الأربعاء، 18 أبريل 2012

موسوعة علوم القرآن : المناسبات بين السور والآيات

المناسبات بين السور والآيات


الحكمة في ترتيب سور القرآن الكريم
        لترتيب وضع السور في المصحف أسبابًا تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم‏.‏

        أحدها‏:‏ بحسب الحروف كما في الحواميم‏.‏

        الثاني‏:‏ موافقة أول السورة لآخر ما قبلها كآخر (الْحَمْدُ) في المعنى وأول البقرة‏.‏

        الثالث‏:‏ للتوازن في اللفظ كآخر (تَبَّتْ) وأول الإخلاص‏.

        ‏الرابع‏:‏ مشابهة جملة السورة لجملة الأخرى كالضحى و (أَلَمْ نَشْرَحْ).

        قال بعض الأئمة‏:‏ وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية والالتجاء إليه في دين الإسلام والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين وآل عمران مكملة لمقصودها‏.‏

        فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم ولهذا ورد فيها ذكر المتشابه لما تمسك به النصارى وأوجب الحج في آل عمران وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه‏.‏

        وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب‏، ولهذا كانت السور المكية فيها الدين الذي اتفق عليه والأنبياء فخوطب به جميع الناس‏.‏

        والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين فخوطبوا بـ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا).

        وأما سورة النساء متضمنة أحكام الأسباب التي بين الناس وهي نوعان‏:‏ مخلوقة لله ومقدورة لهم كالنسب والصهر ولهذا افتتحت بقوله: (اتَّقُوا َبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) فانظر هذه المناسبة العجيبة في الافتتاح وبراعة الاستهلال حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما أكثر السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام فإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم خلق زوجه منه ثم بث منهما رجالًا كثيرًا ونساء في غاية الكثرة‏.

        ‏وأما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل وما أخذ على الأمة وبها تم الدين فهي سورة التكميل لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله تعالى ولهذا ذكر فيها ما يختص شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كالضوء والتيمم والحكم بالقرآن على كل ذي دين ولهذا أكثر فيها من لفظ الإكمال والإتمام وذكر فيها أن من ارتد عوض الله بخير منه ولا يزال هذا الدين كاملًا ولها أورد أنها آخر ما نزل فيها من إشارات الختم والتمام وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب‏.‏

        وقال أبو جعفر بن الزبير‏:‏ حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن وضعوا سورة القدر عقب العلق استدلوا بذلك على أن المراد بها الكناية في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الإشارة إلى قوله: (اقْرَأْ) قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ وهذا بديع جدًا‏.‏

        ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل واحدة بما بدئت به حتى لم يكن لترد (الم) في موضع (الر) ولا (حم) في وضع (طس) وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له فحق لكل سورة منها أن لا يناسبها غير الواردة فيها فلو وضع (ق) موضع (ن) لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله وسورة ق بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف من ذكر القرآن والخلق وتكرير القول ومراجعته مرارًا والقرب من ابن آدم وتلقى المكيين وقول العتيد والرقيب والسائق والإلقاء في جهنم والتقدم بالوعد وذكر المتقين والقلب والقرون والتنقيب في البلاد وتشقق الأرض وحقوق الوعيد وغير ذلك.

        وقد تكرر في سورة يونس من الكلم الواقع فيها (الر) مائتا كلمة أو أكثر فلهذا افتتحت بـ: (الر) واشتملت سورة ص على خصومات متعددة فأولها خصومة النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار وقولهم: (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) ثم اختصام الخصمين عند داود ثم تخاصم أهل النار ثم اختصام الملأ الأعلى ثم تخاصم إبليس في شأن آدم ثم في شأن بنيه وإغوائهم‏.‏

        و(الم) جمعت المخارج الثلاثة‏:‏ الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي بدء الميعاد والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة‏.‏

        وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص قصة آدم فمن بعده من الأنبياء ولما فيها من ذكر: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ...) ولهذا قال بعضهم‏:‏ معنى (المص)‏ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وزيد في الرعد راء لأجل قوله (رفع السموات) ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما‏.

        ‏واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن كقوله: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ‏)، (الم، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (‏المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ...) (الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ...) (‏طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى...) (‏طسم، تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (يس وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ)‏ (‏ص، وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ) ‏ ‏(‏حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) (‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ) إلا ثلاث سور‏:‏ العنكبوت والروم و(ن) ليس فيها ما يتعلق به وقد ذكرت حكمة ذلك في أسرار التنزيل‏.‏

        وقال الحراني في معنى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف‏:‏ زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال‏.‏

        واعلم أن القرآن منزل عند انتهاء الخلق وكمال كل الأمر بدا فكان المتحلي به جامعًا لانتهاء كل خلق وكمال كل أمر فلذلك هو صلى الله عليه وسلم قسيم الكون وهو الجامع الكامل ولذلك كان خاتمًا وكتابه كذلك‏
.......................................................................
التناسب في أسلوب القرآن الكريم
        القرآن الكريم يستحوذ على السمع ويؤثر في النفوس سلباً أو إيجاباً، وذلك حسب طبيعتها فاجرةً أو تقيةً: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس: 7- 10] فإن كانت فاجرةً فهي تنفر من القرآن وتشمئز منه، وإن كانت تقيةً فهي خاشعةٌ ووجلةٌ لذكر الله.

        فإن قيل: ما سر توجهك للحديث عن تأثير القرآن في النفوس واستحواذه على السمع قبل غيره من وجوه الإعجاز؟ فأقول: لتدرك الحكمة في الخطاب الإلهي الذي يبدأ بذكر السمع قبل غيره من الحواس فقال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36] وقال: (وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78].

        فلتكن أيها العاقل ممن قال الله تعالى فيهم: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) [آلعمران:193] (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [الأنفال:21] ولا كالذي (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا) [الجاثية: 8] فأقبل ولا تخف، و (قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15- 16].

        فدعنا نتأمل هذا البناء الإلهي المعجز تأملاً صادقاً، وننظر فيه بإمعانٍ فلا توغل في الدخول إليه دفعةً واحدة، بل خطوةً إثر خطوةٍ لتعقل ما تقف عليه وما تشاهده من أمور تثير إعجابك وتملك عليك سمعك وبصرك، تدبر في حدود سور هذا الكتاب العظيم، على الإطار العام فيها، ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها، فهذا أحد أمور الإعجاز للقرآن الكريم، إذ أن القرآن نزل منجماً في أجزاءٍ طويلةٍ و أخرى قصيرةٍ خلال ثلاثٍ وعشرين سنةً، إلا أن هذه الأجزاء رتبت ترتيباً لا مثيل له على الإطلاق في أي كتابٍ من كتب الأدب أو العلوم التي هي من تصنيف البشر.

        فسور القرآن الكريم لم ترتب حسب موضوعاتـها، ولا حسب زمن نزولها، إنما للقرآن طريقته المستقلة المخالفة لما هو مألوفٌ عند البشر في الكتب والمصنفات، عندما كان ينـزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بعض من يكتب الوحي بوضعها في مواضع محددة من السور التي لم تكن قد اكتملت بعد، وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضعٍ ما فإنـها تبقى ثابتةً في موضعها الذي أمر عليه الصلاة والسلام بوضعها فيه من السورة دون أن يطرأ على ذلك الوضع تصحيحٌ أو تعديل، وهذا أكبر دليلٍ وأسطع برهانٍ على ربانية هذا الكتاب: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء:192-193]، وقال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً).

        عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص ببصره ثم صوّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض قال: ثم شخص ببصره فقال: "أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بـهذا الموضع من هذه السورة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) مسند أحمد حديث رقم: 17842.

        قال الزركشي: فأما الآيات في كل سورةٍ ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفيٌ بلا شكٍ ولا خلاف فيه.

        ترتيب السور في القرآن الكريم:

        قد مرّ معنا أن ترتيب القرآن لا مثيل له على الإطلاق في الكتب والمصنفات، فلم يرتب حسب الترتيب الزماني ولا حسب الموضوعات إنما له طريقته الخاصة لكن بعض العلماء غفر الله لهم يذكر أن ترتيب السور اجتهاديٌ بخلاف ترتيب الآيات، وبعضهم يذكر أن ترتيب السور بعضه توفيقي اجتهادي وبعضه توقيفي وعمدتـهم في ذلك الاستدلال بحديثٍ يرويه يزيد الفارسي عن ابن عباس وسنأتي للكلام على هذا الحديث.

        وبناءًا على ما تقدم من قول بعضهم أن الترتيب توفيقي، فقد قالوا لا فائدة من البحث عن التناسب والارتباط بين الآيات والسور لأن القرآن نزل منجماً في مدة ثلاثٍ وعشرين سنةً وفي مناسباتٍ مختلفة، ولكن هذا الكلام لا يسلم من الاعتراض عليه بل يجنح عن الصواب إذا قلنا أن القرآن من أهم المعجزات الشاهدة على رسالة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام بل هي أبقى المعجزات وأبينها، ومعلوم بالبداهة أن حسن الترتيب من أكبر محاسن الكلام البليغ، ونحن نعتقد بأن القرآن معجزٌ فهل نرضى بأن يكون عارياً عن حسن الترتيب والتناسق ؟!!

        وكيف نترك النظر في فهم ارتباط معانيه وتناسق آياته وسوره وإتقان ترتيبها؟ والله عز وجل أمرنا بتدبر هذا الكتاب الكريم فقال: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82].

        وقد وصف الله تعالى هذا الكتاب بكونه محكماً: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [ الزمر: 28] وقال تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] فكونه أنزل على مدى سنين متطاولةٍ وبمناسباتٍ مختلفةٍ متفاوتة، فهذا دليل بين على إعجازه لأنه كلام عالم الغيب والشهادة: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88].

        وربما يحط عندك قدر خطيب مصقع أتى بفنون من البلاغة وأثر في النفوس بخلابة بيانه لمحض أنه ذهل عن ربط الكلام فهام من وادٍ إلى وادٍ، مع أنه معذور لأنه ألقى خطبته ارتجالاً ولم يعمل فيها النظر والروية، وما مؤاخذاتك لذلك الخطيب إلا لأن الكلام البليغ لا يحتمل سوء الترتيب، فإذا كان الأمر كذلك، أليس من الموقن بإعجاز القرآن أن يثبت حسن نظمه وإحكام ترتيبه وتناسق آياته وسوره؟

        ماذا قال العلماء في موضوع التناسب والترتيب؟

        قال الفخر الرازي: علم المناسبات علمٌ عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، وقال الزركشي: وقال بعض مشايخنا المحققين: وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبةٌ لأنـها على حسب الوقائع المتفرقة وفصل الخطاب أنـها على حسب الوقائع تنـزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبةً سوره كلها و آياته بالتوقيف[4] وفي معترك الأقران للسيوطي: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارةً ويظهر أخرى [1/52] وقال السيوطي: علم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته.

        وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني: إن القرآن تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذٌ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه، كأنه سبيكةٌ واحدةٌ ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل، كأنه حلقةٌ مفرغة، أو كأنه سمطٌ وحيد وعقدٌ فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقاً لأوله، وبدا أوله مواتياً لآخره.

        وقال الشيخ محمد عبد الله دراز: أجل إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعاً من المباني جمعت عفواً، فإذا هي لو تدبرت بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسسٍ و أصول،ٍ وأقيم على كل أصلٍ منها شعب وفصول، و امتد من كل شعبةٍ منها فروعٌ تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيانٍ واحدٍ قد وضع رسمه مرةً واحدةً، لا تحس بشيءٍ من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيءٍ من الانفصال في الخروج من طريقٍ إلى طريقٍ، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نـهاية التضام، والالتحام، كل ذلك بغير تكلفٍ ولا استعانةٍ بأمرٍ من خارج المعاني أنفسها، إنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرضٍ ومقطعه وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً[7].

        وغير هؤلاء من العلماء كثيرٌ من المتقدمين و المتأخرين الذين يهتمون بعلم التناسب والربط بين السور و الآيات الأدلة من الكتاب والسنة على أن ترتيب السور توقيفي: والأدلة التي استند إليها العلماء القائلون بأن ترتيب السور توقيفي وليس اجتهادي، كثيرةٌ منها: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] وقوله: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1] وقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) [النساء: 82] وقوله: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة: 17]

        والجمع كما قال المفسرون على معنيين: جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وجمعه بمعنى تأليفه، وفي الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلةٍ من شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة.

        وعن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عامٍ مرةً فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عامٍ عشراً فاعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين، وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً واحدةً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، ثم قرأ: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106].

        وقال أوس بن حذيفة الثقفي: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: ثلاثٌ وخمسٌ وسبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده، وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ "قال في شهر"، قال: إني أقوى من ذلك، ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: "اقرأه في سبع"، قال: إني أقوى من ذلك، قال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث".

ردّ أدلة القائلين بأن ترتيب السور اجتهادي:

        اعتمد القائلون بأن ترتيب السور مسألةٌ توفيقيةٌ اجتهادية على حديثٍ رواه يزيد الفارسي عن ابن عباس وهذا نصه: عن يزيد الفارسي قال: سمعت ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين و إلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال عثمان: كان النبي صلى الله عليه وسلم مما تنـزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له: "ضع هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا"، وتنـزل عليه الآية و الآيتان فيقول مثل ذلك وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنـها منها، فمن هنا وضعتهما في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.

        هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وأحمد، قال الشيخ أحمد شاكر في تخريجه وتعليقه عليه في المسند رقم [399]: في إسناده نظرٌ كثيرٌ، بل هو عندي ضعيفٌ جداً، بل هو حديثٌ لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على يزيد الفارسي الذي رواه عن ابن عباس، تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة.

        ثم قال الشيخ أحمد شاكر: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبّه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيكٌ في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا أنه حديثٌ لا أصل له تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث.

        ثم قال الشيخ محمد أمين المصري بعد أن نقل كلام الشيخ أحمد شاكر وغيره من العلماء المحققين كالعلامة محمد رشيد رضا، قال: وبعد هذا البحث الذي لا ندعي له الكمال و الاستيفاء نريد أن نخلص إلى أن الذي نؤمن به من غير ريبٍ أن الذي بين دفتيّ المصحف كتاب الله جل شأنه أنزله على نبيه لا مدخل للبشر في صفةٍ من أوصافه ولا في حرفٍ من حروفه ولا مجال للاجتهاد في ترتيب آياته ولا في ترتيب سوره بحيث أثبتت البسملة فإنما أثبتت بأمر الله، وحيث حذفت فإنما وقع ذلك بأمر الله.

        وإنما الريب في مثل هذه الرواية التي سبق ذكرها التي تحيط بـها الشكوك وتحفها الأوهام، ومن عجبٍ أن ينطلي أمر مثل هذه الرواية على بعض العلماء، كما مرّ لدى البيهقي والسيوطي ولعلهما أخذا بتحسين من حسنها وتصحيح من صححها والعصمة من الخطأ لله وحده.

        وهل من أدلةٍ أخرى للقائلين بعدم كون الترتيب توقيفياً؟

        نعم، مما استدلوا به أيضاً اختلاف مصاحف الصحابة فمنهم من رتبها على حسب زمن النـزول كمصحف علي رضي الله عنه، ومصحف عبد الله بن مسعود كان أوله سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران، والجواب: أن تلك المصاحف مصاحف علمٍ وتأويل قصدوا بـها ضبط وقائعٍ معينةٍ، وكان فيها المنسوخ تلاوةً، فلم تكن تلك المصاحف مصاحف تلاوة.

        ولو كان ترتيب سور القرآن الذي جمع عثمان الناس على أساسه قائماً على الاجتهاد لما قبل هؤلاء الصحابة بتسليم مصاحفهم وعرضها للتحريق والتنازل عنها ولو كانت المسألة مسألة اجتهاد لتمسكوا باجتهادهم، إذ لا يلزم المجتهد أن يقلد مجتهداً آخر.

        أنواع التناسب في القرآن :

        مناسبة السورة للسورة التي تليها، التناسب بين مطلع السورة وختامها، المناسبة بين الآيات، الوحدة الموضوعية لكل سورة، التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسقٍ خاصٍ يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة.

        ما الفائدة المرجوة من اعتبار ترتيب السور توقيفياً؟ وما الثمرة التي نجنيها من خلال التناسب والربط بين الآيات والسور؟

        في إثبات توقيفية ترتيب سور القرآن إثباتٌ وتأكيدٌ لمعنى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فلم يكن حفظ القرآن وصونه موكول لأحدٍ من البشر، وفيه أيضاً ردٌّ للشبه التي يثيرها الروافض والمستشرقون حول جمع القرآن، والزيادة فيه والنقص منه كما يزعمون!! قبحهم الله.

        ومن ثمرات هذا العلم الالتفات إلى الحكمة من هذا الترتيب والاهتمام باستخراج المعاني و الحكم و لطائف النكات التي لا يتوصل إليها إلا بالتماس المناسبة والربط، كيفية التعرف على التناسب والربط بين السور والآيات، وبيان أسبابه:

        معرفة المناسبة و ارتباط السور والآيات بعضها ببعضٍ يتم من خلال الاعتبارات التالية:

        أولا: قد يكون الارتباط ظاهراً ثانيا: قد لا يكون الارتباط ظاهراً، بل يبدو لأول وهلةٍ أن كل آية أو جملة مستقلةٍ عن الأخرى، وهاهنا: إما أن تكون معطوفةٌ على الأولى بحرفٍ من حروف العطف المشتركة في الحكم، ويندرج في هذا ما يسمى ربط التضاد أو المقابلة، كأن يذكر نوعين متضادين، كذكر المؤمنين والكافرين، والخير والشر، والعلم والجهل، والظلمات والنور، وطريق الهداية وطريق الغواية، ومصير الكافرين ومصير الأتقياء المؤمنين، والظلم والعدل، والبخل و الإنفاق، والطيب والخبيث، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم.

        وإما أن لا تكون معطوفة، فلا بد من قرينةٍ معنويةٍ تؤذن بالربط ومن ذلك إلحاق النظير بالنظير، كما في قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) في سورة الأنفال، فكراهيتهم لما فعله عليه الصلاة والسلام في قسمة الغنائم، ككراهيتهم للخروج للقتال.

        ومنه أيضاً : الاستطراد، وهذا يلاحظ في كثير من سور القرآن فإذا تحدث عن قصة آدم يستطرد لما يتبع ذلك من أمور وكذلك في الحديث عن عصيان إبليس لربه، أو ذكر قصص الأنبياء وهكذا.

        وبعد هذا العرض النظري المسهب لموضوع التناسب وترتيب سور القرآن، فهذا أوان الشروع في بيان الأدلة لإثبات المناسبة:

        التناسب بين السور:

        وجه المناسبة بين سورة الفاتحة وأول سورة البقرة: أرشد الله تعالى عباده في سورة الفاتحة إلى أن يسألوه الهداية، بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم) فاستجاب لهم سبحانه فقال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) فهذا القرآن هو طريقة الهداية الكبرى.

        وجه المناسبة بين آخر سورة البقرة وأول سورة آل عمران: ختمت السورة المتقدمة على سؤال النصر بقوله: (وانصرنا على القوم الكافرين) وفي مفتتح هذه السورة بيّن نصرتـهم على الكفار باللسان والسنان.

        ووجه آخر للربط بين السور الثلاث: [الفاتحة، البقرة، آل عمران] قال تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فالذين أنعم الله عليهم هم المؤمنون، والذين غضب الله عليهم هم اليهود ولذلك فقد كان الحديث عنهم وخطابـهم أكثر في سورة البقرة، والضالون هم النصارى فكثر خطابـهم في سورة آل عمران.

        وجه الترابط بين آخر سورة آل عمران وأول سورة النساء: أن كليهما مشترك في الأمر بالتقوى، إذ انتهت سورة آل عمران على قوله تعالى: (واتقوا الله لعلكم تفلحون) وابتدأت سورة النساء بقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم).

        ولما كثر ذكر الجهاد في السورتين السابقتين، ذكر في هذه السورة مسألةً هامةً لا يتحقق الجهاد بدونـها، هذه المسألة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وهي إنصاف المرأة وإعطاؤها حقها ورعاية حقوق اليتامى و الأرامل والمساكين والرأفة بـهم والعطف عليهم وعدم ظلمهم، إذ الجهاد المشروع والنتيجة المرجوة منه لا يتحقق ما لم يكن المسلمون يداً واحدةً على العدو.

        وجه التناسب بين آخر سورة الأعراف وأول سورة الأنفال: ختمت السورة المتقدمة بذكر الله في كل حال: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)، وبدأت سورة الأنفال بترك الانشغال بحطام الدنيا والسؤال عن الغنائم: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).

        وجه الارتباط بين آخر سورة الحجر وأول سورة النحل: قال تعالى في آخر سورة الحجر: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين). وقال في أول سورة النحل: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه) أي: ما دام أن أمر الله تعالى آتٍ فلا يضيق صدرك بما يقولون، فالذي خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفةٍ ينـزل الملائكة بالروح على من يشاء من عباده فهو الذي يصطفى الرسل.

        وجه التناسب بين آخر سورة الواقعة وأول سورة الحديد: قال تعالى في آخر سورة الواقعة: (فسبح باسم ربك العظيم) وقال في أول سورة الحديد: (سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) فالمناسبة والارتباط ظاهر.

        وجه التناسب بين آخر سورة التحريم وأول سورة تبارك: لما ثبت في السورة المتقدمة التحريم أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام مع كونـهما من الأنبياء لم يستطيعا أن ينقذا أزواجهما من النار، ولم يباركا فيهما، وأن فرعون رغم جبروته وسعة ملكه وقوة سطوته لم يستطع أن يخضع زوجته ويجعلها تابعةً لكفره وشركه فقد باركها الله، و أن مريم بنت عمران باركها الله واصطفاها على نساء العالمين، فثبت أن البركة كلها إنما هي بيد الله عز وجل لا يشاركه فيها أحد، فـ (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير).

        التناسب بين السور من القارعة إلى الناس: ذكر في سورة القارعة أحوال الساعة وشدائدها، وبعد ذكر هذه الشدائد الآتية في الساعة كان لكم أن تعتبروا وتتعظوا وتعملوا الصالحات ولكن: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) وبعد بذل الجهد في التكاثر، فإن حصل لأحد مال كثير يزعم أنه فاز كلا: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر)، فالفائزون هم المؤمنون الذين: ( أمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) أما المكتنـزون مالاً فـ (ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده) فلو كان المال يغني عن أحد لأغنى عن أصحاب الفيل: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل).

        وبعد ذكر ما أحله الله بأصحاب الفيل، فهذه نعمةٌ من الله على أهل قريش: (لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) ومن أنعم الله عليه إذ أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف، عليه أن ينفق في سبيل الله ويرعى اليتيم ويحض على طعام المسكين ولكنهم كذبوا بالدين: (أرأيت الذي يكذب بالدين) وهذا شأن كفار قريش و أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يصل الرحم وينصر المظلوم ويعين على نوائب الحق فـ (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر، إن شانئك هو الأبتر) فاقطع موالاتـهم و (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) وهذا أوان تمام دينك وكماله وقد جاء الحق وزهق الباطل: (إذا جاء نصر الله والفتح) فقد حان وقت ارتحالك من الدنيا (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).

        وإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فقد ثبت أن (تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب) فأعلن ما جئت به (قل هو الله أحد، الله الصمد) و (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس).
..............................................................................

قال الإمام السيوطي : هذه فوائد منثورة في المناسبات في تذكرة الشيخ تاج الدين السبكي ومن خطه نقلت‏:‏
1 - سئل الإمام :
ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد..؟

- وأجاب: بأن التسبيح حيث جاء ، يقدم على التحميد ، نحو: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) سبحان الله والحمد لله‏.‏

- وأجاب ابن الزملكاني :
- بأن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي كذب المشركون به النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه تكذيب لله سبحانه وتعالى .. أتى بسبحان ؛ لتنزيه الله تعالى عما نسب إليه ونبيه من الكذب‏.‏

- وأن سورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف، وتأخر الوحي .. نزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين ، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب ؛ فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة‏.‏
===============
2 - في تفسير الخويبي‏:‏ ابتدئت الفاتحة بقوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بوصف أنه مالك جميع المخلوقين.
وفي الأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر : لم يوصف بذلك ، بل بفرد من أفراد صفاته .
وهو: خلق السموات والأرض والظلمات والنور في الأنعام.
وأنزل الكتاب في الكهف.
وملك ما في السموات وما في الأرض في سبأ.
وخلقهما في فاطر.
وكان ذلك : لأن الفاتحة أم القرآن ومطلعه ، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها واشملها‏.‏
=============
3 - في العجائب للكرماني‏:‏
(1) إن قيل كيف جاء (يسألونك) أربع مرات : بغير واو.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ)
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ)
ثم جاء ثلاث مرات : بالواو.
(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)
قلنا ‏:‏ لأن سؤالهم عن الحوادث الأول .. وقع متفرقًا.
وعن الحوادث الأخر .. وقع في وقت واحد ؛ فجئ بحرف الجمع ، دلالة على ذلك‏.‏

(2) فإن قيل‏:‏ كيف جاء (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) وعادة القرآن مجيء (قُلْ) في الجواب ، بلا فاء‏.‏

وأجاب الكرماني بأن التقدير‏:‏ لو سئلت عنها: (فَقُلْ)‏.‏

(3)فإن قيل‏:‏ كيف جاء: (‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ‏) وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بـ (قُلْ)
قلنا‏:‏ حذفت للإشارة إلى أن العبد في حال الدعاء .. في أشرف المقامات لا واسطة بينه وبين مولاه‏.‏
==============
4 - ورد في القرآن سورتان ، أولهما : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في كل نصفٍ .. سورة.
فالتي في النصف الأول : تشتمل على شرح المبدأ ، وهي سورة النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)
والتي في النصف الثاني : تشتمل على شرح المعاد‏ ، وهي سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).