النسخ فى القرآن
إذا تعارض نصان من النصوص القرآنية في ظواهرهما، فإنه لابد من التوفيق بينهما بآي وجه من أوجه التوفيق:
أ)ومن التوفيق أن يكون أحدهم خاصًا، والآخر عامًا، فيخصص الخاص العام، ويكون العام غير وارد فيها اشتمال عليه حكم الخاص علي الخاص العام، وبيناه بالنسبة إلي المرتبة إلي يكون عليها النحو الذي بناه في تخصيص العام، وبيناه بالنسبة إلي المرتبة التي يكون عليها المخصص من القطعية أو الظنية، وقد بينا الاختلاف في ذلك موضوعه.
ب)ومن التوفيق أن يؤول أحد النصين بحيث يتلاقى مع النص الآخر إذا كان أحد النصين يتفق مع أمر مقرر من أمور الشريعة، والآخر يخالف ذلك المقرر، فلابد من أن يطوع النص المعارض للمبادئ المقررة، وقد ذلك المقرر، فلابد من أن يطوع النص المعارض للمبادئ المقررة، وقد بينا ذلك في باب التأويل، فإذا لم يكن التوفيق بينهما بوجه من الوجوه أخذ المجتهد بأفواهما سندًا، فإن كان أحد الدليلين آية والآخر خبر آحاد اعتبر خير الآحاد ضعيف السند؛ وإن تساويا في القوة، ولا يمكن التوفيق بينهما بأي وجه من الوجوه ولم يعرف زمن كل واحد منهم توقف المجتهد حتى يعرف وجهًا من وجوه الترجيح، بأن يكون أحدهما معاضدًا بغيره حتى يكون أقوي استدلالا من الآخر، فإن لم يكن ذلك، قبل يقدم المحرم علي المبيح، وقيل يكون التوقف، وإن عرف تاريخ كل منهما فإن المتأخر ينسخ المتقدم، وهذا موضوع النسخ.
فالنسخ في اصطلاح الأصوليين رفع الشارع حكمًا شرعيًا بدليل متراخ، وبذلك يتبين الفرق بين النسخ والتخصيص، فالنسخ متأخرًا عن المنسوخ.
وأول من حرر الكلام في النسخ الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالة الأصول، ولقد اعتبره من قبيل بيان الأحكام لا من قبيل إلغاء النصوص.
فهو لا يعتبر النسخ إلغاء للنص، ولكنه يعتبره إنهاء لحكم النص، ولقد معه في هذا السبيل أبن حزم، ولذلك عرف النسخ فقال: حد النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول.
وإذا كان النسخ بيان انتهاء العمل بحكم معين فإنه نون مع أنواع البيان المتأخر وإنه علي مقتضي ذلك النظر ينقسم البيان إلي قسمين: بيان فيه تفصيل لمجمل أو تخصيص عام، وهذا يعمل فيه النصان، ويكون أحد النصين خادمًا النص، والقسم الثاني بيان انتهاء العمل الحكم بعد العمل به من غير أن يلغي النص.
ويذهب ابن حزم أبعد من هذا، فيقرر أن النسخ شكل من أشكال التخصيص لا يتناول اللفظ وعموم مؤداه، بل يتناول الحكم في عموم الأزمنة، ويقول في ذلك:" إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء، لأنه استثناء زمان وتخصيصه بالعمل دون سائر الأزمان، ويكون حينئذ صواب القول أن كل نسخ استثناء، وليس كل استثناء نسخًا.
ونري من هذا أن ابن حزم يشير إلي أن اللفظ الذي ينطق بالحكم له عموما: عمومك اللفظ أحيانًا، فيكون تخصيصه بالفظ أو بعمل مع بقاء الحكم في باقي الأفراد، وعمومًا يتعلق بالأزمنة وتخصيصه و النسخ، فمثلاً قوله صلي الله عليه وسلم:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" فإن هذا النص يبين أنتهاء المنع، وهو في معني التخصيص الزماني بالنص الذي أشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم الذي كان يمنع الزيارة.
والنسخ قد وقع بحكم الإسلام، فقد نسخ الإسلام بعض أحكام جاءت في الديانات السماوية السابقة، فتحريم بعض الأغذية كان قائمًا عند اليهود،فأباحها الإسلام، فقد حرم هذه الأطعمة علي اليهود لغلظ أكبادهم ولشرههم، والتحريم قد يفطم هذه النفوس عن شراهتهم، ولذا قال تعالي: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ .
ولقد وجدنا في النصوص اليهودية التي بين أيدينا إباحة الزواج من النساء إي غير عدد، فإذا كان هذا صحيحًا يكون القرآن قد نسخ الإطلاق في العدد وقيده بأربع.
وبهدا يتبين أن القرآن قد نسخ بعض الأحكام العملية التي جاءت في الشرائع السابقة وما نسخه القرآن إنما هو من الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والعصر، وأما ماله صفة العموم من الفضائل وما يشتق من الفكرة الإنسانية فإنه غير قابل للنسخ كالعقائد لأنه شريعة الإنسانية ألا بداية، ولذا قال تعالي:"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى.
وقد وقع النسخ في الإسلام كما في الحديث السابق، فقد كان المنع ثم الإباحة، وقد وقع النسخ في القبلة، فقد كانت قبلة المسلمين بعد الهجرة إلي المدينة إلي بيت المقدس، وبعد نحو ستة عشر شهرًا نسخ الله سبحانه وتعالي ذلك وأمر بالاتجاه إلي البيت الحرام، وقد صور ذلك قوله تعالي: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
وقد ثبت في السنة أن القبلة كانت قبل ذلك إلي بيت المقدس، والآية الكريمة تشير إلي هذا ولقد نسخت آيات المواريث عند جمهور الفقهاء الوصية لوارث التي ثبتت بقوله تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فقد ثبت من هذا النص جواز بل وجوب الوصية لوارث من الأقربين، وبقي بعدما تشتمل عليه من الوصية لغير الوارث من الأقارب علي أصل الوجوب، أو علي الجواز، علي خلاف العلماء في ذلك وعلي قاعدة بعض العلماء الذين يجيزون تأخير المخصص عن العام يعتبر ذلك تخصيصًا.
وقد أدعي السيوطى النسخ في نحو عشرين نصًا من القرآن الكريم،ولكن النظر العميق لا يمنع التوفيق،وإن أمكن التوفيق بأي وجه من وجوه التوفيق يقدم علي النسخ، لأن النسخ يقتضي عدم إعمال النص، وإعمال النص بضرب من ضروب التوفيق أولي من عدم إعماله.
وقد يقول قائل: لماذا كان النسخ في الشريعة الإسلامية، فإنه إذا جاز في القوانين التي يضعها البشر، وذلك بإلغاء قانون وإحلال قانون محله فإنه لا يسوغ في الشريعة التي ينزلها علام الغيوب، وذلك لأن قوانين البشر تجارب إنسانية، والإنسان يخطئ ويصيب، أما شرائع السماء فإنها قانون الله الذي لا يجري الخطأ في فعله ولا قوله تعالي الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
والجواب عن ذلك أن شرائع السماء إصلاح الله تعالي للبشر، وهي واحدة في أصلها لا تتعدد، ولكنه سبحانه لم يخلق الناس علي شاكلة واحدة، فكان لابد أن تختلف بعض الأحكام التفصيلية في طائفة ولا تصلح في الأخرى، فكان لابد أن تختلف بعض الأحكام السماوية في الأمور التي تختلف فيها الأجيال الإنسانية، ولا تناسخ فيما هو أصل الفضائل، وما به قوام الأمم، وما يتعلق بالتوحيد.
وقد جري النسخ في الشريعة الإسلامية، لأن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه الله تعالي في قوم لم يكونوا ذوي دين، ولم يتقيدوا من قبله بقانون ولا نظام، فلو خوطبوا بالأحكام الشرعية دفعة واحدة ما أطاقوها، ولذلك أخذهم الله سبحانه وتعالي بالتدريج، فنزل علي الرسول من الأحكام ما يطيقون، حتى إذا ذاقوا بشاشة الإسلام وراضوا أنفسهم علي شكائم خلقية فاضلة، خوطبوا بأحكام الشريعة الخالدة التي لا تقييد فيها، ولنضرب علي ذلك
بعض الأمثال:
أولها: أن المرأة لم تكن عندهم ذات حقوق ولم يكونوا يستسيغون أن تكون إنسانًا مستقلا له كل الحقوق، ولم يكن النسب عندهم طريقة الزواج وحده، بل كان السفاح أحيانًا طريقًا لثبوت النسب، فلما جاء الإسلام وقد وجدهم يتخذون الأخدان( أي الخلائل) ويعطون لهن بعض حقوق الزوجية وذلك فيما يسمي بالمتعة، فتركهم علي ذلك أمدًا، حتى إذا استأنسوا بمبادئ الإسلام نسخ هذا وتقررت أحكام الأسرة بالزواج الشرعي، الذي جعل للمرأة حقوقًا كاملة، كما قال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ .
ثانيًا: أن المشركين كانوا أهل وثنية، ويعبدون الأوثان، فمنع النبي من زيارة القبور حتى لا يؤدي إلي شيء من ذلك في نفوس بعض ضعفاء الإيمان من المسلمين حتى إذا زالت دولة الشرك، ويأس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض من طريق الأوثان أباح النبي صلي الله عليه وسلم زيارة القبور، فقال عليه السلام: لقد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".
ثالثها: إن الميراث في الجاهلية لم يكن يسير علي نظام محكم ثابت، فقد كن أكبر الأولاد يأخذ التركة، وأحيانًا يوصي بها لمن يشاء، المرأة في كل الأحوال ليس لها نصيب، فأوجب أولا أن تكون الوصية في الوالدين والأقربين من غير تعيين حتى إذا ألفوا ذلك، جاءت آية الميراث المحكمة ووزعت التركة بأحكام الفرائض ذلك التوزيع العادل قال تعالي: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ.... وجعل لقرابة الأم ميراثًا، كما لقرابة الأب ميراث، وإن كانت قرابة الأب تأخذ قدرًا أكبر.
رابعًا: بالنسبة للخمر والميسر، فقد كان العرب يتفاخرون بهما، ويجدون فيهما زايا، إذا يحملان بعضهم علي الشجاعة والبذل، وقد كانت عقولهم قد استغرقها ذلك، وآفاقهم الاجتماعية ضيقة، فلم يحرمهما الإسلام في أول الأمر، ولكنه أشار إلي أنهما غير مستحسنين فأشار إلي عدم استحسان الخمر في قوله تعالي: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فالمقابلة بين السكر والرزق الحسن يومئ إلي السكر ليس أمرًا مستحسنًا، لأنه ليس رزقًا حسنا، ثم بين سبحانه مضار الخمر والميسر بشكل واضح، فقال تعالي: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وإن هذا النص تمهيد للتحريم، لأن كل أمر تكون مضاره أكثر من منافعه يكون موضوع النهي، ولكن لم يصرح النص بالنهي، وعندئذ أدرك كبار الأتقياء من الصحابة أن الخمر تتفق مع مبادئ الإسلام، ولقد جاء بعد ذلك النهي في أكثر الأوقات فقال تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكان المؤمن يتركها عامة النهار وطرف من الليل، وعندئذ أدرك المؤمنون أنها محرمة لا محالة، فنزل بالتحريم القاطع قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ،فصاح أتقياؤهم ـ انتهينا.
ومن هنا يتبين كيف كان التدرج في سن الأحكام مما اقتضي السكون علي أحكام قائمة، ثم تحريمها من بعد، واقتضي تقرير أحكام تكون علاجًا لحال وقتية، ثم أنهاها بالنسخ بعد ذلك، حتى إذا تمت الشريعة نزولاً بقيت محكمة إلي يوم القيامة، وقد تمت بنزول قوله تعالي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .
أ)ومن التوفيق أن يكون أحدهم خاصًا، والآخر عامًا، فيخصص الخاص العام، ويكون العام غير وارد فيها اشتمال عليه حكم الخاص علي الخاص العام، وبيناه بالنسبة إلي المرتبة إلي يكون عليها النحو الذي بناه في تخصيص العام، وبيناه بالنسبة إلي المرتبة التي يكون عليها المخصص من القطعية أو الظنية، وقد بينا الاختلاف في ذلك موضوعه.
ب)ومن التوفيق أن يؤول أحد النصين بحيث يتلاقى مع النص الآخر إذا كان أحد النصين يتفق مع أمر مقرر من أمور الشريعة، والآخر يخالف ذلك المقرر، فلابد من أن يطوع النص المعارض للمبادئ المقررة، وقد ذلك المقرر، فلابد من أن يطوع النص المعارض للمبادئ المقررة، وقد بينا ذلك في باب التأويل، فإذا لم يكن التوفيق بينهما بوجه من الوجوه أخذ المجتهد بأفواهما سندًا، فإن كان أحد الدليلين آية والآخر خبر آحاد اعتبر خير الآحاد ضعيف السند؛ وإن تساويا في القوة، ولا يمكن التوفيق بينهما بأي وجه من الوجوه ولم يعرف زمن كل واحد منهم توقف المجتهد حتى يعرف وجهًا من وجوه الترجيح، بأن يكون أحدهما معاضدًا بغيره حتى يكون أقوي استدلالا من الآخر، فإن لم يكن ذلك، قبل يقدم المحرم علي المبيح، وقيل يكون التوقف، وإن عرف تاريخ كل منهما فإن المتأخر ينسخ المتقدم، وهذا موضوع النسخ.
فالنسخ في اصطلاح الأصوليين رفع الشارع حكمًا شرعيًا بدليل متراخ، وبذلك يتبين الفرق بين النسخ والتخصيص، فالنسخ متأخرًا عن المنسوخ.
وأول من حرر الكلام في النسخ الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالة الأصول، ولقد اعتبره من قبيل بيان الأحكام لا من قبيل إلغاء النصوص.
فهو لا يعتبر النسخ إلغاء للنص، ولكنه يعتبره إنهاء لحكم النص، ولقد معه في هذا السبيل أبن حزم، ولذلك عرف النسخ فقال: حد النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول.
وإذا كان النسخ بيان انتهاء العمل بحكم معين فإنه نون مع أنواع البيان المتأخر وإنه علي مقتضي ذلك النظر ينقسم البيان إلي قسمين: بيان فيه تفصيل لمجمل أو تخصيص عام، وهذا يعمل فيه النصان، ويكون أحد النصين خادمًا النص، والقسم الثاني بيان انتهاء العمل الحكم بعد العمل به من غير أن يلغي النص.
ويذهب ابن حزم أبعد من هذا، فيقرر أن النسخ شكل من أشكال التخصيص لا يتناول اللفظ وعموم مؤداه، بل يتناول الحكم في عموم الأزمنة، ويقول في ذلك:" إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء، لأنه استثناء زمان وتخصيصه بالعمل دون سائر الأزمان، ويكون حينئذ صواب القول أن كل نسخ استثناء، وليس كل استثناء نسخًا.
ونري من هذا أن ابن حزم يشير إلي أن اللفظ الذي ينطق بالحكم له عموما: عمومك اللفظ أحيانًا، فيكون تخصيصه بالفظ أو بعمل مع بقاء الحكم في باقي الأفراد، وعمومًا يتعلق بالأزمنة وتخصيصه و النسخ، فمثلاً قوله صلي الله عليه وسلم:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" فإن هذا النص يبين أنتهاء المنع، وهو في معني التخصيص الزماني بالنص الذي أشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم الذي كان يمنع الزيارة.
والنسخ قد وقع بحكم الإسلام، فقد نسخ الإسلام بعض أحكام جاءت في الديانات السماوية السابقة، فتحريم بعض الأغذية كان قائمًا عند اليهود،فأباحها الإسلام، فقد حرم هذه الأطعمة علي اليهود لغلظ أكبادهم ولشرههم، والتحريم قد يفطم هذه النفوس عن شراهتهم، ولذا قال تعالي: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ .
ولقد وجدنا في النصوص اليهودية التي بين أيدينا إباحة الزواج من النساء إي غير عدد، فإذا كان هذا صحيحًا يكون القرآن قد نسخ الإطلاق في العدد وقيده بأربع.
وبهدا يتبين أن القرآن قد نسخ بعض الأحكام العملية التي جاءت في الشرائع السابقة وما نسخه القرآن إنما هو من الأحكام التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والعصر، وأما ماله صفة العموم من الفضائل وما يشتق من الفكرة الإنسانية فإنه غير قابل للنسخ كالعقائد لأنه شريعة الإنسانية ألا بداية، ولذا قال تعالي:"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى.
وقد وقع النسخ في الإسلام كما في الحديث السابق، فقد كان المنع ثم الإباحة، وقد وقع النسخ في القبلة، فقد كانت قبلة المسلمين بعد الهجرة إلي المدينة إلي بيت المقدس، وبعد نحو ستة عشر شهرًا نسخ الله سبحانه وتعالي ذلك وأمر بالاتجاه إلي البيت الحرام، وقد صور ذلك قوله تعالي: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
وقد ثبت في السنة أن القبلة كانت قبل ذلك إلي بيت المقدس، والآية الكريمة تشير إلي هذا ولقد نسخت آيات المواريث عند جمهور الفقهاء الوصية لوارث التي ثبتت بقوله تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فقد ثبت من هذا النص جواز بل وجوب الوصية لوارث من الأقربين، وبقي بعدما تشتمل عليه من الوصية لغير الوارث من الأقارب علي أصل الوجوب، أو علي الجواز، علي خلاف العلماء في ذلك وعلي قاعدة بعض العلماء الذين يجيزون تأخير المخصص عن العام يعتبر ذلك تخصيصًا.
وقد أدعي السيوطى النسخ في نحو عشرين نصًا من القرآن الكريم،ولكن النظر العميق لا يمنع التوفيق،وإن أمكن التوفيق بأي وجه من وجوه التوفيق يقدم علي النسخ، لأن النسخ يقتضي عدم إعمال النص، وإعمال النص بضرب من ضروب التوفيق أولي من عدم إعماله.
وقد يقول قائل: لماذا كان النسخ في الشريعة الإسلامية، فإنه إذا جاز في القوانين التي يضعها البشر، وذلك بإلغاء قانون وإحلال قانون محله فإنه لا يسوغ في الشريعة التي ينزلها علام الغيوب، وذلك لأن قوانين البشر تجارب إنسانية، والإنسان يخطئ ويصيب، أما شرائع السماء فإنها قانون الله الذي لا يجري الخطأ في فعله ولا قوله تعالي الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
والجواب عن ذلك أن شرائع السماء إصلاح الله تعالي للبشر، وهي واحدة في أصلها لا تتعدد، ولكنه سبحانه لم يخلق الناس علي شاكلة واحدة، فكان لابد أن تختلف بعض الأحكام التفصيلية في طائفة ولا تصلح في الأخرى، فكان لابد أن تختلف بعض الأحكام السماوية في الأمور التي تختلف فيها الأجيال الإنسانية، ولا تناسخ فيما هو أصل الفضائل، وما به قوام الأمم، وما يتعلق بالتوحيد.
وقد جري النسخ في الشريعة الإسلامية، لأن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه الله تعالي في قوم لم يكونوا ذوي دين، ولم يتقيدوا من قبله بقانون ولا نظام، فلو خوطبوا بالأحكام الشرعية دفعة واحدة ما أطاقوها، ولذلك أخذهم الله سبحانه وتعالي بالتدريج، فنزل علي الرسول من الأحكام ما يطيقون، حتى إذا ذاقوا بشاشة الإسلام وراضوا أنفسهم علي شكائم خلقية فاضلة، خوطبوا بأحكام الشريعة الخالدة التي لا تقييد فيها، ولنضرب علي ذلك
بعض الأمثال:
أولها: أن المرأة لم تكن عندهم ذات حقوق ولم يكونوا يستسيغون أن تكون إنسانًا مستقلا له كل الحقوق، ولم يكن النسب عندهم طريقة الزواج وحده، بل كان السفاح أحيانًا طريقًا لثبوت النسب، فلما جاء الإسلام وقد وجدهم يتخذون الأخدان( أي الخلائل) ويعطون لهن بعض حقوق الزوجية وذلك فيما يسمي بالمتعة، فتركهم علي ذلك أمدًا، حتى إذا استأنسوا بمبادئ الإسلام نسخ هذا وتقررت أحكام الأسرة بالزواج الشرعي، الذي جعل للمرأة حقوقًا كاملة، كما قال سبحانه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ .
ثانيًا: أن المشركين كانوا أهل وثنية، ويعبدون الأوثان، فمنع النبي من زيارة القبور حتى لا يؤدي إلي شيء من ذلك في نفوس بعض ضعفاء الإيمان من المسلمين حتى إذا زالت دولة الشرك، ويأس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض من طريق الأوثان أباح النبي صلي الله عليه وسلم زيارة القبور، فقال عليه السلام: لقد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".
ثالثها: إن الميراث في الجاهلية لم يكن يسير علي نظام محكم ثابت، فقد كن أكبر الأولاد يأخذ التركة، وأحيانًا يوصي بها لمن يشاء، المرأة في كل الأحوال ليس لها نصيب، فأوجب أولا أن تكون الوصية في الوالدين والأقربين من غير تعيين حتى إذا ألفوا ذلك، جاءت آية الميراث المحكمة ووزعت التركة بأحكام الفرائض ذلك التوزيع العادل قال تعالي: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ.... وجعل لقرابة الأم ميراثًا، كما لقرابة الأب ميراث، وإن كانت قرابة الأب تأخذ قدرًا أكبر.
رابعًا: بالنسبة للخمر والميسر، فقد كان العرب يتفاخرون بهما، ويجدون فيهما زايا، إذا يحملان بعضهم علي الشجاعة والبذل، وقد كانت عقولهم قد استغرقها ذلك، وآفاقهم الاجتماعية ضيقة، فلم يحرمهما الإسلام في أول الأمر، ولكنه أشار إلي أنهما غير مستحسنين فأشار إلي عدم استحسان الخمر في قوله تعالي: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فالمقابلة بين السكر والرزق الحسن يومئ إلي السكر ليس أمرًا مستحسنًا، لأنه ليس رزقًا حسنا، ثم بين سبحانه مضار الخمر والميسر بشكل واضح، فقال تعالي: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وإن هذا النص تمهيد للتحريم، لأن كل أمر تكون مضاره أكثر من منافعه يكون موضوع النهي، ولكن لم يصرح النص بالنهي، وعندئذ أدرك كبار الأتقياء من الصحابة أن الخمر تتفق مع مبادئ الإسلام، ولقد جاء بعد ذلك النهي في أكثر الأوقات فقال تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكان المؤمن يتركها عامة النهار وطرف من الليل، وعندئذ أدرك المؤمنون أنها محرمة لا محالة، فنزل بالتحريم القاطع قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ،فصاح أتقياؤهم ـ انتهينا.
ومن هنا يتبين كيف كان التدرج في سن الأحكام مما اقتضي السكون علي أحكام قائمة، ثم تحريمها من بعد، واقتضي تقرير أحكام تكون علاجًا لحال وقتية، ثم أنهاها بالنسخ بعد ذلك، حتى إذا تمت الشريعة نزولاً بقيت محكمة إلي يوم القيامة، وقد تمت بنزول قوله تعالي: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .
يشترط في النسخ أربعة شروط:
أولها: أن يكون الحكم المنسوخ غير مقترن بعبارة تفيد أنه حكمي أبدي خالد، فإن مثل ذلك الحكم لا ينسخ، وألا يكن في هذا مناقضة لأصل النص، ومنزل الناسخ والمنسوخ واحد، ولذا قال الفقهاء، إن الجهاد لا ينسخ فقد قال النبي صلي الله عليه وسلم:"الجهاد ماض إلي يوم القيامة"، ومن ذلك أيضًا عدم قبول شهادة المحدود في قذف قبل توبته، فإن هذا حكم قد اقترن بالتأييد، فقد قال تعالي: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا .
الشرط الثاني: ألا يكون الحكم المنسوخ من الأمور التي أتفق العقلاء علي حسنها أو قبحها مثل الإيمان بالله تعالي وبر الوالدين والصدق والعدل، والظلم والكذب، وغير ذلك مما تواضع عليه الناس في كل العصور والأجيال علي أنه خير مقبول، أو شر مرذول، فإن هذا قد أتفق العلماء علي أنه لا ينسخ، وإنه بالاستقراء يثبت أنه لم ينسخ حكم علي هذه الشاكلة.
الشرط الثالث: أن يكون النص الناسخ متأخرًا في النزول عن النص المنسوخ، لأن النسخ أنها لحكم النص الذي نسخ حكمه، فكان لابد أن يقع بعده، وأن يكون النصان في قوة واحدة.
الشرط الرابع: أنه بالنسبة للنسخ الضمني الذي لم يكن النسخ فيه صريحًا لابد أن يكون التوفيق غير ممكن، فإن كان التوفيق ممكنًا بأي وجه من وجوه التوفيق، ولو بضرب من التأويل الذي يطيقه اللفظ فإنه لا يصار إلي النسخ، لأن النسخ إنهاء للحكم، وعدم إعمال للنص، ولا يصار إلي ذلك إلا عند تعذر التوفيق كما بينا آنفًا.
ما لا يقبل النسخ:
ومن هذا الكلام يتبين أن من الأحكام التي لا تقبل النسخ ما نص فيه علي التأييد، وما أثبتته العقول واتفقت علي أنه غير قابل للتغير فاتحدت فيه الأحكام في الشرائع السماوية كلها، بل تواضعت عليه الناس في كل الأمصار والإعصار.
ومما لا يقبل النسخ أيضًا الأحكام الثابتة بغير النصوص، فالأحكام الثابتة بالإجماع والقياس والرأي بشكل عام لا تقبل النسخ، لأن إلغاء الأحكام بقول الله تعالي أو قول نبيه صلي الله عليه وسلم وتقريره، وبعد أن انتقل النبي صلي الله عليه وسلم إلي الرفيق الأعلى قد استقرت الأحكام وثبتت، وما يذكر بعد النصوص من المصادر الشرعية إنما هو مبني عليها، ومشتق منها، فر ينسخها ولا يجري التناسخ فيها لأنها ليس نصوصًا قائمة نص عليها الشرع.
ينقسم النسخ إلي نسخ صريح ونسخ ضمني،
والصريح هو الذي يصرح فيه بإنهاء الحكم المنسوخ مثل قوله صلي الله عليه وسلم :"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها"، فإن النسخ هنا صريح، ومثله في القوانين الحاضرة أن ينص سن قانون علي أنه ينتهي العمل بالقوانين السابقة التي في موضوعه، ومن النسخ الصريح قوله في نسخ الاتجاه إلي بيت المقدس: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ، فنج هنا تصريحًا بنسخ القبلة الأولي.
والنسخ الضمني هو أن يتعارض نصان ولا يمكن التوفيق بينهما، بأن يتواردا علي موضع واحد بالسلب والإيجاب، ولا يمكن التوفيق بينهما، وقد علم تاريخهما، فإن المتأخر منهما ينهي حكم السابق، ويقول الفقهاء إن من هذا النسخ الضمني نسخ آية المواريث للوصية للوارث التي اشتملت عليها آية الوصية.
وإن هذا النوع من النسخ الضمني ينقسم إلي قسمين:
أحدهما: نسخ لكل الأحكام التي أشتمل عليها النص المتقدم، وقد ذكروا من ذلك قوله تعالي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ .
ونحن نري أنه لا نسخ بينهما، لأن التوفيق ممكن، وحيث أمكن التوفيق فلا سبيل للنسخ ، والتوفيق بأن تكون الأولي خاصة بالواجب علي المرأة، وهو الانتظار أربعة أشهر وعشرا، والثانية موضوعها حق لها، فإن الشارع جعل لها الحق أن تبقي في منزل الزوجية الذي كان يملكه زوجها سنة كاملة لا يخرجها الورثة، وإن خرجت مختاره فلا إثم علي الورثة، وذلك واضح بين من النص.
والقسم الثاني: من النسخ الضمني هو النسخ الجزئي، وذلك بأن يخرج من عموم النص المتقدم ما يشمله النص المتأخر، وذلك مثل آية حد القذف مع آية اللعان، فإن الأولي بينت حكم القذف عمومًا، وأخرجت منه الثانية ما يكون من قذف الزوج لزوجته.
وإن في اعتبار هذا نسخًا نظرًا لنص ذلك لأن الفقهاء يعتبرون الخاص مع العام تخصيصًا ولا يعتبرونه نسخًا أيا كان المتقدم منهما، والحنفية الذين يعتبرون الخاص المتأخر ناسخًا للحكم في المتقدم العام في بعض أفراد العام يشترطون التأخر، ونجد آية حد القذف مقترنة بآية اللعان مما يدل علي التخصيص بدل النسخ.
اتفق الفقهاء علي وقوع النسخ في السنة، ولم يخالف في ذلك أحد، فإنه ثبت أن الاتجاه إلي بيت المقدس قد نسع بالاتجاه إلي الكعبة، وثبت أن زيارة القبور كان منهيًا عنها في السنة ثم أبيحت، وثبت أن المتعة كانت موضوع عفو، ثم جاء النص القاطع بنسخها.
أما القرآن الكريم فالجمهور علي وقوع النسخ فيه، وقد نفي النسخ في القرآن أنو مسلم الأصفهاني، وقد احتج الجمهور لإثبات النسخ في القرآن بما يأتي:
وثانيًا: بوقوع النسخ فعلا كنسخ آيات الميراث لحكم آية الوصية، وقد أحصى السيوطي نحو عشرين آية أدعي النسخ في أحكامها.
وثالثًا: بقوله تعالي: وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ فهذه الآية تثبت التبديل، وليس التبديل إلا تبديل الأحكام.
واحتج أبو مسلم بما يأتي:
أولاً: أن النسخ إبطال، فلو جاز نسخ ما أشتمل عليه القرآن لكان في القرآن ما يجري عليه الإبطال، والله تعالي يقول: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.
وثانيًا: بأن كل ما أشتمل عليه القرآن شريعة أبدية باقية إلي يوم القيامة، والمناسب لهذه الخاصة القرآنية ألا يكون فيه نسخ.
وثالثًا: أكثر ما اشتمل عليه القرآن كلي عام، لا جزئي خاص، وفيه بيان الشريعة كلها بطريق الإجمال لا بطريق التفصيل، والمناسب لذلك إلا يدخله النسخ، وما فصله القرآن من أحكام فلأنه يريده مؤبدًا لهذا التفصيل كأكثر أحكام الأسرة، وما استدل به الجمهور لا يقطع بوقوع النسخ في القرآن،فقوله تعالي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا المراد بها المعجزة، وهو أن يأتي الله لنبي بمعجزة لم يأت بها لآخر ولذا قال تعالي بعد ذلك: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقال سبحانه : وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ ، المراد بها المعجزة، وعلي فرض أن المراد النصين الكريمين ألآية القرآنية، فإن الآيتين لا تدلان علي وقوع النسخ، بل تدلان علي إمكانه، وفوق بين الوقوع والجواز.
والآيات التي أدعي نسخها يمكن التوفيق بينهما إما بطرق التأويل القريب، أو التخصيص، وإن هذا أولي من الحكم المنسوخ.
وفي الحق إننا قد استعرضنا كل الآيات التي أدعي أن التناسخ قد جري فيها، فوجدنا أن التوفيق بينها سهل بضرب من ضروب التخصيص، بل أحيانًا لا يحتاج الأمر إلي تأويل ولا تخصيص كالشأن في قوله تعالي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مع قوله تعالي: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فإنه لا تعارض مطلقًا بين الآيتين حتى يتصور نسخ بينهما، وقد أشرنا إلي ذلك من قبل.
مع ما نميل إليه فقرر أقوال الفقهاء بالنسبة لنسخ القرآن، فقد قال جمهور الفقهاء، إن القرآن فيه ما هو منسوخ الحكم، وإنه من المتفق عليه أن القرآن متواتر، فلا ينسخ أحكامه إلا متواتر، وعلي ذلك لا تنسخ أخبار الآحاد الأحكام القرآنية، لأن النسخ أساسه التعارض، ولا يكون التعارض إلا بين نصين في مرتبة واحدة من حيث السند.
ولكن هل ينسخ القرآن بالسنة المتواترة؟
قال الشافعي: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن مثله، ويسوق لذلك أدلة ظواهر من النصوص القرآنية مثل ظهر قوله تعالي: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وقوله تعالي: وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ فإن هاتين الآيتين بظاهرهما تثبتان أن النسخ لا يكون إلا بقرآن مثل القرآن المنسوخ حكمه، ومما استدل به قوله تعالي: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فإن هذا النص يشير إلي أنه لا ينسخ حكم القرآن منه.
ومع أن الشافعي يقرر أن القرآن لا ينسخ حكمه لا ينسخ حكمه إلا بقرآن يقرر أيضًا أنه لابد من سنة تبين الناسخ من المنسوخ، وذلك لأن النسخ نوع من بيان الشريعة الإسلامية المقررة، وهو بيان لإنهاء حكم من أحكام القرآن ، والسنة هي التي تبين القرآن، كما قال تعالي: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وفوق ذلك فإن النسخ لابد فيه من بيان المتأخر من المتقدم من النصين، والسنة هي التي تبين ذلك.
هذا قول الشافعي:
وقال جمهور الفقهاء: إن القرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة، ولكن يشترط أن تكون متواترة أو مستفيضة، لأن القرآن قطعي السند، فلا ينسخ بعض أحكامه إلا ما يكون قطعي السند مثله، وعلي ذلك لا ينسخ القرآن يخبر الآحاد.
ولقد قال ابن حزم الأندلسي، إن القرآن ينسخ بخير الآحاد، لأنه يري أن كل السنة قطعي، وبذلك يكون خبر الآحاد قطعيًا.
قد قررنا اتفاق الفقهاء علي جواز نسخ أحكام السنة في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم، ونجد هنا الشافعي أيضًا يخالف جمهور الفقهاء هنا، فيقرر أن السنة لا تنسخ أحكامها إلا بسنة مثلها، فلا ينسخ القرآن السنة، ولذا يقول " سنة رسول الله لا تنسخها إلا سنة رسول الله، ويقرر أن الله سبحانه وتعالي لو أنزل في القرآن أمرًا خلاف ما سنة رسول الله بوحي منه، وإذا ما كان ينطق عن الهوى، لذلك النبي صلي الله عليه وسلم انتهاء العمل بما كان قد قرر من قبل حتى يبين للناس نسخ سنته التي كانت له من قبل، فالنسخ إذن للسنة لا يكون إلا بسنة.
وبهذا يتقرر أنه إذا كان القرآن ينسخ سنة فلابد من سنة تبين ذلك النسخ، وتكون هي الناسخة وذلك عن الشافعي.
والباعث للشافعي علي هذا القول هو خوفه من أن تترك السنن بدعوى معارضتها لكتاب الله تعالين ولقد بين ذلك الباعث بقوله: ولو جاز أن يقال قد سن رسول الله ثم نسخ سنته القرآن الجاز أن يقال فيما حرم رسول الله من البيوع كلها قد يحتمل أن يكون حرمها قبل أن ينزل قول اله تعالي: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ، قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخًا بقول الله تعالي: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ولجاز أن يقال: لا يدرأ عن سارق سرق من غير حرز، وسرقته أقل من ربع دينار لقول الله تعالي: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ..ولجاز رد كل حديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وبهذا يتبين الباعث الذي جعل الشافعي يتشدد في ألا تنسخ السنة إلا بالسنة.
وفي الحق إن ذلك الرأي يبدو بادي الرأي غريبًا، ولكن عند فحصه يتبين، أنه قريب مستأنس، ذلك أن القرآن إن نسخ حكمًا للسنة، فلابد من أن يعلن النبي صلي الله عليه وسلم عمله بالحكم الجديد، فيكون ذلك العمل مثبتًا للنسخ.
هذا وجمهور الفقهاء يرون نسخ أحكام السنة بالقرآن، كما أن السنة عندهم تنسخ أحكام القرآن، والخلاف في الواقع ليس له كبير أثر، إلا في جواز نسخ أحكام القرآن بالسنة
.................................................................................
الحكمة من نسخ الحكم وبقاء التلاوة
1- إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه كذلك يُتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.
2- إن النسخ غالباً يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيراً بالنعمة ورفع المشقة، حتى يتذكر العبد نعمة الله عليه.
النسخ إلى بدل وإلى غير بدل
1- النسخ إلى بدل مماثل، كنسخ التوجه من بيت المقدس إلى بيت الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة :144].
2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.
3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- النسخ إلى بدل أخف: مثاله: نسخ فرضية قيام الليل
2- النسخ إلى بدل أثقل، كحبس الزناة في البيوت إلى الرجم للمحصن، والجلد لغير المحصن. ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.
3- النسخ إلى غير بدل، كنسخ الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- النسخ إلى بدل أخف: مثاله: نسخ فرضية قيام الليل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ