الصبور
مع الاسم الثاني والثلاثين من أسماء الله الحسنى، الاسم هو الصبور.
بادىء ذي بدء هذا الاسم لم يرد في القرآن الكريم، ولكنه ورد في السنة المطهرة، في الحديث الشريف الذي يتحدث عن الأسماء الحسنى، ولكنَّ دلالات هذا الاسم وردت كثيراً في القرآن الكريم فالصبور هو الذي لا يُعجّل بالعقوبة لِمَنْ عصاه فهو يُمهل ولا يُهمل، وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة جداً تتحدث عن مدلول هذا الاسم الذي ورد في السنة ولم يَرِدْ صراحةً في القرآن الكريم قال تعالى:
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)﴾
(سورة فاطر)
الإنسان أحياناً، إذا تولى أمر عشرة أو أكثر، فحينما يغضب منهم يتمنى أن يُنزِل فيهم أشدَّ العقوبة،
﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجلٍ مسمى ﴾
فتأخير العقوبة هو مدلول اسم الصبور، مرّت معنا آية من قبل وهي قوله تعالى:
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)﴾
(سورة طه)
يعني كان لِزاماً أن ينزل الله بالعُصاة أشد العقاب، وأن يُنهِيَهم ويبيدهم، ولكنَّ كلمة سبقت من الله عز وجل هي التي تجعل العقوبة متأخرة. فما هي هذه الكلمة ؟ هي: إن رحمتي سبقت غضبي، ما هذه الكلمة ؟ إن الله خلق الخلق ليرحمهم، ما الذي يؤخر إنزال العقوبات الحاسمة ؟ هو رحمة الله عزّ وجل ؛ يعني كأن الله عزّ وجل يُعطي الناس فرصةً ليتوبوا، يُعطيهم فرصةً ليرجعوا لِيُنيبوا ليصححوا ليستغفروا لذلك الله عز وجل قال:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
(سورة الأنفال )
فما دام الإنسان في استغفار فرحمة الله قريبة منه ومغفرته واسعة، حيث إن القصد هو إصلاحه، والقصد هو إسعاده، والقصد هو رحمته، أما لو أن القصد تطبيق القوانين ما ترك على ظهرها من دابة لو أن كل إنسان عصى الله عزّ وجل أنهاه الله عزّ وجل بعقوبة قاصمة ما ترك على ظهرها من دابة فتأخير العقاب مدلول اسم الصبور قال الله تعالى:
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾
وهذه آية أخرى تدل على مدلول الصبور قوله تعالى:
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)﴾
(سورة الرعد)
إذاً: هذه الآية الثانية تُفيد أن الصبور هو الذي يؤخر العقاب ولكن يطالعنا هنا سؤال: هل يلتقي هذا الاسم مع اسم لله آخر؟ يتشابهان ويلتقيان في الدلالة هذا جميل ؛ نعم: " الحليم" إذاً اسم الصبور يلتقي مع اسم الحليم وهذا حسن. فكيف يفترقان ؟ وهل يتطابق ! اسم الصبور مع اسم الحليم تطابقاً تاماً ؟ طبعاً لا، إذاً يفترقان، فكيف يفترقان ؟ دقق في هذه الآية:
﴿ وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
الله صبور
﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾
قالوا المُذنِب أشدَّ أمناً مع الحليم منه مع الصبور، أي أن الصبور من شأنه تأخير العقاب، أما اسم الحليم فقد يلتقي مع اسم العفوّ لكنَّ إنزال العقاب قد يستدعي التريث، أليس هناك حالات في الطب لابد من بتر عضو فاسد ؟ ولو كان الطبيب هو الأب فيقطع، ويجب أن تعلم أن الشيء الذي وقع لابُدَّ مِن أن يقع، ولو لم يقع لكان عدم وقوعه نقصاً في الحِكمة ؛ الشيء الذي وقع لابُدَّ من أن يقع، ووقوعه رحمةٌ وفضل وعدل ولطف وعفو وصبر، لذلك أحياناً يتحدث ربنا عن ذاته فيستخدم ضمير الجمع:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾
(سورة الحجر)
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾
(سورة يس)
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾
(سورة القمر)
حينما يتحدث ربنا عز وجل عن ذاته يستخدم ضمير المفرد وأحياناً يستخدم ضمير الجمع:
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
(سورة طه)
الله عزّ وجل له ذات وله أسماء فإذا تحدث بضمير المُفرد فهو يتحدث عن ذاته، وإذا تحدث بضمير الجمع فإنما هو يتحدث عن أسمائه ويجب أن تعلم علم يقين أن أسماء الله كلها حُسنى، وكلها تشترك في أفعاله، فأفعاله فيها رحمة و فيها عدالة وفيها قوة وفيها غِنىً و فيها عِزة وفيها جبروت وفيها من أسماء الله الحسُنى ما فيها، آية ثالثة تؤكد مفهوم الصبر قوله تعالى:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)﴾
(سورة الحج)
فالإنسان أحياناً يختل توازنه حينما يرى كافراً قوياً شديداً عتيداً مستعلياً يزداد قوة ومنعة وغنىً وسيطرةً، وقد يسأل الإنسان نفسه: أين الله ؟ ربنا عزّ وجل بماذا يجيب عن هذا السؤال ؛ إذا رأيت الكافر يزداد قوةً وغِنىً وسيطرةً واستعلاءً وجبروتاً ويتحدى ويَسخَر ويستهزئ فاذكر فرعون، ألم يقل فرعون " أنا ربكم الأعلى " فأينَ الله ؟ بماذا أجاب الله عزّ وجل في القرآن الكريم عن هذا السؤال ؟ قال الله تعالى:
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
(سورة آل عمران)
إجابة أخرى قوله تعالى:
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
(سورة الأنعام)
جواب ثالث قوله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
(سورة إبراهيم)
الله عزّ وجل ليسَ غافلاً لكنه متغافِلٌ يبدو وكأنه غافلٌ يعني أنّ الله عزّ وجل من أجل أن يكشف الإنسان على حقيقته يُملي له ويُعطي له من القوة ومن الشأن ومن الوجاهة ما يكشفه على حقيقته، فهل الإنسان العاقل يطمئن لقوَّته؟ هل يطمئن لماله الوفير؟ هل يطمئن لمركزه القوي ؟ لا. أبداً، العاقل يطمئن لطاعة الله، يجب أن تطمئن حينما تُطيع الله عزّ وجل. أما إذا كُنت قوياً أو إذا كُنت غنياً أو إذا كُنت وجيهاً هذه أشياءٌ تُسلَبْ في لحظة واحدة. عطاؤه عجيب.
زارني طبيب وذكر لي قصة وقعت قبل يومَين من زيارته أن فتاة متخلفة عقلياً تأخر كلامها سنتين، وفيها عِلّة في دماغها وهذه العِلّة ظهرت في مشيتها العرجاء، تشكو من ضعف في أعصابها الحركية وفي مصدرها بالدماغ وتشكو من تأخر في نِطقِها وهذه آفة مصدرها الدماغ ويكاد يكون الشفاء مستحيلاً، قبل يومين أو ثلاثة كُسِرت رجلها فأُخذت إلى مستشفى العظام وأعطيت مخدراً لشدة الألم الذي انتابها حين تَجبِير عظمها بعدما انتهت العملية انطلقت في الكلام ومشت مشياً طبيعياً فجاء أبوها وقال ما هذا ؟ ما علاقة ما جرى لها بما صلح من نُطقِها ومن حركتها ؟ فالله على كل شيء قدير، يعني كسرُ هذه الرجل كان سبباً، ولعلَّ هذا المخدر أيقظَ مكاناً في الدماغ كان غافلاً، فربُّنا عز وجل يُعطي ويدهش ويأخذ ويُدهش، أنا أعرف قريباً لي توفي بمرض غريب جداً هو أن الطحال يعمل بنشاط أكثر مما يجب أن يعمل. الطحال مقبرة ومعمل احتياطي للدم ومستودع للكريات الحمراء ؛ فالطحال معمل ومقبرة، فلو تعطلت معامل نقي العظام فالطحال يصنع الكريات الحمراء ؛ هذا الطحال من مهماته أن يستقبل الكريات الميتة ليحللها في مقبرته ولِيُعاد تصنيعها من جديد في نقي العظام ؛ هذا الطحال عمل عملاً زائداً عن طاقته فصار يأخذ الكريات الحية فيميتها ثم يحللها فصار هناك فقر في الدم سببه ازدياد نشاط الطحال وتوفي بهذا المريض ؛ فأنت تحت رحمة الطحال إذا زاد نشاطه أو النُّخامية إن تعطل نشاطها ولذلك فالله عز وجل يقول:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾
وإليك آيةً أخرى تدل على اسم الصبور قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)﴾
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾
(سورة الأعراف)
ذات يوم سألتُ أحد الإخوة المختصين عن كلمة متين ؛ فمتين تستعمل في الفيزياء للتعبير عن قُوىَ الشد والقساوة، وتستعمل للتعبير عن الضغط، فالشيء الذي يتحمل قُوى ضغط يقال له قاسٍ، والشيء الذي يتحمل قُوى شد يقال له متين فما وجه علاقة كيد الله عزّ وجل وبين متانته ؟ قوله:
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)﴾
(سورة الأعراف)
فالإنسان لا يُمكن أن ينجو من قبضة الله ؛ كأن كيد الله حبل متين لا يُمكن أن ينقطع أبداً. وهذه آية خامسة قوله تعالى:
﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)﴾
(سورة الكهف)
وبعد، فهل مر معنا في السيرة موقف بدا فيه صبر الله عزّ وجل واضحاً ؟ لعله في الحديبية عندما أبرم صُلح الحديبيّة ؟ حيثُ إِنَّ الله عزّ وجل يعلم أن في كفار قريش رجالاً مؤمنين ونساءً مؤمنات يكتمون إيمانهم ولا يعلمهم المؤمنون ؛ فربنا عزّ وجل رحمةً بهم وتأخيراً للعقوبة عن الكفار، أخّرَ فتح مكة من أجلهم هذا من اسم الصبور. هو صبور وقد أمرنا بالصبر قال تعالى:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)﴾
(سورة الأحقاف)
وقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ(34)﴾
(سورة الأنعام)
ما معنى:
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
(سورة المدثر)
هناك صبر لغير الله ؛ قد تكون إنساناً مستضعَفاً ولك عدو يُنكّل بك ولا تستطيع أن تفعل شيئاً فأنت صابر لا لأنك صبور بل لأنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً فليس هذا من الصبر الذي أمرنا الله تعالى به. إنّما الصبر أن تكون قادراً على أن تفعل شيئاً ولكن إيمانك بالله عزّ وجل يلجمك وتصبر، فهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)﴾
وأحياناً يتوهم الإنسان أن بإمكانه أن يصبر، فإذا هو في بعض الحالات لا يصبر، كان يبدو أن بإمكانه أن يصبر فإذا هو ينفجر كيف نحل هذه المشكلة ؟ قوله:
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾
(سورة النحل)
أنت لا تصبر إلاّ إذا أعانك الله على الصبر، فهل هناك آية يرتفع بها الصبر إلى أعلى مستوى ؟ نحن عندنا قاعدة وهي أن العطف يقتضي التجانس ؛ إذ لا تستطيع أن تقول: اشتريت بيتاً و ملعقةً لعدم التناسب، هذا ولقد جُمع الصبر مع الصلاة وجُمع الصبر مع الحظ العظيم وجُمع الصبر مع الجزاء بغير حساب وجُمع الصبر مع الحق.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
(سورة العصر)
وإذا قرأنا الآية التي وردت في آخر آل عمران فلعلنا نتبين شيئاً من ذلك:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾
(سورة آل عمران)
فالصبر معروف، أما المُصابرة أن تُعِينَ أخاك على الصبر لذلك قالوا لا تكن عونا للشيطان على أخيك وكُن عونا لأخيك على الشيطان ؛ أي أنت إذا أعنته وبيّنت له وخففت عنه مصابه، وواسيتَه بمالك فلعلّ في ذلك معاونةً لأخيك على الصبر وقال موسى لقومه:
﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾
(سورة الأعراف)
﴿ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا﴾
أما أوضح آية متعلقة بالصبر والتي معناها يُثلج الصدر هي قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)﴾
(سورة البقرة)
هذه المصائب لمن ؟ للمؤمنين، هذه المصائب خاصة للمؤمنين لنبلونكم أيها المؤمنون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا، إذاً الصابر هو الذي يصبر على تربية الله له، فما معنى أنك صابر ؟ يعني أن الله يُربيك وأنت تفهم على الله عزّ وجل وتصبر، إذاً من هو الصابر ؟ هو إنسان راشد مثلاً يجلس على كرسي طبيب الأسنان فيعلم علم يقين أنه مُتقِن لصنعته وأنه دكتور وأن بحوثاً عديدة مرَّ بها وأن أُناساً كثيرين أَثْنَوا عليه وأنه تعلَّم عِلماً صحيحاً وأن يده فيها مرونة كبيرة وعنده وسائل جيدة وأن كل ما يفعله بك طبيب الأسنان هو في صالح أسنانك ؛ لذلك ولو آلمك في بعض الأحيان فلابُدَّ من أن تصبر، فمن الذي يصبر إذاً ؟ هو الذي فهم على الطبيب، وَثِقَ من علمه ومن خبرته ومن نصيحته وهو يتحمل معالجة هذا الطبيب لأسنانه، هذا بشكل مُبسّط.
إذا هناك إنسان صابر. فنحن في واقع الحياة لدينا عِلل كثيرة وربنا عز وجل يتولى تربية هذه النفس، لذلك فاقرأ الحديث التالي وتأمل.
((وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده أو إِقتاراً في رزقه أو مصيبة في ماله أو ولده حتى أبلغ منه مثل الذر فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه))
النهاية السعيدة أن تصل إلى دار السلام بسلام، النهاية الموفقة أن تقول من أعماق أعماقك الحمد لله رب العالمين، النهاية التي ليس بعدها ولا قبلها ؛ أن ترث جنة عرضها السماوات والأرض، إذاً فالصابر إنسان فَهِمَ على الله عزّ وجل مراده.
تروي كتب السيرة أنّهُ بعد وفاة النبي، حدثت هناك اضطرابات وفتن وبدت بوادر رِدَّةٌ، رِدَّة كبيرة جداً ؛ بل أصبحت المدينة مهددة بالخطر والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد جهز جيشاً لفتح بلاد الشام أمَّر عليه أسامة ورأى أصحاب النبي من الحكمة ألا ينفذ أبو بكر الخليفة هذا الجيش ؛ لأن البلاد مقبلة على فتنة داخلية فيها، وهناك اضطرابات داخلية، أيُعقل أن تذرّ الإضطرابات ونٌرسل جيشاً لفتح الشام ؟ فهذا منطقياً غير مقبول ؛ فأصحاب النبي اضطربوا وتمنوا على سيدنا الصديق ألاّ يرسل هذا الجيش وتهامسوا فيما بينهم وانتقل الخبر لسيدنا عمر، فسيدنا عمر جاء لِيُبلّغ سيدنا الصديق هذه الرغبة وتَبَنَّاها، ولكن سيدنا الصديق أراد أن يُربي الأصحاب تربيةً حاسمة فما كان منه إلا أن أمسك بلحية عمر وهزَّها هزاً شديداً وقال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ؛ أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟! فلما رأى أصحاب النبي ما فعل الصديق بعمر ارتعدت فرائصهم وندموا على خواطرهم وانصاعوا لأمر سيدنا الصديق، لماذا صبر سيدنا عمر على أخذ الصديق بلحيته وهَزَّها هزاً شديداً وقال له ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟ لأنه فهِم على سيدنا الصديق مراده البعيد.
ماذا قال ابن عطاء الله السكندري: " إذا كَشَفَ الله لك حِكمته في المنْع عاد المنع عين العطاء " فربما كان الإحسان من الله حِرمان وربما كان المنع من الله إحسان، فمتى يصبر الإنسان ؟ من الذي يصبر ؟ الذي يعرف الله عزّ وجل، أمّا الذي لا يعرف الله عزّ وجل فلا يصبر، بل بالعكس يُزمجر ويتكلّم كلاماً سيئاً يُسجّل عليه، علامةُ معرفتك بالله صبُرك على قضائه وقدره، لكن كلَّ حسنةٍ بعشرِ أمثالها، وكل شيء له حساب، إلا أن الصابرين كما قال الله:
﴿قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)﴾
(سورة الزمر)
فأما الصابرون فإنهم يوفوَّن أجورهم بغير حساب ؛ فهذا المُحسن حينما صبر كأن لسان حاله يقول يا رب: عالجني كما تُريد وأنا أصبر، يا رب أنت ربي لا إله إلا أنت، أنت ولييّ في الدنيا والآخرة، عالجني كما تريد أنا أصبر على معالجتك، كأن لِسان حال الصابر يقول يا رب أصبر في الدنيا ولا أصبر في الآخرة، القضية في الدنيا مقبولة، أما في الآخرة فالخزي لا يُحتمل ؛ والنبي عليه الصلاة والسلام قبَيل وفاته وقف بين أصحابه وخَطَبَ خُطبةً مؤثرةً قال:
((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا...))
(رواه البخاري والترمذي)
ثم قال: من كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليقْتَدْ مني، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه...إلخ، فقام رجل وقال يا رسول الله إنني منافق فادعُ الله أن يتوب عليَّ، سيدنا عمر وقف وقفةً كما هي عادته وأراد أن يَبطِش بهذا الذي فضح نفسه ؛ قال له ثَكِلَتْكَ أُمك لِمَ فضحْت نفسك ؟ هنا بيت القصيد ! فقال له: يا عمر دعه فإن فُضُوحَ الدنيا أهون من فُضوحِ الآخرة ! يعني مثلا لو طالبٌ سرق قلم حبر وكُشِفَ أمره أمام رفيقه فهذا شيء قد يهون، أما إذا كُشِفَ أمره أمام طلاب الصف كلهم فهذا شيءٌ آخر يعني فضيحة صارخة، أما إذا كُشِفَ أمره في الباحة أمام ثلاثين شعبة فهذا شيءٌ أكبر وفضيحة تنتشر كالنار في الهشيم.
فُضوح الدنيا أهون، أنت ساكنٌ في مدينة، في حي من الأحياء هناكَ من يعرفك وهم قِلّة، أما على رؤوس الأشهاد إذ يقف هؤلاء الفُساق والفجارمواقف الخزي والعار:
((عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي قَالَ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا ))
(رواه مسلم وأحمد)
قال له يا أبا ذر إنها أمانة. سيدنا أبو ذر قال يا رسول الله استعملني " عيِّنْ لي وظيفة " قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنني أحب لك ما أحب لنفسي إنها أمانة وإنها خِزيٌ وندامة يوم القيامة، أبو موسى السهلي قال: إنني منافق، قال: دعه يا عُمر فُضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، فالصابر كأنه يقول عالجْني يا رب قبل أن أموت، يا رب لا تمتني حتى تطهرني من ذنوبي ومن عيوبي ومن أَدْراني، فالإنسان العاقل يجتهد لتنقية نفسه من كل مرض، لأن الله عز وجل يقول:
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
(سورة الشعراء)
إذاً: إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب والآية التي تتحدث عن الصبر قوله تعالى:
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
(سورة الأنفال)
هذه معيّة خاصّة أم عامة ؟ إنها معيّة خاصّة ؛ لأنَّ المعيّة الخاصّة تعني التأييد والنصر والتوفيق و الحِفظ، حيثما وردت في القرآن الكريم معيّة خاصّة، تعني التأييد والنصر والتوفيق و الحفظ.
﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾
وقال جلَّ شأنه:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)﴾
(سورة آل عمران)
مع الصابرين بالرعاية والحفظ والتأييد والتوفيق، والله عزّ وجل يوفيهم أجورهم بغير حساب، والله يُحبهم ويوفيهم أجرهم بغير حساب وهو معهم بالحِفظ والرعاية والتأييد والتوفيق، لماذا يُحبهم ؟ لأنهم قَبِلوا معالجته، أحياناً أنسب شيء هو معالجة المرض من دون مخدّر، أما إذا رفض هذا الإنسان وصاح وتكلم كلاماً قاسياً، عندئذٍ يضطر الطبيب أن يسلك معه الطريق الأطول الأخطرَ في العلاج، ربنا عزّ وجل حينما يرى عبداً صابراً معنى ذلك أن هذا العبد قد رضي بمعالجة الله له وأن يستسلم لقضائه وقدره هذا هو معنى الصبر.
الصبر شيء عظيم، والإنسان الغربي من شدة بُعدهِ عن الله يقف في حياته موقفين: إما أن ينال ما يصبو إليه وإما أن ينتحر ؛ فإذا فقد الشيء الذي يصبر يصبو إليه إضافةً لِبُعده عن الله، فإمّا أن ينال طِلبته وإمّا أن يصاب بأمراض نفسية إذا لم ينتحر ؛ أمراض الإحباطِ، الكآبةِ السوداوية، انفصام الشخصية، هذه كلها أمراض نفسية، أساسها إنسان تعرض لمصائب وهو لا يعرف الله عزّ وجل، والأمراض النفسية أساسها عدم معرفة الله عزّ وجل.
إذاً الخلاصة بتمامها: إيّاك أن تصبر لغير الله، فعندئذٍ ليس لك من أجر، فمثلاً قد يُضايقك شخص قوي متسلط وأنت صابر، فالله عزّ وجل يقول:
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)﴾
(سورة الرعد)
دخلتم الجنة، ووصلتم إلى أعلى درجة يتمناها كل إنسان على وجه الأرض، وصلتم إلى دار السلام، إلى جنةٍ عرضُها السماوات والأرض، وصلتم إلى سعادة الأبد، وصلتم إلى نعيم مُقيم، وصلتم إلى دارٍ لا خروج منها ولا قلق فيها، ولا مرض، ولا منافسة، ولا تحاسد ولا...، ومن بعد فهذه الجنة مهيأة لك ما ثمنُها ؟
قال:
﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾
صبركم كان ثمن الجنة.
﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ﴾
انظر إلى صبر المؤمن، فالمؤمن دائماً في صبر، على المَرَض صابر، مشكلة في بيته صابر، يُعامَل بقسوة صابر دَخْله قليل صابر، مُنغِّصات في عمله صابر، إنه يرى قدرة الله عزّ وجل والإنسان إذا كان بإمكانه أن يمنع عنه الأذى ولا يمنع عنه الأذى فهو عاصٍ وليس بصابر، الصابر إذا كُنت لا تستطيع أن تُزيل عنك هذا الأذى الصبر عند استنفاذ الجُهد.
هناك قضية مزعجة وبإمكاني أن أعالجها لأخوتي القّراء الكرام، فقد يقول قائل: هذا الأمر أو البلاء من قضاء الله وقدره، فمن قال لك ذلك، إن كان من قضاء الله وقدره فالحلّ يتم بقضاء الله وقدره كذلك: فهذا سيدنا عمر عندما قدم إلى الشام أيام وجود الطاعون بها فامتنع عن دخولها فقيل له يا أمير المؤمنين: أَتفِرُّ من قضاء الله ؟ قال: نعم أفر من قضاء الله إلى قضاء الله، وقال لو: كنتَ تملك قطيعاً من الغنم، وهناك أرض مُجدِبة وأرض مُخصِبة، أين سترعى غنمك ؟ إن رعَيْتها بالأرض المجدبة فبقضاء الله وإن رعيتها بالأرض المخصبة فبقضاء الله أنا أفِرُّ من أرضٍ مُجدبة بقضاء الله إلى أرضٍ مُخصِبة بقضاء الله، هذا هو التفكير العلمي، فإذا أمكن علاج الابن عند طبيب فلا يجوز الاستسلام بِحُجّةِ أنه صابر، لا. بل نقول له: أنت مُقصّر ؛ إذ ليس هذا هو قضاء الله عزّ وجل، فحينما لا تملك حيلةً فعندئذٍ أنت معذور.
ماذا قال النبي الكريم في الطائف:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس))
لقد اجتهد حينما خرج من مكة إلى الطائف لعلهم يؤمنون لكنه شكا قلة حيلته، وأنت كإنسان تقف أمام بعض الأمور عاجزاً ؛ لكن إذا أمكنك الحركة فيجب أن تتحرك، إلا أنك حينما تفقد الحيلة يأتي دور فالصبر إذاً الصبر يأتي لَمّا تنعدم الحيلة.
سيدنا عمر أشار إلى أن الصبر نِعمةٌ من نِعَمْ الله الكُبرى، كان إذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله ثلاثاً ؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمتني الصبر عليها، لأن الله عز وجل يقول:
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)﴾
(سورة النحل)
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾
وإليك الآية الثانية أيها القارئ الكريم:
﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)﴾
(سورة الأعراف)
سيدنا أيوب ثبتت فيه آيةٌ - سبحان الله - أَتذَوَّق منها الشيء الكثير، لِمَ حدثنا ربنا على صبره قال في هذه الآية:
﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (43)﴾
(سورة ص)
﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾
أحيانا يبعث الله لك بلاءً ليَرَى موقفك هناك شخص حدثني عن حادثة وقعت له قال: أوقفت سيارتي في كراج وكانت في وضع مائل والمكبح غير مُحكم فتراجعت ودخلت في سيارة حديثة وجديدة فأصيبت السيارة الأخرى بأضرار في هيكلها، فتغيرت ملامح صاحبها وأخذ يشتم الذات الإلهية ويشتم الأنبياء، فلما أُخِذَتْ إلى مكان التصليح عالجها المصلِّح بيده فعادت كما كانت، فهذه الكلمات النابية القاسية تدل على جهله بالله عز وجل.
على كُلٍ الإنسان.
﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾
فالله يمتحن الإنسان يُتلف له شيئاً من حاجياته، يُحبط له بعضاً من مساعيه، يفشل في بعض غاياته هو تحت المراقبة ! سيدنا أيوب ماذا كان وضعه:
﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾
أجمل موقف يقفه المؤمن حينما يتلقى خبراً سيئاً أن يقول: الحمد لله رب العالمين، يا رب لك الحمد هذه حِكمتُك وهذا قضاؤك وهذا قدرك وأنا راضٍ بحِكمتك، اللهم ألهمني الصبر، هذا أعظم موقف يقفه المؤمن لاتظنَنَّ أن الإنسان أيا كان لن يتعرض لمواقف فيها امتحان، لكنه حينما يقول الحمد لله فقد نجح.
الإيمان كله صبر وبعض الأحاديث تقول:
(( الإيمان نصفان ؛ نصف صبر ونصف شكر ))
ثم أني وجدت حديثاً شافياً جداً:
(( الإيمان هو الصبر))
في الأساس الجنةُ لها ثمنٌ، وثمنها أن الله عزّ وجل ركّبَ في الإنسان طبيعة، وكل التكاليف عكس الطبيعة، ركّبَ فيك حُبَّ المال وأمرك بإنفاق المال وركّبَ فيك حُبَّ الراحة وأمرك بصلاة قبل طلوع الشمس وركّبَ فيك فضولية في أخبار الناس وأمرك أن تسكت عن الغيبة والنميمة، لو تتبعت أوامر الشرع لوجدت أنك لن تستطيع تطبيقها إلا إذا خالفت طبيعة نفسك، إذاً الدين كله صبرٌ، فمن هو الكافر ؟ هو إنسان ينساق مع شهواته ومع أهوائه ومع ميوله وحظوظه ومصالحه، ومن هو المؤمن ؟ هو الذي عاكس هواه وشهوته وميوله وحظوظه وطبّقَ منهج ربه.
فإذا أردت أن تقول لي: الدين كله صبر ؟، أقول لك: نعم الإيمان هو الصبر والسماحة، الصبر سَلْبي، السماحة إيجابية، أن تصبر عن المعصية، وأن تصبر على الطاعة، وأن تصبر على الأمر التكويني ثلاثة مناهل: صبر عن المعصية وصبر على الطاعة وصبر على الأمر التكويني، فلذلك من السذاجة أن تَظُنَّ أنَّ الفقير فقط عليه أن يصبر فمن قال لك هذا ؟ إذا كان صبر الفقير عن موضوع واحد فالغني أشد حاجةً إلى الصبر من الفقير لماذا ؟ لأنَّ الغني يمتلك خيارات كثيرة جداً لغناه وسعة دنياه، مثلاً إذا قُلنا للضعيف: اصبر، فالحقيقة أنّ القوي أشد حاجةً ألف مرة للصبر من الضعيف لأنَّ الضعيف قدرته ضعية، أما أن القوي بإمكانه أن يفعل كل شيء لكنه إن خاف من الله عز وجل لم يفعل شيئاً، فهذا الدليل:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)﴾
(سورة الأنبياء)
﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾
بالخير أنت مُمتحَن بالمال مُمتحن بالقوة مُمتحَن بالشباب، ولقد أمضيت أكثر من شهرين فيما أذكر في خُطب جامع النابلسي أعالج موضوع الصبر ؛ يعني شهرين أو ثلاثة حول الصبر، والنتيجة أن الدين كُلُهُ صبر، فمثلاً الشجاعة صبر بينما الهروب انسجام مع حب الحياة، إن الجسم يحتاج إلى استلقاء وراحة، جاء للبيت مساءً مُتعباً أكل ونام، هكذا كثير من الناس، أما المؤمن فعليه صلاة العشاء ؛ أكل وتوضأ وصلى الفرض والسُنّة والوِتر فهذا صَبَر نام، وفي الساعة الواحدة ليلاً والفراش وثير والجو شتوي والفراش دافئ وغدُة يومُ عطلة ؛ فسمع أذان الفجر، الآن سيَصْبِر على ترك الفراش وينهض للصلاة، لو تتبعت الأمور فأنت مُمتحن في كل لحظة، مرت امرأة جميلة وفي ثياب فاضحة أنتَ إذا نظرتَ إليها فقد انسجمت مع شهوتك إلى النساء، أمّا إذا غضضت بصرك عنها غضاً حازماً فقد عاكست شهوتك، إذاً أنت صابر فما هو الصبر ؟ مخالفة شهوات النفس وأنت مُكلّف أن تصبر في كُل دقيقة.
قال بعض العارفين إذا أقامك الله في مقام الشكر فكُنْ من الشاكرين، وإذا أقامك في مقام الصبر فكُنْ من الصابرين، المؤمن في الرخاء شكور وفي الزلازل صبور، قانع بالذي له، لا يأخذ ما ليس له في الرخاء شكور وفي الزلازل صبور، العوام يقولون: إذا إنسان صَبَر ضاع أمره ؛ لا لم يضيع أمره بل أخذ كل شيء وحقق النجاح قال تعالى:
﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(13)﴾
(سورة سبأ)
فأنتَ بينَ الشُكر والصبر، لكن أيها الإخوة الأكارم لابُدَّ من التنويه إلى أن المؤمن يجب أن يطلب من الله العافية، وهذا مأخوذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ ))
(رواه الترمذي)
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. وفي الطائف قال عليه الصلاة والسلام:
((إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أُبالي ولك العُتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي))
عزيزي القارئ: سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة فإذا أُعطيت العافية في الدنيا وأُعطيتها في الآخرة فقد أفلحت ونجحت إن شاء الله.
في ختام هذا البحث إن الله جل جلاله صبور على عباده وإن عَصَوْهُ، وهو يوافق اسم الرحمن جلَّ جلاله قد وسِعت رحمته كل شيء في الدنيا والآخرة والله يقول الحق وهو يهدي إلى صراط مستقيم