الخميس، 1 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب الزكاة : مصارف الزكاة ومن يستحقها


مصارف الزكاة ومن يستحق الزكاة


مصارف الزكاة ثمانية أصناف، حصرها الله في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.
وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال: «إن الله لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك» رواه أبو داود.
وفيه عبد الرحمن الافريقي متكلم فيه.
وهذا هو بيان الاصناف الثمانية المذكورة في الآية:

.1 و2- الفقراء والمساكين:
وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم، ويقابلهم الاغنياء المكفيون ما يحتاجون إليه.
وتقدم أن القدر الذي يصير به الإنسان غنيا، هو قدر النصاب الزائد عن الحاجة الاصلية، له ولاولاده، من أكل وشرب، وملبس، ومسكن، ودابة، وآلة حرفة، ونحو ذلك، مما لا غنى عنه. فكل من عدم هذا القدر، فهو فقير، يستحق الزكاة.
ففي حديث معاذ: «تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم».
فالذي تؤخذ منه، هو الغني المالك للنصاب.
والذي ترد إليه هو المقابل له وهو الفقير الذي لا يملك القدر الذي يملكه الغني.
وليس هناك فرق بين الفقراء، وبين والمساكين، من حيث الحاجة والفاقة ومن حيث استحقاقهم الزكاة، والجمع بين الفقراء والمساكين في الآية، مع العطف المقتضي للتغاير، لا يناقض ما قلناه، فإن المساكين - وهم قسم من الفقراء - لهم وصف خاص بهم، وهذا كاف في المغايرة.
فقد جاء في الحديث، ما يدل على أن المساكين هم الفقراء الذين يتعففون عن السؤال، ولا يتفطن لهم الناس فذكرتهم الآية، لأنه ربما لا يفطن إليهم، لتجملهم.
فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم: {لا يسألون الناس إلحافا}» وفي لفظ: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه، ولا يفطن له، فيصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس» رواه البخاري، ومسلم.
مقدار ما يعطى الفقير من الزكاة: من مقاصد الزكاة كفاية الفقير وسد حاجته، فيعطى من الصدقة، القدر الذي يخرجه من الفقر إلى الغني، ومن الحاجة إلى الكفاية، على الدوام، وذلك يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص.
قال عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا. يعني في الصدقة.
وقال القاضي عبد الوهاب: لم يحد مالك لذلك حدا، فإنه قال: يعطي من له المسكن، والخادم، والدابة الذي لا غنى له عنه.
وقد جاء في الحديث ما يدل على أن المسألة تحل للفقير حتى يأخذ ما يقوم بعيشه، ويستغني به مدى الحياة.
فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فتأمر لك بها»، ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها تم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش» أو قال: «سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى قول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قواما من عيش» أو قال: «سدادا من عيش فما سواهن من المسألة - يا قبيصة - فسحت، يأكلها صاحبها سحتا» رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
.هل يعطى القوي المكتسب من الزكاة؟
القوي المكتسب لا يعطى من الزكاة مثل الغني.
1- فعن عبيد الله بن عدي الخيار، قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال: «إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» رواه أبو داود، والنسائي.
قال الخطابي: هذا الحديث أصل، في أن من لم يعلم له مال فأمره محمول على العدم.
وفيه دليل على: أنه لم يعتبر في أمر الزكاة ظاهر القوة والجلد، دون أن يضم إليه الكسب، فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه، ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع من الصدقة، بدلالة الحديث.
2- وعن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» رواه أبو داود والترمذي، وصححه.
وهذا مذهب الشافعي، وإسحق، وأبي عبيد، وأحمد.
وقال الأحناف: يجوز للقوي أن يأخذ الصدقة إذا لم يملك مائتي درهم فصاعدا.
قال النووي: سئل الغزالي عن القوي من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن، هل له أخذ الزكاة من سهم الفقراء؟ قال: نعم.
وهذا صحيح جار على أن المعتبر حرفة تليق به.

.المالك الذي لا يجد ما يفي بكفايته:
ومن ملك نصابا، من أي نوع من أنواع المال - وهو لا يقوم بكفايته، لكثرة عياله، أو لغلاء السعر - فهو غني، من حيث إنه يملك نصابا، فتجب الزكاة في ماله، وفقير من حيث إن ما يملكه لا يقوم بكفايته فيعطى من الزكاة كالفقير.
قال النووي: ومن كان له عقار، ينقص دخله عن كفايته، فهو فقير، يعطي من الزكاة تمام كفايته، ولا يكلف بيعه.
وفي المغني قال الميمون: ذاكرت أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم، تجب فيها الزكاة وهو فقير، وتكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه، فيعطى الصدقة؟ قال: نعم، وذلك، لأنه لا يملك ما يغنيه، ولا يقدر على كسب ما يكفيه، فجاز له الاخذ من الزكاة، كما لو كان ما يملك، لا تجب فيه الزكاة.

3- العاملون على الزكاة:
وهم الذين يوليهم الإمام أو نائبه، العمل على جمعها، من الاغنياء، وهم الجباة، ويدخل فيهم الحفطة لها، والرعاة للانعام منها، والكتبة لديوانها.
ويجب أن يكونوا من المسلمين، وأن لا يكونوا ممن تحرم عليهم الصدقة، من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: بنو عبد المطلب.

فعن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: أنه، والفضل بن العباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم تكلم أحدنا، فقال: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس، فقال: «إن الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» رواه أحمد، ومسلم.
وفي لفظ: «لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد». ويجوز أن يكونوا من الاغنياء.
فعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل الصدقة لغني، إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين، تصدق عليه منها فأهدى منها لغني» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأن أخذهم من الزكاة، إنما هو أجر نظير أعمالهم.
فعن عبد الله بن السعدي: أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الشام، فقال: ألم أخبر أنك تعمل على عمل من أعمال المسلمين فتعطى عليه عمالة فلا تقبلها؟ قال: أجل، إن لي أفراسا واعبدا، وأنا بخير، وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر: إني أردت الذي أردت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني المال فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، وإنه أعطاني مرز مالا، فقلت له: أعطه من هو أحوج إليه مني، فقال: «ما آتاك الله عز وجل من هذا المال، من غير مسألة، ولا إشراف فخذه فتموله أو تصدق به، ومالا، فلا تتبعه نفسك» رواه البخاري والنسائي.
وينبغي أن تكون الاجرة بقدر الكفاية.
فعن المستورد بن شداد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادما، أو ليست له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال» رواه أحمد، وأبو داود، وسنده صالح.
قال الخطابي: هذا يتأول على وجهين:
أحدهما: أنه إنما أباح اكتساب الخادم والمسكن، من عمالته، التي هي أجر مثله وليس له أن يرتفق بشئ سواها.
والوجه الثاني: أن للعامل السكنى والخدمة، فإن لم يكن له مسكن، ولا خادم استؤجر له من يخدمه، فيكفيه مهنة مثله، ويكترى له مسكن يسكنه، مدة مقامه في عمله.

.4- والمؤلفة قلوبهم:
وهم الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم وجمعها على الإسلام أو تثبيتها عليه، لضعف إسلامهم، أو كف شرهم عن المسلمين، أو جلب نفعهم في الدفاع عنهم.
وقد قسمهم الفقهاء إلى مسلمين وكفار.
أما المسلمون فهم أربعة:
1- قوم من سادات المسلمين وزعمائهم، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نطرائهم، كما أعطى أبو بكر رضي الله عنه عدي بن حاتم، والزبرقان بن بدر، مع حسن إسلامهما، لمكانتهما في قومهما.
2- زعماء ضعفاء الايمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم يرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم، ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن.
وهم بعض الطلقاء من أهل مكة، الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الايمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك، وحسن إسلامه.
3- قوم من المسلمين في الثغور، وحدود بلاد الاعداء يعطون، لما يرجى من دفاعهم، عما وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
قال صاحب المنار: وأقول: إن هذا العمل هو المرابطة وهؤلاء الفقهاء يدخلونها في سهم سبيل الله، كالغزو المقصود منها: وأولى منهم بالتأليف في زماننا، قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم، أو في دينهم.
فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما، للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لاجل تنصيره، وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لاجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية، والوحدة الإسلامية، أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟
4- قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجبابة الزكاة، وأخذها ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم - إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، أرجح المصلحتين.

وأما الكفار فهم قسمان:
1- من يرجى إيمانه بتأليفه، مثل صفوان بن أمية، الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره ويختار لنفسه، وكان غائبا، فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل إسلامه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إبلا كثيرة محملة، كانت في واد فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر.
وقال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لابغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لاحب الناس إلي.
2- من يخشى شره، فيرجى بإعطائه كف شره.
قال ابن عباس: إن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم، مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم، ذموا، وعابوا.
وكان من هؤلاء أبو سفيان بن حرب، والاقرع بن حابس، وعيينة ابن حصن، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من هؤلاء، مائة من الإبل.
وذهبت الأحناف: إلى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بإعزاز الله لدينه، فقد جاء عيينة بن حصن، والاقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وطلبوا من أبي بكر نصبهم، فكتب لهم به، وجاءوا إلى عمر، وأعطوه الخط، فأبى ومزقه، وقال: هذا شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيكموه، تأليفا لكم على الإسلام، والان قد أعز الله الإسلام، وأغنى عنكم، فإن ثبتم على الإسلام، وإلا فبيننا وبينكم السيف {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فرجعوا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: الخليفة أنت أم عمر؟ بذلت لنا الخط فمزقه عمر، فقال: هو إن شاء.
قالوا: إن أبا بكر وافق عمر، ولم ينكر أحد من الصحابة كما أنه لم ينقل عن عثمان وعلي أنهما أعطيا أحدا من هذا الصنف.
ويجاب عن هذا: بأن هذا اجتهاد من عمر، وأنه رأى أنه ليس من المصلحة إعطاء هؤلاء، بعد أن ثبت الإسلام في أقوامهم، وأنه لا ضرر يخشى من ارتدادهم عن الإسلام.
وكون عثمان وعلي لم يعطيا أحدا من هذا الصنف، لا يدل على ما ذهبوا إليه، من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم، فقد يكون ذلك لعدم وجود الحاجة إلى أحد من الكفار، وهذا لا ينافي ثبوته، لمن احتاج إليه من الائمة، على أن العمدة في الاستدلال هو الكتاب والسنة فهما المرجع الذي لا يجوز العدول عنه بحال.
وقد روى أحمد، ومسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثير، بين جبلين، من شاء الصدقة، فرجع إلى قومه فقال، يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
قال الشوكاني: وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجباني، والبلخي، وابن مبشر.
وقال الشافعي: لا تتألف كافرا، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته، واستدلوا على ذلك، بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان، وعيينة، والاقرع، وعباس ابن مرداس.
والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه.
فإذا كان في زمن الإمام قوم لا يطيعونه إلا للدنيا، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته إلا بالقسر والغلب فله أن يتألفهم، ولا يكون لفشو الإسلام تأثير، لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة.
وفي المنار: وهذا هو الحق في جملته، وإنما يجئ الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق، ومقدار الذي يعطى من الصدقات، ومن الغنائم إن وجدت، وغيرها من أموال المصالح.
والواجب فيه الاخذ برأي أهل الشورى، كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتهادية، وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر، فإن هذا لا يطرد، بل الاصل فيه ترجيح أخف الضررين.
وخير المصلحتين.

5- وفي الرقاب:
ويشمل المكاتبين، والارقاء فيعان المكاتبون بمال الصدقة لفك رقابهم من الرق، ويشترى به العبيد، ويعتقون.
فعن البراء قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال، دلني على عمل يقربني من الجنة، ويبعدني من النار، فقال: «أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله، أو ليسا واحدا؟ قال: «لا، عتق الرقبة، أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين بثمنها» رواه أحمد، والدارقطني ورجاله ثقات.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح والمتعفف» رواه وأحمد، وأصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الشوكاني: قد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: {وفي الرقاب} فروي عن علي بن أبي طالب، وسعيد بن جبير، والليث، والثوري، والعترة، والحنفية، والشافعية، وأكثر أهل العلم: أن المراد به المكاتبون، من الزكاة على الكتابة.
وروي عن ابن عباس، والحسن البصري، ومالك، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عبيد - وإليه مال البخاري، وابن المنذر -: أن المراد بذلك أنها تشترى رقاب لتعتق.
واحتجوا بأنها لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين، لأنه غارم، وبأن شراء الرقبة لتعتق أولى من إعناة المكاتب، لأنه قد يعان ولا يعتق، لأن المكاتب عبد، ما بقي عليه درهم، ولان الشراء يتيسر في كل وقت، بخلاف الكتابة.
وقال الزهري: إنه يجمع بين الأمرين، وإليه أشار المصنف وهو الظاهر، لأن الآية تحتمل الأمرين.
وحديث البراء المذكور، فيه دليل على أن فك الرقاب غير عتقها، وعلى أن العتق، وإعانة المكاتبين على مال الكتاب، من الاعمال المقربة إلى الجنة والمبعدة من النار.
.6- والغارمون:
وهم الذين تحملوا الديون، وتعذر عليهم أداؤها، وهم أقسام: فمنهم من تحمل حمالة، أو ضمن دينا فلزمه، فأجحف بماله أو استدان لحاجته إلى الاستدانة، أو في معصية تاب منها، فهؤلاء جميعا يأخذون من الصدقة ما بقي بديونهم.
1- روى أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحل المسألة إلا لثلاث، لذي فقر مدقع أو لذى غرم مفظع، أو لذي دم موجع»
2- وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم: «تصدقوا عليه»، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك»
3- وتقدم حديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فتأمر لك بها» الحديث.
قال العلماء: والحمالة، ما يتحمله الإنسان، ويلتزمه في ذمته بالاستدانة، ليدفعه في إصلاح ذات البين، وقد كانت العرب إذا وقعت بينهم فتنة، اقتضت غرامة في دية، أو غيرها: قام أحدهما فتبرع بالتزام ذلك والقيام به، حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، ولا شك أن هذا من مكارم الاخلاق.
وكانوا إذا علموا أن أحدهم تحمل حمالة بادروا إلى معونته، وأعطوه ما تبرأ به ذمته، وإذا سأل في ذلك لم يعد نقصا في قدره، بل فخرا.
ولا يشترط في أخذ الزكاة فيها، أن يكون عاجزا عن الوفاء بها، بل له الاخذ، وإن كان في ماله الوفاء.

.7- وفي سبيل الله:
سبيل الله، الطريق الموصل إلى مرضاته من العلم، والعمل.
وجمهور العلماء، على أن المراد به هنا الغزو، وأن سهم {سبيل الله} يعطى للمتطوعين من الغزاة، الذين ليس لهم مرتب من الدولة.
فهؤلاء لهم سهم من الزكاة، يعطونه، سواء كانوا من الاغنياء أم الفقراء.
وقد تقدم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: الغازي في سبيل الله» الخ.

والحج ليس من سبيل الله التي تصرف فيها الزكاة، لأنه مفروض على المستطيع، دون غيره.
وفي تفسير المنار: يجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج، وتوفير الماء، والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، إن لم يوجد لذلك مصرف آخر.
وفيه: {وفي سبيل الله} وهو يشتمل سائر المصالح الشرعية العامة، التي هي ملاك أمر الدين، والدولة: وأولها، وأولاها بالتقديم، الاستعداد للحرب، بشراء السلاح، وأغذية الجند، وأدوات النقل، وتجهيز الغزاة.
ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال، إن كان مما يبقى، كالسلاح، والخيل، وغير ذلك، لأنه لا يملكه دائما، بصفة الغزو التي قامت به، بل يستعمله في سبيل الله، ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله، بخلاف الفقير، والعامل عليها، والغارم والمؤلف، وابن السبيل، فإنهم لا يردون ما أخذوا، بعد فقد الصفة التي أخذوا بها.
ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية، وكذا الخيرية العامة، وإشراع الطرق، وتعبيدها، ومد الخطوط الحديدية العسكرية، لا التجارية، ومنها بناء البوارج المدرعة، والمناطيد، والطيارات الحربية، والحصون، والخنادق.
ومن أهم ما ينفق في سبيل الله، في زماننا هذا، إعداد الدعاة إلى السلام، وإرسالهم إلى بلاد الكفار، من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي، كما يفعله الكفار في نشر دينهم.
ويدخل فيه النفقة على المدارس، للعلوم الشرعية، وغيرها مما تقوم به المصلحة العامة.
وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس، ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة، التي ينقطعون بها عن كسب آخر ولا يعطى عالم غني لاجل علمه، وإن كان يفيد الناس به. انتهى.

.8- وابن السبيل:
اتفق العلماء على أن المسافر المنقطع عن بلده يعطى من الصدقة، ما يستعين به على تحقيق مقصده، إذا لم يتيسر له شيء من ماله، نظرا لفقره العارض.
واشترطوا أن يكون سفره في طاعة، أو في غير معصية.
واختلفوا في السفر المباح.
والمختار عند الشافعية: أنه يأخذ من الصدقة، حتى لو كان السفر للتفرج، والتنزه..وابن السبيل عند الشافعية قسمان:
1- من ينشئ سفرا من بلد مقيم به، ولو كان وطنه.
2- غريب مسافر، يجتاز بالبلد.
وكلاهما له الحق في الاخذ من الزكاة، ولو وجد من يقرضه كفايته، وله ببلده، ما يقتضي به دينه.
وعند مالك، وأحمد: ابن السبيل المستحق للزكاة، يختص بالمجتاز دون المنشئ ولا يعطى من الزكاة من إذا وجد مقرضا يقرضه وكان له من المال ببلده، ما يفي بقرضه.
فإن لم يجد مقرضا، أو لم يكن له مال يقضى منه قرضه، أعطي من الزكاة.
توزيع الزكاة على المستحقين، كلهم، أو بعضهم:
الاصناف الثمانية، المستحقون للزكاة، المذكورون في الآية هم: الفقراء والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والارقاء، والغارمون وأبناء السبيل، والمجاهدون.
وقد اختلف الفقهاء في توزيع الصدقة عليهم: فقال الشافعي واصحابه: إن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله، سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الاصناف السبعة الباقين، إن وجدوا وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز ترك صنف منهم، مع وجوده، فإن تركه ضمن نصيبه.
وقال إبراهيم النخعي: إن كان المال كثيرا، يحتمل الاجزاء قسمه على الاصناف.
وإن كان قليلا جاز أن يوضع في صنف واحد.
وقال أحمد بن حنبل: تفريقها أولى، ويجزئه أن يضعه في صنف واحد.
وقال مالك: يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأولى فالأولى، من أهل الخلة والفاعة، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام، أكثر قدمهم، وإن رآهم في أبناء السبيل في عام آخر، حولها إليهم.
وقالت الأحناف.
وسفيان الثوري: هو مخير يضعها في أي الاصناف شاء.
وهذا مروي عن حذيفة، وابن عباس، وقول الحسن البصري، وعطاء ابن أبي رباح.
وقال أبو حنيفة: وله صرفها إلى شخص واحد، من أحد الاصناف.
سبب اختلافهم ومنشؤه: قال ابن رشد: وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإن اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم، والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة، إذ كان المقصود بها سد الخلة، فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس - أعني أهل الصدقات - لا تشريكهم في الصدقة.
فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من جهة المعنى، ومن الحجة للشافعي، ما رواه أبو داود عن الصدائي: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يرض أن يحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك حقك».

ترجيح رأي الجمهور على رأي الشافعي: قال في الروضة الندية: وأما صرف الزكاة كلها في صنف واحد، فهذا المقام خليق بتحقيق الكلام.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى جعل الصدقة مختصة بالاصناف الثمانية، غير سائغة لغيرهم.
واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم.
بل المعنى أن جنس الصدقات، لجنس هذه الاصناف.
فمن وجب عليه شيء من جنس الصدقة، ووضعه في جنس الاصناف، فقد فعل ما أمره الله به، وسقط عنه ما أوجبه الله عليه، ولو قيل: إنه يجب على المالك - إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة - تقسيطه على جميع الاصناف الثمانية، على فرض وجودهم جميعا، لكان ذلك - مع ما فيه من الحرج والمشقة - مخالفا لما فعله المسلمون، سلفهم، وخلفهم.
وقد يكون الحاصل شيئا حقيرا، لو قسط على جميع الاصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له ولو كان نوعا واحدا، فضلا عن أن يكون عددا.
إذا تقرر لك هذا، لاح لك عدم صلاحية ما وقع منه، صلى الله عليه وسلم من الدفع إلى سلمة بن صخر من الصدقات للاستدلال بها.
ولم يرد ما يقتضي إيجاب توزيع كل صدقة على جميع الاصناف.
وكذلك لا يصلح للاحتجاج حديث أمره صلى عليه وسلم لمعاذ: أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ويردها في فقرائهم، لأن تلك أيضا صدقة جماعة من المسلمين وقد صرفت في جنس الاصناف وكذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي وذكر الحديث المتقدم، ثم قال: لأن في إسناده عبد الرحمن بن زياد الافريقي، وقد تكلم فيه غير واحد، وعلى فرض صلاحيته للاحتجاج، فالمراد بتجزئة مصارفها، كما هو ظاهر الآية التي قصدها صلى الله عليه وسلم: ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له، لما جاز صرف نصيب ما هو مغدوم من الاصناف إلى غيره، وهو خلاف الاجماع من المسلمين.
وأيضا لو سلم ذلك، لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام، لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات، وإعطاء بعضهم بعضا آخر.
نعم إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قطر من الاقطار، وحضر عنده جميع الاصناف الثمانية، كان لكل صنف حق في مطالبته بما فرضه الله، وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطي بعض الاصناف أكثر من البعض الاخر، وله أن يعطي بعضهم دون بعض، إذا رأى في ذلك صلاحا عائدا على الإسلام وأهله.
مثلا إذا جمعت لديه الصدقات، وحضر الجهاد، وحقت المدافعة عن حوزة الإسلام من الكفار، أو البغاة، فإن له إيثار صنف المجاهدين بالصرف إليهم، وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات، وهكذا إذا اقتضت المصلحة إيثار غير المجاهدين.