الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : المبدئ المعيد

المبدئ المعيد

مع الاسم التاسع والستين من أسماء الله الحُسنى، والاسم هو المُبدي المُعيد.
 أيُّها الإخوة... فضلاً عن أنَّ هذين الاسمين وردا في حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حينما ذكر أسماء الله الحُسنى، فإنَّ هذين الاسمين يذكرا معاً دائماً، وقد نوَّهت من قبل إلى أنَّ العلماء في بعض الأسماء يرون أنه يُذكرا معاً، كأن تقول: المعطي المانع، القابض الباسط، الخافض الرافع، المُعزّ المُذل، الضار النافع، إنَّه يضُرُّ لينفع، ويخفض ليرفع، ويُذلُّ ليُعز، ويقبض ليبسط، ويمنع ليعطي.
 وهذان الاسمان.. المبدي المعيد ألِفا العلماء أيضا أن يذكروهما معاً في بحثٍ واحد، ولا بدَّ من أن أُنوِّه مرَّةً ثانية إلى أنَّ معرفة الله عزَّ وجلَّ تقتضي أن تعرف أسماؤه الحسنى.. لذلك قال تعالى:
﴿وسعىوَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
(سورة الأعراف)
 والذي يدعوك إلى معرفة الله، أو الذي يدعوك إلى محبَّته، والانقياد لأمره أن تعرف أسماؤه الحُسنى، لأنَّ النفوس جبلت على حُبِّ الكمال، والله سبحانه وتعالى جمع الكمالات كلَّها.
 وسنتعرف أين ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم ؟ وبالطبع فإنَّ أسماء الله الحُسنى قد وردت في الكتاب والسنَّة، لكن بعض الأسماء ورد بالنصِّ الدقيق، وبعضها ورد بالجذرِ، أي بالفعل، كما مر بنا في البحث السابق، فالله سبحانه وتعالى واجد.. لكنه ورد في القرآن الكريم:
﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (43) ﴾
(سورة ص)
 فلم يرد في القرآن اسم الواجد لكن ورد فعل وجد، من الوجود أو الوجد، وقد ذكرت ماذا يعني كلمة الواجد.. أي الغني، الواجد الذي يعلم، الواجد الذي وجد عليه اي غضب منه، وقد بيَّنت ما يتناسب مع أسماء الله الحُسنى من هذا المعنى.
 يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) ﴾
(سورة الأعراف)
 يقول بعض العلماء وهذا القول حق ورائع: " الشريعة عدلٌ كلُّها، رحمةٌ كلُّها، مصلحةٌ كلُّها، فأيَّة قضيَّةٍ خرجت من العدل إلى الجور، من المصلحة إلى المفسدة، من الرحمة إلى خلافها فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل ".
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾
 بدأكم... تعودون، المبدىء المعيد.
 في هذه الآية وردت الإشارة إلى اسم الله المبدي وإلى اسم الله المعيد، وفي سورة الأنبياء قال تعالى:
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(104) ﴾
(سورة الأنبياء)
 وفي سورة النمل قال تعالى:
﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)﴾
(سورة النمل)
 وفي سورة العنكبوت قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
(سورة العنكبوت)
 وفي سورة الروم قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)﴾
(سورة الروم)
 وفي السورة نفسها قال تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)﴾
(سورة الروم)
 وفي سورة البروج قال تعالى:
﴿إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)﴾
(سورة البروج)
 فالإنسان أحياناً يقول: والله قد فعلت هذا الأمر ولكنّي لا أستطيع أن أُعيده. أي جاءته معونةٌ خاصَّة خارجةٌ عنه، فإذا كلفته أن يعيده لا يستطيع، فالإنسان من ضعفه أحياناً تأتيه بوارق، حالات إستثنائيَّة، إشراقات، فهو لا يملك هذا الإشراق دائماً، فكل من يعمل في أعمال الفكر أو الإبداع، يعرف أن الإبداع لا يأتيهم متى يشاؤون، الإبداع قد يوافي الرجل، وقد لا يوافيه، فمعنى ذلك أنَّ الإنسان مفتقر، أحياناً يبدع في إلقاء كلمة، يبدع في قراءة، يبدع في فكرة، يبدع في إكتشاف، لكن قد لا يبدع أحياناً.
 قال بعضهم: " العبقريَّة تسعٌ وتسعون بالمائة عرق وواحد بالمائة إلهام"، وهذا الشيء ثابت فكل الأدباء والكتَّاب والشعراء، حتى كل الأعمال التي تتسم بالإبداع أصحابها يعترفون أنَّه في بعض اللحظات يأتيهم إشراق، في بعض اللحظات تأتيهم معونة، في بعض اللحظات يتألَّقون، ولكنَّ هذه اللحظات لا يملكونها، تأتيهم أو لا تأتيهم، ولذلك الذي فعلته اليوم بإشراقةٍ أو بإبداعٍ أو باستثناءٍ لا تملك أن تُعيده وهذا من ضعف الإنسان، لكنَّ الله سبحانه وتعالى كلُّ شيءٍ خلقه يعيده مرَّةً ثانية كما ورد في الآية الكريمة:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾
 في اللغة العربيَّة بدأ وابتدى بمعنى واحد.. ولكن لي تعليقٌ على هذا الكلام هو أنَّ كلَّ زيادةٍ في المبنى تدُلُّ على زيادةٍ في المعنى وهذا في أصل اللغة، فسوف غير السين فقط - س - سأفعل كذا غير سوف أفعل كذا ولا شكَّ في ذلك، مثلاً: كتب غير إكتَتَبَ.. فكتب أي كتب رسالة، واكتتب أي إتَّخذ الكتابةَ مهنةً له.
 بدأ الله الخلق.. أي خلقهم وأوجدهم، فلانٌ لا يبدي ولا يُعيد أي ليست له حيلة، لا يفعل شيئاً باديء ذي بدء، وليس بإمكانه أن يُعيده، إذاً ضعيف ولا حيلةً له، قاصر.
 وفي سورة سبأ قال تعالى:
﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)﴾
(سورة سبأ)
 الباطل ضعيف، الباطل زهوق وقد قال تعالى:
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) ﴾
(سورة الإسراء)
 والله عزَّ وجلَّ عندما قال:
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾
 زهوق على وزن فعول أي شديد الزهوق، وصيغة المبالغة دائماً في اللغة تعني شيئين، تعني الكمَّ وتعني الكيف، أي أنَّ أكبر باطل زهوق، وأكثر باطل زهوق، فلو كان هناك مليون باطل، وبالطبع هناك باطل إعتقادي، وباطل فكري، وباطل سلوكي، أي شيء خلاف المنهج فقد قال الله تعالى:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾
(سورة الأنعام)
 فالحق واحد لا يتكرر، الحقُّ واحد كما أنَّ بين نقتطين يمرُّ مستقيم واحد فقط، ولو مررنا مستقيم آخر لانطبق على الأول، فبين نقتطين يمرُّ مستقيم واحد، والحق كذلك واحد، فالحقُّ لا يتعدد، أما الباطل فإنه يتعدد.. فبين نقتطين يمرُّ ألف خط منحن وألف خط منكسر، فالباطل يتعدد أما الحقَّ لا يتعدد.
 والآية الكريمة التي وردت في سورة البقرة أيضا تؤدي المعنى ذاته قال تعالى:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾
(سورة البقرة)
 الظلمات جمع.. والنور مفرد، فالحقُّ واحد، فهذا الذي لا يُبدي ولا يُعيد أي ضعيفاً، مفتقراً، ولا حيلة له، لكنَّ الله سبحانه وتعالى يبدي ويعيد.
 الحقيقة كلمة يُبدي.. تشير إلى معنى المبدع.. فالإنسان حينما يخترع شيئاً لا يمكن إلا وأن يكون لهذا الاختراع أصل، حتى إنَّ الذي اخترع العجلة وكما قال بعضهم لا بدَّ أنَّه رأى شجرة تتدحرج على الأرض فاستنبط من الشجرة العجلة، والذي اخترع الغوَّاصة رأى السمكة في أعماق البحر، فعلى مستوى البشر ليس هناك إنسان اخترع شيئاً وأبدع شيئاً إلا على مثالٍ سابق، حتى أنَّ الكتّاب الخياليين إذا أرادوا أن يصوِّروا قصَّة خياليَّة في العالم الآخر، يصوِّرون أشخاصًا وهؤلاء الأشخاص على مثالٍ سابق، فيصوِّرونه له رأس وله يدان وله رجلان وله جذع، ولكن مع بعض التعديلات.
 والمهندسون الذين يصممون الأبنية هناك عدَّة أشكال في ذهنه، فأول شكل، والثاني والثالث والرابع والخامس وبعد السادس مثلا تجده يعيد الشكل الأول، فالقدرة على إحداث شيء من غير مثال سابق عند الإنسان محدودة للغاية، فلا بدَّ من مثال سابق، لكن ربنا عزَّ وجلَّ عندما قال عن نفسه إنَّه هو المبدع أي خلق الكون على غير مثالٍ سابق.
 فمثلاً فكرة النبات.. فأنت إذا أردت أن تصنع شيئاً يتكرر فكيف؟ تقول: نكثِّرهم. لكن ربنا سبحانه وتعالى جعل بداخل الثمرة بذرة، وهذه البذرة تزرع وتنتج شجرة، والشجرة تثمر هذه الثمار، فمبدأ البذور في الكون هذا إبداع وهو على غير مثالٍ سابق، مبدأ الألوان كذلك.. فهناك ألوان والعين تحتاج إلى نور فالله خلق كل شيء على غير مثالٍ سابق.
 فمعنى كلمة المبدئ فيها معنى المبدع، فالإنسان له رأس وجذع وله أطراف، وله يدان ورجلان، وهو يرى ويسمع، وينطق ويتحرَّك، وهو ينام ويجوع ويعطش، من قال إنَّ الإنسان بحاجة إلى أن يشرب ؟؟ الله عزَّ وجلَّ.. من صمم هذا الإنسان على أنَّه يحتاج إلى أن يشرب ؟ من خلق الماء ؟ فالإنسان مصمم على أن يشرب أوجد الله ماء، فهو مصمم كذلك على أن يتنفَّس وهناك هواء.
 بل إنَّ الجنين في بطن أمِّه له رئتان وليس بحاجةٍ إليهما إطلاقاً لأنَّ دمه يتجدد عن طريق الأم، فهذا الأوكسجين يأخذه من دم أمِّه عن طريق المشيمة، فمعنى ذلك أنَّ هناك خالقًا مبدعًا خلق له الرئتين ليستعملهما حينما يولد.
 من صمم الكون على أنَّه كُرات ؟ فالكرة شكل هندسي له خصائص، ومن صمم الكون على أنَّه يتحرَّك ؟ هذه الحركات المغلقة، من صمم قوى الجاذبيَّة ؟ من صمم النور والظلام ؟ من صمم أنَّ الحياة أساسها الماء ؟ فهذا كلُّه مبدع على غير مثالٍ سابق.
 نحن ألفنا الكون، ألفنا القوانين، ألفنا الخصائص، فإذا أردنا أن نتحرَّك نتحرَّك وفق مثلٍ سابق فقد قال الله تعالى:
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
(سورة المؤمنون)
 الله عزَّ وجلَّ سمَّى الإنسان الذي يصنع شيئاً سمَّاه مجازاً خالقاً وسمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته فقال:
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
 لكن بين خلق الإنسان وخلق الله بونٌ شاسع.
 الإنسان يصنع من كلِّ شيءٍ شيئاً، لكنَّ الله سبحانه وتعالى يصنع كلَّ شيءٍ من لا شيء، فقال تعالى:
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
 وربُّنا عزَّ وجلَّ سمح لذاته العليَّة أن يوازنها مع مخلوقاته فقال تعالى:
﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)﴾
(سورة الأنعام)
 الآن هناك حاسوباً، وهذا الحاسوب الذي اخترعه الإنسان شيء مذهل، يقرأ أربعمائة وخمسين مليون حرفاً في الثانية الواحدة، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾
 أي أنَّه ليس هناك زمناً فهو القائل سبحانه:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) ﴾
(سورة يس)
 فهنا أردت أن أقف قليلاً عند كلمة مبدئ.. أي مبدع، وأضيف على هذا المعنى معنىً آخر وهو أنَّ الله سبحانه وتعالى لكرامة الإنسان عليه هو مبدع وصمم الكون بطريقةٍ يستطيع الإنسان بها أن يبدع.
 فمثلاً هناك نباتات مقزَّمة فهذا إبداع، وكذلك شجرة فاكهة ضخمة تقزَّم وتصبح في حجم صغير، وكثيراً من النباتات الآن مثل الليمون والبرتقال والرمان توضع في أُصص صغيرة جداً فهذا إبداع، ولكن ربَّنا عزَّ وجلَّ صمم الكون بطريقةٍ إذا أراد الإنسان أن يبدع، إنه يُبدع فيه.
 اللغة مثلاً مؤلَّفةً من حروف معدودة، ولكن من هذه الحروف المعدودة يمكنك أن تبدع كلمات غير محدودة، فأصبح المبدئ هو المبدع، والمبدع هو الذي يوجد الشيء على غير مثالٍ سابق، فليس هناك مثال سابق للمبدع سبحانه.
 فالإنسان يمشي وله يدان.. فهذا الشكل شيء رائع جداً، لكن هناك أكثر من ستة آلاف مليون إنسان، فلا يوجد إنسان مثل الآخر.. فالله يبدع، فبصمة الإبهام إبداع، وقُزحيَّة العين إبداع، وكيمياء الدم إبداع، ونبرة الصوت إبداع، ورائحة الجلد إبداع، فالإنسان متميِّز برائحة جلده، ونبرة صوته، وقُزحيَّة عينه، وبصمة إبهامه ينفرد بها، والآن اكتشف العلماء الزمر النسيجيَّة وهي غير الزمر الدمويَّة، فأثناء نقل الأعضاء فلا بدَّ من حدٍ أدنى من التوافق النسيجي وإلا هذا العضو المزروع يلفظ ولا يقبله الجسم، فكم زمرة نسيجيَّة مكتشفة إلى الآن ؟ إثنان ونصف مليار زمرة نسيجيَّة أي ليس هناك سوى شخص آخر في هذا العالم يشبهك من خيث الزمرة النسيجيَّة.
 فأنت عندك زمرة نسيجيَّة، وزمرة دمويَّة، وبصمة إبهام، وكيمياء دم، ورائحة جلد، ونبرة صوت وقُزحيَّة عين تتميّز بها عمّن سواك، فالله عزَّ وجلَّ اسمه الفرد، ومن تفضُّله على هذا الإنسان أن جعله فرداً لا مثيل له، فلك مكانتك عند الله عزَّ وجلَّ.
فالمبدي.. هو المبدع، أي خلق خلقاً على غير مثالٍ سابق.. كان الله ولم يكن معه شيء، ثم خلق الأشياء.
 لو قلنا لك: صمم لنا ورقة شجر. فإذا قمت بإجراء المحاولة فسترسم ورقة دائريَّة، أو ورقة مثلَّثة، أو مستطيله، أو ورقة مسننه، أو ورقة نحيلة وطويلة، أو ورقة قصيرة وثخينه، عدَّة أمثلة ترسمها، ولكنَّك لو دخلت لحديقة وراقبت فقط أشكال أوراق النباتات تجد أعداداً لا تُحصى من أشكال أوراق النباتات، ودقق نظرك في الأزهار فهي كذلك لا تُحصى.
 دخلت إلى أحد المعارض التي خصصت لعرض الفراشات بمصر وعلى ما أذكر فقد ضمّ المعرض أربع قاعات علقت على جدرانها كلِّها فراشات وكل واحدة غير الأخرى، وكل واحدة أجمل من الثانية شيء لا يصدَّق، أشكال متباينة، وألوان مختلفة فهو سبحانه مبدع على غير مثالٍ سابق.
 ذكرت من قبل في أحد الأبحاث السابقة: أنَّ القمح أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة نوعاً، فصحح لي أخ كريم هذه المعلومة وقال لي: بل إثنى عشر ألف نوع من القمح. فالله مبدع والأنواع لا تُعدُّ ولا تُحصى.
 أيها القارىء الكريم... هذا الكون معرض لأسماء الله الحُسنى، فكلَّما زدَّت هذا الكون نظراً وتأمُّلاً تعرَّفت إلى الله أكثر فأكثر، إنَّ هذا الكون بابٌ واسع تدخل منه على الله، وطريقٌ قصير تصل به إليه.
 فالمعنى الأول.. المبدئ.. المبدع الذي خلق فأبدع على غير مثالٍ سابق، أما الإنسان.. فقد قرأت موسوعة عن الطيور ففي المقدمة كتب المؤلِّف قائلاً: إنَّ أرقى طائرة صنعها الإنسان حتى الآن لا ترقى إلى مستوى الطائر. فأحد أنواع الطيور يطير ستَّة وثمانين ساعة طيران بلا توقُّف، ونحن إذا طرنا بطائرة سبع عشرة ساعة فوق مياه المحيط الأطلسي نقول: هذا شيء يفوق عجائب الدنيا السبع.
 وبعض الطيور تقطع سبعة عشر ألف كيلومتر ولا تضلُّ الطريق بلا بوصلة وبدون الاستعانة بمراكز البث المنتشرة في أنحاء المعمورة، فالطائرة تعرف موقعها من خلال هذه المراكز وبالاتصال المستمر مع هذه المحطات الأرضيَّة، ويعرف منها حوادث الطائرات بالساعة والدقيقة ومكان الوقوع إذا انقطع اتصال الطائرة بالأرض، ولكن هذا الطائر الذي يطير من شمال الكرة الأرضيَّة إلى جنوبها، من شمال بريطانيا إلى جنوب أفريقيا، وحينما يعود لو أنَّه أخطأ في زاوية العودة بمقدار درجة واحدة لهبط في هولندا، ولو أخطأ زاوية أُخرى لجاء في ألمانيا.
 والأغرب من ذلك هذه الطيور التي تبني أعشاشها.. تُعشعش.. في البيوت والتي تهاجر إلى الجنوب ويعود، كطائر مثلاً وصل إلى جنوب أفريقيا وسيعود، وهو مثلاً في دمشق في بيت من بيوت الصالحيَّة، لو أخطأ نحو اليسار درجة واحدة لجاء بمصر، ولو أخطأ نحو اليمين درجة لجاء بالعراق.. لكنه إذا عاد فإنّه يصل إلى عُشِّه الذي بناه في دمشق، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي.
 أيها المؤمن... كلَّما تأمَّلت في خلق السماوات والأرض ذابت نفسك خشوعاً لله عزَّ وجلَّ وتعظيماً له.
وقال بعضهم: " المبدئ هو الذي إبتدى العباد بالفيض والمدد، وهو نِعم السند ".
 أحياناً تقدم لك هديَّة إبتداءً فتنتبه فتردُّ عليها، ولكن لمن الفضل؟ الفضل لمن بدأ.. لأنّ ردُّ الفعل أقلُّ من الفعل.. فربنا عزَّ وجلَّ أنعم عليك بنعمة الوجود، فأنت موجود، وبدأ فضله عليك بنعمة الإمداد ونعمة الإرشاد والهُدى، وهو قد بدأك بالفضل فقد قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
(سورة المائدة)
 لم يقل: يحبونه ويحبُّهم بل قال:
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾
 حينما خلق الإنسان ولم يكن من قبل شيئاً مذكورا بدأه بالفضل وقد قال تعالى:
﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)﴾
(سورة الرحمن)
إلى متى أنت باللذات مشغولُ  وأنت عن كلُّ ما قدَّمت مسؤولُ
***
 أيضاً المبدئ.. المُظهر. قال أظهر جميع الخلق من العدم إلى الوجود.
 فالمعنى الأول للمبدئ.. هو المبدع. أي خلق على غير مثالٍ سابق.
 المعنى الثاني للمبدئ.. هو الذي بدأك بالإحسان فأوجدك، المعنى الثالث.. هو الذي أظهرك، فقد كنت في حيِّز العدم أي عدماً فأظهرك.
 وقال بعض العارفين بالله: " المبدي هو الذي يقذف في قلب عبده النور فيشرق "، أي كان إنساناً خاملاً تافهاً بعيداً، ضائع شارد ضال، فلمَّا ألقى في قلبه النور إنتبه وصار شيئاً مذكورا، فالله عزَّ وجلَّ يرفع الإنسان ويسمو به، ألم يقل في كتابه الكريم:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) ﴾
(سورة الشرح)
 كان إنساناً خاملاً.. فأحياناً تجلس مع إنسان تجد همومه سخيفة جداً، وأحياناً أخرى تجالس إنسانًا آخر فتدهش، فهناك أشخاص اتصالهم بالله ومعرفتهم باليوم الآخر وسعيهم إلى الدار الآخرة وبذلهم وتضحياتهم جعلت من شخصيَّتهم شخصيَّاتٍ فذَّة.
 فهذا الصحابي الجليل سيِّدنا ربيعة مثَل ناطق فعندما خدم سيِّدنا رسول الله وقد انتهى وقت الخدمة فقد أذَّن العشاء وصلَّى النبي وآوى إلى فراشه ولكنَّ ربيعة لم يستطع أن يغادر بيت النبي ونام على عتبة الباب من شدَّة تعلُّقه به.
 والحقيقة المؤمن كما قيل: " أولياءُ أُمَّتي إذا رؤوا ذكر الله بهم " فهناك سر، فهذا الاتصال بالله عزَّ وجلَّ، هذا النور الذي يسري إلى قلب المؤمن يجعله كالكوكب الدُريِّ مشعاً من حوله، فسبحان الله المؤمن له هيبته وشخصيَّته ووقاره، وله الأنوار من حوله، فكّل إنسان التقى بمؤمن صادق يسري في كيانه ما يشبه التيار الكربائي، ويشعر برعشة، ووجل.
 فقد دخل على النبي الكريم رجل فأصابته رِعدة، فقال له: هوِّن عليك إنما أنا ابن إمرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد بمكَّة.
الظاهر بيبرس وهو بطل من الأبطال ردَّ التتار ومع ذلك قال: والله ما استقرَّ مُلكي حتى مات العزُّ بن عبد السلام، والعزُّ كان أحد العلماء في عصره، وقد كان له من قوَّة الشخصيَّة والهيبة وقوَّة التاثير ما دعى الظاهر بيبرس إلا أن يقول هذا القول.
 الحسن البصري عندما ألقى كلمة في جمع تنفيذاً لوصيَّة النّبي ولأداء الأمانة، هذه الكلمة أزعجت الحجاج، فقال لجلسائه: يا جبناء، والله لأروينَّكم من دمه، وأمر بقتله - بكلِّ هذه البساطة -، طلب السياف، مدَّ النطعُ، ذهب الحاجبُ وأتى بالحسن ليقتل، فلما دخل الحسن البصري على الحجاج حرّك شفتيه فإذا بالحجَّاج يقف له ويستقبله ويدنيه حتى إنه أجلسه إلى جنبه على السرير، وقال له: يا أبا سعيد أنت خيرُ العلماء، أنت سيِّد العلماء يا أبا سعيد، وفيما تروي القصَّة عطَّره واستفتاه، ثم شيَّعه إلى باب قصره، ولكن السيَّاف دهش من هذا التصرُّف فقد أحضر ليقتل الحسن البصري، وحاجب الحجاج دهش كذلك فتبعه وقال له: يا أبا سعيد ماذا قلت لربِّك، جيء بك بغير الذي فُعل فيك ؟ قال: والله قلت لربِّي.. يا ملاذي عند كُربتي، يا مؤنسي في وحشتي، إجعل نقمته عليَّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
 فالمؤمن له هيبةً كبيرةً جداً من اتصاله بالله.
 وقد قيل للحسن البصري: بما نِلت هذا المقام ؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي.
 فعندما يكون العالم مريض النفس فيستغنى الناس عن علمه ويحتاجهم هو لدنياه.. تسقطُ مكانته، وتسقط قيمته.. فما نال الحسن البصري هذا المقام إلا بإستغنائه عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمه.
 فمن بعض معاني كلمة مُبدي أنَّ الله يُلقي على هذا المؤمن هيبةً، ويلقي في قلبه نوراً، مما يجعله كريماً عزيزاً.
 أما إسم المعيد.. ففي اللغة: العَوْدُ هو الرجوع، كالعودة.. ومن كلمات السلف الصالح اللهمَّ: ارزقنا إلى بيتك معاداً وعودةً، والعَوْدُ.. هو الرجوع إلى الشيء بعد الإنصراف عنه، والمُعيدُ من الرجال العالم بالأمور. ففي الجامعة عندنا مصطلح إسمه المُعيد، وقد كان الطالب المتفوِّق يُعيد الدرس على زملائه، فلتفوِّقه إستوعب الدرس، فإذا كان هناك طالب ضعيف فيستمع من المعيد إلى الدرس، وهو يُعيد الدرس على قُرنائه، فالمعيد هو العالم بالأمور.
 والعائدة هي المعروف.. اللهمَّ لا تحرمنا عوائد فضلك، فالعائد هو المعروف أي يعود نفعه على من فعله، فإذا فعل إنسان معروفاً فيعود عليه الخير.. فالعود هو المعروف لأنَّ الإنسان إذا فعل المعروف عاد عليه الخير، والعائدة هي المعروف والصلة.
 والمُعاد.. الآخرة، ففي الدعاء الشريف:
(( اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا ))
 فالمُعيد هو الذي يرجع بعد أن إنصرف عن الشيء.. والمُعيد هو العالم بالأمور، والعائدة المعروف لأنَّه يعود على صاحبه بالخير، والمعاد هو الدار الآخرة، فقد قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)﴾
(سورة القصص)
﴿ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾
 أي سوف يرجع بك أو يعيدك، وقد قال تعالى:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) ﴾
(سورة طه)
 أما المُعيدُ في صفة الله تعالى قال: " هو الذي يُعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات ".
 كلُّ الناس هلكى، كلُّ من عليها فان، كلُّ شيءٍ هالك إلا وجهه، فالإنسان مهما علا لابدَّ من أن يعود إلى التراب، لا بدَّ من دخول القبر، الليل مهما طال فلا بدَّ من طلوع الفجر، والعمرُ مهما طال فلا بدَّ من نزول القبر.
 فالمُعيد هو الذي يُعيدنا إلى الموت بعد أن أحيانا فالموت نهاية كلّ حي، فالموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل، هذا هو النهاية والمصير.
 قال العلماء: " ثم يُعيدهم بعد الموت إلى الحياة ":
﴿ يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
 فهو ينقُلك من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة، لو كان الموت نهاية كلّ حي وهو فناء وأنتهى أمر الإنسان بعده لكانت القضيَّة إذاً سهلة جداً، ولكن الموت بداية حياة فقد قال تعالى:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾
(سورة الفجر)
 قال العلماء أيضًا: المُعيد هو الذي يُعيد الخلق للحساب.. فقد قال تعالى:
﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
(سورة الغاشية)
 هناك عودة، وهناك سؤال، ومحاسبة، ودقَّة بالغة وعرض للأعمال، والمعيد هو الذي يُجازي كلَّ مخلوقٍ بعمله وقوله، ويُحاسبه على نعمه وطوله.
 ورأي الإمام الرازي في هذا الموضوع " أنَّ المعيد هو الذي يُعيدُ الأشياء بأعيانها "، فهذا الجسم الذي فني إلى ذرَّات، فالذرَّات نفسها تجتمع ويُعاد خلقها من جديد، فلو أنَّ الإنسان أُحرق كما في الهند وأُلقي رماده في الآفاق، فهذه الذرَّات يُعيده الله سبحانه وتعالى، لو أنَّه أُلقي في البحر، أو لو أنه احترق في الجو، فذرَّات الإنسان التي خلقها الله يُعيدها هي هي، وقد إستنبط الإمام الرازي هذا من قوله تعالى:
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)﴾
(سورة يس)
 فالذرَّات نفسها يُعيد خلقها.. وقد قال تعالى:
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾
(سورة فصلت)
 معنى ذلك أنها نفس الجلود.
﴿ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
 فإذا إرتكب الإنسان معاصي بأعضائه فهذه الأعضاء نفسها تجتمع ويُعاد خلق الإنسان منها ثانيةً وتشهد عليه.
 يروى أنَّ سيِّدنا داوود كان يبكي فأوحى الله تعالى إليه قال: لم تبكي يا داوود ؟! إن كان بكاؤك خوفاً من النار فقد أمَّنتك، وإن كان رجاء الجنَّة فقد أعطيتك، وإن كان لحديث الخصم فقد أرضيتك، فزاد داوود بالبكاء وقال: إنما أبكي لما فاتني من صفاء ذلك الوقت الذي ولّى، فاردده عليّ. فقال له ربُّه جلَّ جلاله: هيهات يا داوود لا سبيل إلى ردِّ ذلك الوقت.
 فالوقت لا يعود.. الدنيا ساعة إجعلها طاعة، فمستحيل أن تستعيد الوقت، فالوقت إذا مضى لا يستعاد، لذلك ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها.
 أيُّها القارىء الكريم... من أدب المؤمن مع إسم المُعيد أن يّكثر من ترداد هذا الاسم كي يتذكَّر العودة إلى الله عزَّ وجلَّ، فهناك عودة إلى الله..
 أحد الأشخاص إتَّفق مع شخص آخر على أن يقرضه ثلاثمائة ألف ويُسجِّل له بستاناً جميلاً جداً كرهن، فلما لم يستطع المستقرِض أن يرُدَّ القرض، قال له الآخر: لا كلُّ إنسان معه حقَّه، وكان ثمن البستان مليوناً. فصاحب هذا البستان تألَّم ألماً شديداً لدرجة أنَّه أصيب بأزمة قلبيَّة وشارف على الموت، فأوصى ابنه قائلاً: يا بني إنِّي إن مِت سِرّ بالجنازة أمام هذا الذي اغتصب مني البستان وأوقف الجنازة أمام دكَّانه، وأدخل إليه وأعطه هذه الرسالة، وبعد موت الرجل وكان بيته بطرف المدينة فانتقلت الجنازة للطرف الآخر وسارت إلى جانب دُكَّان المغتصب، وأوقف ابنه الجنازة أمام الناس ودخل إلى هذا المغتصب وقال: هذه الرسالة من هذا الميِّت، قبل أن يموت كتبها لك. ففتحها فقرأ ما كتبه المتوفّى فيها قائلاً: إنني ذاهبٌ إلى الله، فإذا كنت بطلاً فلا تأتي إلينا، سوف أُقاضيك هناك.
 إذًا معنى المُعيد أننا لا بدَّ من أن نعود إلى الله وسوف نُحاسب، لذلك الغنى والفقر بعد العرض على الله.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
 وقد قال تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) ﴾
(سورة الزلزلة)
 وللمزيد من البيان... المُبدئ، أقول: إنّ الإنسان إذا عرف بدايته من ماءٍ مهين، وأنّه خرج من عورةٍ ودخل في عورة ثم خرج من عورة، هذه هي البدية، ثم بعد هذا الخلق سوف يُعيده الله إلى الموت، وبعد الموت يُعيده الله إلى الحياة، فالبدية أي أصل خلق الإنسان الأول من تراب، وأصل خلقه بالذَّات من ماء مهين، والنهاية موت وبعد الموت هناك حياة أبديَّة، فأدب المؤمن مع هذين الاسمين المبدي المعيد أن يذكر بدايته ونهايته.
 لذلك.. طوبى لمن ذكر المبُتدى والمنتهى.. ذكر المبتدى أي أنَّه كان نقطة من ماء مهين ثم صار طفلاً ضعيفاً ثم كبُر واشتدَّ عوده ثم بدأ يقول: أنا وأنا، ثم يعود إلى ما كان عليه من الضعف والجهل، ثم يطويه الردى ثم يُعيده الله تارةً أُخرى ليحاسبه على كلِّ أعماله.. فالله يبدأ الخلق ثم يعيده لتجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى فقد قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) ﴾
(سورة الروم)
﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) ﴾
(سورة طه)
 فالله عزَّ وجلَّ هو مبدي والمعيد، بدأك بالإحسان إليك حيًّا وأعادك إلى ما كنت عليه من العدم عند الموت، ثم أعادك من العدم إلى الحياة لتلقى جزاء عملك.