السبت، 21 أبريل 2012

موسوعة السيرة النبوية : نصارى نجران وما أنزل الله فيهم

نصارى نجران وما أنزل الله فيهم


 معنى العاقب والسيد والأسقف
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وفي الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم ‏‏:‏‏ العاقب ، أمير القوم وذو رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، والذي لا يُصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبدالمسيح ؛ والسيد ، لهم ثمالهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيهم ؛ وأبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائل ، أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدراسهم ‏‏.‏‏
 منزل أبي حارثة عند ملوك الروم
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ، ودرس كتبهم ، حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه ، وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ‏‏.‏‏‏
 سبب إسلام كوز بن علقمة
فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجِّها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى جنبه أخ له ، يقال له ‏‏:‏‏ كوز بن علقمة - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ كرز - فعثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كوز ‏‏:‏‏ تعس الأبعد ‏‏:‏‏ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ فقال له أبو حارثة ‏‏:‏‏ بل أنت تعست ‏‏!‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ولم يا أخي ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر ؛ فقال له كوز ‏‏:‏‏ ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى ‏‏.‏‏ فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة ، حتى أسلم بعد ذلك ‏‏.‏‏ فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني ‏‏.‏‏
 رؤساء نجران وإسلام ابن رئيس
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتابا عندهم ‏‏.‏‏ فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها ، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر ، فقال له ابنه ‏‏:‏‏ تعس الأبعد ‏‏!‏‏ يريد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له أبوه ‏‏:‏‏ لا تفعل ، فإنه نبي ، واسمه في الوضائع ، يعني الكتب ‏‏.‏‏
فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم ، فوجد فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسلم فحسن إسلامه وحج ، وهو الذي يقول ‏‏:‏‏
إليك تعدو قلقا وضينها * معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها *
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الوضين ‏‏:‏‏ الحزام ، حزام الناقة ‏‏.‏‏ وقال هشام بن عروة ‏‏:‏‏ وزاد فيه أهل العراق ‏‏:‏‏
معترضا في بطنها جنينها*‏
فأما أبو عبيدة فأنشدناه فيه ‏‏.‏‏
 صلاتهم إلى جهة المشرق
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، قال ‏‏:‏‏ لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية ، في جمال رجال بني الحارث بن كعب ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ‏‏:‏‏ ما رأينا وفدا مثلهم ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ دعوهم ؛ فصلوا إلى المشرق ‏‏.‏‏
 أسماؤهم ومعتقداتهم ، و مناقشتهم الرسول صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فكانت تسمية الأربعة عشر ، الذين يئول إليهم أمرهم ‏‏:‏‏ العاقب ، وهو عبدالمسيح ؛ والسيد وهو الأيهم ، وأبو حارثة ابن علقمة أخو بني بكر بن وائل ، وأوس ، والحارث ، وزيد ، وقيس ، ويزيد ، ونبيه ، وخويلد ، وعمرو ، وخالد ، وعبدالله ، ويحنَّس ، في ستين راكبا ‏‏.‏‏
فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم ‏‏:‏‏ أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبدالمسيح ، والأيهم السيد - وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف من أمرهم ، يقولون ‏‏:‏‏ هو الله ، ويقولون ‏‏:‏‏ هو ولد الله ، ويقولون ‏‏:‏‏ هو ثالث ثلاثة ، وكذلك قول النصرانية ‏‏.‏‏
فهم يحتجون في قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ هو الله ‏‏)‏‏ بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا ، وذلك كله بأمر الله تبارك وتعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولنجعله آية للناس ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
ويحتجون في قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إنه ولد الله ‏‏)‏‏ بأنهم يقولون ‏‏:‏‏ لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ‏‏.‏‏
ويحتجون في قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إنه ثالث ثلاثة ‏‏)‏‏ بقول الله ‏‏:‏‏ فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فيقولون ‏‏:‏‏ لو كان واحدا ما قال إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ؛ ولكنه هو وعيسى ومريم ‏‏.‏‏ ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن - فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أسلما ؛ قالا ‏‏:‏‏ قد أسلمنا ؛ قال ‏‏:‏‏ إنكما لم تسلما فأسلما ؛ قالا ‏‏:‏‏ بلى ، قد أسلمنا قبلك ، قال ‏‏:‏‏ كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ؛ قالا ‏‏:‏‏ فمن أبوه يا محمد ‏‏؟‏‏ فصمت عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهما ‏‏.‏‏
 ما نزل فيهم من القرآن في آل عمران
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله ، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ، فقال جل وعز ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فافتتح السورة بتنزيه نفسه عما قالوا ، وتوحيده إياه بالخلق والأمر ، لا شريك له فيه ، ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر ، وجعلوا معه من الأنداد ، واحتجاجا بقولهم عليهم في صاحبهم ، ليعرفهم بذلك ضلالتهم ؛ فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الم الله لا إله إلا هو ‏‏)‏‏ ليس معه غيره شريك في أمره ‏‏(‏‏ الحي القيوم ‏‏)‏‏ الحي الذي لا يموت ، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم ‏‏.‏‏ والقيوم ‏‏:‏‏ القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول ، وقد زال عيسى في قولهم عن مكانه الذي كان به ، وذهب عنه إلى غيره ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ نزَّل عليك الكتاب بالحق ‏‏)‏‏ ، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه ‏‏(‏‏ وأنزل التوراة و الإنجيل ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، كما أنزل الكتب على من كان قبله ‏‏(‏‏ وأنزل الفرقان ‏‏)‏‏ ، أي الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ إن الذين كفرو بآيات الله ، لهم عذاب شديد ، والله عزيز ذو انتقام ‏‏)‏‏ ، أي أن الله منتقم ممن كفر بآياته ، بعد علمه بها ، ومعرفته بما جاء منه فيها ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ‏‏)‏‏ ، أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى ، إذ جعلوه إلها وربا ، وعندهم من علمه غير ذلك ، غِرَّة بالله ، وكفرا به ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ‏‏)‏‏ ، أي قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه ، كما صُوِّر غيره من ولد آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ‏‏.‏‏
ثم قال تعالى إنزاها لنفسه ، وتوحيدا لها مما جعلوا معه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ‏‏)‏‏ ، العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في حجته وعذره إلى عباده ‏‏.‏‏ ‏
‏‏(‏‏ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ‏‏)‏‏ فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وُضعن عليه ‏‏(‏‏ وأخر متشابهات ‏‏)‏‏ لهن تصريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، ألاّ يُصرفن إلى الباطل ، ولا يحُرَّفن عن الحق ‏‏.‏‏
يقول عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فأما الذين في قلوبهم زيغ ‏‏)‏‏ ، أي ميل عن الهدى ‏‏(‏‏ فيتَّبعون ما تشابه منه ‏‏)‏‏ ، أي ما تصرف منه ، ليصدقوا به ‏ما ابتدعوا وأحدثوا ، لتكون لهم حجة ، ولهم على ما قالوا شبهة ‏‏(‏‏ ابتغاء الفتنة ‏‏)‏‏ ، أي اللبس ‏‏(‏‏ وابتغاء تأويله ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم ‏‏:‏‏ خلقنا وقضينا ‏‏.‏‏ يقول ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما يعلم تأويله ‏‏)‏‏ ، أي الذي به أرادوا ما أرادوا ‏‏(‏‏ إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ‏‏)‏‏ فكيف يختلف وهو قول واحد ، من رب واحد ‏‏.‏‏ ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد ، واتسق بقولهم الكتاب ، وصدق بعضه بعضا ، فنفذت به الحجة ، وظهر به العذر ، وزاح به الباطل ، ودمغ به الكفر ‏‏.‏‏
يقول الله تعالى في مثل هذا ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما يذكَّر ‏‏)‏‏ في مثل هذا ‏‏(‏‏ إلا أولوا الألباب ‏‏.‏‏ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا تمل قلوبنا ، وإن مِلْنا بأحداثنا ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
ثم قال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو الملائكة وأولوا العلم ‏‏)‏‏ بخلاف ما قالوا ‏‏(‏‏ قائما بالقسط ‏‏)‏‏ ، أي بالعدل فيما يريد ‏‏(‏‏ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ‏‏.‏‏ إن الدين عند الله الإسلام ‏‏)‏‏ ، أي ما أنت عليه يا محمد ‏‏:‏‏ التوحيد للرب ، والتصديق للرسل ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلامن بعد ما جاءهم العلم ‏‏)‏‏ ، أي الذي جاءك ، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك ‏‏(‏‏ بغيا بينهم ، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ‏‏.‏‏ فإن حاجوك ‏‏)‏‏ ، أي بما يأتون به من‏ الباطل من قولهم ‏‏:‏‏ خلقنا وفعلنا وأمرنا ، فإنما هي شبهة باطل قد عرفوا ما فيها من الحق ‏‏(‏‏ فقل أسلمت وجهي لله ‏‏)‏‏ ، أي وحده ‏‏(‏‏ ومن اتبعنِ ، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ‏‏)‏‏ الذين لا كتاب لهم ‏‏(‏‏ أأسلمتم ، فإن أسلموا فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 ما نزل من القرآن فيما اتبعه اليهود والنصارى
ثم جمع أهل الكتابين جميعا ، وذكر ما أحدثوا وما ابتدعوا ، من اليهود والنصارى ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ‏‏)‏‏ ، إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل اللهم مالك الملك ‏‏)‏‏ ، أي رب العباد ، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره ‏‏(‏‏ تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، بيدك الخير ‏‏)‏‏ ، أي لا إله غيرك ‏‏(‏‏ إنك على كل شيء قدير ‏‏)‏‏ ، أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ تولج الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل ، وتخرج الحي من الميت ، وتخرج الميت من الحي ‏‏)‏‏ بتلك القدرة ‏‏(‏‏ وترزق من تشاء بغير حساب ‏‏)‏‏ لا يقدر على ذلك غيرك ، ولا يصنعه إلا أنت ، أي فإن كنتُ سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والإخبار عن الغيوب ، لأجعله به آية للناس ، وتصديقا له في نبوته التي بعثته بها إلى قومه ، فإن من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه تمليك الملوك بأمر النبوة ، ووضعها حيث شئت ، وإيلاج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإخراج الحي من الميت ، وإخراج الميت من الحي ، ورزق من شئت من بر أو فاجر بغير حساب ؛ فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم أملكه إياه ، أفلم تكن لهم في ذلك عبرة وبينة ‏‏!‏‏ أن لو كان إلها كان ذلك‏ كله إليه ، وهو في علمهم يهرب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد ، من بلد إلى بلد ‏‏.‏‏
 ما نزل من القرآن في وعظ المؤمنن وتحذيرهم
ثم وعظ المؤمنين وحذرهم ، ثم قال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل إن كنتم تحبون الله ‏‏)‏‏ ، أي إن كان هذا من قولكم حقا ، حبا لله وتعظيما له ‏‏(‏‏ فاتبعوني يحببكم الله ، ويغفر لكم ذنوبكم ‏‏)‏‏ ، أي ما مضى من كفركم ‏‏(‏‏ والله غفور رحيم ‏‏.‏‏ قل أطيعوا الله والرسول ‏‏)‏‏ فأنتم تعرفونه وتجدونه في كتابكم ‏‏(‏‏ فإن تولوا ‏‏)‏‏ ، أي على كفرهم ‏‏(‏‏ فإن الله لا يحب الكافرين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 ما نزل من القرآن في خلق عيسى
ثم استقبل لهم أمر عيسى عليه السلام ، وكيف كان في بدء ما أراد الله به ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم ، و آل عمران على العالمين ‏‏.‏‏ ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم ذكر أمر امرأة عمران ، وقولها ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ‏‏)‏‏ ، أي نذرته فجعلته عتيقا ، تعبده لله ، لا ينتفع به لشيء من الدنيا ‏‏(‏‏ فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ‏‏.‏‏ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ، والله أعلم بما وضعت ، وليس الذكر كالأنثى ‏‏)‏‏ ، أي ليس الذكر كالأنثى لما جعلتها محررا لك نذيرة ‏‏(‏‏ وإني سميتها مريم ، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ يقول الله تبارك وتعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا ‏‏)‏‏ بعد أبيها وأمها ‏‏.‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ كفلها ‏‏:‏‏ ضمها ‏‏.‏‏
 خبر زكريا ومريم عليهما السلام
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذكرها باليتم ، ثم قص خبرها وخبر زكريا ، وما دعا به ، وما أعطاه إذ وهب له يحيى ‏‏.‏‏ ثم ذكر مريم ، وقول الملائكة لها ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ‏‏.‏‏ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الركعين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ يقول الله عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم ‏‏)‏‏ ، أي ما كنت معهم ‏‏(‏‏ إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أقلامهم ‏‏:‏‏ سهامهم ، يعني قداحهم التي استهموا بها عليها ، فخرج قدح زكريا فضمها ، فيما قال الحسن بن أبي الحسن البصري ‏‏.‏‏
 كفالة جريج الراهب لمريم
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ كفلها هاهنا جريج الراهب ، رجل من بني إسرائيل نجار ، خرج السهم عليه بحملها ، فحملها ، وكان زكريا قد كفلها قبل ذلك ، فأصابت بني إسرائيل أزمة شديدة ، فعجز زكريا عن حملها ، فاستهموا عليها أيهم يكفلها ، فخرج السهم على جريج الراهب بكفولها فكفلها ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وما كنت لديهم إذ يختصمون ‏‏)‏‏ ، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها ‏‏.‏‏ يخبره بخفي ما كتموا عنه من العلم عندهم ، لتحقيق نبوته والحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه ‏‏.‏‏
ثم قال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ‏‏)‏‏ ، أي هكذا كان أمره ، لا كما تقولون فيه ‏‏(‏‏ وجيها في الدنيا والآخرة ‏‏)‏‏ أي عند الله ‏‏(‏‏ ومن المقربين ‏‏.‏‏ ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين ‏‏)‏‏ يخبرهم بحالاته التي يتقلب فيها في عمره ، كتقلب بني آدم في أعمارهم ، صغارا وكبارا ، إلا أن الله خصه بالكلام في مهده آية لنبوته ، وتعريفا للعباد بمواقع قدرته ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ‏‏؟‏‏ قال كذلكِ الله يخلق ما يشاء ‏‏)‏‏ ، أي يصنع ما أراد ، ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر ‏‏(‏‏ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن ‏‏)‏‏ مما يشاء وكيف شاء ، ‏‏(‏‏ فيكون ‏‏)‏‏ كما أراد ‏‏.‏‏
 ما نزل من القرآن في بيان آيات عيسى عليه السلام
ثم أخبرها بما يريد به ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة ‏‏)‏‏ التي كانت فيهم من عهد موسى قبله ‏‏(‏‏ والإنجيل ‏‏)‏‏ ، كتابا آخر أحدثه الله عز وجل إليه لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده ‏‏(‏‏ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم ‏‏)‏‏ ، أي يحقق بها نبوتي ، أني رسول منه إليكم ‏‏(‏‏ أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ‏‏)‏‏ الذي بعثني إليكم ، وهو ربي و ربكم ‏‏(‏‏ وأُبرىء الأكمه والأبرص ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الأكمه ‏‏:‏‏ الذي يولد أعمى ‏‏.‏‏ قال رؤبة بن العجاج‏‏:‏‏
هرَّجتُ فارتدّ ارتداد الأكمه *
وجمعه ‏‏:‏‏ كمه ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ هرجت ‏‏:‏‏ صحت بالأسد ، وجلبت عليه ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ وأحيي الموتى بإذن الله ، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، إن في ذلك لآية لكم ‏‏)‏‏ أني رسول الله من الله إليكم ‏‏(‏‏ إن كنتم مؤمنين ، ومصدقا لما بين يدي من التوراة ‏‏)‏‏ ، أي لما سبقني عنها ‏‏(‏‏ و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ‏‏)‏‏ ، أي أخبركم به أنه كان عليكم حراما فتركتموه ، ثم أُحله لكم تخفيفا عنكم ، فتصيبون يسره وتخرجون من تباعاته ‏‏(‏‏ وجئتكم بآية من ربكم ، فاتقوا الله وأطيعون ‏‏.‏‏ إن الله ربي وربكم ‏‏)‏‏ ، أي تبريَّا من الذي يقولون فيه ، واحتجاجا لربه عليهم ، ‏‏(‏‏ فاعبدوه هذا صراط مستقيم ‏‏)‏‏ ، أي هذا الذي قد حملتكم عليه وجئتكم به ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ فلما أحس عيسى منهم الكفر ‏‏)‏‏ والعداون عليه ، ‏‏(‏‏ قال من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله ‏‏)‏‏ هذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم ‏‏(‏‏ واشهد بأنا مسلمون ‏‏)‏‏ لا ما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ‏‏(‏‏ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول ، فاكتبنا مع الشاهدين ‏‏)‏‏ ، أي هكذا كان قولهم وإيمانهم ‏‏.‏‏
 رفع عيسى عليه السلام
ثم ذكر سبحانه وتعالى رفعه عيسى إليه حين اجتمعوا لقتله ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ، ومطهرك من الذين كفروا ‏‏)‏‏ ، إذ هموا منك بما هموا ‏‏(‏‏ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم القصة ، حتى انتهى إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ذلك نتلوه عليك ‏‏)‏‏ يا محمد ‏‏(‏‏ من الآيات والذكر الحكيم ‏‏)‏‏ القاطع الفاصل الحق ، الذي لا يخالطه الباطل ، من الخبر عن عيسى ، وعما اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلن خبرا غيره ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ إن مثل عيسى عند الله ‏‏)‏‏ فاستمع ‏‏(‏‏ كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ‏‏.‏‏ الحق من ربك ‏‏)‏‏ ، أي ما جاءك من الخبر عن عيسى ‏‏(‏‏ فلا تكن من الممترين ‏‏)‏‏ ، أي قد جاءك الحق من ربك فلا تمترينّ فيه ، وإن قالوا ‏‏:‏‏ خلق عيسى من غير ذكَر فقد خلقت آدم من تراب ، بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر ، فكان كما كان عيسى لحما ودما ، وشعرا وبشرا ، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ‏‏)‏‏ ، أي من بعد ما قصصت عليك من خبره ، وكيف كان أمره ، ‏‏(‏‏ فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قال أبو عبيدة ‏‏:‏‏ نبتهل ‏‏:‏‏ ندعو باللعنة ، قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏
لا تقعدن وقد أكَّلْتها حطبا * نعوذ من شرها يوما ونبتهل
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ يقول ‏‏:‏‏ ندعو باللعنة ‏‏.‏‏ وتقول العرب ‏‏:‏ بهل الله فلانا ، أي لعنه ، وعليه بهلة الله ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ بهُلة الله ، أي لعنة الله ؛ ونبتهل أيضا ‏‏:‏‏ نجتهد ، في الدعاء ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إن هذا ‏‏)‏‏ الذي جئت به من الخبر عن عيسى ‏‏(‏‏ لهو القصص الحق ‏‏)‏‏ من أمره ‏‏(‏‏ وما من إله إلا الله ، وإن الله لهو العزيز الحكيم ‏‏.‏‏ فإن تولوا ، فإن الله عليم بالمفسدين ‏‏.‏‏ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا ، فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فدعاهم إلى النَّصَف ، وقطع عنهم الحجة ‏‏.‏‏
 إباؤهم الملاعنة
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عنه ، والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأُمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه ، دعاهم إلى ذلك ؛ فقالوا له ‏‏:‏‏ يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ‏‏.‏‏ فانصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا عبدالمسيح ، ماذا ترى ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم ‏‏.‏‏ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك علىدينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا ‏‏.‏‏
 أبو عبيدة يتولى أمورهم
قال محمد بن جعفر ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ائتوني العشية أبعثْ معكم القوي الأمين ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فكان عمر بن الخطاب يقول ‏‏:‏‏ ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مُهجِّرا ، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال ‏‏:‏‏ اخرج معهم ، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ‏‏.‏‏ قال عمر ‏‏:‏‏ فذهب بها أبو عبيدة ‏‏.‏‏