ذو الجلال والإكرام
مع الاسم الأربعين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو ذو الجلال والإكرام،
((عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلالِ وَالاِكْرَامِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ))
[رواه مسلم]
صار معلوما عند القارئ الكريم أن أسماء الله الحسنى كلها تدل على صفاته، لكن اسما واحداً هو[ الله ]عَلَم على الذات، ويدل على كل أسمائه، إذا قلت: يا الله، معناه ؛ يا رحيم، يا رحمن، يا غني، يا ودود، يا قوي، يا متعال، يا قدير، يا حسيب، يا لطيف...إلخ ؛ فاسم (الله) اسم علَم على الذات، ويشير إلى كل أسمائه الحسنى ؛ لكن أسماءه الأخرى تدل على صفاته، أو على كمال صفاته، الغني القوي الحسيب المجيد المعطي المانع، تروي السيدة عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجلس بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول:
(( اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام))
هناك نقطة دقيقة وهي ؛ أن أسماء الله الحسنى يمكن أن تقسم إلى قسمين: قسم يشير إلى قوته، وقسمٍ يشير إلى كماله. أنت كمؤمن تؤخذ بالقوي، وتؤخذ بالرحيم. فالكمالات بكل أنواعها يجمعها اسم (الإكرام)، والقوة بكل مظاهرها يؤكدها اسم (ذو الجلال). مثال ذلك: قد تحترم أشخاصاً احتراماً كبيراً وقد لاتحبهم ينتزعون إعجابك بقوتهم، أو بذكائهم، أو بخبراتهم، أو بتحصيلهم، أو بفطنتهم ؛ وقد لا تحبهم. وبالمقابل فإن هناك أشخاصًا آخرين يملؤون قلبك حباً، وقد لا ينتزعون إعجابك. الإنسان يميل قلبه لأمه، وقد تكون أُمِّيةً. يمتلىء قلبه حباً لها، لكن علمها وثقافتها وخبرتها وفطنتها وذكاءها لا ينتزع إعجابه. وقد يحب أستاذاً في الجامعة على عِلم وفهم وثقافة ؛ ولكن حينما يتعامل معه لا يميل قلبه إليه. إذاً هناك صفات تُعجب بها، وهناك صفات تحبها. الصفات التي تُعجب بها، مجموعة في اسم (الجلال). والصفات التي تحبها، مجموعة في اسم (الإكرام). فإذا قلت "تبارك ذو الجلال والإكرام" فهذا يعني؛ أن كل صفات القوة والعظمة والجبروت يتصف الله بها. وكل صفات الإكرام والرأفة والرحمة يتصف الله بها. فكأن هذا الاسم المركب من اسمين، جمع الأسماء الحسنى كلها من زاويتن: زاوية القوة وزاوية الإكرام.
يقول الإمام الغزالي: إن اسم (ذا الجلال والإكرام) هو الذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له، لا جلال ولا كمال ولا كرامة ولا مكرمة ؛ إلا وهي صادرة منه ؛ فالجلال له في ذاته، والكرامة فائضة منه على خلقه، كل أفعاله تجاه خلقه إكرام ظاهر جلي، أو باطن خفي. وهذا معنى قول الله عز وجل:
﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾
[لقمان: الآية 20]
النِّعم الظاهرة هي الإيجابية، والنعم الباطنة هي المصائب. وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر أو تتناهى. قال تعالى:
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾
[البلد: الآية 8]
عينان صغيرتان تريان لك الأشياء على حجمه الحقيقي بألوانها الدقيقة ؛ الرؤية فَوْرية، شبكية العَين تحوي مائة وثلاثين مليون عصية، من أجل نقل أدق الصور، وبالعينين ترى جمال الكون، بالعينين ترى جمال الأشخاص، بالعينين ترى المظاهر التي تأخذ بالألباب.
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)﴾
فالعَينان هما إكرام من الله عز وجل، هذه القناة الدمعية التي هي من أدق القنوات في الإنسان ؛ لو أنها سُدت وصار فائض الدمع يسيل على الخدين -على صغر هذه المشكلة فهي ليست خطراً -إلا أنها تجعل حياة الإنسان جحيماً، وسيحتاج دائماً إلى مسح خديه، مما سيؤدي إلى تخريش الخد. فهذا إكرام من الله. العينان إكرام، والأجفان إكرام، والمحجر إكرام، والعضلات التي تحرك العينين يميناً وشمالاً إكرام من الله عز وجل.
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾
[ الشعراء: الآية 195]
كذلك جعل الله لهذا الإنسان أُذنين يستمع بهما إلى أدق الأصوات وأدق النبرات، يستمع بهما إلى الصوت، وإلى جهة الصوت، وإلى هوية الصوت ؛ هذا إكرام، مِفْصَلُ يدك إذا أُلغيَ كيف تأكل ؟ إلغاؤه سيؤدي إلى وضع الطعام على الأرض، والانبطاح من أجل أن تأكل الطعام كالهرة تماماً. وهذا الرسغ، وهذه الأصابع، وهذا الأنف، وهذه الأسنان، واللسان، ولسان المزمار، والحنجرة، والأمعاء، كل هذا إكرام من الله. قال تعالى:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
[الرحمن:الآية 78]
ورد هذا الاسم مرتين في كتاب الله، المرة الأولى قوله تعالى:
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
[الرحمن:الآية27]
والمرة الثانية:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
نقف عند هذه المفارقة الدقيقة:
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
ذو من الأسماء الخمسة مرفوعة بالواو. لماذا جاءت الآية الأولى بالرفع، والثانية بالجر ؟ الآية الثانية:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
الاسم عَرَض وليس جَوْهراً فجاءت ذي تابعة لربك.
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
أما الوجه من الذات.
﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
هذه هي اللغة العربية. قال تعالى:
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾
[الشعراء: الآية 195]
لأن الاسم ليس جوهراً في الإنسان بل عَرَض، إذ بإمكانه تغيير اسمه، لكن وجهه جزء من ذاته ولا يمكن تغييره، فإذا قال الله عز وجل:
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ﴾
قال:
﴿ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
أما إذا قال:
﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾
فالوجه من الذات.
هذا الاسم المركب من اسمين يوحي لنا بأن أسماء الله صنفان: صنفٌ يشير إلى قدرته، وكمال قدرته، وقهره، وجبروته، وقوته، وصنف يشير إلى كمالاته ؛ فكل الأسماء المتعلقة بالقوة يمثلها اسم الجلال. وكل أسمائه المتعلقة بكمالاته، وإكرامه، وإحسانه، ورحمته، ولطفه، ورأفته، يمثلها اسم الإكرام. فإذا قلت:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
فأنت جمعت بهذا الاسم أسماء الله الحسنى كلها.
لذلك فإن الإمام الغزالي يقول: لا جلال ولا كمال إلا وهو له، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه ؛ فالجلال له في ذاته، والكرامة فائضة منه على خلقه ؛ فلو كان شخص ذو هيبة أمام الخلق؛ فهي من الله. ولو أراد الله نزعها، لصار حقيراً أمام الخلق جميعاً. فرعون قال: " أنا ربكم الأعلى " فلما أغرقه الله عز وجل، أنجاه ببدنه، وقذف بجسده إلى الشاطىء، ليكون آية للعالمين. ولو أنه غرق لما صدق الناس أنه غرق و لكن شاءت حكمة الله أن يبقى جسده بعد غرقه كما هو، وأن تقذفه الأمواج إلى الساحل.
فُنونُ إكرامه لخلقه كثيرة لا تكاد تنحصر ولا تتناهى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾
[ الإسراء: الآية 70 ]
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾
[ التين: الآية 4 ]
بدْءاً من جهازه العظمي، وهناك مفصل نحو الداخل. الركبة مفصل نحو الخارج، والرأس يدور.والعمود الفقري يَتَمَفْصل تَمَفْصُلاً محدوداً. الجمجمة مفاصلها ثابتة، وعندما يصاب الشخص بضربة على رأسه فإن تداخُلَ هذه الأجزاء يقي كسر الجمجمة ؛ فكل هذا من إكرام الله له. وأتمنى لو يتفكر كل واحد منا بإكرام الله له.
النوم إكرام، تنام بضع ساعات وبعدها تشعر وكأنك حصان قوة و نشاطا، هضم الطعام إكرام تأكل وتتلذذ وانتهى الأمر ؛ لكن لو أن الله أوْكل إليك هضم الطعام فإذا تناولت وجبةً امتنعت عن مقابلة أيِّ شخص كان ثلاث ساعات أو أربع ساعات، لماذا ؟ لأنك مشغول بهضم الطعام. فيضيع وقتك.
فوجْبة الإفطار تحتاج إلى أربع ساعات لهضمها، ووجبة الغداء تحتاج إلى خمس ساعات، ووجبة العشاء تحتاج إلى أربع ساعات. فأنت تقضي خمسَ عشرة ساعة للهضم، نقلت اللقمة إلى المري ثم إلى المعدة. أمرت الغدد بالإفراز. أمرت البنكرياس بصب الأنسولين في الدم. أمرت الصفراء بأن تفرز. نقلت اللقمة و الطعام إلى الاثني عشري. إلى الأمعاء. ولكن كأنه قال لك: كُلْ و لا تَهْتَمَّ بالباقي. كل ما يجري من تفاعلات الهضم والانحلالات لا دخْل لك فيها. هَب أن الله أوكل إليك التنفس، لن تستطيع أن تنام الليل، أبداً فالنوم يعني الموت. ولكن أنت نائمٌ والقلبُ يعملُ، والرئتان تعملان و لسان المزمار يعمل بلا كلل ولا ملل ؛ كل هذا وأنت نائم. وزن جسمك الجهاز العظمي والعضلات التي فوقه، تضغط على ما تحت الجهاز العظمي ؛ فتضيق لمعات الأوعية -وجعل الله عز وجل في الجسد أماكن للإحساس بالضغط ؛ وهذه الأماكن و المحسات تعطي إشارة للدماغ، فالدماغ يأمر الجسم بالتقلب وأنت نائم، فالإنسان يتقلب ثمانياً وثلاثين مرة في الليلة تقريباً، حتى لا يشعر الإنسان بتخدر جسمه، أو تَنَمُّلِه ذلك أن ضيق لمعات الأوعية تسبب ضعف التروية، وضعف التروية يشعرك بالتنميل. أما التقليب فهو من آيات الله.
إفراغ المثانة ؛ فهي لها عضلات، ولولا العضلات، لاحتاج الأمر إلى تنفيس هواء. أما بالعضلات فأنت تُفرغها بثوانٍ. فالمثانة هي من إكرام الله ؛ إذْ إنه في كل عشرين ثانية تقطر قطرة بول من كل كلية، وتتجمع في المثانة، خلال ساعتين، أو ثلاث، أو أربع، ثم تفرغ تلك الكمية في بضع ثوانٍ ولولا وجود المثانة لاحتاج الإنسان إلى فوطة يلف بها نفسه. فإكرامات كثيرة من الله عز وجل ؛ الزوجة إكرام، والابن إكرام، والطعام والشراب إكرام... أنواع متنوعة لا تعد ولاتحصى قال تعالى:
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15)﴾
( سورة البلد: الآية 11-15 )
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾
( سورة الإسراء: الآية 70 )
الإمام الرازي من كبار علماء المسلمين والمفسرين يفرق بين لفظ الجليل، ولفظ الكريم، فلفظ الكريم يكفي فيه الإكرام، والإكرام قريب من الإنعام ولكنه أخص منه ؛ فكل إكرام إنعام، وليس كل إنعام إكراماً، كيف ذلك ؟ قد تجد أن فلاناً من الناس، له كذا من الأولاد يأكلون جميعاً على مائدته ولكن أحد هؤلاء الأولاد بارٌ ومطيع، فأنت تجد أنهم إذا صاروا على مائدة الطعام، فهذا الولد البار له معاملة خاصة من أبيه، فالأب يقدم له شيئاً استثنائياً ويبتسم في وجهه، ويرضى عنه ويدعوه له ؛ فالطعام وحده إنعام، أما الإطعام مع التكريم اللفظي والعملي صار إكراماً.
فالإمام الرازي يقول: ليس كل إنعام إكراماً، ولكن كل إكرام إنعام، قال: وفي تقديم لفظ الجلال على لفظ الإكرام سر،قال تعالى:
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
( سورة الرحمن: الآية 78 )
فلماذا قدم الله لفظ الجلال على لفظ الإكرام ؟ لأن الجلال يعني التنزيه، تقول: جل جلاله ؛ أيْ تنزهت ذاته عن كل نقص، وإن الإكرام الصادر من الله عز وجل إكرام منزه عن كل غرض. قد تُدعى لطعام الغداء من قبل أحد الأشخاص، وبعد أن تنتهي، يطلب منك حاجة ؛ فهذه الدعوة إذاً ليست خالصة، وإنما دعوة هادفة، وهي مشوبة بمكسب، وغرض وتأمين حاجة ؛ لذلك قدم الله اسم الجلال على اسم الإكرام ؛ لأن إكرامه منزه عن كل غرض.
(( لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زادوا في ملكي شيئاً. ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقصوا في ملكي شيئاً ))
أكرر فتقديم اسم الجلال على اسم الإكرام، لأن إكرامه منزه عن كل غرض.
﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)﴾
[ سورة إبراهيم: الآية 8 ]
﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾
[ سورة الزمر: الآية 7 ]
أما الإمام القشيري فيذكر ؛ أن جلال الله منزه عن الأنصار والأعوان. أحياناً يستمد الإنسان هيبته ممن حوله، ومن أنصاره، وأعوانه، وجماعته، ومن القوة التي بيده، ومن الأشخاص الذين حوله ؛ لكن الله عز وجل منزه في جلاله عن الأعوان والأنصار. أما الإنسان ؛ فجلالته قد تكون من ماله، أو مكانته من علمه، أو مكانته من سلطته. هذه المكانة مشوبة ومفتقرة إلى شيء قالوا: من أحبك لشيء، كرهك لفقده. فجلال الله عز وجل منزه عن الأسباب ؛ لأنه ذو جلال بذاته من دون سبب منفصل عنه. جلاله يعني الرفعة والعزة والعلو. والإكرام كما قال الإمام الرازي: قريب من الإنعام، إلا أنه أخص منه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد ينعم على من لا يكرِّم ؛ فهو سبحانه لا يحب الكافرين لكن يمنحهم المال والصحة، والأولاد والبيوت، والمتع والسيارات والمباهج ؛ فكل هذا إنعام وليس إكراماً. لكنه جل جلاله يكرم المؤمنين. فكل إكرام إنعام، ولكن ليس كل إنعام إكراماً ذلك لأنه ينعم على من لا يُكْرِم، ولا يُكْرم إلا من يُنعم عليه. وقالوا: إكرام الله عز وجل نوعان: نوع معَّجل في الدنيا، ونوع مؤجل إلى الآخرة. فالإنسان إذا أنه لم يكن له في الدنيا ما يريد، بل كانت دنياه مدبرة لا مقبلة، فهو ينتظر إكرام ربه بعد الموت، ورد في الحديث القدسي:
(( إني والجن والإنس في نبأٍ عظيم ؛ أخلق ويُعَبَدُ غيري ؛ وأرزق وُيْشَكُر سواي ؛ خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليِّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إليَّ، من أقبل عليَّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها.))
وقال بعض العارفين: ذو الجلال والإكرام ؛ هو صاحب الجلالة، لأنه لا شرف، ولا مجد، ولا عزة، ولا قوة، إلا وهي له، فهي له وبه ومنه أحياناً يهب الله تعالى لبعض الأشخاص هيبة، جلالة، مكانة،، وأحياناً يسلبها منهم فجأة. هو الأصل. فلا شرف، ولا مجد، ولا عزة، ولا قوة إلا وهي له وبه ومنه ولا كرامة ولا فضل ولا نعمة ولا إحسان، إلا وهي من مَدَدِهِ جل جلاله ؛ هذا معنى ذو الجلال والإكرام.
وقال بعضهم: هذا الاسم الجليل جامع للجلال والجمال ؛ فإن الله تعالى له جلال رهيب، وجمال عجيب.
وبالمناسبة أقول، إن المؤمن المتصل بالله جل جلاله له هيبة،
(( عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ))
[ رواه ابن ماجه ]
كان عليه الصلاة والسلام من رآه بديهة هابه، ومن عامله أحبه. فالنبي وأصحابه والمؤمنون الصالحون الصادقون المخلصون ؛ هؤلاء يأخذون من هذا الاسم نصيباً وهو الهيبةُ ؛ من اتقى الله هابه كل شيء. وأيُّ إنسان اتصل بالله عز وجل كانت له هيبة.
الإمام الحسن البصري كان من كبار التابعين، وكان ذا هيبة عظيمة. ولعل قصة هذا الإمام تحوي على ما يدل على هذا المعنى ؛ لقد أدى واجب العلم، وذكر بعض الأخطاء التي صدرت عن الحجاج، ولما بلغ الحجاجَ مقالةُ البصري، غضب، وأرغى، وأزبد، وتوَعَّد، وأمر بقتله وقال: ائتوني به -طبعاً حينما أمر بقتله جاء بالسَّيَاف ومُدَّ النِّطع أمامه في قصره - بل قال قبل ذلك لمن سمع مقالة الحسن البصري، ولم يرد عليه ؛ قال لهم: والله يا جبناء لأسقِينَّكم من دمه. فلما دخل الحسن على الحجاج ورأى السَيَّاف جاهزاً، والنِّطع ممدوداً، تكلم بكلمات لم يسمعها أحدٌ، فما كان من الحجاج إلا أن وقف له، واستقبله وما زال يقربه حتى أجلسه على سريره، وكان يكنى أبا سعيد قال له: يا أبا سعيد كيف أنت ؟ يا أبا سعيد، أنت سيِّد العلماء. يا أبا سعيد يا أبا سعيد... وقيل: عطَّره، واستفتاه في قضية ثم شيَّعه. هذا السَيَّاف صُعِق جاءوا به ليقطع رأسه ومد النطع، وكأنه قرار القتل نهائي، فتَبِع الحاجبُ أبا سعيد فقال له: يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فُعل بك ! فماذا قلت قبل أن تدخل؟ قال قلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي عند وحشتي ؛ اجعل نقمته علي برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
صدقوني أيه القراء الكرام: هذا لكل مؤمن وفي كل زمان وفي كل مكان، للمؤمن هيبة. لا يستطيعون أن يتجاوزوا حدَّهم عندك إن كنت مؤمناً مستقيماً، فمن اتقى الله، هابه كلُّ شيء، ومن لم يتق الله، هاب كلَّ شيء.
(( أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))
[رواه البخاري]
فالنبي صلى الله عليه وسلم نُصر بالرعب وحينما تركت أمته سنته ؛ هزمت بالرعب لذلك ؛ من اتقى الله، هابه كلَّ شيء ومن لم يتقِ الله هاب كلَّ شيء.
وقال بعض العارفين: ذو الجلال والإكرام ؛ هو المنفرد بالجلال والإكرام والعظمة، المختص بالإكرام والكرامة ؛ فكل جلال له، وكل كرامة منه سبحانه، له الجلال في ذاته، والإكرام فيضٌ منه على خلقه ؛ فما من نعمة تأتيك إلا وهي من الله ؛ حتى لو أن عَينيك رأتا أن هذا الإنسان -فلان الفلاني -هو الذي أكرمك ؛ إذا كنت موحداً ترى أن الله ألهمه، وسمح له، وأن الله مكنه، وألقى حبك في قلبه فأكرمك. لذلك -المؤمن الصادق- إذا أصابه خيرٌ، بادىء ذي بدء يشكر الله عز وجل.
إنّ السيدة عائشة حينما لاك الناس حديث الإفك، وبقي الوحي منقطعاً قرابة شهر، والنبي صلى الله عليه وسلم في أشد حالات الضيق والحزن، ثم جاءت براءة الله عز وجل للسيدة عائشة -رضي الله عنها -فقال لها الصديق: قومي لرسول الله فاشْكُرِيهِ فَقَالَت: لا والله، لا أشكُر إلا اللهَ فابْتَسَمَ النبي وقال عليه الصلاة والسلام:
((عَرَفَتْ الْحَقَ لأَهْلِه ))
[رواه أحمد]
مادام كل كرامة من الله، وأيُّ إكرام مهما بدا لك أنه من فلان، فهو من الله لذلك أنت ينبغي ألاّ تشكر على الحقيقة إلا الله. فالمؤمن الصادق يُعَوِّدُ نَفْسَهُ سجود الشكر، فأحياناً يُسمح له، وقد كان ممنوعاً، يُمنح، ينال درجة أو شهادة أو مالاً، ويرى كل نعمة من زوجة وولد ومال وعطاء، ونجاج، هي منه سبحانه وتعالى، وهو المنفرد بصفات الكمال. والعظمة والجلال، المختص بالإكرام والكرامة ؛ فكل جلال له، وكل كرامة منه سبحانه، له الجلال في ذاته، والإكرام فيض منه على خلقه. عندي مثل أحب أن أطرحه على مسامع القراء الكرام:
بِمَعامل الحديد الضخمة، هناك رافعات كهربائية، مساحة كبيرة من الحديد؛ مربعة أو دائرية محاطة بوشيعة كهربائية، فإذا سرت الكهرباء في هذه الرافعة، تصبح ممغنطة. وهذه الرافعة ربما حملت خمسة أطنان. و الآن وهي ترفع هذا الثقل ؛ لو ضغط العامل مفتاحاً بمقدار ربع ميلي بحيث قطع تيار الكهرباء، فكل هذه الأوزان تسقط، أردت بهذا المثال أنه مهما كنت ذا لك هيبة، أو كنت ذا شخصية متألقة، ومحظوظاً ومحبوباً؛ فهذا من الله عز وجل، بدليل أنه أحياناً يُفقدك هيبتك، ويأتي أحقر الناس فيتطاول عليك، ويسيء إليك. فإذا شعرت بالمكانة والهيبة وأنك محبوب فهي من الله، والنبي -عليه الصلاة والسلام -علَّمنا أن الله كلما زاد الله في إكرام عبده ؛ فالعبد الكامل يزيد في تواضعه لله عز وجل. لذة النصر لا توصف، فكفار مكة المكرمة بالغوا بالاساءة إليه صلى الله عليه وسلم إيذائه، وحاربوه ثلاث مرات في بدر وأحد والخندق، وحاولوا قتله وأخرجوه ونكَّلوا بأصحابه وعذبوهم وقتَّلوهم، وهي في استعلاء -وأذلوه، حتى إن سهيل بن عَمْرٍو لم يرض أن يكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله قال: امحُ رسول الله ؛ ـ غَطْرسةً وكِبْراً ـ ثم فتحت مكة، عشرة آلاف سيف متوهجة تأْتمر بأمر النبي وقد دخلها منتصراً، كيف دخلها ؟ دخلها مطأطِىء الرأس ! ودخلها متواضعاً، وكادت ذُؤابة عمامته تلامس عنق بعيره !!
فالله ذو الجلال والإكرام، وكلٌ الجلال منه، وله، وبه وكل الإكرام منه وله وبه. فإذا تمتعت بهيبةٍ فاذكر ؛ أن الله هو الذي رفع لك ذكرك، وإذا تمتعت بإكرام فاعتقد أنه منه.
وها نحن بصدد معنى جديد ؛ فكوْنه ذا الجلال فينبغي أن تُجلَّه. ولأنه ذو إكرام فينبغي أن تحبه، وأن تكرم عباده ؛ فَرَدُّ الفعل عندك أن تجله، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾
بعض الأحيان يتأدب الإنسان مع كتاب الله، ويضعه في مكان عالٍ، ولا يجعل رجليه باتجاهه وإذا قرأه قرأه جالساً، ويضعه على وسادة، فكل تعظيم لشعائر الله وكتابه وبيوته وأوليائه، هو من إجلال الله.
((عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ ))
[رواه أبو داود]
((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ))
رجل متقدم بالسن، نشأ في عبادة ربه، ذو شيبة ؛ إكرام هذا الشيخ هو من إكرام الله، إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم. وإكرام العالم العامل، والإمام العادل، كل ذلك من إكرام الله وإجلاله، فالمعنى الجديد الذي مرّ معنا هو: مادام الله ذا الجلال والإكرام ؛ فينبغي أن تجله، وأن تكرمه بإكرام خلقه، وهو ردّ الفعل.
وبعد فقد رُوي أن اسم ذا الجلال والإكرام ؛ هو اسم الله الأعظم، ذلك بأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام، كان ماراً في طريقه فسمع أعرابياً يقول: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم العظيم الحنان المنان، مالك الملك، ذي الجلال والإكرام،
((وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذو الجلال والإكرام فَقَالَ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ))
[رواه ابن ماجه]
" إنه دعا باسم الله الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى " فهذا الحديث يؤكد أن اسم ذا الجلال والإكرام اسم الله الأعظم - طبعاً كما قلت في بداية البحث هذا الاسم ورد في كتاب الله مرتين-(أذكرهما) والمرتان في سورة الرحمن.
وقد جاء في بعض الأحاديث الشريفة :
((عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا حَسَنَ الْفَهْمِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ))
[رواه أحمد ]
ألِظّوا بيا ذا الجلال والإكرام ؛ أيْ اِلْتجِئُوا، فإذا حلت بالمؤمن مشكلة، أو ألمت به ملمة أو دهمه خطب أو حلت به محنة، دعا وقال: " يا ذا الجلال و الإكرام برحمتك أستغيث " ألِظّوا: أيْ اِلْتجئوا وادعوا، قال ابن الأثير أيْ: اِلْزَموه واثْبتوا عليه، وأكثروا من قوْل ذلك في دعائكم.
التطبيق الثاني: من عرف جلال الله تواضع له، لذلك لا يجتمع كِبْرٌ ومعرفةُ الله عز وجل تقول: أنا ؛ فمن أنت ؟ أنت لا شيء. لا تقل أنا. متى أكثر العبد من ذكره، ولاح نوره على سره، صار جليل القدر بين العوالم. ومن عرف جلال الله، تواضع له وتذلل ولقد جاء في الأثر: تخلقوا بأخلاق الله ؟ فكيف نتخلق بأخلاق الله ؟ باسم الجلال والإكرام ؟ الإكرام أن تكرم الناس وأن تجعل أساس حياتك العطاء، أما الجلال أن تترفَّع عن السَّفَاسف. فمن كثر مزاحه،َقلَّت هيبته لا تتعلق بالجزئيات والتفاصيل. لا تكن سخيفاً. إن الله يحب مَعالِيَ الأمور، ويكره سفسافها ودَنِيَّها. فاعتدالُك في الأمور وتوازنك واهتمامك بالقضايا الكبرى، وتعلقك بالآخرة، وترفعك عن السفاسف والدنايا، وترفعك عن السَّفاهات، وعن كثرة القيل والقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وتعلقك بالآخرة، يجعلك ممن تخلق بأخلاق الله، وصار لك هيبة أساسها الاعتدال والسلوك الحسن، والترفع عن الدَنايا والسفاسف والسقطات والزلات والثرثرة والتعليقات والتدخلات الجانبية، وأن تحشر نفسك فيما لا يعنيك. هذا كله يضعف مكانتك. والإنسان الناضج له إحساس دقيق جداً ؛ فيشعر أن هذه الكلمة تصغّر شأنه، وهذه النظرة تصغر قدره، وأن هذا السؤال يجعله دنيئاً وأن هذا التذلل يجعله خنوعاً، وأن هذا التصرف يجعله طامعاً. فكلُّ عملٍ يجعلك أمام الناس صغيراً، عليك أن تترفع عنه، من أجل أن تتخلق بأخلاق الله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( إياك وما يُعتذر منه ))
أيُّ تصرف يدفعك إلى الاعتذار وتقول: لا تؤاخذوني، فلا تفعلْه، إذا فعلت هذا تخلقت بأخلاق الله و صارت لك هيبة، والهيبة نوعان: نوع كسبي ونوع وهْبي.
النوع الكسبي: التزامك بالأدب وضبط اللسان ؛ مَن كثر كلامه كثر غلطه، اضبط لسانك وجوارحك وكن معتدلاً، لا تتكلم كلاماً لست متأكداً منه، ولا تتهم أحداً قبل أن تتحقق، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾
( سورة الحجرات:الآية 6 )
فعدم التسرّع وعدم الثرثرة، وفهم الأمر بِتريُّث، وترك الدنايا، يجعلك ذا جلال. وإذا جعلت أساس حياتك العطاء والسخاء والدعْم، صرت ذا إكرام. إذاً ومرة ثانية أذكر أن التخلق بهذا الاسم له طريقان: كسْبي ووهْبي، إن أقبلت على الله واتصلت به، وهَبك الجلال. وإن اعتدلت في سلوكك، وترفعت عن الدنايا والسفاسف وأقللت من المزاح ومن الثرثرة، والتدخل فيما لا يعني، كنت كبيراً في نظر الناس. فكلِمةٌ ترفعك، وكلمةٌ تجعلُك أسفل السافلين. " إن الرجل يقول الكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً، يهوي بها سبعين خريفاً في جهنم " فما دام الله عز وجل ذا الجلال والإكرام، ينبغي أن نجِلهُ وأن نحبَّهُ، ومن جهة ثانية إذا صح القول:
((تخلقوا بأخلاق الله ))
فباستقامتنا واعتدالنا وترفعنا عن السفاسف، نكتسب هيبة. وباتصالنا بالله عز وجل.
أجل نكتسب هيبة. الأولى كسبية، والثانية وهبية. والله عز وجل أكرمنا فيجب أن نحبه، وأن نكرم عباده. إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي.
جاء في بعض الأدعية: أنت ذو الجلال والإكرام، صاحب الطَّوْل والإنعام، لك جلالٌ يَدُكُّ الجبال، ولك جمالٌ يفتح باب القبول والوِصال.
وأنا يا أخي المسلم أتمنى أن يهزك جمال الله، كما يهزك جلاله، وأن تقبل عليه رهبةً ورغبة، رجاءً وخوفاً فإن جلاله مرغوب، وكماله محبوب.
بعضهم ناجى ربَّه فقال: يا رب أشرَقَ نور هذا الاسم على لطائف قلبي، حتى تجنبت الرذائل، فكنت جليل القدر، وانشرح صدري بإكرامك، فكنت مُجَمَّلاً بلطائف إنعامك، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد البشير النذير وسلم.
أيها القارئ الكريم: لعل هذا الاسم كما ورد هو اسم الله العظيم ؛ ألِظّوا بيا ذا الجلال والإكرام، فكل صفات القوة والعظمة منطوية في يا ذا الجلال، وكل صفات الكمال والإكرام منطوِية في الإكرام ؛ فإذا قلت: يا ذا الجلال والإكرام، فكأنك جمعت بهذا الاسم المركب، أسماء الله الحسنى كلها، ولكن من زاويتن ؛ زاوية القوة، وزاوية الكمال، والنبي عليه الصلاة والسلام ما كان يجلس بعد الصلاة إلا بمقدار قوله:
((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ))
ومعنى يا ذا الجلال والإكرام ينبغي ؛ أن تعظِّمه بالقدْر الذي تحبه ؛ فإذا كان في حياتنا كما قلت في مطلع هذا البحث أناس نحبهم كثيراً ولا نقدرهم كثيراً، وأُناس نقدرهم كثيراً، ولا نحبهم كثيراً، فالله عز وجل ذو الجلال والإكرام بِقَدْر ما هو عظيم في قلبك، بقَدْر ما هو كريم في تعامله معك