ما نزل من القرآن بحق من عادى الرسول من أهل قريش
تهكم أبي لهب بالرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نزل فيه من القرآن
قال ابن إسحاق : وحدثني حسين بن عبدالله : أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة ، حين فارق قومه ، وظاهر عليهم قريشا ، فقال : يا بنت عتبة ؛ هل نصرت اللات والعزى ، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما ؟ قالت : نعم ، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة .
قال ابن إسحاق : وحُدثت أنه كان يقول بعض ما يقول : يعدني محمد أشياء لا أراها ، يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فماذا وضع في يديّ بعد ذلك ؟ ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ، ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد . فأنزل الله تعالى فيه : ( تبت يدا أبي لهب وتبَّ ) .
قال ابن هشام : تَـَّبت : خسرت . والتباب : الخسران . قال حبيب بن خُدْرة الخارجي : أحد بني هلال بن عامر بن صعصعة :
يا طيب إنا في معشر ذهبت * مسعاتهم في التبار والتببِ
وهذا البيت في قصيدة له .
شعر أبي طالب في تظاهر قريش على الرسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فلما اجتمعت على ذلك قريش ، وصنعوا فيه الذي صنعوا . قال أبو طالب :
ألا أبلغا عني على ذات بيننا * لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعبِ
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خُط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذي ألصقتمُ من كتابكم * لكم كائن نحسا كراغيه السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمرّ على من ذاقه جلب الحرب
فلسنا ورب البيت نُسلم أحمدا * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبنْ منا ومنكم سوالف * وأيد أُترّت بالقُساسية الشهب
بمعترك ضيق ترى كسر القنا * به والنسور الطُخم يعكفن كالشَّرب
كأن مجُال الخيل في حَجَراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواح الكماة من الرعب
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا ، حتى جُهدوا لا يصل إليهم شيء ، إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش .
أبو جهل يحكم الحصار على المسلمين
وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد ، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه في الشعب ، فتعلق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة .
فجاءه أبو البَخْتري بن هشام بن الحارث بن أسد ، فقال : ما لك وله ؟ فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم ؛ فقال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ! خلّ سبيل الرجل ؛ فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ، فأخذ له أبو البختري لَـحْي بعير فضربه به فشجه ، ووطئه وطأ شديدا ، وحمزة بن عبدالمطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فيشمتوا بهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، و سرا وجهارا ، مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس .
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى
ما نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب
فجعلت قريش حين منعه الله منها ، وقام عمه وقومه من بني هاشم ، وبني المطلب دونه ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينـزل في قريش بأحداثهم ، وفيمن نصب لعداوته منهم ، ومنهم من سمّى لنا ، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار ، فكان ممن سمّي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبدالمطلب وامرأته أم جميل بنت حرب ابن أمية ، حمالة الحطب ، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب ، لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر ، فأنزل الله تعالى فيهما
: ( تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ، وامرأته حمالةَ الحطب ، في جيدها حبل من مسد ) .
قال ابن هشام : الجيد : العنق . قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
يوم تُبدي لنا قُتيلة عن جيد * أسيل تزينه الأطواقُ
وهذا البيت في قصيدة له . وجمعه : أجياد . والمسد : شجر يدق كما يدق الكتان فتفتل منه حبال . قال النابغة الذبياني ، واسمه زياد بن عمرو ابن معاوية :
مقذوفة بدخيس النحض بازلها * له صريف صريف القعو بالمسدِ
وهذا البيت في قصيدة له . وواحدته : مسدة .
أم جميل امرأة أبي لهب و رد الله كيدها عن الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : فذُكر لي : أن أم جميل : حمالة الحطب ، حين سمعت ما نزل فيها ، وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق ، وفي يدها فِهْر من حجارة ، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما والله إني لشاعرة ، ثم قالت :
مذمما عصينا وأمره أبَيْنا
ودينه قَلَيْنا *
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تُراها رأتك ؟ فقال : ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني .
قال ابن هشام : قولها ( ودينه قلينا ) عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : وكانت قريش إنما تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ، ثم يسبونه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش ، يسبون و يهجون مذمما ، وأنا محمد .
إيذاء أمية بن خلف للرسول صلى الله عليه و سلم
وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه ، فأنزل الله تعالى فيه : ( ويل لك همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده . يحسب أن ماله أخلده . كلا لينبذن في الحطمة ، وما أدراك ما الحطمة ، نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة ) .
قال ابن هشام : الهمزة : الذي يشتم الرجل علانية ، ويكسر عينيه عليه ، ويغمز به . قال حسان بن ثابت :
همزتك فاخْتضعْتُ لذل نفس * بقافية تأجج كالشُواظِ
وهذا البيت في قصيدة له . وجمعه : همزات . واللمزة : الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم .
قال رؤبة بن العجاج :
في ظل عَصْريْ باطلي ولمزي *
وهذا البيت في أرجوزة له ، وجمعه : لمزات .
إيذاء العاص الرسول صلى الله عليه وسلم وما نزل فيه من قرآن
قال ابن إسحاق : والعاص بن وائل السهمي ، كان خباب بن الأرت ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قينا بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص ابن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه ، فقال له : يا خباب ، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذهب ، أو فضة ، أو ثياب ، أو خدم ! قال خباب : بلى . قال : فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك ، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله مني ، ولا أعظم حظا في ذلك . فأنزل الله تعالى فيه : ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ، أطلع الغيب ) ... إلى قوله تعالى : ( ونرثه ما يقول ، ويأتينا فردا ) .
إيذاء أبي جهل الرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نـزل فيه
ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - فقال له : والله يا محمد ، لتتركن سب آلهتنا ، أو لنسبن إلهك الذي تعبد . فأنزل الله تعالى فيه : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ، فيسبوا الله عدوا بغير علم ) . فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم ، وجعل يدعوهم إلى الله .
إيذاء النضر الرسول صلى الله عليه و سلم ، و ما نـزل فيه
والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي ، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا ، فدعا فيه إلى الله تعالى وتلا فيه القرآن ، وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية ، خلفه في مجلسه إذا قام ، فحدثهم عن رستم السنديد ، وعن أسفنديار ، وملوك فارس ، ثم يقول : والله ما محمد بأحسن حديثا مني ، وما حديثه إلا أساطير الأولين ، اكتتبها كما اكتتبتها . فأنزل الله فيه : ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، إنه كان غفورا رحيما ) . ونزل فيه ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) . ونزل فيه : ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، فبشره بعذاب أليم ) .
قال ابن هشام : الأفاك : الكذاب . وفي كتاب الله تعالى : ( ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله ، وإنهم لكاذبون ) .
وقال رؤبة بن العجاج :
ما لامرىء أفَّك قولا إفكا *
وهذا البيت في أرجوزة له .
قال ابن إسحاق : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ، وكل فيها خالدون ، لهم فيها زفير ، وهم فيها لا يسمعون ) .
قال ابن هشام : حصب جهنم : كل ما أوقدت به . قال أبو ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد:
فأطفىء ولا توقد ولا تك محضأ * لنار العداة أن تطير شكاتها
وهذا البيت في أبيات له . ويُروى ( ولا تك محضأ ) . قال الشاعر :
حضأت له ناري فأبصر ضوءها * وما كان لولا حضأة النار يهتدي
مقالة ابن الزبعرى ، وما أنـزل الله فيه
قال ابن إسحاق : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبدالله بن الزبعرى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبدالله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ؛ فقال عبدالله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته خصمته ، فسلوا محمدا : أكلّ ما يُعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم عليهما السلام ؛ فعجب الوليد ، ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كل من أحب أن يُعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته . فأنزل الله تعالى عليه في ذلك : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، أولئك عنها مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ) : أي عيسى بن مريم ، وعزيرا ، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله .
ونزَّل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة ، وأنها بنات الله : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ، بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ) ... إلى قوله : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه ، فذلك نجزيه جهنم ، كذلك نجزي الظالمين ) .
ونزّل فيما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنه يُعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته : ( ولما ضُرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون ) : أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم .
ثم ذكر عيسى بن مريم فقال : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه ، وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ، ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ، وإنه لعلم للساعة فلا تمترُنَّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم ) : أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : ( فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم ) .
الأخنس بن شريق ، وما أنزل الله فيه
قال ابن إسحاق : والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، وكان من أشراف القوم وممن يُستمع منه ، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرد عليه ؛ فأنزل الله تعالى فيه : ( ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ) ... إلى قوله تعالى : ( زنيم ) ، ولم يقل : ( زنيم ) لعيب في نسبه ، لأن الله لا يعيب أحدا بنسب ، ولكنه حقق بذلك نعته ليُعرف . والزنيم : العديد للقوم . وقد قال الخطيم التميمي في الجاهلية :
زنيم تداعاه الرجال زيادة * كما زيد في عرض الأديم الأكارعُ
الوليد بن المغيرة ، وما أنزل الله تعالى فيه
والوليد بن المغيرة ، قال : أيُنـزَّل على محمد وأُترك وأنا كبير قريش وسيدها ، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ، ونحن عظيما القريتين ، فأنزل الله تعالى فيه ، فيما بلغني : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ... إلى قوله تعالى : ( مما يجمعون ) .
أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط وما أنزل الله فيهما
وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، وعقبة بن أبي معيط ، وكانا متصافيين ، حَسَنا ما بينهما . فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبيا ، فأتى عقبة فقال له : ألم يبلغني أنك جالست محمدا وسمعت منه ، قال : وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل في وجهه . ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله . فأنزل الله تعالى فيهما : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) ... إلى قوله تعالى : ( للإنسان خذولا ) .
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد ارْفتَّ ، فقال : يا محمد ، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرمّ ، ثم فتَّه في يده ، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، أنا أقول ذلك ، يبعثه الله وإياك بعدما تكونان هكذا ، ثم يدخلك الله النار . فأنزل الله تعالى فيه : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال : من يحيي العظام وهي رميم ، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ، فإذا أنتم منه توقدون ) .
سورة ( قل يا أيها الكافرون ) وسبب نزولها
واعترض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ، وكانوا ذوي أسنان في قومهم ، فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم . ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دينِ ) أي إن كنتم لا تعبدون الله ، إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا حاجة لي بذلك منكم ، لكم دينكم جميعا ، ولي ديني .
أبو جهل ، وما أنزل الله فيه
وأبو جهل بن هشام ، لما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفا بها لهم ، قال : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ؟ قالوا : لا ؛ قال : عجوة يثرب بالزبد ، والله لئن استمكنا منها لنتزقمنَّها تزقما . فأنزل الله تعالى فيه : ( إن شجرة الزقوم ، طعام الأثيم ، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ) : أي ليس كما يقول .
تفسير لفظ ( المهل )
قال ابن هشام : المهل : كل شيء أذبته ، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك فيما أخبرني أبو عبيدة .
وبلغنا عن الحسن البصري أنه قال : كان عبدالله بن مسعود واليا لعمر ابن الخطاب على بيت مال الكوفة ، وأنه أمر يوما بفضة فأُذيبت ، فجعلت تلون ألوانا ، فقال : هل بالباب من أحد ؟ قالوا : نعم ؛ قال : فأدخلوهم ، فأدخلوا ، فقال : إن أدنى ما أنتم راءون شبها بالمهل ، لهذا . وقال الشاعر :
يسقيه ربي حميم المهل يجرعه * يشوي الوجوه فهو في بطنه صهر
ويقال : إن المهل : صديد الجسد .
وقال عبدالله بن الزبير الأسدي :
فمن عاش منهم عاش عبدا وإن يمت * ففي النار يُسقى مهلها وصديدها
وهذا البيت في قصيدة له .
استشهاد في تفسير ( المهل ) بكلام لأبي بكر
بلغنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما حُضِر أمر بثوبين لَبِيْسين يُغسلان فيكفن فيهما ، فقالت له عائشة : قد أغناك الله يا أبت عنهما ، فاشترِ كفنا ، فقال : إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل . قال الشاعر :
شاب بالماء منه مُهلا كريها * ثم علّ المتون بعد النهالِ
قال ابن إسحاق : فأنزل الله تعالى فيه : ( والشجرة الملعونة في القرآن ، وُنخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) .
ابن أم مكتوم ، والوليد ، و نزول سورة ( عبس )
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و رسول الله عليه و سلم يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فبينا هو في ذلك ، إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى ، فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه . فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه . فأنزل الله تعالى فيه : ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ) ... إلى قوله تعالى : ( في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ) أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا ، لم أخص بك أحدا دون أحد ، فلا تمنعه ممن ابتغاه ، ولا تتصدينّ به لمن لا يريده .
قال ابن هشام : ابن أم مكتوم ، أحد بني عامر بن لؤي ، و اسمه عبدالله ، و يقال : عمرو
أبو جهل يَذِلُّ للرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن إسحاق : وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضه إياه ، وشدته عليه ، يذله الله له إذا رآه .
أبو جهل وأمر الإراشي الذي باعه الإبل
مماطلة أبي جهل الإراشي ، و استنجاده بقريش ، و استخفافهم بالرسول
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالملك بن عبدالله بن أبي سفيان الثقفي ، وكان واعية ، قال : قدم رجل من إراش - قال ابن هشام : ويقال : إراشة - بإبل له مكة ، فابتاعها منه أبو جهل ، فمطله بأثمانها . فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس ، فقال : يا معشر قريش ، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني رجل غريب ، ابن سبيل ، وقد غلبني على حقي ؟ قال : فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل الجالس - لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه .
الرسول ينصف الإراشي من أبي جهل
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عبدالله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله ، وأنا رجل غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه ، يأخذ لي حقي منه ، فأشاروا لي إليك ، فخذ لي حقي منه ، يرحمك الله ؛ قال : انطلق إليه ، وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قام معه . قالوا لرجل ممن معهم : اتبعه ، فانظر ماذا يصنع .
قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا ؟ قال : محمد ، فاخرج إلي ، فخرج إليه ، وما في وجهه من رائحة ، قد انتقع لونه ، فقال : أعط هذا الرجل حقه ؛ قال : نعم ، لا تبرح حتى أعطيه الذي له ، قال : فدخل ، فخرج إليه بحقه ، فدفعه إليه .
قال : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال للإراشي : الحق بشأنك ، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس ، فقال : جزاه الله خيرا ، فقد والله أخذ لي حقي .
ما خافه أبو جهل من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : وجاء الرجل الذي بعثوا معه ، فقالوا : ويحك ! ماذا رأيت ؟ قال : عجبا من العجب ، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه ، فخرج إليه وما معه روحه ، فقال له : أعط هذا حقه ، فقال : نعم ، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه ، فدخل فخرج إليه بحقه ، فأعطاه إياه .
قال : ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء ، فقالوا له : ويلك ! ما لك ؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط ! قال : ويحكم ، والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي ، وسمعت صوته ، فملئت رعبا ، ثم خرجت إليه ، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ، ما رأيت مثل هامته ، ولا قصرته ، ولا أنيابه لفحل قط ، والله لو أبيت لأكلني .
أمر ركانة المطلبي ومصارعته للنبي صلى الله عليه وسلم
من معجزاته صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار ، قال : كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبد مناف أشد قريش ، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ركانة ، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه ؟ قال : إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيت إن صرعتك ، أتعلم أن ما أقول حق ؟ قال : نعم ؛ قال : فقم حتى أصارعك .
قال : فقام إليه ركانة يصارعه ؛ فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه ، وهو لا يملك من نفسه شيئا ، ثم قال : عد يا محمد ، فعاد فصرعه ، فقال : يا محمد ، والله إن هذا للعجب ، أتصرعني ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه ، إن اتقيت الله واتبعت أمري ؛ قال : ما هو ؟ قال : أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني ؛ قال : ادعها ، فدعاها ، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فقال لها : ارجعي إلى مكانك . قال : فرجعت إلى مكانها .
قال : فذهب ركانة إلى قومه ، فقال : يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فوالله ما رأيت أسحر منه قط ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع
قال ابن إسحاق : وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضه إياه ، وشدته عليه ، يذله الله له إذا رآه .
أبو جهل وأمر الإراشي الذي باعه الإبل
مماطلة أبي جهل الإراشي ، و استنجاده بقريش ، و استخفافهم بالرسول
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالملك بن عبدالله بن أبي سفيان الثقفي ، وكان واعية ، قال : قدم رجل من إراش - قال ابن هشام : ويقال : إراشة - بإبل له مكة ، فابتاعها منه أبو جهل ، فمطله بأثمانها . فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس ، فقال : يا معشر قريش ، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني رجل غريب ، ابن سبيل ، وقد غلبني على حقي ؟ قال : فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل الجالس - لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يهزءون به لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه .
الرسول ينصف الإراشي من أبي جهل
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا عبدالله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله ، وأنا رجل غريب ابن سبيل ، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه ، يأخذ لي حقي منه ، فأشاروا لي إليك ، فخذ لي حقي منه ، يرحمك الله ؛ قال : انطلق إليه ، وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قام معه . قالوا لرجل ممن معهم : اتبعه ، فانظر ماذا يصنع .
قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال : من هذا ؟ قال : محمد ، فاخرج إلي ، فخرج إليه ، وما في وجهه من رائحة ، قد انتقع لونه ، فقال : أعط هذا الرجل حقه ؛ قال : نعم ، لا تبرح حتى أعطيه الذي له ، قال : فدخل ، فخرج إليه بحقه ، فدفعه إليه .
قال : ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال للإراشي : الحق بشأنك ، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس ، فقال : جزاه الله خيرا ، فقد والله أخذ لي حقي .
ما خافه أبو جهل من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : وجاء الرجل الذي بعثوا معه ، فقالوا : ويحك ! ماذا رأيت ؟ قال : عجبا من العجب ، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه ، فخرج إليه وما معه روحه ، فقال له : أعط هذا حقه ، فقال : نعم ، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه ، فدخل فخرج إليه بحقه ، فأعطاه إياه .
قال : ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء ، فقالوا له : ويلك ! ما لك ؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط ! قال : ويحكم ، والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي ، وسمعت صوته ، فملئت رعبا ، ثم خرجت إليه ، وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ، ما رأيت مثل هامته ، ولا قصرته ، ولا أنيابه لفحل قط ، والله لو أبيت لأكلني .
أمر ركانة المطلبي ومصارعته للنبي صلى الله عليه وسلم
من معجزاته صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار ، قال : كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبدالمطلب بن عبد مناف أشد قريش ، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ركانة ، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه ؟ قال : إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفرأيت إن صرعتك ، أتعلم أن ما أقول حق ؟ قال : نعم ؛ قال : فقم حتى أصارعك .
قال : فقام إليه ركانة يصارعه ؛ فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه ، وهو لا يملك من نفسه شيئا ، ثم قال : عد يا محمد ، فعاد فصرعه ، فقال : يا محمد ، والله إن هذا للعجب ، أتصرعني ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه ، إن اتقيت الله واتبعت أمري ؛ قال : ما هو ؟ قال : أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني ؛ قال : ادعها ، فدعاها ، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فقال لها : ارجعي إلى مكانك . قال : فرجعت إلى مكانها .
قال : فذهب ركانة إلى قومه ، فقال : يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض ، فوالله ما رأيت أسحر منه قط ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع