الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

موسوعة الأخلاق الإسلامية : الإيثار

الإيثار


معنى الإيثار لغة واصطلاحاً
معنى الإيثار لغة:
الإيثار لغة مصدر من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص, ومن ذلك قولهم: استأثر بالشيء: استبد به وخص به نفسه, واستأثر الله بفلان إذا مات ورجي له الغفران, وآثر على نفسه بالمد من الإيثار وهو الاختيار, ومنه الأثرة بمعنى التقدم والاختصاص, ويستعار (الأثر) للفضل والإيثار للتفضيل, وآثرت فلانا عليك بالمد فأنا أوثره. (1)
معنى الإيثار اصطلاحاً:
(الإيثار أن يقدم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه وهو النهاية في الأخوة) (2).
وقال ابن مسكويه: (الإيثار: هو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه) (3).

(1) انظر ((كتاب الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (1/ 38)
(2) ((التعريفات)) للجرجاني (1/ 59)
(3) ((تهذيب الأخلاق)) لابن مسكويه (ص19).


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

الفرق بين الإيثار والسخاء والجود:
ذكر ابن القيم رحمه الله فروقاً بين كل من السخاء والجود والإيثار مع أنها كلها أفعال بذل وعطاء, قال ابن القيم رحمه الله: وهذا المنزل – أي الإيثار-: هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة:
إحداها: أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء.
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئاً أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود.
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار (1).

(1) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 292).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

الترغيب والحث على الإيثار من القرآن والسنة
الترغيب والحث على الإيثار من القرآن الكريم:
يعتبر الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية, فهو مرتبة راقية من مراتب البذل, ومنزلة عظيمة من منازل العطاء, لذا أثنى الله على أصحابه , ومدح المتحلين به, وبين أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة
- قال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]
قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ. مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. (1).
وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك (2).
ويقول ابن تيمية: (وأما الإيثار مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا ولا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة) (3).
- وقال الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92].
يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها. فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها, ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة) (4).
- وقال تبارك وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177]
فبين الله تبارك وتعالى أن من البر بعد الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والأنبياء .. إطعام الطعام لمحتاجيه, وبذله لمريديه, مع حبه واشتهائه والرغبة فيه, وقد جاء به الله تعالى – أي إطعام الطعام - بعد أركان الإيمان مباشرة وفي ذلك دلالة على عظمته وعلو منزلته.

(1) ((جامع البيان)) للطبري (22/ 527).
(2) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/ 70).
(3) ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/ 129)
(4) ((تفسير السعدي)) (1/ 970).


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

قال ابن مسعود في قوله (على حبه): هو أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء، وتخشى الفقر (1).
- وقال تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 6 – 9]
قال الشنقيطي رحمه الله: (اخْتُلِفَ فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي (عَلَى حُبِّهِ)، هَلْ هُوَ رَاجِعٌ عَلَى الطَّعَامِ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ لِقِلَّتِهِ عِنْدَهُمْ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، أَمْ عَلَى حُبِّ اللَّهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ؟
وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ كَثِيرٍ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَسَاقَ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، وَقَوْلِهِ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
وَالْوَاقِعُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْأَوَّلَ فِيهِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنْ أَقْرَبُ دَلِيلًا وَأَصْرَحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (2).
- وقال الله تبارك وتعالى: وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 6 – 9]
قال الفخر الرازي: (والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي) (3).
الترغيب والحث على الإيثار من السنة النبوية:
- عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ الأشعريّين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثمّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسّويّة، فهم منّي، وأنا منهم)) (4).
يقول الإمام العيني: (فيه منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه .... وفيه فضيلة الإيثار والمواساة) (5)
وقال أبو العباس القرطبي: (هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار، والمواساة عند الحاجة، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت لهم بشهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أنَّهم علماء عاملون، كرماء مؤثرون) (6).
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((طعام الاثنين كافي الثّلاثة، وطعام الثّلاثة كافي الأربع)) (7). وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثّمانية)) (8).

(1) ذكره السمعاني في ((تفسيره)) (1/ 172).
(2) ((أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)) للشنقيطي (8/ 394).
(3) ((مفاتيح الغيب)) للفخر الرازي (30/ 218).
(4) رواه البخاري (2486)، ومسلم (2500) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(5) ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) (13/ 44).
(6) ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 452).
(7) رواه البخاري (5392)، ومسلم (2058) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) رواه مسلم (2059) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.



،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

قال المهلب: والمراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة في الأكل والمواساة والإيثار على النفس الذي مدح الله به أصحاب نبيه، فقال: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] (ولا يراد بها معنى التساوي في الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: (كافي الثلاثة) دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية، وقد هم عمر بن الخطاب في سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم وقال: (لن يهلك أحد عن نصف قوته) (1).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (2).
قال ابن بطال: (فيه أن أعمال البر كلما صعبت كان أجرها أعظم، لأن الصحيح الشحيح إذا خشي الفقر، وأمل الغنى صعبت عليه النفقة، وسول له الشيطان طول العمر، وحلول الفقر به، فمن تصدق في هذه الحال، فهو مؤثر لثواب الله على هوى نفسه، وأما إذا تصدق عند خروج نفسه فيخشى عليه الضرار بميراثه والجوار في فعله) (3).
- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلاَ عَشِيرَةٌ فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةَ فَمَا لأَحَدِنَا مِنْ ظَهْرٍ يَحْمِلُهُ إِلاَّ عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ. (يَعْنِى أَحَدِهِمْ). فَضَمَمْتُ إِلَيَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً قَالَ: مَا لِي إِلاَّ عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ مِنْ جَمَلِي)) (4).

(1) ((شرح صحيح البخارى)) ـ لابن بطال (9/ 471)
(2) رواه البخاري (1319)، ومسلم (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (3/ 417)
(4) رواه أبو داود (2534)، وأحمد (3/ 358) (14906)، والحاكم (2/ 100) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وسكت عنه أبو داود، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (309)، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (239).


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

أقسام الإيثار:
أولاً: أقسامه من حيث تعلقه بالغير:
ينقسم الإيثار من حيث تعلقه بالغير إلى قسمين:
القسم الأول: إيثار يتعلق بالخالق:
وهو أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة, وأرفعها قدراً, يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا – أي من الإيثار المتعلق بالخلق- وأفضل وهو إيثار رضاه على رضى غيره وإيثار حبه على حب غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره) (1).
ولهذا النوع من الإيثار علامات دالة عليه, وشواهد موضحة له, لا بد أن تظهر على مدعيه, وتتجلى في المتحلي به وهي علامتان:
إحداها: أن يفعل المرء كل ما يحبه الله تعالى ويأمر به, وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه, ثقيلاً عليه.
الثاني: أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه, وإن كان محبباً إليه, تشتهيه نفسه, وترغب فيه.
يقول ابن القيم: فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار (2).
صعوبة هذا الإيثار على النفس:
جبلت النفس إلى الراحة والدعة والميل إلى الملاذ والمتع, كما جبلت على البعد عن كل ما يشق عليها أو ينغص متعتها أو يحد من ملذاتها, ولما كان هذا النوع من الإيثار يضاد ما جبلت عليه النفس من الراحة والدعة كان صعباً عليها التلبس به, أو التخلق والتحلي بمعناه.
يقول الإمام ابن القيم مبيناً صعوبة هذا النوع من الإيثار وثقله على النفس:
ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به وإنه ليسير على من يسره الله عليه (3).
وإن كان هذا النوع من الإيثار شديد على النفس صعب على الروح إلا أن ثمراته وما يجنيه الشخص منه تفوق ثمرات أي نوع من الأعمال, فنهايته فوز محقق وفلاح محتوم, وملك لا يضاهيه ملك.
(فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المحنة ويحمل فيه خطرا يسير لملك عظيم وفوز كبير فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال ويسير منه يرقي العبد ما لا يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (4).
القسم الثاني: إيثار يتعلق بالخلق:
وهذا هو النوع الثاني من أنواع الإيثار من حيث تعلقه بالخلق .. وقد قسم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هذا النوع من الإيثار إلى ثلاثة أقسام فقال:
ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. الأول: ممنوع والثاني: مكروه أو مباح، والثالث: مباح.
- القسم الأول: وهو الممنوع: وهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعا فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعاً .... فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل لأنه يستلزم إسقاط الواجب عليك.
- القسم الثاني: وهو المكروه أو المباح: فهو الإيثار في الأمور المستحبة وقد كرهه بعض أهل العلم وأباحه بعضهم لكن تركه أولى لا شك إلا لمصلحة.
- القسم الثالث وهو المباح: وهذا المباح قد يكون مستحباً وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي أي تؤثر غيرك وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي. (5)
شروط هذا النوع من الإيثار:

(1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 449)
(2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450)
(3) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450).
(4) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450).
(5) ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 416 - 417)


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى شروطاً للإيثار المتعلق بالمخلوقين تنقله من حيز المنع أو الكراهة إلى حيز الإباحة ولعلنا نجملها فيما يلي:
1 - أن لا يضيع على المؤثر وقته.
2 - أن لا يتسبب في إفساد حاله.
3 - أن لا يهضم له دينه.
4 - ألا يكون سبباً في سد طريق خير على المؤثر.
5 - أن لا يمنع للمؤثر وارداً.
فإذا توفرت هذه الشروط كان الإيثار إلى الخلق قد بلغ كماله, أما إن وجد شيء من هذه الأشياء كان الإيثار إلى النفس أولى من الإيثار إلى الغير فالإيثار المحمود كما قال ابن القيم رحمه الله هو: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب (1).
ثانياً: أقسامه من حيث باعثه والداعي إليه:
- الأول: قسم يكون الباعث إليه الفطرة والغريزة: كالذي يكون عند الآباء والأمهات وأصحاب العشق وهذا كما يقول عبد الرحمن الميداني الباعث إليه فطري في النفوس ينتج عنه حب شديد عارم, والحب من أقوى البواعث الذاتية الدافعة إلى التضحية بالنفس وكل ما يتصل بها من مصالح وحاجات من أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه أو جلب السعادة أو المسرة إليه (2).
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها. فأطعمتها ثلاث تمرات. فأعطت كل واحدة منهما تمرة. ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها. فاستطعمتها ابنتاها. فشقت التمرة، التي كانت تريد أن تأكلها، بينهما. فأعجبني شأنها. فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة. أو أعتقها بها من النار)) (3).
فهذا الإيثار دافعه حب الأم لابنتيها ورحمتها بهما.
- الثاني: وقسم يكون الدافع هو الإيمان وحب الخير للغير على حساب النفس وملذاتها ومشتهياتها وهو كما قال الميداني: ليس إيثاراً انفعالياً عاطفياً مجرداً ولكنه إيثار يعتمد على محاكمة منطقية سليمة ويعتمد على عاطفة إيمانية عاقلة (4).
وسنضرب لهذا النوع أمثلة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وسلف الأمة وعلمائها.

(1) انظر ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 446).
(2) انظر ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 435).
(3) رواه مسلم (2630) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) انظر ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن الميداني (2/ 435).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،فوائد الإيثار
للإيثار فوائد عظيمة وثمار جليلة يجنيها أصحاب هذا الخلق العظيم منها:
1. دخولهم فيمن أثنى الله عليهم من أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين.
2. الإيثار طريق إلى محبة الله تبارك وتعالى والتعرض لمحبته.
3. تحقيق الكمال الإيماني, فالإيثار دليل عليه وثمرة من ثماره فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (1) والنفي هنا لا يقصد به نفي الأصل وإنما نفي الكمال كما هو مقرر عند أهل العلم, وعليه يفهم من الحديث أن من أحب لأخيه ما يحب لنفسه تحقق فيه الإيمان الكامل.
4. ومن أعظم الثمار والفوائد أن التحلي بخلق الإيثار فيه اقتداء بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
5. أن المؤثر يجني ثمار إيثاره في الدنيا قبل الآخرة وذلك بمحبة الناس له وثناؤهم عليه, كما أنه يجني ثمار إيثاره بعد موته بحسن الأحدوثة وجمال الذكر فيكون بذلك قد أضاف عمراً إلى عمره.
6. الإيثار يقود المرء إلى غيره من الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة كالرحمة وحب الغير والسعي لنفع الناس, كما أنه يقوده إلى ترك جملة من الأخلاق السيئة والخلال الذميمة كالبخل وحب النفس والأثرة والطمع وغير ذلك.
7. وهو جالب للبركة في الطعام والمال والممتلكات.
8. وجود الإيثار في المجتمع دليل على وجود حس التعاون والتكافل والمودة, وفقده من المجتمع دليل على خلوه من هذه الركائز المهمة في بناء مجتمعات مؤمنة قوية ومتكاتفة.
9. بالإيثار تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع فطعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الثلاثة, والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليس لها بيوت تؤويها وهكذا.

(1) رواه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس رضي الله عنه،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،درجات الإيثار
ذكر الإمام الهروي رحمه الله في كتابه منازل السائرين أن للإيثار ثلاثة درجات:
- الدرجة الأولى: (أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يحرم عليك دينا ولا يقطع عليك طريقا ولا يفسد عليك وقتا) (1).
قال ابن القيم رحمه الله في شرحه لهذه الدرجة: (يعني: أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين). (2)
- الدرجة الثانية: (إيثار رضى الله تعالى على رضى غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت به المؤن وضعفت عنه الطول والبدن) (3).
قال ابن القيم رحمه الله: (هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولي العزم منهم وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم) (4).
- الدرجة الثالثة: (إيثار إيثار الله تعالى فإن الخوض في الإيثار دعوى في الملك ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ثم غيبتك عن الترك) (5).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (يعني بإيثار إيثار الله: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت فكأنك سلمت الإيثار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر حقيقة ....وقوله: ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه: بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لابد من الخروج عنها وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك ... وقوله: ثم غيبتك عن الترك يريد: أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية: بقيت عليك بقية أخرى وهي رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك وهي دعوى كاذبة إذ ليس للعبد شيء من الأمر ولا بيده فعل ولا ترك وإنما الأمر كله لله) (6).

(1) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص57).
(2) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 297).
(3) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص58).
(4) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 299).
(5) ((منازل السائرين)) لعبدالله الأنصاري الهروي (ص58).
(6) ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) لابن القيم (2/ 302).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،موانع اكتساب صفة الإيثار
موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخالق:
يقول ابن القيم رحمه الله في الموانع التي تجعل النفس تتخلف عن هذا النوع من الإيثار:
(والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين:
1 - أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات فلا يتخلص له رؤيتها وعيانها.
2 - الثاني أن تكون القريحة وقادة دراكة لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض كلما ساقه خطوة وقف خطوة أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلقت نفسه بشهواته ومألوفاته فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرها) (1).
موانع اكتساب الإيثار المتعلق بالخلق:
1. ضعف إيمان واليقين, فكما أن الإيمان القوي يدفع صاحبه للبذل والعطاء والإيثار فإن ضعفه يكون سبباً في الأثرة والشح.
2. الشح المطاع, لذا ذكر الله عز وجل في الآية التي مدح فيها أهل الإيثار أن من يوفق في الوقاية من شح نفسه فقد أفلح.
3. حب النفس, وتملك الأثرة على القلب.
4. قسوة القلب وجموده, فمن رق قلبه ولانت طباعه سهل عليه أمر الإيثار.
5. ضعف الهمة والزهد في الذكر الحسن.

(1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450).،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار
الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار المتعلق بالخالق:
ذكر ابن القيم رحمه الله أمور تجعل من هذا الإيثار أمراً سهلاً على النفس خفيفاً على الروح فقال:
(والذي يسهله على العبد أمور:
- أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية بل تنقاد معه بسهولة.
- الثاني: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته.
- الثالث: قوة صبره وثباته.
فبهذه الأمور الثلاثة ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه) (1).
الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار المتعلق بالخلق:
قال الإمام ابن القيم: (فإن قيل فما الذي يسهل على النفس هذا الإيثار فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار قيل يسهله أمور:
- أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته كما جبلها على بغض المستأثر ومقته لا تبديل لخلق الله
- الثاني: النفرة من أخلاق اللئام ومقت الشح وكراهته له.
- الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض فهو يرعاها حق رعايتها ويخاف من تضييعها ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده فإن ذلك عسر جدا بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله ومن جرب هذا عرفه ومن لم يجربه فليستقرأ أحوال العالم والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى) (2).

(1) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 450)
(2) ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (1/ 448).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الأخلاق أوفر الحظ والنصيب, فما من خلق إلا وقد تربع المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرشه, وعلا ذروة سنامه, ففي خلق الإيثار كان هو سيد المؤثرين وقائدهم , بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يشبع لا هو ولا أهل بيته بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره يدخر قوت أهله سنة ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ أو نزل به ضيف يشير على أهله بإيثارهم فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه) (1).
وإليك أخي الكريم بعض الصور من إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- عن سهل بن سعد، قال: ((جاءت امرأة ببردة، قال: أتدرون ما البردة؟. فقيل له: نعم، هي الشملة، منسوج في حاشيتها. قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، اكسنيها. فقال: (نعم). فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه، لقد علمت أنه لا يرد سائلا. فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه)) (2).
- وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: ((إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: أنا نازل ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقا فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل أو أهيم فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم بالبرمة. ثمّ جئت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج. فقلت: طعيّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: كم هو؟ فذكرت له فقال: كثير طيّب قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التّنّور حتّى آتي، فقال: قوموا. فقام المهاجرون والأنصار فلمّا دخل على امرأته. قال: ويحك جاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا. فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه، ويقرّب إلى أصحابه ثمّ ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتّى شبعوا وبقي بقيّة. قال: كلي هذا وأهدي فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)) (3).

(1) ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 280).
(2) رواه البخاري (2093) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (4101) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: ((قال أبو طلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضعيفا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصا من شعير ثمّ أخرجت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ومعه النّاس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. قال: بطعام؟ قلت: نعم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن معه: قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّاس وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هلمّي يا أمّ سليم ما عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففتّ، وعصرت أمّ سليم عكّة فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتّى شبعوا ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ائذن لعشرة فأكل القوم كلّهم حتّى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا)) (1).
- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّه كان يقول: ((الله الّذي لا إله إلّا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع. وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون منه فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم فتبسّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي. ثمّ قال: يا أبا هرّ قلت: لبّيك رسول الله قال: الحق ومضى. فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: من أين هذا اللّبن؟ قالوا: أهداه لك فلان- أو فلانة- قال: أبا هرّ قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي. قال- وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد. إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها- فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة؟ كنت أحقّ أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم بدّ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت. قال: يا أبا هرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: خذ فأعطهم. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد روي القوم كلّهم. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: أبا هرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله. قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت. فقال: اشرب، فشربت فما زال يقول: اشرب. حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكاً. قال: فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة)) (2).

(1) رواه البخاري (3578)، ومسلم (2040) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (6452) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من إيثار الصحابة رضوان الله عليهم:
ضرب الصحابة أروع أمثلة الإيثار وأجملها, ومن يتأمل في قصص إيثارهم يحسب ذلك ضربا من خيال لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات وبالأسانيد الصحيحة الصريحة.
وإليك بعضاً من النماذج التي تروي لنا صوراً رائعة من الإيثار:
ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- ((أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلّا الماء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يضمّ- أو يضيف- هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما عندنا إلّا قوت صبياني. فقال: هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيّأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثمّ قامت كأنّها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنّهما يأكلان فباتا طاويين فلمّا أصبح غدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ضحك الله اللّيلة- أو عجب من فعالكما- فأنزل الله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] (1).
الأنصار ... إيثار منقطع النظير
أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يملكون من أمر الدنيا شيئاً, قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم وأقبلوا على ما عند الله عز وجل يرجون رحمته ويخافون عذابه, فاستقبلهم الأنصار الذين تبوؤا الدار, وأكرموهم أيما إكرام ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا بل قاسموهم الأموال والزوجات ... في صورة يعجز عن وصفها اللسان, ويضعف عن تعبيرها البيان:
- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما قدم المهاجرون المدينة نزلوا على الأنصار في دورهم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أبذل في كثير منهم لقد أشركونا في المهنأ وكفونا المؤنة ولقد خشينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم به عليهم)) (2).
- وهذا عبد الرحمن بن عوف ((لما قدم المدينة آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سعد بن الرّبيع الأنصاريّ وعند الأنصاريّ امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك دلّوني على السّوق... )) (3).
إيثار ... حتى بالحياة
وقد وصل الحال بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آثروا إخوانهم بحياتهم .. وهذا غاية الجود ومنتهى البذل والعطاء.
- يقول حذيفة العدويّ، انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم أجمعين

(1) رواه البخاري (3798) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه الضياء في ((المختارة)) (5/ 290) من حديث أنس رضي الله عنه. وصحح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/ 325).
(3) رواه البخاري (2048) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،وفي غزوة اليرموك قال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفر منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم ... فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعا ولم يشربها أحد منهم، رضي الله عنهم أجمعين. (1)
صور من إيثار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
- لما طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال لابنه عبدالله: (اذهب إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها- فقل: يقرأ عمر بن الخطّاب عليك السّلام، ثمّ سلها أن أدفن مع صاحبيّ. قالت كنت أريده لنفسي فلأوثرنّه اليوم على نفسي. فلمّا أقبل قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال:
ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني، ثمّ سلّموا ثمّ قل: يستأذن عمر ابن الخطّاب فإن أذنت لي فادفنوني، وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين.) (2).
- ودخل عليها مسكين فسألها وهي صائمة وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إيّاه. قالت: ففعلت. قالت: فلمّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك). (3)
ابن عمر نموذج آخر من نماذج الإيثار الفذة
- مرض ابن عمر فاشتهى عنبا -أول ما جاء العنب-فأرسلت صفية -يعني امرأته-فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتبع الرسولَ السائل، فلما دخل به قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ، فلما دخل قال السائل: السائل. فقال ابن عمر: أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت: والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به.
- وَاشْتَهَى يوماً سَمَكَةً، وَكَانَ قَدْ نَقِهَ مِنْ مَرَضٍ فَالْتُمِسَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدْ حَتَّى وُجِدَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَاشْتُرِيَتْ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَشُوِيَتْ وَجِيءَ بِهَا عَلَى رَغِيفٍ فَقَامَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْغُلَامِ لُفَّهَا بِرَغِيفِهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَأَبَى الْغُلَامُ فَرَدَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: كُلْ هَنِيئًا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَعْطَيْتُهُ دِرْهَمًا وَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لُفَّهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ أَوْ غَفَرَ اللهُ لَهُ)) (4)

(1) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/ 15)
(2) رواه البخاري (1392) من حديث عمرو بن ميمون رحمه الله.
(3) رواه مالك في الموطأ (2/ 997).
(4) رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (31/ 142) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال: قال الدارقطني: غريب من حديث حبيب عن نافع تفرد به عمرو. وقال ابن الجوزي في ((الموضوعات)) (3/ 374): موضوع. وضعف إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/ 317).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،عمر يختبر إيثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
- أخذ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أربعمائة دينار، فجعلها في صرّة، ثمّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، ثمّ تلكّأ ساعة في البيت حتّى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثمّ قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتّى أنفدها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكّأ في البيت ساعة حتّى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسرّ بذلك عمر وقال: إنّهم إخوة! بعضهم من بعض) (1).
أخي وعياله أحوج ..
- قال ابن عمر رضي الله عنه: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منّا. فبعث به إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتّى تداولها أهل سبعة أبيات حتّى رجعت إلى الأوّل فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9]
إيثار ... حتى للحيوان
- خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم قال ما رأيت قال فلم آثرت به هذا الكلب قال ما هي بأرض كلاب إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت أن أشبع وهو جائع قال فما أنت صانع اليوم قال أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر أُلام على السخاء إن هذا الغلام لأسخى مني فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه (2)

(1) رواه ابن المبارك في ((الزهد)) (1/ 178)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (1/ 237)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (58/ 436) من حديث مالك الدار. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/ 83): رواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون ومالك الدار لا أعرفه. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/ 127): [فيه] مالك الدار لم أعرفه وبقيه رجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح الترغيب)) (926): حسن موقوف.
(2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 258).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،نماذج من إيثار السلف رحمهم الله:
وعلى نفس الطريق سار سلف الأمة وصالحوها يحذون حذو القذة بالقذة ويتبعون آثار من سبقهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإليك أخي الكريم نماذج من إيثارهم رحمهم الله:
- عن أبي الحسن الأنطاكيّ: أنّه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الرّيّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرّغفان، وأطفئوا السّراج، وجلسوا للطّعام، فلمّا رفع فإذا الطّعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئا، إيثارا لصاحبه على نفسه
- قال الهيثم بن جميل: جاء فضيل بن مرزوق ـ وكان من أئمة الهدى زهدا وفضلا ـ إلى الحسن بن حيي فأخبره أن ليس عنده شيء فقام الحسن فأخرج ستة دراهم، وأخبره أنَّه ليس عنده غيرها فقال: سبحان الله أليس عندك غيرها وأنا آخذها، فأخذ ثلاثة وترك ثلاثة ".
- وروي أن مسروقا أدان دينا ثقيلا وكان على أخيه خيثمة دين قال فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم (1)
- وقال عباس بن دهقان ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه واستعار ثوبا فمات فيه (2)
هذا غيض من فيض وما أغفلناه أكثر مما ذكرناه ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

(1) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 174).
(2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 258).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،أقوال وحكم في الإيثار ..
- قال أحدهم: لَا تُوَاكِلَنَّ جَائِعًا إلَّا بِالْإِيثَارِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ غَنِيًّا إلَّا بِالْأَدَبِ، وَلَا تُوَاكِلَنَّ ضَيْفًا إلَّا بِالنَّهْمَةِ وَالِانْبِسَاطِ (1)
- وقال أبو سليمان الدارني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له.
- وقال أيضاً: إني لألقم اللقمة أخا من إخواني فأجد طعمها في حلقي (2)
- قال أبو حفص: الإيثار هو أن يقدم. حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
- وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة.
- وقال يوسف بن الحسين: من رأى لنفسه ملكاً لا يصح منها الإيثار، لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق؛ فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه (3).

(1) ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (3/ 557).
(2) ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 174).
(3) كتاب ((عوارف المعارف)) للسهروردي (2/ 76).
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،الإيثار في واحة الشعر ..
قال الشاعر:
عجبت لبعض الناس يبذل وده ... ويمنع ما ضمت عليه الأصابع
إذا أنا أعطيت الخليل مودتي ... فليس لمالي بعد ذلك مانع
وقال آخر:
وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تنال يدي ظلم لهم وعقوق
وإني لأستحيي من الله أن أرى ... بحال اتساع والصديق مضيق
وقال آخر:
من كان للخير مناعاً فليس له ... عند الحقيقة إخوان وأخدان (1)
وقال علي بن محمد التهامي:
أُسد ولكن يؤثرون بزادهم ... والأُسد ليس تدين بالإيثار
يتزين النادي بحسن وجوههم ... كتزيُّن الهالات بالأقمار
وقال أحمد محرم:
المال للرجل الكريم ذرائعٌ ... يبغي بهن جلائل الأخطار
والناس شتى في الخلال وخيرهم ... من كان ذا فضلٍ وذا إيثار
وقال آخر:
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى يخال غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وقال حاتمٌ الطائي:
أكلف يدي من أن تنال أكفهم ... إذا ما مددناها وحاجاتنا معا
وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا (2) ...

(1) ((موسوعة الأخلاق الإسلامية)) لخالد بن جمعة الخراز (ص 388).
(2) ((الإمتاع والمؤانسة)) لأبي حيان التوحيدي (1/ 391).