مالك الملك
مع الاسم التاسع والثلاثين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو مالك الملك. أيها الإخوة الكرام: فمالك الملك أحدُ أسماء الله تعالى الحسنى، قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾
( الأعراف: الآية 180)
إذا قلت يا مالك الملك بك أستجير ؛ فهذا دعاء صحيح، ففي القرآن الكريم ورد اسم المَلِك، والمالك، والمليك، ومالك الملك حصراً، أما اسم المَلِك ففي، قوله تعالى:
﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ﴾
( سورة الحشر: الآية 23 )
وفي قوله تعالى:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2)﴾
( سورة الناس: الآية 1 ـ 2 )
وأما اسم المالك ففي الفاتحة الشريفة:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
( سورة الفاتحة: الآية 2 ـ 4 )
وأما المليك ففي قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
( سورة القمر: الآية 54 ـ 55 )
وأما مالك الملك فقد ورد هذا الاسم مرة واحدة في قوله تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
( سورة آل عمران: الآية 26 )
أيها القارئ الكريم: قبل أن نمضي في الحديث عن هذا الاسم الجليل ؛ أريد أن أقف قليلا عند خطورة هذا الموضوع. فالله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، وقد أمرنا أن نؤمن به، وأن نعبده، وأن نتوجه إليه، وأن نحبه، فربنا عز وجل تيسيراً لنا كي نعبده ؛ ذكر أسماءه الحسنى في كتابه الكريم، وجعل الكون كله دالاً عليه، وجعل الكون كله مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته العظمى. فأنت حينما تبحث في أسماء الله الحسنى، تتعرف إلى الله. وكلما ازددت معرفةً بأسمائه الحسنى، ازددت معرفة به. فالشيء المادي بإمكانك إدراكه باللمس، وأن تعرف وزنه، وطوله، وارتفاعه، وعرضه، وحجمه، ولونه، وخصائصه ؛ لكن إذا أردت أن تتعرف إلى الله عز وجل يستحيل أن تدركه بحواسك ؛ لا بد من أن تدركه بعقلك. قد تقول إن هذا الكون يدل على خالق عظيم، ومسيِّر حكيم، ومُرَبٍ رحيم. ولكن التفاصيل ؛ ما صفاته ؟ وما هي أسماؤه ؟ هو رحمن رحيم، هو الله الذي لا إله إلا هو، الملِك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر. فحينما تجول في هذا الموضوع، فأنت في الحقيقة تجول في أخطر موضوع على الإطلاق لأن الله سبحانه وتعالى هو كل شيء ؛ هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، ابنَ آدم: اطلبني ؛ تجدني، فإذا وجدتني، وجدت كل شيء. يا رب ماذا فَقَد من وجدك ؟ وماذا وجد مَن فقدك ؟ وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟.
إنّ باب الأسماء الحسنى من أخطر الموضوعات في الدين، لأنك من خلالها تتعرف إلى أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى. والحقيقة أن الإنسان لا يحب جهة ما لاسمها ؛ ولكن يحبها لصفاتها. فكلما تعرفت إلى أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، كانت عبادتك أصح، وكانت خشيتك أكبر، وكان إقبالك أشد.
((يقول عليه الصلاة والسلام فيما روي عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ مَنْ أَحْصَاهَا ))
[ صحيح مسلم ]
"إن لله تسعة.... وهو وتر يحب الوَتِر " بالفتح والكسر، فما معنى من أحصاها ؟ الله عز وجل قال:
﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94)﴾
[ مريم:الآية94 ]
الإحصاء شيء والعدُّ أو التعداد شيء آخر، تقول: كم طالباً في الصف ؟ إذا ذكرت عددهم، كان هذا تعداداً. أما إن ذكرت أعمارهم، مستوياتهم، ورجاحتهم، أخلاقهم، طموحاتهم، اجتهادهم، أوصافهم، كان ذلك إحصاءً، فالعد كَمِّي، أما الإحصاء فهو نوعي. فالرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه أراد منا الإحصاء لا التعداد ؛ لا أن تعدد أسماءه، بل أراد منا أن نحصيها ومن أحصاها دخل الجنة، هناك معنى ضمني ؛ وهو من أحصاها أيْ: من تعرف إليها فأقبل على الله واستقام على أمره، سعِد في الدنيا، وفي الآخرة أُكرم بالجنة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ؛ إذْ إنه في الحديث الصحيح يؤكد لنا أنك إذا أحصيت أسماء الله الحسنى، دخلت الجنة. إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحداً مَن أحصاها دخل الجنة. نحن في أبحاثنا السابقة شرحنا ثمانيةً وثلاثين اسما من أسماء الله الحسنى، وفي نِيَّتِنَا أن نكمل هذه الأسماء لغاية التسعة والتسعين، كما ورد في الحديث الشريف. لكن بالمناسبة نقول: ليس كل الأسماء الحسنى وردت في الحديث الشريف، لعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأسماء الحسنى التي نحن في أمس الحاجة إلى معرفتها ؛ فهناك أسماء حسنى كثيرة وردت في كتاب الله ولم ترد في هذا الحديث، والأسماء الحسنى التي وردت في هذا الحديث
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِيَ الْمُتَعَالِي الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّؤوفُ مالك الملك ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ ))
[رواه الترمذي]
أيها القراء الكرام: اسمحوا لي أن أرويَ لكم هذا الدعاء النبوي، يروي عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ ؛ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك،َ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ ؟ قَالَ: أَجَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ.))
[رواه أحمد]
إذًا ثمرة هذا الدعاء:
((إلا أذهب الله حزنه، وأبدله مكانه فرحاً ))
فهذا الدعاء القيم ؛ لا بد من أن يحفظه المؤمن، حتى إذا أصابه مكروه أو هَمٌ أو حَزَنٌ دعا به، والنبي صلى الله عليه وسلم صادق مصدوق.
قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
[ آل عمران: الآية 26]
المُلك هو الكون. والكون ما سوى الله ؛ فالله واجب الوجود، و الكون ممكن الوجود، وما سوى الله هو الُملك. لكنَّ السؤال لِم جاء المُلك مفرداً ؟، مع أن هناك سماوات، ومجرات، وكازارات، ومذنبات، وثقوب سوداء، ومسافات بينية شاسعة، والأرض فيها أودية، وجبال وصحراء وسهول وطيور وحيوانات وإنس وجن
خلقٌ كثير لا يعلمهم إلا الله: أسماك - نباتات -عوالم - في البحار وحدها أكثر من مليون نوع من السمك. كل هذا الكون سماه الله مُلكاً بلفظ المفرد فما حكمة ذلك ؟ هناك حكمة كبيرة جداً ؛ وهو أن الكون كله متناسق مع بعضه بعضاً، كل جزء فيه يعمل للمجموع، لأن الله سبحانه وتعالى صممه لذلك؛ فالحيوان للإنسان، والنبات للحيوان، والتراب للنبات، والماء للتراب، وحجم الأرض يتناسب مع طاقة الإنسان وسرعتها حول نفسها تتناسب مع إمكاناته وهكذا... أهم كلمة في هذا الكون أنه وَحدة متكاملة، والله سبحانه وتعالى مالك الملك وأمره نافذ فيه. يوم القيامة يقول الله عز وجل:
﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾
[ الشورى:الآية 53 ]
قد يسأل سائل بيد من كانت حتى آلت إليه ؟ الحقيقة: هي إليها ولاً و آخرًا ؛ ولكن أهل الدنيا والمشركين و الكفار، والفجار، والمنافقين، وضعاف الإيمان، يرون في الأرض آلهةً كثيرة ؛ مراكزَ قوى، وأشخاصاً أقوياء، يأمرون فيُطاعون، ويدمرون يعطون... يرفعون... يخفضون... أما المؤمن فلا يرى إلا الله في الدنيا، يرى:
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾
( سورة الفتح: الآية 10 )
يرى:
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾
( سورة الحديد الآية: 3 )
يرى أنه
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾
( سورة فاطر: الآية 2 )
يرى أنه:
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
( سورة الأعراف: الآية 54 )
يرى:
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
( سورة الزمر: الآية 62 )
يرى:
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
( سورة هود: الآية 123 )
فهذه رؤية المؤمن، لا يرى مع الله أحداً، وهذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لكن العصاة والمشركين والكفار يرون أشخاصاً أقوياء إرادتهم نافذة فيحسبونهم أندادا، أما الحقيقة فهي أنه لا ينفذ في كون الله إلا إرادة الله. ما شاء الله كان، ومالم يشأ لم يكن.
﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾
( سورة الرعد: الآية 41 )
﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)﴾
( سورة الكهف )
فالمؤمن الصادق لا يرى مع الله أحداً، يرى صوراً ودُمَى تُحرَّك في الخفاء، لكن الله هو كل شيء، قال تعالى:
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾
( سورة الحديد: الآية 3 )
لذلك:
﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾
( سورة الشورى: الآية 53 )
حتى الكفار يوم القيامة يرون أن الأمور كلها بيد الله. أما المؤمنون فهم وحدهم الذين يرون هذه الحقيقة في الدنيا، الكُفار تغيب عنهم هذه الحقيقة فيرون الأمور بيد زيد أو عبيد، تذكرون: أن التابعي الجليل الحسن البصري كان عند والي البصرة للخليفة يزيد بن معاوية، فجاءه البريد يحمل توجيهاً ؛ إِنْ نَفَّذه، أغضب الله سبحانه وتعالى، وإن لم ينفذه أغضب الخليفة وربما عزله من منصب الولاية. فوقع في حيرة شديدة فسأل الحسن البصري، فأجاب الحسنُ البصري جوابا جامعا: إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله. بمعنى أنه إذا غضب أهل الأرض جميعاً عليك والله راضٍ عنك، فلن يستطيعوا أن يفعلوا لك شيئاً يضرك.
" واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"
فملخص الملخص: ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن. ومعنى مالك الملك ؛ أن هذا الكون العظيم تحكمه إرادة واحدة نافذة فيه هي إرادة الله قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ﴾
( سورة يونس: الآية 24 )
أتاها أمرنا - لا أمرهم - يقال مثلاً: الدولة الفلانية عندها قنابل نووية كافية لتدمير الأرض خمس مرات الآن هي في الحضيض، في الوحول، هي الآن متفتتة، كل أنواع السقوط في هذه الدولة، قال تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾
( سورة يونس: الآية 24 )
فهذا المُلك العظيم ؛ فيه إرادة واحدة نافذة ؛ هي إرادة الله. بِرَبِّك أيها المؤمن ؛ إذا أيقنت هذا اليقين هل تتوجه لغير الله ؟ هل تخشى غير الله ؟ هل ترجو غير الله ؟ هل تطمح إلى غير الله ؟ هذا هو التوحيد ؛ طرقه كلها تؤدي إلى الله عز وجل.
يقول الإمام الغزالي: مالك الملك ؛ هو الذي تنفذ مشيئته في مملكته كيف يشاء وكما يشاء ؛ إيجاداً وإعداماً، إبقاءً وإفناءً، والمُلْكُ هنا ؛ بمعنى المملكة، والمالك ؛ بمعنى القادر التام القدرة. والموجودات كلها مملكة واحدة ؛ لأنها متناسقة مرتبط بعضها ببعض فإنها(يعني حجم الأرض)متناسب مع الإنسان، فمثلا لو وجدت قفلاً في بيت، ووجدت مفتاحاً في مكان آخر ؛ وهذا المفتاح فتح ذاك القفل، تقول: كلاهما من مصنع واحد، طالما فيهما انسجام.
أحياناً يشتري أحدنا قطعة لسيارته، تأتي هذه القطعة في مكانها الصحيح بالميليمترات. معنى ذلك ؛ أن المعمل واحد. والذي صمم واحد، والذي أعطى القياسات واحد. فهي وإن كانت كثيرة من وجه ؛ إلا أنها وَحدة واحدة، الكون كله يعمل بالتنسيق، فالانسجام دليل وَحدة الخلق.
هناك كلمة واسع، وهناك كلمة واحد ؛ وقد وصف الله ذاته بهما، فما معنى كل منهما: خمسة آلاف مليون إنسان كل واحد يحمل قزحية عَين تختلف عن الأخرى ؛ من أجل ذلك صممت أقفال لا تفتح إلا على قزحية العين. لأن إنساناً واحداً في الأرض لا يمكن أن يشبهك في قزحية عينك،معنى ذلك أن الله واسع. كما أن لكل إنسان رائحة جِلد لا يمكن أن يَشْركَه فيها أحد من الخلق وأساس عمل الكلب البوليسي رائحة الجسم، ونبْرَة الصوت كذلك لا يمكن أن تتشابه في الأرض نبرتان. تعرف الشخص من نبرة صوته، فأصبح لدينا قزحية العين، ورائحة الجلد، ونبرة الصوت، وبصمتين، وبلازما الدم، كذلك اكتشفوا الآن مليارين ونصف وحدة نسيجية. يعني أن هناك واحد فقط في الأرض وحدته النسيجية تشبه وحدتك، وبصمة اليد هذه الأنملة ـ بمعنى أنه لو وجد في الأنملة مئة نقطة بين جزيرة، وخليج، ورأس، ونتوء، وفرع، وغصن، هناك مئة صفة لبصمة اليد. ولو تشابهت سبع صفات في بصمتين لكانت لإنسان واحد ؛ وبصمة اليد توقيع. فهذه الاختلافات كلها تعني أن الله واسع. بالمقابل تجد أن شركة أدوية تصنع دواءً في بلد ما كندا مثلاً؛ فإذا استعمل هذا الدواء شخص من استراليا نفعه هذا الدواء ؛ ما معنى هذا ؟ إنه يدل أن الخلق واحد في البنى الأساسية، وفي الخصائص، إذاً هناك وَحدة في الخلق. تجد طبيباً درس الجراحة ببلد ما، أمريكا مثلاً يقول في اختصاصه إن العصب الفلاني على بعد 2سم من مكان كذا... بالتفاصيل الدقيقة ثم يجري عملية جراحية لإنسان ما بالخليج مثلا في عروقه وأعصابه كما درسها هذا الطبيب في أمريكا وتكون النتيجة كما لو أجراها لشخص في أمريكا، من هنا قال بعض العارفين: والله يا رب لو تشابهت ورقتا زيتون، لما سُمِّيتَ الواسع. وأقرب من هذا وجوه البشر فلكل سماته الخاصة به ؛ وكل واحد منا له شكل وطريقة في العيش فهذا يدل على سعة الخلق وحينما تكون الأجهزة واحدة ؛ القلب واحد، والرئتان، المعدة، الأمعاء، الشرايين، الأوردة، الأعصاب، العظام، خصائص العظام ؛ زمن التحامها، الطبيب مثلاً من مصر ودرس في روسيا، والمريض في أفريقيا والبنية لدى الجميع واحدة. معنى ذلك أنه يوجد قواعد عامة في الجسم.
فالله عز وجل واحد واسع، أما لو قلت لمهندس ما: صَمِّمْ لنا بناءً يمكن أن يرسم مخططاً وآخر وآخر ثم يتقف. ومثل ذلك هندسة السيارات يصممون شكلاً بيضوياً ثم شكلَ زوايا حادة ثم يعودون للشكل البيضوي. أي أن طاقة الإبداع محدودة عند البشر. أما في صنع الله ؛ إذا نظرت في أنواع أوراق الأشجار في الأرض تجد أموراً لا تصدق ؛ أوراقاً إبرية، وأوراقًا دائرية، وأوراقًا مسننة، وأوراقًا مفلطحة، أوراقًا خضراء مشربة بلون آخرمثلا، وأوراقًا واسعة، وأوراقًا صغيرة، وأوراقًا كبيرة، وتلك تحمل الألوان الجذابة ؛ فلو دققت في أنواع الأوراق، لأخذك العجب العجاب.
أيها القارئ الكريم: الله عز وجل مالك الملك ؛ أيْ تنفذ مشيئته في ملكه كما قاله الإمام الغزالي. وقيل مالك الملك ؛ هو المتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا راد لحكمه، ولا معقب لأمره. والوجود كله من جميع مراتبه، مملكة واحدة لمالك واحد وهو الله وتبارك وتعالى.
لو لاحظت البشر في كيفية تملُّكهم لوجدت أصنافاً شتى، فإذا قلنا: فلانٌ يملك هذا البيت وأجَّرَهُ، فهو يملك عينه ولا يملك منفعته، المستأجر تجده يملك المنفعة وليس العين المؤجرة، فإذا كنت تملك المنفعة والعين يعني البيت ؛ لكنك قد لا تملك المصير ؛ بحيث إنه لو صدر قانون استملاك، يضيع البيت من يدك. فهناك مُلك عين، ومُلك منفعة، ومُلك مصير. أما إذا قلنا: الله مالك الملك ؛ فهو مالك الوجود خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، مثلاً: بلدٌ يبيع بلداً آخر مجموعة طائرات. كان المعمل مالكاً للطائرات ؛ فلما باعها تملكها شاريها. وأصبحت هذه الطائرات بأمر شاريها. لكن الله عز وجل يقول:
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
( سورة الزمر: الآية62 )
كلمة مالك الملك تعني: ما شاء في هذا الملك كان، وما لم يشأ لم يكن، كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع. هذا هو معنى مالك الملك.
قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
( سورة آل عمران: الآية 26 )
إذا أعطى الله عز وجل الملكَ لإنسان، يعطيه الهيبة ؛ فكلهم يخافونه ؛ فإذا أراد أن ينزع منه الملك، ألغى هيبته ؛ فكلهم يجترىء عليه. أحد القواد العظام في العهد العباسي بلغت شهرته الآفاق حتى صارت الأمهات يُخوِّفن أولادهن به، فلما دخل على هارون الرشيد، رآه صغير الجسم، قصير القامة نحيلاً، فقال له: أنت فلان ؟ ! فقال له: حبذا لو رأيتني وقد أسبغ الله عليَّ الهيبة، لقد زلت قدمه فنزع الله عنه الهيبة فالإنسان إذا نزع الله منه الهيبة صار شخصاً تافهاً، قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
( سورة آل عمران: الآية 26 )
أروع ما في الآية ؛ أنه لو قال الله عز وجل:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾
( سورة آل عمران: الآية 26 )
لصار هناك تناسب. لكن تؤتي الملك من تشاء ؛ وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء، وتذل من تشاء ؛ بيدك الخير، الخير فقط إذاً الإعزاز خير والإذلال خير، فمعنى الآية دقيق فالإعطاء خير والمنع خير، والإيتاء خير والسلب خير ؛ فكل هذا خير. ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك. لذلك سنرى أنه يوجد أسماء لله متقابلة ؛ المعطي المانع، القابض الباسط، النافع الضار، الرافع الخافض، المعز المذل.
قال العلماء: هذه الأسماء بالذات لا يجوز أن تذكر وحدها، فيجب أن تقول الضار النافع، المذل المعز، المعطي المانع، القابض الباسط، مثنى مثنى، لماذا هذا الاقتران ؟ لأن الله يضر لِيَنْفَع، ويذل لِيُعِزّ، ويمنع لِيُعطي، ويقبض ليبسط، وأوضح مثال على ذلك: أن تجد الأب يقسو على ابنه في الصغر، كي يصنع منه رجلاً في المستقبل كل هذه الشدة من الأب هي لصالح الابن. وكل هذه الشدة صنعت منه إنساناً متفوقاً، فهذه الأسماء المتقابلة ؛ لا يجوز أن نذكر واحداً منها من دون ذكر ما يقابله، الضار النافع، المذل المعز، المعطي المانع، الرافع الخافض، قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
( سورة آل عمران: الآية 26 )
يقول أحد المفسرين: مالك الملك ؛ هو المَلِكُ الحقيقي. لذلك ورد في الحديث القدسي
(( أنا ملك الملوك و مالك الملوك، قلوب الملوك بِيَدي فإنِ العباد أطاعوني، حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرحمة والرأفة. وإنِ العباد عصَوْني، حوَّلتها عليهم بالسخطة والنقمة ؛ فلا تشغلوا أنفسكم بِسَبِّ الملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم))
يقول أحد المفسرين: مالك الملك ؛ هو المَلِكُ الحقيقي، المتصرف بما شاء وكيف شاء ؛ إيجاداً وإعداماً، إحياءً وإماتةً، تعذيباً ورحمةً، من غير مشارك ولا ممانع. وقد ذكر اسم مالك الملك مرة واحدة في القرآن الكريم في الآية الآنفة الذِّكر.
من أدب المؤمن مع هذا الاسم أن يكثر العبد من ذكره، وبذلك يغنيه الله عن الناس. لكن هناك وقفة عند كلمة مالك الملك، وهي: هل أنت تملك سمعك ؟ هل تملك بصرك ؟ هل تملك قوتك ؟ هل تملك أعصابك ؟ هل تملك سيولة الدم ؟ هل تملك استقامتك ؟ هل تملك نمو خلاياك ؟ فأنت إذا أصابتك جلطة دموية، أوْدت بحياتك إلى الهلاك. فهذا بسبب تجمد نقطة في الدم، وكذلك نمو الخلايا العشوائي، إذاً أنت لا تملك شيئاً من جسمك، وإنما يعطيك الله صحة طيبة كي تستمتع بها، فهو سمح لك بالاستمتاع بها ولكنه هو المالك لها. روي لنا أن شخصا ذهب إلى فرنسا درس وحاز أعلى الاختصاصات، ثم عاد لوطنه وتوظف وارتقى وتنقل في مناصب مرموقة، حتى شغل منصب مساعد وزير. بعدها أصيب بذهاب بصره مما أدى إلى إخراجه من عمله، فزاره أحد الأصدقاء فقال له: أتمنى أن يُلقى بي على قوارع الطرقات، وأن يُرجع الله إليَّ بصري. فكلمة مالك الملك تعني ؛ أنك لا تملك شيئاً، لأنك لو أصبت بخلل بسيط في القلب، أودى هذا بحياتك ؛ فأنت لا تملك شيئاً من جسدك، و لا تملك دماغك.كذلك أعرف شخصًا معرفة جيدة وهو من الأفراد المرموقين في البلد، أنه خرج مرة من بيته فنسي في عند عودته أين يسكن ! حتى تذكر بيت ابنه فدَلَّه ابنه على بيته. فسبحان الله هناك بعض الحالات فيها عبر بالغة، مثلا موت مفاجئ، يموت الإنسان بلا أيِّ سبب. أعرف شخصاً اشتغل لمدة خمسين سنة وجمَّع ثروةً جيدة، وبعدها اشترى بيتاً في المَصِيف، وأصبح يشتغل إلى الظهر فقط ليتمتع ببيته هذا، وفي أحد الأيام ذهب إلى المصيف وهناك خطر بباله أن يهتف إلى ابنه، فوقع ميِّتاً على الأرض بدون أيّ سبب قبل المهاتفة. ومنه فلا يمكن للعبد أن يكون مالكاً مطلقا. يروي الرازي عن سفيان بن عيينة هذه القصة قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذْ رأيت رجلاً وقع في قلبي، حسبته أنه من عباد الله المخلَصين ـ هناك مخلِص ومخلَص تقول: أخلَص لله فأخلصه الله من الشوائب - فدَنَوْت منه فقلت: هل تقول لي شيئاً ينفعني الله به ؟ فلم يرد عليّ ومشى في طوافه، ولما فرغ صلى خلف المقام ركعتين ثم دخل الحِجر فجلس، فدنوت منه فقلت: هل تقول لي شيئاً ينفعني الله به ؟ قال: هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قلت: لا، فقال: لقد قال: " أنا الحي الذي لا أموت، هَلُمُّوا أطيعوني أجعلكم أحياءً لا تموتون " فالإنسان إذا أطاع الله يكون موته تُحفَةً وعرساً و موته انتقال من الدنيا التي هو سعيد بها بمعرفة الله إلى جنة الله في الآخرة، لذلك من الأدعية اللطيفة: اللهم اجعل نعمك علينا متصلة بين الدنيا والآخرة. فالخط البياني للمؤمن في صعود، وموته نقطة على هذا الخط. أنا الملك الذي لا أزول هلموا أطيعوني، أجعلكم ملوكاً لا تزولون.
لو أنك أعرضت عن الدين و عن الآخرة وعن منهج الله ؛ فمهما كسبت من المال ومن المناصب، فكل هذا نهايته قبيحة وتجعلك في قلق. نعم هناك صعود، لكن هناك سقوط بعد الصعود، والموت هو السقوط. لكن المؤمن في صعود ليس بعده سقوط، وهذا الشعور لا يوصف ـ طمأنينة للمستقبل ـ المؤمن مطمئن، تمشي في طريق سالك إلى جنة الله، تمشي على طريق ينتهي بك إلى الجنة. أما أهل الدنيا، فالطريق عريض، ولكنه ينتهي إلى حفرة سحيقة، وفيها وحوش كاسرة وقلق دائم لذلك فالمبالغة بالنعيم، و المبالغة بالانغماس باللذات؛ عملية تعويض لما يصيبه من قلق و خوف. وهناك من يدفع أهل الدنيا أن يبالغ بالرفاه والاعتناء بمظاهر الحياة و كأنه سيعيش مئات السنين. هناك قلق و خوف أساسه الشعور بأنّ بَعْدَ هذا الصعود سقوطًا. أما المؤمن فهو مرتاح من هذا القلق لأن حياته صعود بلا سقوط، و نمو بلا تراجع، و سعادة بلا شقاء، و حياة بلا موت لقوله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
[آل عمران: الآية 169]
((أنا الملك الذي لا أزول ؛ هلموا أطيعوني، أجعلكم ملوكاً لا تزولون.))
أنا الملك الذي إذا أردت شيئاً قلت له: كن فيكون ؛ هلموا أطيعوني، أجعلكم إذا أردتم شيئاً أن تقولوا له: كن فيكون، أيْ أصبحتم مستجابي الدعاء. إن أطعتَ الملك، كنت في معية الملك. وإن أطعت الغني، كنت مع الغني. وإن أطعت القوي، كنت مع القوي. لذلك قالوا: إذا أردت أن تكون أغنى الناس، فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك. إذا أردت أن تكون أكرم الناس، فاتق الله. وإذا أردت أن تكون أقوى الناس، فتوكل على الله. فأنت قوي بالله، وغني بالله، وكريم بالله، وعزيز بالله،أما إن لمم تكن مع الله ؛ فعزٌّ بعده ذلٌ، وغنى بعده فقر، وحياة بعدها موت، ورفاه بعده شقاء، و سعادة بعدها شقاء وهوان.
أيها القارئ الكريم، مما يتمم هذا البحث أن تعلم هذه الحقيقة وهي: أن هناك اسماً وهناك مسمى، تقول هذا المسمى كتاب فالشيء مسمى، أما الكلمة التي نلفظها من مقاطع صوتية ومصطلح عليها هي الاسم، فالاسم هو الذي يدل على المسمى، فإذا قلت: كتاب، دل هذا الاسم على الكتاب، وإذا قلت قمر، دل هذا على القمر، فالله جل جلاله كان ولم يكن معه شيء، ثم خلق الخلق ؛ فكلمة الله: اسم عَلَمٍ على الذات. فالله اسم ذات، وغيرها من أسمائه أسماء صفات. فإذا قلنا: يا الله، يكون هذا عَلَم على الذات. فنحن نقصد الذات الكاملة المتصفة بكل الأسماء الحسنى جملةً، لذلك قالوا:
(الله)هو اسم الله الأعظم علم على الذات ولحكمة أرادها الله جل جلاله لا يستطيع أحد أن يسمي أحداً على الإطلاق(الله)فهو علم على الذات. أما باقي الأسماء، فهي أسماء صفات الرحمن الرحيم الملك القدوس. هناك بحث في اللغة وهو ـ الاسم، واللقب، والكنية، فإذا قلت: عمر ؛ فهذا اسم فالوَضْع الأول حينما وُلِد سمَّوْه عمرُ. ولما شب صار عُمَيْراً، ثم صار عمر، ثم صار أمير المؤمنين، ثم صار خليفة المسلمين، ثم صار الخليفة العادل ؛ فسُمِّيَ الفاروق، فهذا الأخير الفاروق لقب. فاللقب: يدل على المدح أوالذم، بينما الاسم الأول يدل على الذات. فإذا قلت: راشد فأنت تعني شخصاً اسمه راشد، أما إذا قلت الراشد فأنت تعني شخصاً فيه صفة الرشاد فرق كبير بين أن تقول: راشد أو الراشد، فحينما يُعرَّف الاسم فإنما يشير بعد التعريف إلى معناه لا إلى العلمية، كان عَلَماً على الذات، فصار اسم صفةٍ، فالله سبحانه وتعالى ولله المثل الأعلى. الاسم الذي هو علم على الذات هو الله. أما أسماؤه الحسنى التسعة والتسعون ؛ هي أسماء صفات ؛ الرحمن من الرحمة، العليم: من العلم، والغني: من الغنى، والقوي: من القوة، لكن كل هذه الأسماء منطوية تحت اسم الله. والكنية:تعني ما سَبَقَ الاسم مثل: أبو فلان أو ابن فلان، أب أو أم أو أخ أو أخت، فأبو حفص كنية، وابن الخطاب كنية. إذاً عندنا اسم ولقب وكنية. أما إذا كان يمارس عملاً وسُمي على ذلك العمل، فهذه شُهرة فإذا كان يشتغل بالحديد وسُمي الحداد فهذه شهرة، أما إذا قلت قرشي فهذا نَسَبٌ والله سبحانه وتعالى غني عن كل هذا، سواء أكان لقبًا أو كنية أو شهرة
محمد راتب النابلسى