إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
اعتزاز المسلمين بإسلام عمر
قال ابن إسحاق : ولما قدم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة على قريش ، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردَّهما النجاشي بما يكرهون ، وأسلم عمر بن الخطاب ، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازُّوا قريشا ، وكان عبدالله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه ،وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة .
قال البكائي ، قال : حدثني مسعر بن كدام ، عن سعد بن إبراهيم ، قال : قال عبدالله بن مسعود : إن إسلام عمر كان فتحا ، وإن هجرته كانت نصرا ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه .
حديث أم عبدالله بنت أبي حثمة عن إسلام عمر
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالرحمن بن الحارث بن عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عبدالعزيز بن عبدالله بن عامر بن ربيعة ، عن أمه أم عبدالله بنت أبي حثمة ، قالت :
و الله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبشة ، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه - قالت : وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا - قالت : فقال : إنه للانطلاق يا أم عبدالله .
قالت : فقلت : نعم والله ، لنخرجن في أرض الله ، آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل الله مخرجا . قالت : فقال : صحبكم الله ، ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا .
قالت : فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له : يا أبا عبدالله ، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا . قال : أطمعتِ في إسلامه ؟ قالت : قلت : نعم ؛ قال : فلا يسلم الذي رأيتِ حتى يسلم حمار الخطاب ؛ قالت : يأسا منه ، لما كان يُرى من غلظته وقسوته عن الإسلام .
سبب إسلام عمر
قال ابن إسحاق : وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب ، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت وأسلم بعلها سعيد بن زيد ، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر ، وكان نُعيم بن عبدالله النحَّام من مكة ، رجل من قومه ، من بني عدي ابن كعب قد أسلم ، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه ، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد ذُكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ، ممن كان أقام من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة .
فلقيه نعيم بن عبدالله ، فقال له : أين تريد يا عمر ؟ فقال : أريد محمدا هذا الصابئ ، الذي فرَّق أمر قريش ، وسفه أحلامها ، وعاب دينها ، وسب آلهتها ، فأقتله ؛ فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟ قال : وأي أهل بيتي ؟ قال : خَتَنُكَ وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، وأختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما ، وتابعا محمدا على دينه ، فعليك بهما .
قال : فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة ، فيها : ( طه ) يقرئهما إياها ، فلما سمعوا حس عمر ، تغيب خباب في مخدع لهم ، أو في بعض البيت ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها ، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال : ما هذه الهَيْنَمة التي سمعت ؟ قالا له : ما سمعت شيئا ؛ قال : بلى والله ، لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه ، وبطش بختنه سعيد بن زيد ؛ فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها ؛ فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم لقد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك .
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع ، فارعوى ، وقال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد ، وكان عمر كاتبا ؛ فلما قال ذلك ، قالت له أخته : إنا نخشاك عليها ؛ قال : لا تخافي ، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها ؛ فلما قال ذلك ، طمعت في إسلامه ، فقالت له : يا أخي ، إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر ، فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها : ( طه ) . فقرأها ؛ فلما قرأ منها صدرا ، قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ! فلما سمع ذلك خباب خرج عليه ، فقال له : يا عمر ، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإني سمعته أمس وهو يقول : اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، فالله الله يا عمر . فقال له عند ذلك عمر : فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم ؛ فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه ، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب ؛ فلما سمعوا صوته ، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحا السيف ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع ، فقال : يا رسول الله ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف ؛ فقال حمزة بن عبدالمطلب : فأذنْ له ، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له ، فأذن له الرجل ، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة ، فأخذ حُجْزته ، أو بمجمع ردائه ، ثم جَبَذه به جبذة شديدة ، وقال : ما جاء بك يا ابن الخطاب ؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينـزل الله بك قارعة ، فقال عمر : يا رسول الله ، جئتك لأومن بالله وبرسوله ، وبما جاء من عند الله ؛ قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم .
فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم ، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينتصفون بهما من عدوهم . فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر بن الخطاب حين أسلم .
ما رواه عطاء ومجاهد عن إسلام عمر
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح المكي ، عن أصحابه : عطاء ، ومجاهد ، أو عمن روى ذلك : أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه ، أنه كان يقول : كنت للإسلام مباعدا ، وكنت صاحب خمر في الجاهلية ، أحبها وأسر بها ، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحَزْوَرة ، عند دور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي ، قال : فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك ، قال : فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا . قال : فقلت : لو أني جئت فلانا الخمَّار ، وكان بمكة يبيع الخمر ، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها .
قال : فخرجت فجئته فلم أجده . قال : فقلت : فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين . قال : فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، وكان إذا صلى استقبل الشام ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، وكان مصلاه بين الركنين : الركن الأسود ، والركن اليماني . قال : فقلت حين رأيته ، والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول ! قال : فقلت : لئن دنوت منه أستمع منه لأروِّعنه ؛ فجئت من قبل الحجر ، فدخلت تحت ثيابها ، فجعلت أمشي رويدا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن ، حتى قمت في قبلته مستقبله ، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة .
قال : فلما سمعت القرآن رق له قلبي ، فبكيت ودخلني الإسلام ، فلم أزل قائما في مكاني ذلك ، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، ثم انصرف ، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين ، وكانت طريقه ، حتى يجزع المسعى ، ثم يسلك بين دار عباس بن عبدالمطلب ، وبين دار ابن أزهر بن عبد عوف الزهري ، ثم على دار الأخنس بن شريق ، حتى يدخل بيته . وكان مسكنه صلى الله عليه وسلم في الدار الرقطاء ، التي كانت بيدي معاوية بن أبي سفيان .
قال عمر رضي الله عنه : فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ، ودار ابن أزهر ، أدركته ؛ فلما سمع رسول اله صلى الله عليه وسلم حسي عرفني ، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أني إنما تبعته لأوذيه فنهمني ، ثم قال : ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة ؟ قال : قلت : جئت لأومن بالله وبرسوله ، وبما جاء من عند الله ؛ قال : فحمد اللهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : قد هداك الله يا عمر ، ثم مسح صدري ، ودعا لي بالثبات ، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته .
قال ابن إسحاق : والله أعلم أي ذلك كان .
ذكر ثبات عمر في إسلامه و جلده
قال ابن إسحاق : وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر ، عن ابن عمر ، قال : لما أسلم أبي عمر قال : أي قريش أنقل للحديث ؟ فقيل له : جميل بن معمر الجمحي . قال : فغدا عليه . قال عبدالله بن عمر : فغدوت أتبع أثره ، وأنظر ما يفعل ، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت ، حتى جاءه ، فقال له : أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ، ودخلت في دين محمد ؟ قال : فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر ، واتبعت أبي ، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، وهم في أنديتهم حول الكعبة ، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبا .
قال : و يقول عمر من خلفه : كذب ، ولكني قد أسلمت ، وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . وثاروا إليه ، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم . قال : وطَلِحَ ، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم ، أو تركتموها لنا ؛ قال : فبينما هم على ذلك ، إذ أقبل شيخ من قريش ، عليه حلة حِبْـرَة ، وقميص موشى ، حتى وقف عليهم ، فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : صبا عمر ؛ فقال : فمه ، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي بن كعب يُسلمون لكم صاحبكم هكذا ! خلوا عن الرجل . قال : فوالله لكأنما كانوا ثوبا كُشط عنه . قال : فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة : يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ؟ فقال : ذاك ، أي بُنيّ ، العاص بن وائل السهمي .
قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم ، أنه قال : يا أبت ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت ، وهم يقاتلونك ، جزاه الله خيرا . قال : يا بني ، ذلك العاص بن وائل ، لا جزاه الله خيرا .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر ، أو بعض أهله ، قال : قال عمر : لما أسلمت تلك الليلة ، تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت ؛ قال : قلت : أبو جهل - وكان عمر لحنتمة بنت هشام بن المغيرة - قال : فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه . قال : فخرج إلي أبو جهل ، فقال : مرحبا وأهلا بابن أختي ، ما جاء بك ؟ قلت : جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد ، وصدقت بما جاء به ؛ قال : فضرب الباب في وجهي وقال : قبحك الله ، وقبح ما جئت به