الوالي:
والوالي سواء كانت ولايته ولاية خاصة أو عامة يجب عليه أن يعدل بين الرعية.
قال ابن تيمية رحمه الله: بعد أن ذكر عموم الولايات وخصوصها كولاية القضاء، وولاية الحرب، والحسبة، وولاية المال: (وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين وأي من ظلم وعمل فيها بجهل فهو من الفجار الظالمين) (1).
وقال أيضاً: (يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل وإذا تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل) (2).
2 - العدل في الحكم بين الناس:
سواء كان قاضياً، أو صاحب منصب، أو كان مصلحاً بين الناس، وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]
3 - العدل مع الزوجة أو بين الزوجات:
بأن يعامل الزوج زوجته بالعدل سواء في النفقة والسكنى والمبيت، وإن كن أكثر من واحدة فيعطي كلا منهن بالسوية.
قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء:3]
أما إذا كان له ميل قلبيُ فقط إلى إحداهن فهذا لا يدخل في عدم العدل، قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]
4 - العدل بين الأبناء:
قال صلى الله عليه وسلم: ((فاتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) (3) كما مر في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. ويكون العدل بين الأولاد في العطية وغيرها.
5 - العدل في القول:
فلا يقول إلا حقاً، ولا يشهد بالباطل، قال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152]
وقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135]
6 - العدل في الكيل والميزان:
قال تعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ [الأنعام:152] (يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1 - 6]. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان) (4).
7 - العدل مع غير المسلمين:
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8]
(وفي كون العدل مع الأعداء الذين نبغضهم أقرب للتقوى احتمالان:
الأول: أن يكون أقرب إلى كمال التقوى، وذلك لأن كمال التقوى يتطلب أموراً كثيرة، منها هذا العدل، والأخذ بكل واحد من هذه الأمور يقرب من منطقة التقوى الكاملة.
الثاني: أن يكون أقرب إلى أصل التقوى فعلاً من ترك العدل مع الأعداء ملاحظين في ذلك مصلحة للإسلام وجماعة المسلمين، وذلك لأنه قد يشتبه على ولي الأمر من المسلمين في قضية من القضايا المتعلقة بعدو من أعدائهم، هل التزام سبيل العدل معه أرضى لله؟ أو ظلمه هو أرضى لله باعتباره معادياً لدين الله؟ وأمام هذا الاشتباه يعطي الله منهج الحل فيقول: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] أي: مهما لاحظتم أن ظلمه لا يتنافى مع التقوى فالعدل معه أقرب للتقوى.
ولا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنه هو الدين الحق، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه) (5).

(1) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 68).
(2) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/ 67).
(3) رواه البخاري (2587) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(4) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (3/ 364).
(5) ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن حبنكة الميداني (1/ 581).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من عدل الرسول صلى الله عليه وسلم
الإسلام هو دين العدالة وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم العدل وكان نموذجا في أعلى درجاته، وطبقه خلفاؤه من بعده.
- فقد روى أبو نعيم في (معرفة الصحابة) ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار قال: وهو مستنتل من الصف، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقدح في بطنه، وقال: استو يا سواد فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالعدل، فأقدني قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقد قال: يا رسول الله إنك طعنتني وليس علي قميص قال: فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقدقال: فاعتنقه، وقبل بطنه، وقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم له بخير)) (1).
- وعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ((أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فأتى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أتشفع في حد من حدود الله فقال له أسامة استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (2). ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
- وعن خولة بنت قيس - امرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما - قالت: ((كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتاه يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره فأبى أن يقبله، فقال: أتردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: ((صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدّس الله أمةً لا يأخذ ضعيفها حقّه من شديدها، ولا يتعتعه)) (3).

(1) رواه أبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (3/ 1404)، قال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (6/ 808): إسناده حسن إن شاء الله تعالى.
(2) رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688).
(3) رواه الطبراني في ((الكبير)) (24/ 233)، والطحاوي في ((شرح المشكل)) (11/ 104) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1816): صحيح لغيره.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من عدالة الصحابة رضي الله عنهم
عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
- عمر رضي الله عنه -الخليفة الثاني- يمثِّل العدل في الإسلام، فعن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال:
(يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، ولا من أعراضكم إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم.
فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين) (1).
- وعن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو - رضي الله عنهما- يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط واضربه. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني) (2).
- ولما أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: (إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل: يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت رتعوا) (3).
عدل علي رضي الله عنه:
وهذا نموذج آخر من إقامة العدل قام بتطبيقه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وهو خليفة: فقد افتقد درعا له في يوم من الأيام ووجده عند يهودي فقال لليهودي: (الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودي: درعي وفي يدي فقال: نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح وقال: لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((وأصغروهم من حيث أصغرهم الله)) فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين فقال: نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب فقال شريح: إيش تقول يا يهودي؟ قال: درعي وفي يدي فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم: قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز للأب فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا هو الحق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأن الدرع درعك) (4).

(1) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3/ 293) من حديث عطاء.
(2) رواه أبو القاسم المصري في ((فتوح مصر والمغرب)) (195).
(3) رواه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (13033).
(4) ذكره السيوطي في ((تاريخ الخلفاء)) (142) وقال: أخرجه الدراج في جزئه المشهور بسند مجهول عن ميسرة عن شريح القاضي.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،العدل في واحة الشعر ..
قال ابن حزم:
زمام أصول جميع الفضائل ... عدل وفهم وجود وبأس
فمن هذه ركبت غيرها فمن ... حازها فهو في الناس رأس
كذا الرأس فيه الأمور التي ... بإحساسها يكشف الالتباس
وقال الزمخشري: قدم المنصور البصرة قبل الخلافة، فنزل بواصل بن عطاء، فقال: أبيات بلغتني عن سليمان بن يزيد العدوي في العدل، فمر بنا إليه، فأشرف عليهم من غرفة فقال لواصل: من هذا الذي معك؟ قال: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: رحب على رحب، وقرب إلى قرب، فقال: يحب أن يستمع إلى أبياتك في العدل، فأنشده:
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد ذي عمى يقتاد عميانا (1)
وقال الزهاوي:
العدلُ كالغيثِ يحيي الأرضَ وابلهُ ... والظلمُ في الملكِ مثلُ النارِ في القصبِ
وقال آخر:
أدِّ الأمانةَ والخيانةَ فاجتنبْ ... واعدلْ ولا تظلمْ يطيبُ المكسبُ
وقال أبو الفتح البستي:
عليكَ بالعدلِ إِن وُليتَ مملكةً ... واحذرْ من الجورِ فيها غايةَ الحذرِ
فالعدلُ ينفيهِ أنى احتلَّ من بلدٍ ... والجورُ ينفيح في بدوٍ وفي حضرِ
وقال آخر:
عن العدل لا تعدل وكن متيقظاً ... وحكمك بين الناس فليك بالقسط
وبالرفق عاملهم وأحسن إليهم ... ولا تبدلن وجه الرضا منك بالسخط
وحل بدر الحق جيد نظامهم ... وراقب إله الخلق في الحل والربط
وقال آخر:
نخاف على حاكم عادل ... ونرجو فكيف بمن يظلم
إذا جار حكم امرئ ملحد ... على مسلم هلك المسلم ...

(1) ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 391 - 392).