الاثنين، 12 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الجهاد : مقدمة حول علاقة المسلمين بغيرهم

العلاقة بين المسلمين وغيرهم


علاقة المسلمين بغيرهم علاقة تعارف، وتعاون، وبر، وعدل.
يقول الله سبحانه في التعارف المفضي إلى التعاون: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
ويقول في الوصاة بالبر والعدل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}.
ومن مقتضيات هذه العلاقة تبادل المصالح، واطراد المنافع، وتقوية الصلات الإنسانية.
وهذا المعنى لا يدخل في نطاق النهي عن موالاة الكافرين، إذ أن النهي عن موالاة الكافرين يقصد به النهي عن محالفتهم ومناصرتهم ضد المسلمين، كما يقصد به النهي عن الرضى بما هم فيه من كفر، إذ أن مناصرة الكافرين على المسلمين فيه ضرر بالغ بالكيان الإسلامي، وإضعاف لقوة الجماعة المؤمنة، كما أن الرضى بالكفر كفر يحظره الإسلام ويمنعه.
أما الموالاة بمعنى المسالمة، والمعاشرة الجميلة، والمعاملة بالحسنى، وتبادل المصالح، والتعاون على البر والتقوى، فهذا مما دعا إليه الإسلام.
.كفالة الحرية الدينية لغير المسلمين:
ولهذا قرر الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم الدينية.
وتتمثل حريتهم الدينية فيما يأتي:
أولا:
عدم إكراه أحد منهم على ترك دينه أو إكراهه على عقيدة معينة.
يقول الله سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
ثانيا:
من حق أهل الكتاب أن يمارسوا شعائر دينهم، فلا تهدم لهم كنيسة، ولا يكسر لهم صليب.
يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «اتركوهم وما يدينون».
بل من حق زوجة المسلم اليهودية والنصرانية أن تذهب إلى الكنيسة أو إلى المعبد، ولا حق لزوجها في منعها من ذلك.
ثالثا:
أباح لهم الإسلام ما أباحه لهم دينهم من الطعام وغيره، فلا يقتل لهم خنزير، ولا تراق لهم خمر، مادام ذلك جائزا عندهم، وهو بهذا وسع عليهم أكثر من توسعته على المسلمين الذين حرم عليهم الخمر والخنزير.
رابعا:
لهم الحرية في قضايا الزواج، والطلاق، والنفقة، ولهم أن يتصرفوا كما يشاءون فيها، دون أن توضع لهم قيود أو حدود.
خامسا:
حمى الإسلام وكرامتهم، وصان حقوقهم، وجعل لهم الحرية في الجدل والمناقشة في حدود العقل والمنطق، مع التزام الأدب والبعد عن الخشونة والعنف.
يقول الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
سادسا:
سوى بينهم وبين المسلمين في العقوبات، في رأي بعض المذاهب.
وفي الميراث سوى في الحرمان بين الذمي والمسلم، فلا يرث الذمي قريبه المسلم، ولا يرث المسلم قريبه الذمي.
سابعا:
أحل الإسلام طعامهم، والأكل من ذبائحهم، والتزوج بنسائهم.
يقول الله سبحانه: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الاخرة من الخاسرين}.
ثامنا:
أباح الإسلام زيارتهم وعيادة مرضاهم، وتقديم الهدايا لهم، ومبادلتهم البيع والشراء ونحو ذلك من المعاملات، فمن الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في دين له عليه، وكان بعض الصحابة إذا ذبح شاة يقول لخادمه ابدأ بجارنا اليهودي.
قال صاحب البدائع: ويسكنون في أمصار المسلمين، يبيعون ويشترون، لأن عقد الذمة شرع ليكون وسيلة إلى اسلامهم، وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ في هذا المقصود، وفيه أيضا منفعة المسلمين بالبيع والشراء.
الموالاة المنهي عنها هذا هو الاصل في علاقة المسلمين بغيرهم، ولا تتبدل هذه العلاقة إلا إذا عمل غير المسلمين - من جانبهم - على تقويض هذه العلاقة وتمزيقها بعداوتهم للمسلمين، وإعلانهم الحرب عليهم.
فتكون المقاطعة أمرا دينيا وواجبا إسلاميا، فضلا عن أنها عمل سياسي عادل، فهي معاملة بالمثل.
والقرآن يوجه أنظار أتباعه إلى هذه الحقيقة، ويحكم فيها الحكم الفصل، فيقول: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه}.
وقد تضمنت الآية المعاني الاتية:
أولا: التحذير من الموالاة والمناصرة للاعداء، لما فيها من التعرض للخطر.
ثانيا: أن من يفعل ذلك فهو مقطوع عن الله، لا يربطه به رابط.
ثالثا: أنه في حالة الضعف والخوف من أذاهم تجوز الموالاة ظاهرا ريثما يعدون أنفسهم لمواجهة الذي يتهددهم.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}.
وقد تضمنت هذه الايات ما يأتي:
أولا: أن المنافقين هم الذين يتخذون الكافرين أولياء، يوالونهم بالمودة، وينصرونهم في السر، متجاوزين ولاية المؤمنين ومعرضين عنها.
ثانيا: أنهم بعملهم هذا يطلبون عند الكافرين العزة والقوة، وهم بذلك مخطئون، لأن العزة والقوة كلها لله وللمؤمنين: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}.
ثالثا: أن هؤلاء المنافقين ينتظرون ما يحل بالمؤمنين، فإن كان لهم فتح من الله ونصر، قالوا: نحن معكم في الدين والجهاد، وإن كان للكافرين نصيب من النصر، قال هؤلاء المنافقون للكافرين: ألم نحافظ عليكم ونمنعكم من إيذاء المؤمنين لكم بتخذيلهم وإطلاعكم على أسرارهم حتى انتصرتم، فأعطونا مما كسبتم.
رابعا: أن الله سبحانه لن يجعل للكافرين على المؤمنين المخلصين في إيمانهم القائمين على حدود الله، طريقا إلى النصر عليهم، أي لا يمكنهم من أن يغلبوهم.
وقد كان رجال من المسلمين يوالون رجالا من الكفار لما كان بينهم من قرابة أو جوار أو مخالفة، وكانت هذه الموالاة خطرا على سلامة المسلمين، فأنزل الله عز وجل محذرا من هذه الولاية الضارة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون}.
ففي هذه الآية النهي عن اتخاذ غير المؤمنين بطانة وأصدقاء، أي خاصة تطلعونهم على أسراركم، لأن هذه البطانة لا تقصر في إفساد أمركم، وأنهم يحبون ويتمنون إبقاع الضرر بكم.
وقد ظهرت علامات بغضهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها عندهم يصعب عليهم إخفاؤها، وما تخفيه صدورهم من البغض لكم أقوى وأشد مما يفلت من ألسنتهم.
وطبيعة الايمان تأبى على المؤمن أن يوالي عدوه الذي يتربص به الدوائر، ولو كان أقرب الناس إليه.
يقول القرآن الكريم: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه}.
فالآية تبين أنه لا يصح أن يوجد بين المؤمنين من يصادقون أعداءهم، ولو كان هؤلاء الاعداء آباء المؤمنين، أو أبنائهم، أو إخوانهم الاقربين.
إن حكم القرآن في هؤلاء الذين يتعاونون مع الاستعمار وأعداء العرب والمسلمين بين واضح، وإن ذلك خيانة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولائمة المسلمين وعامتهم، وأنهم لم يراعوا حق الإسلام، ولا حق التاريخ، ولا حق الجوار ولا حق المظلومين، ولا حق حاضر حق المنطقة ولا حق مستقبلها.
وهؤلاء الخونة بتصرفهم هذا، قد باعوا أنفسهم للشيطان، وسجلوا على أنفسهم الخزي والعار: خزي الدهر وعار الابد.

.الإعتراف بحق الفرد:
والإسلام - بعد أن أشاد بمبدأ السلام وجعل العلاقة بين الناس علاقة أمن وسلام - احترم الإنسان وكرمه من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن جنسه، ولونه، ودينه، ولغته، ووطنه، وقوميته، ومركزه الاجتماعي.
يقول الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
ومن مظاهر هذا التكريم أن الله خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من وحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وجعله سيدا على هذا الكوكب الأرضي، واستخلفه فيه ليقوم بعمارته وإصلاحه.
ومن أجل أن يكون هذا التكريم حقيقة واقعة وأسلوبا في الحياة، كفل الإسلام جميع حقوق الإنسان، وأوجب حمايتها وصيانتها، سواء أكانت حقوقا دينية، أو مدنية، أو سياسية.
ومن هذه الحقوق:
1- حق الحياة: لكل فرد حق صيانة نفسه، وحماية ذاته.
فلا يحل الاعتداء عليها إلا إذا قتل، أو أفسد في الأرض فسادا يستوجب القتل.
يقول الله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
وفي الحديث الصحيح: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
2- حق صيانة المال: فكما أن النفس معصومة، فكذلك المال، فلا يحل أخذ المال بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة.
يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من أخذ مال أخيه بيمينه، أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة» فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟.
فقال: «وإن كان عودا من أراك» والاراك هو الشجر الذي يؤخذ منه السواك.
3- حق العرض: ولا يحل انتهاك العرض حتى ولا بكلمة نابية.
يقول الله تعالى: {ويل لكل همزة لمزة}.
4- حق الحرية: ولم يكتف الإسلام بتقرير صيانة الأنفس، وحماية الاعراض والأموال، بل أقر حرية العبادة، وحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة التي يمارسها الإنسان لكسب عيشه، وحرية الاستفادة من جميع مؤسسات الدولة.
وأوجب الإسلام على الدولة المحافظة على هذه الحقوق جميعها، وإن حقوق الإنسان لا تنتهي عند هذا الحد، بل هناك حقوق أخرى، منها: حق المأوى: فالإنسان له الحق في أن يأوي إلى أي مكان، وأن يسكن في أي جهة، وأن ينتقل في الأرض دون حجر عليه أو وضع عقبات في طريقه، ولا يجوز نفي أي فرد أو إبعاده أو سجنه إلا في حالة ما إذا اعتدى على حق غيره، ورأى القانون أن يعاقبه بالطرد أو الحبس.
ويكون ذلك في حالة الاعتداء على الغير، والاخلال بالأمن، وإرهاب الابرياء.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {إنما جزاء اللذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم}.
2- حق التعلم وإبداء الرأي: ومن الحقوق كذلك حق التعلم:
فمن حق كل فرد أن يأخذ من التعليم ما ينير عقله، ويرقي وجوده، ويرفع من مستواه.
ومن حق الإنسان كذلك، أن يبين عن رأيه ويدلي بحجته ويجهر بالحق ويصدع به.
والإسلام يمنع من مصادرة الرأي ومحاربة الفكر الحر، إلا إذا كان ذلك ضارا بالمجتمع.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على أن يجهروا بالحق، وإن كان مرا، وعلى ألا يخافوا في الله لومة لائم، ويخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن: «الساكت عن الحق شيطان أخرس».
وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}.
وأخيرا، وليس آخرا: يقرر الإسلام أن من حق الجائع أن يطعم، ومن حق العاري أن يكسى، والمريض أن يداوى، والخائف أن يؤمن، دون تفرقة بين لون ولون، أو دين ودين، فالكل في هذه الحقوق سواء.
هذه هي تعاليم الإسلام في تقرير بعض حقوق الإنسان، وهي تعاليم فيها الصلاح والخير لهذه الدنيا جميعها.
وأعظم ما فيها أنها سبقت جميع المذاهب التي تحدثت عن حقوق الإنسان، وأن الإسلام جعل هذه التعاليم دينا يتقرب به إلى الله.
كما يتقرب بالصلاة وغيرها من العبادات.
.جريمة إهدار الحقوق:
إن هده الحقوق هي التي تمنح الإنسان الانطلاق إلى الافاق الواسعة ليبلغ كماله، ويحصل على ارتقائه المقدر له، سواء أكان ماديا أم أدبيا.
ومن ثم، فإن أي تفويت أو تنقيص لحق من حقوق الإنسان يعتبر جريمة من الجرائم، وهذا نفسه هو السبب الحقيقي في منع الإسلام للحرب أيا كان نوعها، لأن الحرب بجانب كونها اعتداء على الحياة - وهي حق مقدس - فهي تدمير لما تصلح به الحياة.
وقد منع حرب التوسع، وبسط النفوذ، وسيادة القوي، فقال:
{تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} ومنع حرب الانتقام والعدوان، فقال: {ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} ومنع حرب التخريب والتدمير فقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.
 
.متى تشرع الحرب:
وإذا كانت القاعدة هي السلام، والحرب هي الاستثناء فلا مسوغ لهذه الحرب - في نظر الإسلام - مهما كانت الظروف، إلا في إحدى حالتين: الحالة الأولى: حالة الدفاع عن النفس، والعرض، والمال، والوطن عند الاعتداء.
يقول الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وعن سعد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويقول الله سبحانه: {ومالنا ألا تقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} الحالة الثانية: حالة الدفاع عن الدعوة إلى الله إذا وقف أحد في سبيلها. بتعذيب من آمن بها، أو بصد من أراد الدخول فيها، أو بمنع الداعي من تبليغها، ودليل ذلك:
أولا: أن الله سبحانه يقول: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} وقد تضمنت هذه الايات ما يأتي:
1- الأمر بقتال الذين يبدءون بالعدوان ومقاتلة المعتدين، لكف عدوانهم.
والمقاتلة دفاعا عن النفس أمر مشروع في كل الشرائع، وفي جميع المذاهب، وهذا واضح من قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}.
2- أما الذين لا يبدءون بعدوان، فإنه لا يجوز قتالهم ابتداء، لأن الله نهى عن الاعتداء، وحرم البغي والظلم في قوله: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
3- وتعليل النهي عن العدوان بأن الله لا يحب المعتدين دليل على أن هذا النهي محكم غير قابل للنسخ، لأن هذا إخبار بعدم محبة الله للاعتداء والاخبار لا يدخله النسخ لأن الاعتداء هو الظلم، والله لا يحب الظلم أبدا.
4- أن لهذه الحرب المشروعة غاية تنتهي إليها، وهي منع فتنة المؤمنين والمؤمنات، بترك إيذائهم، وترك حرياتهم ليمارسوا عبادة الله ويقيموا دينه، وهم آمنون على أنفسهم من كل عدوان.
ثانيا: يقول الله سبحانه: {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا} وقد بينت هذه الآية سببين من أسباب القتال:
أولهما القتال في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وثانيهما القتال في سبيل المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا الهجرة، فعذبتهم قريش وفتنتهم حتى طلبوا من الله الخلاص، فهؤلاء لا غنى لهم عن الحماية التي تدفع عنهم أذى الظالمين، وتمكنهم من الحرية، فيما يدينون ويعتقدون.
ثالثا: يقول الله سبحانه: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}. فهؤلاء القوم الذين لم يقاتلوا قومهم، ولم يقاتلوا المسلمين واعتزلوا محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالا حقيقيا يريدون به السلام، فهؤلاء لا سبيل للمؤمنين عليهم.
رابعا: أن الله تعالى يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوكم فإن حسبك الله}. ففي هذه الآية الأمر بالجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليها، حتى ولو كان جنوحه خداعا ومكرا.
خامسا: أن حروب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلها دفاعا، ليس فيها شيء من العدوان.
وقتال المشركين من العرب، ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جاريا على هذه القاعدة.
وهذا بين في قوله تعالى: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء الله عليم حكيم}.
ولما تجمعوا جميعا ورموا المسلمين عن قوس واحدة، أمر الله بقتالهم جميعا يقول الله سبحانه: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} وأما قتال اليهود، فإنهم كانوا قد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته، ثم لم يلبثوا أن نقضوا العهد وانضموا إلى المشركين والمنافقين ضد المسلمين، ووقفوا محاربين لهم في غزوة الاحزاب، فأنزل الله سبحانه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وقال أيضا: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}.
سادسا: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل».
فعلم من هذا أن العلة في تحريم قتلها أنها لم تكن تقاتل مع المقاتلين، فكانت مقاتلتهم لنا هي سبب مقاتلتنا لهم، ولم يكن الكفر هو السبب.
سابعا: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الرهبان والصبيان، لنفس السبب الذي نهى من أجله عن قتل المرأة.
ثامنا: أن الإسلام لم يجعل الإكراه وسيلة من وسائل الدخول في الدين، بل جعل وسيلة ذلك استعمال العقل وإعمال الفكر، والنظر في ملكوت السموات والأرض.
يقول الله سبحانه: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}.
وقال: {لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأسر الاسرى، ولم يعرف أنه أكره أحدا منهم على الإسلام.وكذلك كان أصحابه يفعلون.
روى أحمد عن أبي هريرة أن ثمامة الحنفي أسر وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو عليه فيقول: «ما عندك يا ثمامة؟».
فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء، ويقولون: ما نصنع بقتل هذا، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فحله، وبعث به إلى حائط أبي طلحة، وأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد حسن إسلام أخيكم».
أما النصارى وغيرهم فلم يقاتل الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.
حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى قيصر، وإلى كسرى، وإلى المقوقس، وإلى النجاشي وملوك العرب بالشرق والشام، فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل، فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم.
فالنصارى حاربوا المسلمين أولا، وقتلوا من أسلم منهم بغيا وظلما.
فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل الرسول سرية أمر عليها زيد بن حارثة، ثم جعفرا، ثم أمر عبد الله بن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى - بمؤتة من أرض الشام - واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء رضي الله عنهم، وأخذ الراية خالد بن الوليد.
ومما تقدم يتبين بجلاء، أن الإسلام لم يأذن بالحرب إلا دفعا للعدوان، وحماية للدعوة، ومنعا للاضطهاد، وكفاية لحرية التدين، فإنها حينئذ تكون فريضة من فرائض الدين، وواجبا من واجباته المقدسة ويطلق عليها اسم الجهاد.