الاثنين، 23 أبريل 2012

موسوعة السيرة النبوية : صلح الحديبية وبيعة الرضوان


صلح الحديبية وبيعة الرضوان


 أمر الحديبية في آخر سنة ست ، وذكر بيعة الرضوان ، والصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو
 خروج الرسول
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا ‏.‏
 من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة
قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي ‏.‏
 استنفاره صلى الله عليه وسلم العرب
قال ابن إسحاق ‏:‏ واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له ‏.‏
 عدد من خرج للعمرة
قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا ‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ‏.‏
وكان جابر بن عبدالله ، فيما بلغني ، يقول ‏:‏ كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة ‏.‏
 ما قاله عليه الصلاة و السلام عندما علم أن قريشا تريد منعه
قال الزهري ‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي - قال ابن هشام ‏:‏ ويقال بُسْر - فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم ‏.‏
قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا ويح قريش ‏!‏ لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة ‏.‏
ثم قال ‏:‏ من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها ‏؟‏
 تجنب الرسول لقاء قريش ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رجلاً من أسلم قال ‏:‏ أنا يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل بين شعاب ، فلما خرجوا منه ، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ‏.‏
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ قولوا نستغفر الله ونتوب إليه ؛ فقالوا ذلك ، فقال ‏:‏ والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها ‏.‏
قال ابن شهاب ‏:‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال ‏:‏ اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش ، في طريق ‏(‏ تخرجه ‏)‏ على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة ؛ قال ‏:‏ فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ، في ثنية المرار بركت ناقته ‏.‏
فقالت الناس ‏:‏ خلأت الناقة ، قال ‏:‏ ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ‏.‏ لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ‏.‏
ثم قال للناس ‏:‏ انزلوا قيل له ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ ما بالوادي ماء ننزل عليه ، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب ‏.‏ فغرزه في جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن ‏.‏
 الذي نزل بسهم الرسول في طلب الماء ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم ‏:‏ أن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن دارم بن عمرو بن وائلة بن سهم بن مازن بن أسلم بن أفصى بن أبي حارثة ، وهو سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏ أفصى بن حارثة ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد زعم لي بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول ‏:‏ أنا الذي نزلت بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏
 شعر لناجية يثبت أنه حامل سهم الرسول ‏:‏
وقد أنشدت أسلم أبياتاً من شعر قالها ناجية ، قد ظننا أنه هو الذي نزل بالسهم ، فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها ، وناجية في القليب يميح على الناس ، فقالت ‏:‏
يأيها المائح دلوى دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكما *
قال ابن هشام ‏:‏ويروى ‏:‏
إني رأيت الناس يمدحونكا *
قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال ناجية ، وهو في القليب يميح على الناس ‏:‏
قد علمت جارية يمانية * أني أنا المائح واسمى ناجية
وطعنة ذات رشاش واهية * طعنتها عند صدور العادية
 بديل ورجال خزاعة بين الرسول وقريش ‏:‏
فقال الزهري في حديثه ‏:‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي ، في رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه ‏:‏ ما الذي جاء به ‏؟‏
فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً ، وإنما جاء زائراً البيت ، ومعظماً لحرمته ، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا ‏:‏ يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمداً لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائراً هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا ‏:‏ وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدث بذلك عنا العرب ‏.‏
قال الزهري ‏:‏ وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة ‏.‏
 مكرز رسول قريش إلى الرسول ‏:‏
قال ‏:‏ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً قال ‏:‏ هذا رجل غادر ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحواً مما قال لبديل وأصحابه ؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
 الحليس رسول من قريش إلى الرسول ‏:‏
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رآى الهدي يسيل عله من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى ، فقال لهم ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ اجلس ، فإنما أنت أعرابي لا علم لك ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن الحليس غضب عند ذلك وقال ‏:‏ يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ‏.‏
أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له ‏!‏ والذي نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ‏.‏ قال ‏:‏ فقالوا له ‏:‏ مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به ‏.‏
 عروة بن مسعود رسول من قريش إلى الرسول ‏:‏
قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ؛ فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد - وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس - وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي ؛ قالوا ‏:‏ صدقت ما أنت عندنا بمتهم ‏.‏
فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال ‏:‏ يا محمد أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ‏.‏ قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً ‏.‏ وأيم الله ، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ‏.‏
قال ‏:‏ وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ؛ فقال ‏:‏ امصص بظر اللات ، أنحن نتكشف عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أبي قحافة ؛ قال ‏:‏ أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ‏.‏
قال ‏:‏ ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه ‏.‏ قال ‏:‏ والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد ‏.‏
قال ‏:‏ فجعل يقرع يده إذ تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول ‏:‏ اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك ؛ قال ‏:‏ فيقول عروة ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما أفظك وأغلظك ‏!‏ قال ‏:‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له عروة ‏:‏ من هذا يا محمد ‏؟‏ قال ‏:‏ هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ؛ قال ‏:‏ أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلاً من بني مالك ، من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف ‏:‏ بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية ، وأصلح ذلك الأمر ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري ‏:‏ فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوٍ مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا ‏.‏
فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه ، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه ‏.‏ ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ‏.‏ فرجع إلى قريش ، فقال ‏:‏ يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ‏.‏ وقيصر في ملكه ‏.‏ والنجاشي في ملكه ‏.‏ وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً ، فروا رأيكم ‏.‏
 خراش رسول الرسول إلى قريش ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني بعض أهل العلم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ،فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
 النفر القرشيون الذين أرسلتهم قريش للعدوان ثم عفا عنهم الرسول ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس ‏:‏ أن قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فأخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ‏.‏
 عثمان رسول محمد إلى قريش ‏:‏
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال ‏:‏ يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان ‏.‏ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ، ومعظماً لحرمته ‏.‏
 إشاعة مقتل عثمان ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ‏:‏ إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ؛ فقال ‏:‏ ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل


 بيعة الرضوان
 مبايعة الرسول الناس على الحرب وتخلف الجد ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل ‏:‏ لا نبرح حتى نناجز القوم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة ‏.‏
فكانت بيعه الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون ‏:‏ بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، وكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ‏.‏
فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة ، فكان جابر بن عبدالله يقول ‏:‏ والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته ‏.‏ قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس ‏.‏ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل ‏.‏
 أول من بايع ‏:‏
قال ابن هشام ‏:‏ فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ‏:‏ أن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له ، عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي عمر ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى
 أمر الهدنة
إرسال قريش سهيلاً إلى الرسول للصلح ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ قال الزهري ‏:‏ ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بني عامر بن لؤي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له ‏:‏ ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامة هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ‏.‏
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قال ‏:‏ قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ‏.‏ فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح ‏.‏
 عمر ينكر على الرسول الصلح ‏:‏
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال ‏:‏ يا أبا بكر ، أليس برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، وألسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال أبو بكر ‏:‏ يا عمر الزم غرزه ، فإني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر ‏:‏ وأنا أشهد أنه رسول الله ‏.‏
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏:‏ يا رسول الله ألست برسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أولسنا بالمسلمين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ أوليسوا بالمشركين ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، قال ‏:‏ فعلام نعطي الدنية في ديننا ‏؟‏ قال ‏:‏ أنا عبدالله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني ‏!‏
قال ‏:‏ فكان عمر يقول ‏:‏ ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ ‏!‏ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً ‏.‏
 علي يكتب شروط الصلح ‏:‏
قال ‏:‏ ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال ‏:‏ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لا أعرف هذا ، ولكن أكتب باسمك اللهم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب باسمك اللهم ، فكتبها ‏.‏
ثم قال ‏:‏ اكتب ‏:‏ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ؛ قال ‏:‏ فقال سهيل ‏:‏ لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ؛ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وإن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ‏.‏
 دخول خزاعة في عهد محمد وبني بكر في عهد قريش ‏:‏
فتواثبت خزاعة فقالوا ‏:‏ نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا ‏:‏ نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب ، السيوف في القرب ، لا تدخلها بغيرها ‏.‏
 ما أهم الناس من الصلح ومجيء أبي جندل ‏:‏
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمرٌ عظيم ، حتى كادوا يهلكون ‏.‏
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ؛ ثم قال ‏:‏ يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ؛ قال ‏:‏ صدقت ، فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجره ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ‏؟‏ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا جندل ؛ اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنا لا نغدر بهم ‏.‏
قال ‏:‏ فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ، ويقول ‏:‏ اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ‏.‏ قال ‏:‏ ويدني قائم السيف منه ‏.‏ قال ‏:‏ يقول عمر ‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ؛ فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية ‏.‏
 من شهدوا على الصلح ‏:‏
فلما فرغ ‏(‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏)‏ من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين ‏:‏ أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعبدالرحمن بن عوف ، وعبدالله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص ، وهو يومئذ مشرك ، وعلي بن أبي طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة ‏.‏
 نحر الرسول وحلق فاقتدى به الناس ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل ، وكان يصلي في الحرم ، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هدية فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه ، وكان الذي حلقه ، فيما بلغني ، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي ؛ فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون ‏.‏
 دعوة الرسول للمحلقين ثم للمقصرين ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال ‏:‏ حلق رجال يوم الحديبية ، وقصر آخرون ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يرحم الله المحلقين ، قالوا ‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ يرحم الله المحلقين ؛ قالوا ‏:‏ والمقصرين يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ والمقصرين ؛ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ‏:‏ فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ‏؟‏ قال ‏:‏ لم يشكوا ‏.‏
 أهدِى الرسول جملاً فيه برة من فضة ‏:‏
وقال عبدالله بن أبي نجيح ‏:‏ حدثني مجاهد ، عن ابن عباس ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل ، في رأسه برة من فضة ، يغيظ بذلك المشركين ‏.‏
 نزول سورة الفتح ‏:‏
قال الزهري في حديثه ‏:‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه ذلك قافلاً ،حتى إذا كان بين مكة والمدينة ، نزلت سورة الفتح ‏:‏ ‏(‏ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ويتم نعمته عليك ، ويهديك صراطاً مستقيماً ‏)‏ ‏.‏
 ذكر البيعة ‏:‏
ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه ، حتى انتهى من ذكر البيعة ، فقال جل ثناؤه ‏:‏ ‏(‏ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، يد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً ‏)‏ ‏.‏
 ذكر من تخلف ‏:‏
ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب ، ثم قال حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه‏:‏ ‏(‏ سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا ‏)‏ ‏.‏ ثم القصة عن خبرهم ، حتى انتهى إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ سيقولون المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله ، قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ‏)‏ ‏.‏ ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولى البأس الشديد ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال ‏:‏ فارس ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم ، عن الزهري أنه قال ‏:‏ أولوا البأس الشديد حنيفة مع الكذاب ‏.‏
ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحاً قريباً ‏.‏ ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيراً حكيماً ‏.‏ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه ، وكف أيدي الناس عنكم ، ولتكون آية للمؤمنين ويهيدكم صراطاً مستقيماً‏.‏ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً ‏)‏ ‏.‏
 ذكر كف الرسول عن القتال ‏:‏
ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال ، بعد الظفر منه بهم ، يعني ‏:‏ النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، وكان الله بما تعملون بصيراً ‏)‏ ‏.‏ ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ‏)‏ ‏.‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب ‏:‏
قال ابن هشام ‏:‏المعكوف المحبوس ، قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏:‏
وكأن السموط عكفه السلك * بعطفي جيداء أم غزال ‏.‏
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏(‏ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ‏)‏ ، والمعرة ‏:‏ الغرم ، أي ‏:‏ أن تصيبوا منهم ‏(‏ معرة ‏)‏ بغير علم فتخرجوا ديته ، فأما إثم فلم يخشه عليهم ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏بلغني عن مجاهد أنه قال ‏:‏ نزلت هذه الآية في الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم ‏.‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم قال تبارك وتعالى ‏:‏ ‏(‏ إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية ‏)‏ يعني ‏:‏ سهيل بن عمرو حين حمي أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأن محمداً رسول الله ، ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ‏)‏ ، وكانوا أحق بها وأهلها ‏:‏ أي التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ‏.‏
ثم قال تعالى ‏:‏ ‏(‏ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا ‏)‏ ‏.‏ أي ‏:‏ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رأى ، أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف ؛ يقول ‏:‏ محلقين رءوسكم ، ومقصرين معه لا تخافون ، فعلم من ذلك ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً ، صلح الحديبية ‏.‏
يقول الزهري ‏:‏ فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ؛ فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه ، ولقد دخل تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة ، في قول جابر بن عبدالله ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف ‏.‏
 ما جرى عليه أمر قوم من المستضعفين بعد الصلح
 مجيء أبي بصير إلى المدينة وطلب قريش له ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية ، وكان ممن حبس بمكة ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر والأخنس ‏.‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك ؛ قال ‏:‏ يا رسول الله ، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني ‏؟‏ قال ‏:‏ يا أبا بصير انطلق فإن الله تعالى سيجعل ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً‏.‏
 قتل أبي بصير للعامري ومقالة الرسول في ذلك ‏:‏
فانطلق معهما ، حتى إذا كان بذي الحليفة ، جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير ‏:‏ أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏ نعم أنظر إليه ‏؟‏ قال ‏:‏ انظر إن شئت ‏.‏ قال ‏:‏ فاستله أبو بصير ، ثم علاه به حتى قتله ‏.‏
وخرج المولى سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم طالعاً قال ‏:‏ إن هذا الرجل قد رأى فزعاً ؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ ما لك ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل صاحبكم صاحبي فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحاً بالسيف ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، وفت ذمتك ، وأدى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه ، أو يعبث بي ‏.‏ قال ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ‏!‏
 اجتماع المحتبسين إلى أبي بصيرة وإيذاؤهم قريشاً وإيواء الرسول لهم ‏:‏
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص ، من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر ، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام ، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير ‏:‏ ‏"‏ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال ‏!‏ ‏"‏ ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص ، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيقوا على قريش ، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ، لا تمر بهم عير إلا اقتطعوها ، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم فلا حاجة لهم فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل بأرحامها إلا آواهم ، فلا حاجة لهم بهم ، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدموا عليه المدينة ‏.‏
قال ابن هشام ‏:‏أبو بصير ثقفي ‏.‏
 أراد سهيل ودي أبي بصير وشعر موهب في ذلك ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري ، أسند ظهره إلى الكعبة ، ثم قال ‏:‏ والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودي هذا الرجل ؛ فقال أبو سفيان بن حرب ‏:‏ والله إن هذا لهو السفه ، والله لا يودي ‏(‏ ثلاثاً ‏)‏ ‏.‏
فقال في ذلك موهب بن رياح أبو أنيس ، حليف بني زهرة ‏:‏
- قال ابن هشام ‏:‏أبو أنيس أشعري -
أتاني عن سهيل ذرء قول * فأيقظني وما بي من رقاد
فإن تكن العتاب تريد مني * فعِاتبني فما بك من بعادي
أتوعدني وعبد مناف حولي * بمخزوم ألهفا من تعادي
فإن تغمز قناتي لا تجدني * ضعيف العود في الكرب الشداد
أسامي الأكرمين أبا بقومي * إذا وطئ الضعيف بهم أرادي
هم منعوا الظواهر غير شك * إلى حيث البواطن فالعوادي
بكل طمرة وبكل نهد * سواهم قد طوين من الطراد
لهم بالخيف قد علمت معد * رواق المجد رفع بالعماد
شعرابن الزبعرى في الرد على موهب ‏:‏
فأجابه عبدالله بن الزبعرى فقال ‏:‏
وأمسى موهب كحمار سوء * أجاز ببلدة فيها ينادي
فإن العبد مثلك لا يناوي * سهيلاً ضل سعيك من تعادي
فاقصر يا ابن قين السوء عنه * وعد عن المقالة في البلاد
ولا تذكر عتاب أبي يزيد * فهيهات البحور من الثماد

 أمر المهاجرات بعد الهدنة
 هجرة أم كلثوم إلى رسول وإباؤه ردها ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة ، حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ، أبى الله ذلك ‏.‏
سؤال ابن هنيدة لعروة عن آية المهاجرات ورده عليه ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني الزهري ، عن عروة ابن الزبير ، قال ‏:‏ دخلت عليه يكتب كتابا إلى ابن أبي هنيدة ، صاحب الوليد بن عبدالملك ، وكتب إليه يسأله عن قول الله تعالى ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ، ولا تمسكوا بعصم الكوافر ‏)‏ ‏.‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب ‏:‏
قال ابن هشام ‏:‏واحدة العصم ‏:‏ عصمة ، وهي الحبل والسبب ‏.‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏:‏
إلى المرء قيس نطيل السرى * ونأخذ من كل حي عصم ‏.‏
وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏
‏(‏ واسألوا ما أنفقتم ، وليسألوا ما أنفقوا ، ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ‏)‏ ‏.‏
عود إلى جواب عروة ‏:‏
قال ‏:‏ فكتب إليه عروة بن الزبير ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه ؛ فلما هاجر النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام ، أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا هن امتحن بمحنة الإسلام ، فعرفوا أنهن إنما جئن رغبة في الإسلام ، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، إن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم ، ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ‏.‏
فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ورد الرجال ، وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن ، وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم ، إن هم فعلوا ‏.‏
ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء كما رد الرجال ، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ، ولم يردد لهن صداقاً ، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ‏.‏
 سؤال ابن إسحاق الزهري عن آية المهاجرات ‏:‏
قال ابن إسحاق ‏:‏ وسألت الزهري عن هذه الآية ، وقول الله عز وجل فيها ‏:‏ ‏(‏ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتهم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ‏)‏ ‏.‏ فقال ‏:‏ يقول ‏:‏ إن فات أحداً منكم أهله إلى الكفار ، ولم تأتكم امرأة تأخذون بها مثل يأخذون منكم ، فعوضوهم من فيء إن أصبتموه ؛ فلما نزلت هذه الآية ‏:‏ ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ‏)‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قول الله عز وجل ‏:‏ ‏(‏ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ‏)‏ ‏.‏
كان ممن طلق عمر بن الخطاب ، طلق امرأته قريبه بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، وأم كلثوم بنت جرول أم عبيد الله بن عمر الخزاعية ، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم ، رجلاً من قومه وهما على شركهما ‏.‏
 بشرى فتح مكة وتعجل بعض المسلمين ‏:‏
قال ابن هشام ‏:‏حدثنا أبو عبيدة ‏:‏ أن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قدم المدينة ‏:‏ ألم تقل يا رسول الله إنك تدخل مكة آمنا ‏؟‏ قال ‏:‏ بلى ، أفقلت لكم من عامي هذا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ لا ، قال ‏:‏ فهو كما قال لي جبريل عليه السلام