الجمعة، 20 أبريل 2012

موسوعة السيرة النبوية : قريش تسأل والرسول يجيب

 
قريش تسأل والرسول يجيب


فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ؛ وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ؛ وأخبرنا عن الروح ما هي ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أخبركم بما سألتم عنه غدا ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ‏‏.‏‏
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحُدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا ‏‏:‏‏ وعدنا محمدا غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ‏‏:‏‏ ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح ‏‏.‏‏
 الرد على قريش فيما سألوه
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه ‏‏:‏‏ لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنا ؛ فقال له جبريل ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما نتنـزَّل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله ، لما أنكروه عليه من ذلك ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ‏‏)‏‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، إنك رسول مني ‏‏:‏‏ أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولم يجعل له عوجا قيما ‏‏)‏‏ أي معتدلا ، لا اختلاف فيه ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ لينذر بأسا شديدا من لدنه ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي عاجل عقوبته في الدنيا ‏‏.‏‏ وعذابا أليما في الآخرة ‏‏:‏‏ أي من عند ربك الذي بعث رسولا ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ويـبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي دار الخلد ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ لا يموتون فيها ‏‏)‏‏ الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ‏‏)‏‏ يعني قريشا في قولهم ‏‏:‏‏ إنا نعبد الملائكة ، وهي بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ما لهم به من علم ولا لآبائهم ‏‏)‏‏ الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ كبرت كلمة تخرج من أفواههم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لقولهم ‏‏:‏‏ إن الملائكة بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ إن يقولون إلا كذبا ، فلعلك باخع نفسك ‏‏)‏‏ يا محمد ‏‏(‏‏ على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم ‏‏:‏‏ أي لا تفعل ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ باخع نفسك ، أي مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه * لشيء نحَتْه عن يديه المقادرُ
وجمعه ‏‏:‏‏ باخعون وبخعة ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وتقول العرب ‏‏:‏‏ قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي أيهم أتبع لأمري ، وأعمل بطاعتي ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الصعيد ‏‏:‏‏ الأرض ، وجمعه ‏‏:‏‏ صعد ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا ‏‏:‏‏
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به * دبَّابة في عظام الرأس خرطومُ
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والصعيد أيضا ‏‏:‏‏ الطريق ‏‏.‏‏ وقد جاء في الحديث ‏‏:‏‏ إياكم والقعود على الصعدات ‏‏.‏‏ يريد الطرق ‏‏.‏‏ والجرز ‏‏:‏‏ الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها ‏‏:‏‏ أجراز ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ سنة جرز ، وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر ، وتكون فيها جُدوبة ويُبْس وشدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف إبلا ‏‏:‏‏
طوى النحز والأجراز ما في بطونها * فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ‏
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏
 ما أنزله الله في قصة أهل الكهف
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعجب من ذلك ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والرقيم ‏‏:‏‏ الكتاب الذي رُقم فيه بخبرهم ، وجمعه ‏‏:‏‏ رُقُم ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏
ومستقر المصحف المرقَّمِ *
وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا ‏‏.‏‏ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ‏‏.‏‏ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ نحن نقص عليك نبأهم بالحق ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي بصدق الخبر عنهم ‏‏(‏‏ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والشطط ‏‏:‏‏ الغلو ومجاوزة الحق ‏‏.‏‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏
لا ينتهون ولا ينهى ذوي شطط * كالطعن يذهب فيه الزيت والفتلُ
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي بحجة بالغة ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ‏‏.‏‏ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ‏‏.‏‏ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، وهم في فجوة منه ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ تزاور ‏‏:‏‏ تميل ، وهو من الزور ‏‏.‏‏ وقال امرؤ القيس بن حجر ‏‏:‏‏
وإني زعيم إن رجعت مملكا * بسير ترى منه الفُرانق أزورا
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال أبو الزحف الكليبـي يصف بلدا ‏‏:‏‏
جأب المندَّى عن هوانا أزورُ * يُنضي المطايا خمسه العَشَنـْزَرُ
وهذان البيتان في أرجوزة له ‏‏.‏‏ و ‏‏(‏‏ تقرضهم ذات الشمال ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ تجاوزهم وتتركهم عن شمالها ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏
إلى ظُعْن يقرضن أقواز مشرف * شمالا وعن أيمانهنّ الفوارسُ
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والفجوة ‏‏:‏‏ السعة ، وجمعها ‏‏:‏‏ الفجاء ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏
ألبست قومك مخزاة ومنقصة * حتى أُبيحوا وخلوا فجوة الدارِ
‏‏(‏‏ ذلك من آيات الله ‏‏)‏‏ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ، ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ‏‏.‏‏ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الوصيد ‏‏:‏‏ الباب ‏‏.‏‏ قال العبسي ، واسمه عُبيد بن وهب ‏‏:‏‏
بأرض فلاة لا يسد وصيدها * علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ والوصيد أيضا ‏‏:‏‏ الفناء ، وجمعه ‏‏:‏‏ وصائد ، ووصد ، ووصدان ، وأصد ، وأصدان ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا ‏‏)‏‏ ‏إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قال الذين غلبوا على أمرهم ‏‏)‏‏ أهل السلطان والملك منهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ لنتخذن عليهم مسجدا ، سيقولون ‏‏)‏‏ يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ، رجما بالغيب ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا علم لهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا تكابرهم ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولا تستفت فيهم منهم أحدا ‏‏)‏‏ فإنهم لا علم لهم بهم ‏‏.‏‏
‏‏(‏‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا ‏‏:‏‏ إني مخبركم غدا ‏‏.‏‏ واستثن شِيْئَة الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لخير مما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي سيقولون ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ قل الله أعلم بما لبثوا ، له غيب السماوات والأرض ، أبصر به وأسمعْ ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحدا ‏‏)‏‏ أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه ‏‏.‏‏
 
ما أنزل الله تعالى في خبر الرجل الطواف ذي القرنين
وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطواف ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويسئلونك عن ذي القرنين ، قل سأتلو عليكم منه ذكرا ‏‏.‏‏ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ‏‏.‏‏ فأتبع سببا ‏‏)‏‏ حتى انتهى إلى آخر قصة خبره ‏‏.‏‏
 
خبر ذي القرنين
وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت أحد غيره ، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها ، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما ‏توارثوا من علمه ‏‏:‏‏ أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر ، اسمه مرزُبان بن مرذبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسمه الإسكندر ، وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان رجلا قد أدرك ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال ‏‏:‏‏ ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب ‏‏.‏‏
وقال خالد ‏‏:‏‏ سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول ‏‏:‏‏ يا ذا القرنين ؛ فقال عمر ‏‏:‏‏ اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسمَّوْا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ الله أعلم أي ذلك كان ، أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم لا ‏‏؟‏‏ فإن كان قاله ، فالحق ما قال ‏‏.‏‏
 
ما أنزل الله تعالى في أمر الروح
وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
سؤال يهود المدينة للرسول صلى الله عليه و سلم عن المراد من قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحُدثت عن ابن عباس ، أنه قال ‏‏:‏‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قالت أحبار يهود ‏‏:‏‏ يا محمد ، أرأيت قولك ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ إيانا تريد ، أم قومك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ كلا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فإنك تتلو فيما جاءك ‏‏:‏‏ أنا ‏قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء ‏‏.‏‏
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إنها في علم الله قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ، إن الله عزيز حكيم ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل ‏‏.‏‏
 
ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال وبعث الموتى
قال ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولوأن قرآنا سُيرِّت به الجبال ، أو قُطعت به الأرض ، أو كُلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت ‏‏.‏‏
 
ما أنزل الله تعالى رداً على قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك
وأُنزل عليه في قولهم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك ، ما سألوه أن يأخذ لنفسه ، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ، ويرد عنه ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ، أو يُلقى إليه كنـز ، أو تكون له جنة يأكل منها ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏‏.‏‏ اُنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش ‏‏(‏‏ جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعلْ لك قصورا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت
وأُنزل عليه في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، أتصبرون وكان ربك بصيرا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخُالَفوا لفعلت ‏‏.‏‏
 
القرآن يرد على ابن أبي أمية
وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ‏‏.‏‏ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ‏‏.‏‏ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ‏‏.‏‏ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الينبوع ‏‏:‏‏ ما نبع من الماء من الأرض وغيرها ، وجمعه ‏‏:‏‏ ينابيع ‏‏.‏‏ قال ابن هَرْمة ، واسمه إبراهيم بن علي الفهري ‏‏.‏‏
وإذا هرقت بكل دار عبرة * نُزف الشئون ودمعك الينبوع
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والكسف ‏‏:‏‏ القطع من العذاب ، وواحدته ‏‏:‏‏ كسفة ، مثل سدرة وسدر ‏‏.‏‏ وهي أيضا ‏‏:‏‏ واحدة الكسف ‏‏.‏‏ والقبيل ‏‏:‏‏ يكون مقابلة ومعاينة ، وهو كقوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أو يأتيهم العذاب قبلا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي عيانا ‏‏.‏‏ وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها * كصرخة حُبْلى يسَّرتها قبيلُها يعني القابلة ، لأنها تقابلها وتقبل ولدها ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ القبيل ‏‏:‏‏ جمعه قُبُل ، وهي الجماعات ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ‏‏)‏‏ فقُبل ‏‏:‏‏ جمع قبيل ، مثل سبل ‏‏:‏‏ جمع سبيل ، وسرر ‏‏:‏‏ جمع سرير ، و قمص ‏‏:‏‏ جمع قميص ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ في مثل من الأمثال ، وهو قولهم ‏‏:‏‏ ما يعرف قبيلا من دبير ‏‏:‏‏ أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر ؛ قال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏
تفرقت الأمور بوجهتيهم * فما عرفوا الدَّبـيـر من القَبيلِ
وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال ‏‏:‏‏ إنما أريد بهذا القبيل ‏‏:‏‏ الفتل ، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل ، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير ، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ فتل المغزل ‏‏.‏‏ فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل ، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ قوم الرجل ‏‏.‏‏ والزخرف ‏‏:‏‏ الذهب ‏‏.‏‏ والمزخرف ‏‏:‏‏ المزين بالذهب ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏
من طلل أمسى تخال المصحفا * رسومه والمذهب المزخرفا
وهذان البيتان في أرجوزة له ، ويقال أيضا لكل مزيَّن ‏‏:‏‏ مزخرف ‏‏.‏‏
نفي القرآن أن رجلا من اليمامة يعلمه
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأُنزل في قولهم ‏‏:‏‏ إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة ، يقال له الرحمن ، ولن نؤمن به أبدا ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ، وإليه متاب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 
ما أنزله الله تعالى في أبي جهل و ما هم به
وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام ، وما هم به ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، أرأيت إن كذب وتولى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدع ناديه ، سندع الزبانية ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
قال ابن هشام ‏‏:‏‏ لنسفعا ‏‏:‏‏ لنجذبن ولنأخذن ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏
قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم * من بين ملجم مُهْره أو سافع
والنادي ‏‏:‏‏ المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وتأتون في ناديكم المنكر ‏‏)‏‏ وهو الندي ‏‏.‏‏ قال عبيد بن الأبرص ‏‏:‏‏
اذهب إليك فإن من بني أسد * أهل الندي وأهل الجود والنادي
وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وأحسن نديا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ وجمعه ‏‏:‏‏ أندية ‏‏.‏‏ فليدع أهل ناديه ‏‏.‏‏ كما قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ واسأل القرية ‏‏)‏‏ يريد أهل القرية ‏‏.‏‏ قال سلامة ابن جندل ، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم ‏‏:‏‏
يومان يومُ مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأويبِ
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏
لا مهاذير في النديّ مكاثيرَ ولا مصمتين بالإفحامِ *
وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ النادي ‏‏:‏‏ الجلساء ‏‏.‏‏ والزبانية ‏‏:‏‏ الغلاظ الشداد ، وهم في هذا الموضع ‏‏:‏‏ خزنة النار ‏‏.‏‏ والزبانية أيضا في الدنيا ‏‏:‏‏ أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه ، والواحد ‏‏:‏‏ زِبْنِية ‏‏.‏‏ قال ابن الزبعرى في ذلك ‏‏:‏‏
مطاعيمُ في المقرى مَطاعين في الوغى * زبانية غلب عظام حلومها
يقول ‏‏:‏‏ شداد ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال صخر بن عبدالله الهذلي ، وهو صخر الغي ‏‏:‏‏
ومن كبير نفر زبانية *
وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏
 
ما أنزله تعالى فيما عرضوه عليه ، عليه الصلاة و السلام من أموالهم
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، إن أجري إلا على الله ، وهو على كل شيء شهيد ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏
 استكبار قريش عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم ‏‏:‏‏ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، أي اجعلوه لغوا وباطلا ، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم