القهار
قبل أن أبدأ باسم جديد من أسماء الله الحسنى وهو اسم القهار ـ الغفار والقهار ـ لابد من وقفة قبلها عند حقيقة ثابتةٍ في الإنسان وهي أن الإنسان آتاه الله قوةً إدراكية تتمثل بحواسه وتتمثل بفكره وتتمثل بقلبه، فالحواس تشعر والفكر يدرك والقلب يعقل، الحواس الخمس مشتركة بين الإنسان وغيره من المخلوقات، هناك حيوانات ترى وتسمع وتدرك ببعض الحواس التي وهبها الله إياها المحيط الخارجي، ولكن الإنسان وحده ميزه الله بالفكر، ويسميه بعضهم العقل، ولا خلاف في ذلك، هذا خلاف لفظي، هذا الذي في الجمجمة هو الفكر، ربنا عز وجل أشار إليه في آيات كثيرة، قال:
﴿تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36)﴾
[سورة الإسراء]
إذا جاء الفؤاد مع السمع والبصر فهو الفكر، كل أولئك كان عنه مسؤولاً، وأعطى الله الإنسان قلباً يعقل به، والدليل قوله الله تعالى:
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46) ﴾
(سورة الحج)
الآن ما الفرق بين الإحساس والإدراك والعقل ؟
الإحساس: أن ترى الضوء بعينك أو أن تسمع الصوت بأذنك أو أن تشم الرائحة بأنفك أو أن تشعر بالحرارة بجلدك، هذا هو الإحساس.
ولكن قد يضع طفل يده على أفعى يرى لها ملمساً ناعماً، يروق له منظرها يروق له ملمسها الناعم وهي أفعى، لو كان في سن أكبر وعرف ما الأفعى لكان له موقف آخر، إذاً هو رآها بعينه ولمسها بيده وما أدرك حقيقتها.
إذاً فرق بين الإحساس والإدراك، فالإدراك عن طريق الفكر...يمكنك أن تقرأ مقالة عن مضار التدخين وتدخن، الإدراك أحياناً لا يكفي للابتعاد عن الشيء، لكن في بعض الحالات إذا وصل الإدراك إلى درجة عقل القلب أبعاده عندئذ تكف عن هذا العمل.
الفرق الدقيق بين العقل وبين الإدراك، هو أن الشيء إذا كان ضاراً وابتعدت عنه معنى ذلك أنك عقلته، قد تدرك ولا تتخذ موقفاً، أما إذا عقلته لابد من أن تتخذ موقفاً من هذا الشيء، دائماً مع العقل موقف عملي، ومع الفكر إدراك، والإدراك قناعة.
تحرك الإنسان أحياناً شهواته لا قناعاته، فمعظم الناس يعرفون الحلال والحرام لأن الحلال والحرام كما قال عليه الصلاة والسلام:
((بيّن الحلال بيّن والحرام بيّن))
يعرفونه بعقولهم يعرفونه بفطرتهم ويعرفونه بما يلقى عليهم من مواعظ وخطب ودروس دينية، فلماذا يفعل الناس الحرام ؟ لأنهم ما عقلوا خطورته.
الحواس: تشعر تحس، والفكر يدرك والقلب يعقل، المعول عليه هو القلب، حينما تأخذ موقفاً عملياً، معنى ذلك أنك عقلت الحقيقة، والدليل قال الله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72)﴾
[سورة الأنفال]
دليل آخر، قال الله تعالى:
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
[سورة القصص]
فالإنسان لا يمكن أن يسمى عاقلاً إلا إذا تُرجمت أفكاره إلى ممارسات، إلا إذا تُرجمت أفكاره إلى سلوك إلى مواقف، فالذي ينجي الإنسان يوم القيامة لا قناعاته ولكن تصرفاته وانضباطه والتزامه واستقامته وفعله وتركه.
إذاً بالحواس نحس، بالفكر ندرك، بالقلب نعقل، هذه الحواس وذاك الفكر وذاك القلب هي القوة الإدراكية في الإنسان، و لو أغفلنا جانباً الإنسان الإدراكي لصار بهيمة من البهائم فالإنسان لولا العلم لكان كالبهيمة تماماً.
الحقيقة الثانية التي أتمنى عليكم أن تعقلوها هو أن العلم في الإسلام ليس هدفاً بذاته قال عليه الصلاة والسلام:
(( تعلموا ما شئتم فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ))
قد يحصل انحراف في طلب العلم فيصبح العلم هدفاً بذاته، أما المؤمن دائماً يرى أن العلم لذاته غير مطلوب، ولكن العلم مطلوب لغيره، تتعلم من أجل أن تعمل من أجل أن تطبق وهكذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( تعلموا ما شئتم فوالله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم ))
وفي حديث آخر:
((كل علم وبال على صاحبه ما لم يعمل به ))
في ضوء هاتين المقدمتين.. الإنسان فيه قوة إدراكية تتمثل بالحواس وبالفكر وبالقلب، والعلم في الإسلام ليس هدفاً لذاته بل هو وسيلة لتطبيق منهج الله عز وجل.
والحقيقة الثالثة هو أن في الإنسان جانب انفعالي، وفيه جانب إدراكي فيه جانب مادي، الجانب المادي: مشترك بين الحيوان والإنسان، الإنسان يأكل والحيوان يأكل، والإنسان يتعب وينام والحيوان يتعب وينام، بل إن أكثر الحيوانات تتفوق على الإنسان في بعض الخصائص.
اسم القهار: مرَّ معنا سابقاً أن أسماء الله الحسنى لا تتغير في مستوياتها، الطبيب أحياناً يكون لديه معلومات محددة فيعالج مريضاً في ضوء معلوماته، وبعد ما يأخذ شهادة أعلى أصبحت معالجته أدق في ضوء ما كسبه من علم جديد فكلما ارتقى علمه ارتقى مستوى معالجته، إذا انطبق هذا على الإنسان فإن هذا لا يجوز أن ينطبق على أسماء الله الحسنى فأسماء الله الحسنى لا تفاوت فيها، فكيف يأتي اسم غير مبالغ به كالقاهر، لقوله تعالى:
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
(سورة الأنعام)
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) ﴾
(سورة غافر)
وردت قاهر ووردت قهار، فكيف نوفق بين أن الله عز وجل أسماؤه لا تتفاوت وبين أن يأتي اسم غير مبالغ به واسم مبالغ به، هنا المشكلة.
قلت لكم من قبل أن الإنسان إذا أكل طعاماً يسمى آكلاً ولا يُسمى أكولاً إلا إذا أكل وجبة كبيرةً جداً أو إذا أكل مجموعةً من الوجبات المبالغة تكون تارةً بالنوع وتارةً بالعدد.
فأسماء الله الحسنى إذا وردت بصيغة المبالغة فالمقصود منها التكرار وليس النوع لأن مستوى أسماء الله الحسنى لا تتبدل، الإمام أبو حامد الغزالي قال: ليس في الإمكان أبدع مما كان، هو يقصد أنه ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني.
فالله عز وجل حكيم في خلق النملة وفي خلق المجرة، حكيم في خلق أصغر المخلوقات وفي خلق أكبرها، عليم بكل شيء أسماؤه من حيث المستوى ثابتة لا تتبدل فإذا تبدلت فبحسب المخلوقات لا بحسب الخالق، ولكن إذا ورد اسم مبالغ به فهو لمبالغة التكرار.
الإنسان أحياناً يحارب عدواً ويقهره، وقد لا يتمكن أن يقهر عدواً ثانياً أو ثالثاً. أما إذا قال: ربنا الواحد القهار فيعني أن كل المخلوقات مقهورة بالنسبة إليه.
لمن الملك اليوم لله الواحد القهَّار.. على وزن فعَّال.. وهو القاهر فوق عباده.
وقال تعالى:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾
[سورة يوسف]
والله غالب على أمره، هذا مغزى قصة سيدنا يوسف، هذا المغزى موجز القصة بأكملها في تفصيل هذا المغزى.
قصة أخرى يتجلى فيها اسم القهار، سيدنا موسى مع فرعون، فرعون الذي أراد أن يذبح أبناء بني إسرائيل جميعاً ليمنع حدوث رؤيا قد رآها وهي أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه، فالله عز وجل قهره بأن الطفل الذي سيقضي على ملكه رباه في بيته، والحقيقة كل أفعال الله عز وجل تصدر عن أسمائه أو أن أفعاله كلها فيها أسماؤه كلها وهذا ما يدعو إلى تفسير بعض الآيات التي ورد الحديث فيها عن ذات الله بضمير المفرد وبعض الآيات التي ورد الحديث فيها عن ذات الله بضمير الجمع.
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)﴾
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلاً(23) ﴾
﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
[سورة ق ـ سورة الإنسان ـ سورة طه]
إذا جاء مفرداً فللتعبير عن ذات الله، وإذا جاء جمعاً فللتعبير عن أن أسماء الله الحسنى جميعها واردةٌ في أفعاله، ونحن عندما نقسم أنه سميع، لطيف، بصير، قدير، قوي، حكيم، هذا تفصيل دراسي مدرسي أما الأسماء متداخلة في بعضها بعضاً، أحياناً ربنا عز وجل يجمع أسماءه في أسماء موجزة، فمثلاً:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) ﴾
[سورة الرحمن]
فالجلال صفة تشعر بالعظمة والإكرام، صفة تشعر بالعطاء، فأنت في حياتك اليومية قد تتعامل مع إنسان تعظمه ولا تحبه، وقد تتعامل مع إنسان تحبه ولا تعظمه، والبطولة أن تجمع بين التعظيم والمحبة، فربنا عز وجل بقدر ما هو في جلال ورفعة وعظمة وعلو شأن وكبرياء وجبروت وقهر وقدرة وغنىً بقدر ما هو رحيم لطيف ودود كريم عفو غفورٌ هناك أسماء متعلقة بالجلال وهناك أسماء متعلقة بالإكرام، وقد وردت هذه الأسماء في آيتين، قال الله تعالى:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)﴾
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) ﴾
[سورة الرحمن]
أحياناً في موضوع الاستقامة ربنا عز وجل يذكر اسمين فقط، مثلاً قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) ﴾
[سورة الطلاق ـ آية 12]
اختار من كل أسمائه القدرة والعلم، لأنك لن تستقيم على أمره إلا إذا أيقنت أن علمه يطولك وأن قدرته تطولك، ففي موضوع الاستقامة أنت بحاجة إلى أن تؤمن باسمي العلم والقدرة، من أجل أن تستقيم وأن تعظم لا بد من أن تؤمن باسمه ذي الجلال والإكرام.
فاسم القهار إما أن يرد مباشرة، وهو القاهر فوق عباده.. لمن الملك اليوم، فيقول الله عن خلقه لله الواحد القهار.
هناك آية دقيقة جداً، يقول الله عز وجل:
﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾
[سورة الشورى]
الإنسان يعجب !! هذا كلام الله فلما يقول الله:
﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾
فهي أين كانت ؟ بيد من كانت ؟ المعنى المستنبط من هذه الآية أنها لم تكن بيده من قبل والآن أصبحت بيده، إذا قلنا صار الأمر في هذا الموضوع إلى زيد يعني أن زيداً لم يكن الأمر بيده من قبل ؛ فالواقع أن معظم الناس في عمى عن الحقيقية، فعامة الناس يرى أن الأمر بيد الأشخاص، وأن القرار بيد فلان وصاحب المتغيرات فلان وفلان يفعل، إذا رفعك فلان يرفعك إلى السماء، وفلان إذا غضب جعلك في أسفل سافلين، هذا كله شرك، هذا وهم الأعمى، لكن يوم القيامة جميع المخلوقات ترى أن الملك لله الواحد القهار، لكن في الدنيا لا يرى هذه الرؤيا إلا المؤمن أما في الآخرة فهذه الرؤية عامة شاملة.
بآيات وبشكل صريح، قال الله تعالى:
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) ﴾
﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)﴾
[سورة الإنعام ـ سروة غافر]
وهذا الاسم ورد بشكل غير مباشر، فقال:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾
[سورة يوسف]
يعني أمره هو النافذ... الحديث القدسي:
(( عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيى بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً...))
((أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد، كفيتك ما تريد وإذا لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد))
هذا الحديث القدسي يعطي معنى القهار، أمر الله هو النافذ، الأمور تدور وتدور.
هناك أشخاص يقرؤون بعض الكتب، التي تتحدث عن مكر اليهود في العالم، يقول لك هذا المخطط يهودي..
اليهود بشر يخططون يمكرون من أخبث خلق الله مكَّارون خدَّاعون ولكن الفعل ليس إليهم، الفعل فعل الله، فإذا آمنت بأنهم فعالون وأن كل ما يجري في العالم من تخطيطهم لقد ألَّهتهم وأنت لا تدري، لكن أحياناً يقع في الأرض شيء مما خططوه، فالله عز وجل قد يستخدم نيتهم الخبيثة في تأديب بعض العباد بدليل قوله تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
[سورة الأنعام]
حينما تقول: فلان يفعل ووقعت في الشرك وأنت لا تدري، والصواب أن تقول:
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾
(( أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي في ما أريد كفيتك ما تريد وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد))
القهر في اللغة يعني الغلبة، قهره أي غلبه، أو صرف الشيء عن طبيعته طبيعة قوية قهرية، وجعلته ضعيفاً على سبيل الإلجاء، قال تعالى:
﴿الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)﴾
[سورة الضحى]
ودائماً وأبداً هناك أسماء إذا سمي الإنسان بها فهي صفة ذم، وإذا كانت من أسماء الله فهي اسم من أسماء الله الحسنى
إنسان بحاجة إلى مساعدة وتوجه إلى إنسانين: الأول غني ممتلئ، والثاني فقير، فقال له: أنا أعطيك أنا أمنحك، هو لا يملك شيئاً كذب عليه، فهذا نقص بحقه، فلو قال له أنا لا أملك شيئاً أنا فقير، فالكمال بحقه أن يكون صادقاً، أما الغني لو قال له أنا لا أملك شيئاً أنا فقير وهو يملك وبإمكانه أن يعينه فقد كذب وهذا نقص في حقه، فالمتكبر إذا لجأ إليه العباد يعطيهم كل حاجاتهم، قال الله تعالى:
﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)﴾
والقهار على وزن فعَّال مبالغة من القاهر فيقتضي تكثير القهر التكثير العددي لأن التكثير النوعي لا يليق بحضرة الله تعالى.
كلكم يعلم أن لله عز وجل أسماء ذات وأسماء صفات وأسماء أفعال، قال العلماء: القهر قدرة على وصف مخصوص، كما أن الرحمة إرادة على صفة مخصوصة، والقاهر هو القادر على منع غيره أن يفعل بخلاف ما يريد، يعني صفة لله عز وجل في ذاته، قدرة على نحو مخصوص يمنع الآخرين عن أن يفعلوا ما يريدون، مشيئته هي النافذة، أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والاسم القهار له علاقة وشيجة بالتوحيد، الذي كما يقول العلماء، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
فإذا قلنا أن اسم القهار هو قدرة على نحو مخصوص من أسماء الذات، وإذا قلنا هو فعل يمنع الآخرين عن أن يفعلوا ما يريدون فهو من أسماء الأفعال.
القهار، قال بعض المحققين إنه قهار للعدم، فالعدم ما سوى الله عز وجل، ما سوى الله كان عدماً فأوجده الله فهو ممكن، وهذا الشيء الموجود بقدرة الله عز وجل لا يستمر إلا بقدرة الله، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) ﴾
[سورة فاطر]
السماوات والأرض هذا تعبير قرآني عن الكون، الكون كله كواكب ونجوم ومجرات، الكون كله يتحرك وإذا لم يكن يتحرك لأصبح الكون كله كتلة واحدة، والدليل أن هناك قوى التجاذب بين الكواكب والنجوم والمجرات والمذنبات، قوى التجاذب تقول إن النجم الأكبر يجذب الأصغر، وهذا الجذب يتناسب مع الكتلة ومع مربع المسافة، والقانون معروف " جداء الكتلتين مضروب بمربع المسافة " هذه قوة الجذب، قوة الجذب لا ترى بالعين كما لو جِئت بمغناطيس ووضعت مسماراً وحركت المغناطيس يتحرك المسمار، فهناك قوة وجذب، وقوى التجاذب هذه أودعها الله في الكون لحكمة بالغة فلو لم يتحرك الكون لأصبح الكون كله كتلة واحدة، يعني الكوكب الأكبر جذب الأصغر، فما الذي يمنع ؟ فمثلاً أمسك وعاء ماء وأدره دائرية فإنك تستغرب، إذا كان في الأعلى وفيه ماء فلماذا لا ينزل الماء فقوة النبذ تمنعه من النزول، وكثير من الآلات أساسها القوة النابذة كتجفيف الثياب في الغسالات، وآلات عصر الفواكه.. إذاً مع الدوران ينشأ قوة نابذة، هذه القوى النابذة تكافئ القوى الجاذبة، فلولا أن الكون يتحرك لأصبح كله كتلة واحدة.
الأرض تدور حول الشمس منذ ملايين السنين فلم تنجذب إلى الشمس قال الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) ﴾
معنى أن تزولا، يعني أن تنحرف عن مسارها، والذي قهر هذه النجوم وجعلها تبقى على مسارها ؟ الله عز وجل، فالله عز وجل قهار للعدم، فهذا الشيء الذي خلقه أصله لا شيء إذاً هو أصله العدم سبقه العدم وينتهي إلى فناء، كل شيء يسبقه العدم وينتهي إلى فناء فهو ممكن، أما الله سبحانه وتعالى فهو واجب الوجود، لا أول له ولا آخر له، هو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية.
ربنا سبحانه وتعالى قهار للعدم بمعنى أن هذا الممكن ممكن بقدرة الله وممكن بإمداد الله وممكن بتسيير الله، وفي أي لحظة يوقف الله عز وجل عن هذا الممكن تجليه وإمداده ينعدم الممكن، هذا معنى قوله تعالى
﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾
[سورة البقرة ـ آية 285]
يعني قيام كل شيء في الكون بالله عز وجل، أول معنى من معاني القهر أن الله عز وجل قهر الممكن وجعله قائماً جعله مستمراً جعله موجوداً، قال الله تعالى:
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾
[سورة طه]
لو ترك وحده لكان معدوماً، فكأن جوهر الممكن أنه العدم ولولا قدرة الله القاهرة في الممكن لما كان هذا الممكن موجوداً، إذا فالكلمة الدقيقة " كن فيكون، زلْ فيزول ".
فأنت وجودك بالله عز وجل، والدليل أجهزة الإنسان، دماغه مثلاً مئة وأربعون مليار خلية، الإدراك الإحساس الذاكرة المحاكمة التصور التخيل الغدد الصماء، كل هذه الأجهزة أساسها أن الله عز وجل يتجلى عليك، وينقطع التجلي عن الإنسان عند الموت..
وازن بين إنسان في أوج نشاطه يتحرك يفكر يحاكم يتصرف يرى يسمع يشم يلمس يأخذ مواقف ينشئ مشاريع، يترك بصمات في المجتمع وبين جثة هامدة، الفرق بين الجثة الهامدة وبين هذا الإنسان الممتلئ نشاطاً وحيويةً هو التجلي الإلهي هو القهار، الله عز وجل قهر المادة فجعلها تفكر وتسمع وتعقل وترى وتشم وتبصر وتمشي وتتحرك وتغضب وتفرح وتحزن، لو أن إنساناً وضع على ميزان قبل أن يموت بدقائق ومات فلا يخسر عند الموت شيئاً من وزنه، هي قوة الله عز وجل هذه الروح.
قال بعض المحققين القهار للعدم والوجود لأن الممكن لو ترك وحده لكان معدوماً فكأن ماهية الممكن تقتضي العدم إلا أنه سبحانه وتعالى منزه يقهر هذه الحالة ويبدل العدم للوجود.
مثلاً الشمس عمرها خمسة آلاف مليون سنة هذا عمر مديد وللشمس طاقة لا تخبو، هل عندنا على الأرض مصدر طاقة لا يخبو، شخص ملأ خزان الوقود بعد مئتي كيلو متر ينتهي، ملأ مستودع الوقود بمنزله بعد حين ينتهي، كل شيء ينتهي، أما هذه الشمس من خمسة آلاف مليون عام لا تنتهي، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني، إن أصغر كوكب في الفلك أضعاف جرم الأرض ثم إن هذه الأفلاك مع ما فيها من كواكب يمسكها الله تعالى بقدرته معلقةً في الهواء كما قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)﴾
بعض العلماء يقولون بالحياة أربع مواد أساسية هي الماء والهواء والنار والتراب وهذه كلها متنافرة والله سبحانه وتعالى بقوته القاهرة ألف بينها، من معاني قهره أنه ألف بين المتنافرات، فأنت لا تستطيع أن تجعل البحر يحترق، والبحر ماء لكن ربنا عز وجل قال:
﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾
أسجر النار يعني أشعلها، كيف ؟ أنت بالماء تطفئ النار لكن هذا الماء هدروجين وأكسجين، الهدروجين من أشد العناصر احتراقاً والأكسجين من أشد العناصر مساعدةً على الاحتراق، حينما تشوي لحماً لماذا تهوي ؟ تحرك الأوكسجين فوق الفحم يزداد توهجه فالأكسجين يعين على الاشتعال والهدرجين يشتعل، والمحصلة ماء يطفئ النار، فالله عز وجل بقدرته يجعل من هذا البحر ناراً، فمن معاني قهر الله عز وجل أنه يؤلف بين الأشياء المتنافرة، وهذه العناصر الماء والهواء والنار والتراب كلها متنافرة ومع ذلك تأتلف في المخلوقات.
شيء آخر، إن الروح جوهر لطيف، روحاني نوراني والبدن جوهر كثيف مظلم وبينهما منافرة عجيبة ومع ذلك أسكن الله الروح في هذا الجسد بقهره.
مثلاً إن كان لديك معدن تريد لصقه يقال لك إن هذا المعدن لا يلتحم بلحام ألمنيوم يحتاج إلى لحام خاص، فهل يلتحم الألمنيوم بلحام حديد طبعاً لا لأنهما متنافران، فالله عز وجل جعل الروح نورانية خفيفة سماوية وجعل الجسم منشد للأرض ومع ذلك ألف بينهما في هذا الإنسان، فالإنسان جسد ونفس أحياناً تتلألأ نفسه يبدو هذا على وجهه أحياناً تظلم نفسه، يبدو هذا على وجهه. فالإنسان كائن فيه عنصر سماوي وعنصر أرضي لكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه،، قال الله تعالى:
﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
[سورة التوبة]
يعني اتجهت نحو الأرض اتجهت نحو الشهوات نحو الدنيا..
من معاني القهار أن الله تعالى يذل الجبابرة والأكاسرة تارةً بالأمراض، فترى ملكاً من كبار الملوك عقيماً وهو يحب زوجته، فهو يدفع ألوف الملايين على أن تنجب فلا تنجب.
ملك ثانٍ يصاب بمرض، ولا يشفى فيه ولو بذل الغالي والرخيص، فمن معاني القهار أن الله قهر العباد كلهم بالموت، لا نبي ولا رسول ولا قوي ولا غني ولا صحيح ولا مريض ولا فقير ولا رفيع ولا وضيع ولا ملك ولا وزير، إلا ويموت " إنك ميتاً وإنهم ميتون" وحتى ملك الموت يأتي دوره يقال له مت يا ملك الموت فيذوق طعم الموت، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((سبحان الله إن للموت لسكرات.))
الله تعالى يذل الجبابرة والأكاسرة تارةً بالأمراض وتارة بالنكبات وتارةً بالموت، قصة النمرود مع سيدنا إبراهيم مشهورة، لما أراد أن يذل إبراهيم وربه، فأرسل الله له أضعف مخلوق من مخلوقاته وهي البعوضة فدخلت من أنفه إلى جيوبه وبدأت تتحرش به فكان يرجو كل داخل عليه أن يضربه على رأسه، فبالضرب يسكن ألمه قليلاً، فالإنسان ضعيف.
إن العقول مقهورة عن الوصول إلى كنه صمديته والأبصار مقهورة عن الإحاطة بأنوار عزته، فإياك أن تقول أنا أدرك الله لأن من معاني الإدراك الإحاطة، فإذا أمسكت شيئاً صغيراً تعرف طوله وعرضه ووزنه، عقلك يصل إلى الله لكنك لا تستطيع أن تحيط به لأن الله عز وجل لا يعرفه إلا الله، قال الله تعالى:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85) ﴾
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
[سورة الإسراء ـ سورة البقرة ـ آية 255]
بالقدر الذي يشاء، فعقل الإنسان مقهور عن إدراك كنه صمديته فالإنسان العاقل لا يطمع أن يجيب عن كل سؤال متعلق بالله عز وجل فليس معناه أنه جاهل.
سأل إنسان آخر عن البحر فقال هذا البحر كم لتر ؟ نظر إليه وقال هذا بسيط ثمانية وستون مليون وسبعمائة وستة وستون لتر، هذا يكون جاهلاً ما دام أعطى رقماً، قال لك كم لتر حجم هذا البحر ؟ ليس لديك حجوم ولا مقاييس ولأعماق البحار، فلو سُئلت كم حجم هذا البحر فإذا أعطيت رقماً فتكون جاهلاً وإذا قلت لا أدري فتكون عالماً، كلمة لا أدري هي العلم وكلمة أدري هي الجهل، لذلك قالوا عين العلم بالله هو عين الجهل به وعين الجهل به عين العلم به، فكلما قلت أدري وكل سؤال له عندي جواب وأنا أعلم كل شيء فهذا دليل قطعي على أنك لا تعلم، هذا ما يتعلق بذات الله عز وجل.
ربنا قهار فهناك حوادث لا تعلم كنهها فقل سبحان الله لا أدري ما حكمتها.
وبلد يقع فيها زلزال قتل فيه تسعون ألفاً، هناك حكمة ولكن لا أعرفها فعقلي قاصر عن إدراك الحكمة، ليس من المفروض أنه كلما وقع أمامي مشكلة أن أعطي التفسير البسيط، قد يكون التفسير البسيط ساذجاً، فإذا قلت أنهم أصيبوا بسبب بمعاصيهم، فهذا كلام إلى حد ما مقبول ولكن أحياناً المؤمن يُبتلى فالمؤمن له معاملة خاصة له ابتلاء ترقية درجات، فالأكمل أن لا تدعي أنك تعرف كل شيء، تعرف جناياه فمثلاً مرض الإيدز إن قلت أنه بسبب انحراف السلوك الأخلاقي عقاب عاجل للعصاة للفجار ممكن، لكن هناك أشياء صعب تفسيرها، فمثلاً: لماذا هذا الشعب فقير ؟ لعل الله عز وجل اقتضت حكمته ذلك.
المعنى السابع والشامل، إن جميع الخلق مقهورون في مشيئته، كما قال الله تعالى:
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
[سورة الإنسان]
مثلاً عندك مائة جهاز في البيت كهربائيات، وعندك مفتاح الكهرباء الأساسي فإذا أغلقته فسوف تقف كل الأجهزة، البراد والغسالة فالقوى المحركة بيد الله عز وجل، لا يستطيع إنسان أن يتحرك إلا بمشيئة الله، إذاً هو القهار، قال الله تعالى:
﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾
وبالجملة لا ترى شيئاً سواه إلا مقهوراً له تحت أعلام عزته ذليلاً في ميادين صمديته، هناك معاني أخرى للقهار، بعض العلماء يقول: " القاهر هو الذي قهر نفوس العابدين "، ولله المثل الأعلى تكون فتاة جميلة جداً والخاطب غارق إلى قمة رأسه في حبها، فتتحكم فيه لجمالها صاحب القوة كقوة المال، يتحكم في الضعاف، لذلك، قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)﴾
[سورة البقرة]
كل القوى مصدرها من الله عز وجل، إذا أقبلت على الله تسعد أضعاف ما يسعد من أحبوا أناساً من بني جنسهم، إذا أقبلت على الله تغنى أضعاف ما يحس به الأغنياء في الدنيا، إذا أقبلت على الله تشعر بقوة أضعاف ما يشعر بها الموالون للأقوياء، لهذا قيل: " إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله ".
القاهر الذي قهر نفوس العابدين فحبسها على طاعته، العباد لما أقبلوا على الله وصلوا سعدوا فحبسوا أنفسهم على طاعته، فالله قهرهم بجماله قهرهم بكماله قهرهم بتجليه، فالمحب لم يعد يريد من الدنيا شيئاً.
فما مقصودهم جنات عــــدن ولا الحور الحسان ولاالخيام
سوى نظر الحبيب فذا مناهم وهذا مطلب القوم الكــــرام
***
شاب تعرف على فتاة في دمشق فخاف أهله أن يقع في شباكها فأرسلوه إلى بلد أجنبي بعيد جداً ليدرس في الجامعة وأعطوه قسط الجامعة وكان مبلغاً كبيراً، أنفق كل هذا المبلغ على مخابرات هاتفية ليتصل بها، فهي قهرته بجمالها.
فلو عرفت الله عز وجل لقهرك جماله ولقهرك كماله، القاهر هو الذي قهر نفوس العابدين فحبسها على طاعته، والقاهر هو الذي قهر قلوب الطالبين فآنسها بلطف مشاهدته.
حظ المؤمن من اسم القهار ؟
إذا عرف المؤمن القهار فمتى ذلك أنه عرف حجم عبوديته، من عرف نفسه عرف ربه ومن عرف ربه عرف نفسه، كلمة سأفعل كذا وكذا وسأعطي وسأمنع، هذا كله يبتعد عنه المؤمن لأنه يتنافى مع اسم الله القهار.
ولكن يمكن أن يكون المؤمن قهاراً بمعنى خاص، أن يقهر شهوته وأن يقهر متعلقات شهوته، لأن شهوته هي أعدى أعدائه، فإذا قهر ميله وشهوته وهواه معنى ذلك انتصر على ذاته، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾
[سورة الليل]
فكل إنسان ينساق مع شهواته وميوله وأهوائه، يتكلم كلاماً لا يرضي الله عز وجل يغتاب الناس يأخذ ما ليس له، وأي حركة يتحركها الإنسان دون منهج الله عز وجل معنى ذلك ينساق مع شهواته مع رغباته إذاً هو ما طبق في نفسه اسم القهار.
إذاً أن تقهر شهوتك التي هي أعدى أعدائك إن فعلت هذا قد حققت في نفسك هذا الاسم العظيم، بهذا الاسم تعرف ربك وبهذا الاسم تتخذ السبيل إلى طاعته ومحبته ومرضاته