الأربعاء، 18 أبريل 2012

موسوعة علوم القرآن : الحقيقى والمجازى فى القرآن الكريم

الحقيقى والمجازى


        لا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن، وهي كل لفظ بقي على موضوعه ولا تقديم فيه ولا تأخير، وهذا أكثر الكلام.

        وأما المجاز: فالجمهور أيضاً على وقوعه فيه، وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية، وشبهتهم أن المجاز أخو الكذب والقرآن منزه عنه، وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير، وذلك محال على الله تعالى، وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن، فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنيه القصص وغيرها.

        وقد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين ابن عبد السلام، ولخصته مع زيادات كثيرة في كتاب سميته مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن وهو قسمان.

        الأول‏:‏ المجاز في التركيب ويسمى مجاز الإسناد‏.

        والمجاز العقلي وعلاقته الملابسة وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصلا لملابسته له كقوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) [الأنفال: 2]‏ نسبت الزيادة وهي فعل الله إلى الآيات لكونها سببًا لها: (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ) [القصص: 4] وقوله: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا) [غافر: 36] نسب الذبح وهو فعل الأعوان إلى فرعون، والبناء وهو فعل العملة إلى هامان؛ لكونهما آمرين به وكذا قوله: (‏وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28]‏ نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به‏.‏

        ومنه قوله تعالى: ‏(‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل: 17] نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه، وقوله: (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [القارعة: 7] أي: مرضية ‏(‏فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ) [محمد: 21]‏ أي: عزم عليه بدليل: (فَإِذَا عَزَمْتَ) [آل عمران: 159].‏

        وهذا القسم أربعة أنواع‏:

        ‏أحدها‏:‏ ما طرفاه حقيقيان كالآية المصدر بها وكقوله (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة: 2].

        ثانيها‏:‏ مجازيان نحو: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)‏ [البقرة: 16] أي: ما ربحوا فيها، وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز‏.‏

        ثالثها ورابعها‏:‏ ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر أما الأول والثاني‏.‏

        كقوله: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا) [الروم: 35] ‏أي: برهانًا ‏ (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج: 15- 17]‏ فإن الدعاء من النار مجاز‏.‏

        وقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4] وقوله: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)‏‏ [إبراهيم: 25] وقوله: (‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة: 9] ‏ فاسم الأم الهاوية مجاز‏‏ أي: كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع‏.‏

        القسم الثاني‏:‏ المجاز في المفرد ويسمى المجاز اللغوي وهو استعمال اللفظ من غير ما وضع له أولًا وأنواعه كثيرة‏:

        أحدها‏:‏ الحذف وسيأتي مبسوطًا في نوع المجاز فهو به أجدر خصوصًا إذا قلنا إنه ليس من أنواع المجاز‏.‏

        الثاني‏:‏ الزيادة وسبق تحرير القول فيها في نوع الإعراب‏.‏

        الثالث‏:‏ إطلاق اسم الكل على الجزء نحو: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ) [البقرة: 19] أي أناملهم ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى إدخالها على غير المعتاد مبالغة من الفرار فكأنهم جعلوا الأصابع، وقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) [المنافقون: 4]‏ أي: وجوههم لأنه لم ير جملتهم ‏ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185] أطلق الشهر وهو اسم الثلاثين ليلة وأراد جزءًا منه؛ كذا أجاب به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزاء يكون بعد تمام الشرط والشرط أن يشهد الشهر وهواسم لكله حقيقة فكأنه أمر بالصوم بعد مضي الشهر وليس كذلك‏.‏

        وقد فسره علي وابن عباس وابن عمر على أن المعنى‏:‏ من شهد أول الشهر فليصم جميعه وإن سافر في أثنائه‏؛ أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما وهو أيضًا من هذا النوع ويصلح أن يكون من نوع الحذف‏.‏

        الرابع‏:‏ عكسه نحو: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن: 27] أي: ذاته، وقوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة: 144] أي ذواتكم إذ الاستقبال يجب بالصدر‏ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ) [الغاشية: 8] و(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ) [الغاشية: 2،3]عاملة ناصبة عبر بالوجوه عن جميع الأجساد لأن التنعم والنصب حاصل لكلاها، وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) [الحج: 10] (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30] أي: قدمت وكسبت ونسب ذلك إلى الأيدي؛ لأن أكثر الأعمال تزاول بها، وقوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) [المزمل: 2] وقوله: (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ) [الإسراء: 78] وقوله: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43] وقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) [الإنسان: 26] أطلق كلًا من القيام والقراءة والركوع والسجود على الصلاة وهوبعضها (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] أي: الحرم كله بدليل أنه لا يذبح فيها‏.‏

        تنبيه: ألحق بهذين النوعين شيئان‏:

        أحدهما‏:‏ وصف البعض بصفة الكل كقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) [العلق: 16] فالخطأ صفة الكل وصف به الناصية وعكسه كقوله: (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) [الحجر: 52] ‏ والوجل صفة القلب،‏ (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) [الكهف: 18]‏ والرعب إنما يكون في القلب‏.‏

        والثاني‏:‏ إطلاق لفظ بعض مراد به الكل ذكره أبو عبيدة وخرج عليه قوله:‏ (َلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف: 63] أي: كله، وقوله‏: (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر: 28] وتعقب بأنه لا يجب على النبي بيان كل ما اختلف فيه بدليل الساعة والروح ونحوها وبأن موسى كان وعدهم بعذاب في الدنيا وفي الآخرة فقال‏:‏ يصبكم هذا العذاب في الدنيا وهو بعض الوعيد من غير نفي عذاب الآخرة؛ ذكره ثعلب‏.‏

        قال الزركشي‏:‏ ويحتمل أيضًا أن يقال: إن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه فكيف بعضه ويؤيد ما قاله ثعلب قوله: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) [يونس: 46].‏

        الخامس‏:‏ إطلاق اسم الخاص على العام نحو: (‏إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 16] أي: رسله‏.‏

        السادس‏:‏ عكسه نحو: (‏َيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى: 5]‏ أي: المؤمنين بدليل قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا) [غافر: 7].

        السابع‏:‏ إطلاق اسم الملزوم على اللازم‏.

        ‏الثامن‏:‏ عكسه نحو: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [المائدة: 112] أي: هل يفعل أطلق الاستطاعة على الفعل لأنها لازمة له‏.‏

        التاسع‏:‏ إطلاق المسبب على السبب نحو:‏ (لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) [غافر: 13] وقوله: (قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) [الأعراف: 26] ‏أي: مطرًا يتسبب عنه الرزق، واللباس، وقوله: (لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) [النور: 33] أي: مئونة من مهر ونفقة ومما لا بد للمتزوج منه‏.

        العاشر‏:‏ عكسه نحو: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) [هود: 20] أي: القبول والعمل به لأنه مسبب عن السمع‏.‏

        تنبيه: من ذلك نسبة الفعل إلى سبب السبب كقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)‏ [البقرة: 36] كما أخرج أبويكم من الجنة فإن المخرج في الحقيقة هو الله تعالى وسبب ذلك أكل الشجرة وسبب الأكل وسوسة الشيطان‏.‏

        الحادي عشر‏:‏ تسمية الشيء باسم ما كان عليه نحو: (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ‏) [النساء: 2]‏ أي: الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ، وقوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة: 232] أي: الذين كانوا أزواجهن، وقوله: (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا) [طه: 74] سماه مجرمًا باعتبار ما كان في الدنيا من الإجرام‏.‏

        الثاني عشر‏:‏ تسميته باسم ما يؤول إليه نحو:‏ (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا )‏ أي: عنبًا يؤول إلى الخمرية‏ (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27] أي: صائر إلى الكفر والفجور، وقوله:‏ (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: 230]‏ سماه زوجًا لأن العقد يؤول إلى الزوجة لأنها لا تنكح إلا في حال كونه زوجًا، وقوله: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) [الصافات: 101] وقوله: (ُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) [الحجر: 53] وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم‏.‏

        الثالث عشر‏:‏ إطلاق اسم الحال على المحل نحو: (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 107] أي: في الجنة لأنها محل الرحمة، وقوله: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ) [سبأ: 33] ‏ أي: في الليل، وقوله:‏ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ) [الأنفال: 43]‏ أي: عيناك؛ على قول الحسن‏.‏

        الرابع عشر‏:‏ عكسه نحو: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) [العلق: 17] أي: أهل ناديه‏‏ أي: مجلسه، ومنه التعبير باليد عن القدرة نحو: (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك: 1] وبالقلب عن العقل نحو: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)‏ [الأعراف: 179] أي: عقول، وبالأفواه عن الألسن نحو: (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران: 167] وبالقرية عن ساكنيها نحو: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]‏ فإن أخذ الزينة غير ممكن؛ لأنها مصدر، فالمراد محلها فأطلق عليه اسم الحال، وأخذها للمسجد نفسه لا يجب؛ فالمراد به الصلاة، فأطلق عليه اسم المحل على الحال‏.‏

        الخامس عشر‏:‏ تسمية الشيء باسم آلته نحو: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ) [الشعراء: 84] أي: ثناءًا حسنًا؛ لأن اللسان آلته قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4] أي: بلغة قومه‏.‏

        السادس عشر‏:‏ تسمية الشيء باسم ضده نحو: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة: 34] والبشارة حقيقة في الخبر السار ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه؛ ذكره السكاكي، وخرج عليه قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: 12] يعني‏:‏ ما دعاك إلى أن لا تسجد.‏

        السابع عشر‏:‏ إضافة الفعل إلى ما صح منه تشبيهًا نحو: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) [الكهف: 77] وصفه بالإرادة وهي من صفات الحي تشبيهًا لميله للوقوع بإرادته‏.‏

        الثامن عشر‏:‏ إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته نحو: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ) [الطلاق: 2] ‏ أي: قاربن بلوغ الأجل‏‏ أي: انقضاء العدة؛ لأن الإمساك لا يكون بعده وهو في قوله: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) [البقرة: 232] حقيقة (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34] أي: فإذا قرب مجيئه، وبه يندفع السؤال المشهور فيها أن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير وقوله: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً...)‏ الآية‏ [النساء: 9] أي: لوقاربوا أن يتركوا خافوا؛ لأن الخطاب للأوصياء وإنما يتوجه عليهم قبل الترك؛ لأنهم بعده أموات، قال تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة: 6] أي: أردتم القيام، وقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة لتكون الاستعاذة قبلها، وقوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) [الأعراف: 4] أي: أردنا إهلاكها وإلا لم يصح العطف بالفاء وجعل منه بعضهم قوله: (‏مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) [الأعراف: 178]‏ أي: من يرد الله هدايته وهو حسن جدًا لئلا يتحد الشرط والجزاء‏.‏

        التاسع عشر‏:‏ القلب إما قلب إسناد نحو: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) [القصص: 76] أي: لتنوء العصبة بها، وقوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [الرعد: 38] أي: لكل كتاب أجل، وقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ) [القصص: 12] أي: حرمناه على المراضع، وقوله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) [الأحقاف: 20] أي: تعرض النار عليه؛ لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار، وقوله: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8] أي: وإن حبه للخير، وقوله: (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) [يونس 107] أي: يرد بك الخير، وقوله: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) [البقرة: 37] لأن المتلقي حقيقة هو آدم كما قرئ بذلك أيضاَ‏.‏

        أو قبل عطف نحو: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ) [النمل: 28] أي: فانظر ثم تول، وقوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) [النجم: 8] أي: تدلى فدنا لأنه بالتدلي مال إلى الدنو‏.‏

        أو قبل تشبيه وسيأتي في نوعه‏ ‏العشرين إقامة صيغة مقام أخرى وتحته أنواع كثيرة‏ ‏منها‏:‏ إطلاق المصدر على الفاعل نحو: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء: 77] ولهذا أفرده وعلى المفعول نحو: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة: 255] أي: من علومه، (صُنْعَ اللَّهِ) [النمل: 88] أي: مصنوعه، وقوله: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف: 18] ‏أي: مكذوب فيه؛ لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام‏.‏

        ومنها‏:‏ إطلاق البشرى على المبشر به، والهوى على المهوي، والقول على المقول‏.‏

        ومنها‏:‏ إطلاق الفاعل والمفعول على المصدر نحو: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ) [الواقعة: 2] أي: تكذيب، وقوله: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم: 6] أي: الفتنة على أن الباء غير زائدة‏.‏

        ومنها‏:‏ إطلاق فاعل على مفعول نحو: (مَاءٍ دَافِقٍ) [الطارق: 6]‏ أي: مدفوق، وقوله: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود: 43]‏ أي: لا معصوم، وقوله: (جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا) [العنكبوت: 67] أي: مأمونًا فيه، وعكسه نحو: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) [مريم: 61] أي آتيًا، وقوله: (حِجَابًا مَسْتُورًا) [الإسراء: 45] أي: ساترًا‏، وقيل هو على بابه‏ أي: مستورًا عن العيون لا يحس به أحد‏.‏

ومنها‏:‏ إطلاق فعيل بمعنى مفعول نحو: (وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) [الفرقان: 55]‏ ومنها‏:‏ إطلاق واحد من المفرد والمثنى والجمع على آخر‏.‏

        منها‏:‏ مثال إطلاق المفرد على المثنى: (‏وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62] أي: يرضوهما، فأفرد لتلازم الرضاءين وعلى الجمع (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [العصر: 2] ‏ أي الأناسي بدليل الاستثناء منه (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) [المعارج: 19] بدليل: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج: 22]‏.‏

        ومثال إطلاق المثنى على المفرد: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) [ق: 24] أي: ألق، ومنه كل فعل نسب إلى شيئين وهو لأحدهما فقط نحو: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)‏ [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما وهو المالح دون العذب ونظيره‏: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) [فاطر: 12] وإنما تخرج الحلية من المالح، وقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) [نوح: 16] أي في إحداهن، وقوله: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) [الكهف: 61] والناسي يوشع بدليل قوله لموسى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف: 63] وإنما أضيف النسيان إليهما معًا لسكوت موسى عنه، وقوله: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) [البقرة: 203] والتعجيل في اليوم الثاني، وقال تعالى: (عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31]‏ قال الفارسي‏:‏ أي من إحدى القريتين وليس منهما، وقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [المائدة: 116] وإنما المتخذ إلهًا عيسى دون مريم‏.‏

        ومثال إطلاقه على الجمع: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك: 4] أي: كرات لأن البصر لا يحسر إلا بها، وجعل منه بعضهم قوله: (‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) [البقرة: 229] ومثال إطلاق الجمع على المفرد: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون: 99] أي: أرجعني‏.‏

        وجعل منه ابن فارس: (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل: 35] والرسول واحد بدليل: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) [النمل: 37] ‏وفيه نظر لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم لا سيما وعادة الملوك حجارية أن لا يرسلوا واحدًا‏، ‏وجعل منه فنادته الملائكة: (‏يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) [النحل: 2] أي جبريل‏: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) [البقرة: 72]‏ والقاتل واحد‏.‏

        ومثال إطلاقه على المثنى: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11] ‏ ‏(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) [ص: 22]‏ (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)‏ أي: أخوان‏ (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) [التحريم: 4] أي: قلباكما، وقوله: (‏وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) [الأنبياء: 78] إلى قوله: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) [الأنبياء: 78].

        ومنها‏:‏ إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه نحو: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) [النحل: 1]‏ أي: الساعة بدليل: (فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) وقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر: 68] وقوله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ...) الآية [المائدة: 116] وقوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) [إبراهيم: 21]‏ وقوله: (‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ) [الأعراف: 48].

        ‏وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار فكأنه وقع واستمر نحو: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 44]‏‏‏‏ وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) ‏ أي تلت ولقد نعلم أي علمنا: (قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي: علم (‏فلم تقتلون أنبياء الله‏) أي: قتلتم وكذا: (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا)‏ أي: قالوا‏.‏

        ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أوالمفعول لأنه حقيقة في الحال لا في الاستقبال نحو وإن الدين لواقع ذلك يوم مجموع له الناس ومنها‏:‏ إطلاق الخبر على الطلب أمرًا أونهيًا أودعاء مبالغة في الحث عليه حتى كأنه وقع وأخبر عنه‏.

        قال الزمخشري‏:‏ ورود الخبر والمراد الأمر أوالنهي أبلغ من صريحي الأمر والنهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال وأخبر عنه نحو: (‏والوالدات يرضعن‏...) ‏ والطلقات يتربصن:‏ (‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏)‏ على قراءة الرفع وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله أي: لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله لا يمسه إلا المطهرون أي: لا يمسه، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) أي: لا تعبدوا بدليل: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وقوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) أي اللهم إغفر لهم‏.‏

        وعكسه نحو فليمدد له الرحمن مدًا أي يمد اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم أي ونحن حاملون بدليل: (‏وإنهم لكاذبون‏)‏ والكذب إنما يرد على الخبر: ‏(‏فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا‏).‏

        قال الكواشي‏:‏ في الآية الأولى الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك؛ يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم‏.‏

        وقال ابن عبد السلام‏:‏ لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبرية في إيجابه‏، ومنها‏:‏ وضع النداء موضع التعجب نحو يا حسرة على العباد‏.‏

        قال الفراء‏:‏ معناها فيالها حسرة‏.‏وقال ابن خالويه‏:‏ هذه من أصعب مسئلة في القرآن لأن الحسرة لا تنادي وإنما ينادي الأشخاص لأن فائدته التنبيه ولكن المعنى على التعجب‏.‏

        ومنها‏:‏ وضع جمع القلة موضع الكثرة نحو: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ)‏ وغرف الجنة لا تحصى هم درجات عند ربهم ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين‏.

        وعكسه نحو:‏ (‏تَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ‏)‏ ومنها‏:‏ تذكير المؤنث على تأويله بمذكر نحو:‏ (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)‏ أي: وعظ‏ (‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) على تأويل البلدة بالمكان (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي) أي: الشمس أو الطالع (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال الجوهري‏:‏ ذكرت على معنى الإحسان‏.‏

        وقال الشريف المرتضى في قوله:‏ (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)‏ إن الإشارة للرحمة وإنما لم يقل ولتلك لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنه يجوز أن يكون في تأويل أن يرحم‏.‏

        ومنها‏:‏ تأنيث المذكر نحو: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ‏ أنث الفردوس وهو مذكر حملًا على معنى الجنة (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)‏ أنث عشرًا حيث حذف الهاء مع إضافتها إلى الأمثال وأحدها مذكر فقيل لإضافة الأمثال إلى مؤنث وهو ضمير الحسنات فاكتسب منه التأنيث‏.‏

        وقيل: هو من باب مراعاة المعنى؛ لأن الأمثال في المعنى مؤنثة؛ لأن مثل الحسنة حسنة والتقدير‏:‏ فله عشر حسنات أمثالها‏.‏

        ومنها‏:‏ التغليب وهو إعطاء الشيء حكم غيره‏، وقيل: ترجيح أحد المعلومين على الآخر وإطلاق لفظه عليهما إجراء للمختلفين مجرى المتفقين نحو: (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)‏ (إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) والأصل: من القانتات والغابرات فعدت الأنثى من المذكر بحكم التغليب‏ (‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) أتى بتاء الخطاب تغليبًا لجانب أنتم على جانب قوم‏.‏

        والقياس أن يؤتى بياء الغيبة لأنه صفة لقوم وحسن العدول عنه وقوع الموصوف خبرًا عن ضمير المخاطبين قال: (اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) غلب ففي الضمير المخاطب وإن كان من تبعك يقتضي الغيبة وحسنه أنه لما كان الغائب تبعًا للمخاطب في المعصية والعقوبة جعل تبعًا له في اللفظ أيضًا وهومن محاسن أرتباط اللفظ بالمعنى ‏ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ‏غلب غير العاقل حيث أتى بما لكثرته‏.‏

        وفي آية أخرى عبر بمن فغلب العاقل لشرفه: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أدخل شعيبًا في لتعودن بحكم التغليب إذ لم يكن في ملتهم أصلًا حتى يعود فيها‏.‏

        وكذا قوله: (إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ) (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)‏ عد منهم بالاستثناء تغليبًا لكونه كان بينهم يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين أي المشرق والمغرب‏.‏

        قال ابن الشجري‏:‏ وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين ‏ (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) ‏أي: الملح والعذب والبحر خاص بالملح فغلب لكونه أعظم (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي: من المؤمنين والكفار فالدرجات للعلو والدركات للسفل فاستعمل الدرجات في القسمين تغليبًا للأشرف‏.‏

        قال في البرهان‏:‏ وإنما كان التغليب من باب المجاز لأن اللفظ لم يستعمل فيما وضع له ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور الموصوفين بهذا الوصف فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على غر ما وضع له وكذا باقي الأمثلة‏.‏

        ومنها‏:‏ استعمال صيغة أفعل لغير الوجوب وصيغة لا تفعل لغير التحريم وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور والتصديق وأداة التمني والترجي والنداء لغيرها كما سيأتي كل ذلك في الإنشاء‏.‏

        ومنها‏:‏ التضمين وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ويكون في الحروف والأفعال والأسماء أما الحروف فتقدم في حروف الجر وغيرها‏، ‏وأما الأفعال فإن تضمن فعلًا معنى فعل آخر فيكون فيه معنى الفعلين معًا وذلك بأن يأتي الفعل متعديًا بحرف ليس من عادته التعدي به فيحتاج إلى تأويله أوتأويل الحرف ليصح التعدي به والأول تضمين الفعل والثاني تضمين الحرف‏.‏

        واختلفوا أيهما أولى فقال أهل اللغة وقوم من النحاة‏:‏ التوسع في الحرف‏.

        وقال المحققون‏:‏ التوسع في الفعل لأنه في الأفعال أكثر مثاله عينًا يشرب بها عباد الله فيشرب إنما يتعدى بمن فتعديته بالباء إما على تضمينه معنى يروي أوتضمين الباء معنى من: (لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)‏ فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمن معنى الإفضاء (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) والأصل في أن تضمن معنى أدعوك‏ (هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) عديت بعن لتضمنها معنى العفو والصفح‏.‏

        وأما في الأسماء فأن يضمن اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين معًا نحو: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) ضمن حقيق معنى حريص ليفيد أنه محقوق بقول الحق وحريص عليه وإنما كان التضمين مجازًا لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معًا فالجمع بينهما مجاز‏.‏

        وهناك أنواع مختلف في عدها من المجاز وهي ستة:

        أحدها‏:‏ الحذف فالمشهور أنه من المجاز وأنكره بعضهم لأن المجاز استعمال اللفظ في غير موضوعه والحذف ليس كذلك، ‏وقال ابن عطية‏:‏ حذف المضاف هو عين الإعجاز ومعظمه وليس كل حذف مجازًا‏.‏

        وقال القرافي‏:‏ الحذف أربعة أقسام‏:‏ قم يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه من حيث الإسناد نحو: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)‏ أي: أهلها إذ لا يصح إسناد السؤال إليها‏.‏

        وقسم يصح بدونه لكن يتوقف عليه شرعًا كقوله: (‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏)‏ أي: فأفطر فعدة‏، وقسم يتوقف عليه عادة لا شرعًا نحو: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أي: فضربه، وقسم يدل عليه دليل غير شرعي ولا هو عادة نحو: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) دل الدليل على أنه إنما قبض من أثر حافر فرس الرسول وليس في هذه الأقسام مجاز إلا الأول‏.

        وقال الزنجاني في «المعيار‏»:‏ إنما يكون مجازًا إذا تغير حكم فأما لم يتغير كحذف خبر المبتدأ المعطوف على جملة فليس مجازًا إذ لم يتغير حكم ما بقي من الكلام‏، وقال القزويني في «الإيضاح»‏:‏ متى تغير إعراب الكلمة بحذف أو زيادة فهي مجاز نحو (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغير الإعراب نحو أو كصيب فيما رحمة فلا توصف الكلمة بالمجاز‏.‏

        الثاني‏:‏ التأكيد زعم قوم أنه مجاز لأنه لا يفيد إلا ما أفاده الأول والصحيح أنه حقيقة‏.

        قال الطرطوشي في «العمد»‏:‏ ومن سماه مجازًا قلنا له إذا كان التأكيد بلفظ الأول نحو عجل عجل ونحوه فإن جاز أن يكون الثاني مجازًا في الأول لأنهما في لفظ واحد وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه لأنه مثل الأول‏.‏

        الثالث‏:‏ التشبيه زعم قوم أنه مجاز والصحيح أنه حقيقة‏.‏

        قال الزنجاني في المعيار‏:‏ لأنه معنى من المعاني وله ألفاظ تدل عليه وضعًا فليس فيه نقل اللفظ عن موضوعه‏، وقال الشيخ عز الدين‏:‏ إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذفه فمجاز بناء على أن الحذف من باب المجاز‏.‏

        الرابع‏:‏ الكناية وفيها أربعة مذاهب‏:

        ‏أحدها‏:‏ أنها حقيقة‏، قال ابن عبد السلام‏:‏ وهو الظاهر لأنها استعملت فيما وضعت له وأريد بها الدلالة على غيره‏.‏

        الثاني‏:‏ أنها مجاز‏.‏

        الثالث‏:‏ أنها لا حقيقة ولا مجاز وإليه ذهب صاحب «التلخيص» لمنعه في المجاز أن يراد المعنى الحقيقي مع المجازي وتجويزه ذلك فيها‏.‏

        الرابع‏:‏ وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي أنها تقسم إلى حقيقة ومجاز فإن استعملت اللفظ في معناه مرادًا منه لازم المعنى أيضًا فهو حقيقة وإن لم يرد المعنى بل عبر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز لاستعماله في غير ما وضع له‏، والحاصل أن الحقيقة منها أن يستعمل اللفظ فيما وضع له ليفيد غير ما وضع له والمجاز منها أن يريد به غير موضوعه استعمالًا وإفادة‏.‏

        الخامس‏:‏ التقديم والتأخير عده قوم من المجاز لأن تقديم ما رتبته التأخر كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل لكل واحد منهما عن مرتبته وحقه‏.‏

        قال في «البرهان»‏:‏ والصحيح أنه ليس منه فإن المجاز نقل ما وضع إلى ما لم يوضع له‏.

        ‏السادس:‏ الالتفات‏‏ قال الشيخ بهاء الدين السبكي لم أر من ذكر هل هوحقيقة أو مجاز قال وهو حقيقة حيث لم يكن معه تجريد.

        وهناك ما يوصف بأنه حقيقة ومجاز باعتبارين هو الموضوعات الشرعية كالصلاة والزكاة والصوم والحج فإنها حقائق بالنظر إلى الشرع مجازات بالنظر إلى اللغة‏.

        ‏الواسطة بين الحقيقة والمجاز قيل بها في ثلاثة أشياء‏:

        أحدها‏:‏ اللفظ قبل الاستعمال‏.‏

        وهذا القسم مفقود في القرآن ويمكن أن يكون منه أوائل السور على القول بأنها للإشارة إلى الحروف التي يتركب منها الكلام‏.

        ‏ثانيها‏:‏ الأعلام‏.‏

        ثالثها‏:‏ اللفظ المستعمل في المشاكلة نحو: (‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) (‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) ذكر بعضهم أنه واسطة بين الحقيقة والمجاز‏.‏

        قال‏:‏ لأنه لم يوضع لما استعمل فيه فليس حقيقة ولا علاقة معتبرة فليس مجازًا كذا في شرح بديعية ابن جابر لرفيقه‏، قلت‏:‏ والذي يظهر أنها مجاز والعلاقة المصاحبة‏.

       خاتمة لهم مجاز المجاز وهو أن يجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر فيتجوز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما كقوله تعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)‏ فإنه مجاز عن مجاز‏، فإن الوطء تجوز عنه بالسر لكونه لا يقع غالبًا إلا في السر وتجوز به عن العقد لأنه مسبب عنه فالمصحح للمجاز الأول الملازمة والثاني السببية، والمعنى‏:‏ لا تواعدوهن عقد نكاح‏.‏

        وكذا قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)‏ فإن قوله لا إله إلا الله مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ والعلاقة السببية لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان والتعبير بلا إله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه‏، وجعل منه ابن السيد قوله: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا)‏ فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس.