الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الحسيب

الحسيب

الدرس الرابع والأربعين من دروس أسماء الله الحُسنى ومع اسم الحسيب، والحسيب: اسمٌ من أسماء الله الحُسنى معناه: المكافئ، أو من معانيه المكافىء، ومن معانيه أيضاً الاكتِفاء ؛ المكافىء المثيل، فلان حسيب فلان أي مكافِئة ومثيله ونِدُّه ؛ والحسيب أيضاً: الذي يكفي، من الاكتِفاء فالله -سبحانه- هو الكافي تقول: أكرمني فلان وأحسبني أيْ كفاني، وأعطاني فوق ما أريد. وتقول: حَسْبِي الله ونِعم الوكيل أيْ: أن الله سبحانه وتعالى كافيني ؛ أما حُسبانك على الله: بِمعنى حِسابُك على الله ؛ فالمعنى الأول: المكافىء. والمعنى الثاني: الكافي. والمعنى الثالث: المُحاسب. مِن النِدِّية والمِثلية، ومن الاكتِفاء، ومن الحِساب. ويكون معنى الحسيب في حق الله تعالى في أدق معانيه: الكافي ؛ تقول: حَسْبِي الله ونِعم الوكيل أيْ: يكفيني ولا أحتاج لِغيره. فالعِباد كلهم لو أطاعوا الله عز وجل، كَفاهم أمر دنياهم وآخرتهم.
 والحسيب: هو السيد الذي عليه الاعتماد. وليس في الوجود حسيب سواه. قد تعتمد على إنسان يحبك، ولكنه ضعيف لا يستطيع أن يُنجيك مما أنت فيه، وقد تعتمد على إنسان قوي، ولكنه لا يحبك. وقد تعتمد على إنسان قوي ويُحبك، ولكنك لا تصل إليه ؛
﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
(سورة فاطر)
 فمَن اعتمد على غير الله، ضلّ، ومن اعتمد على غير الله، ذلّ. ومن اعتمد على ماله افتقر، ومن اعتمد على عِز إنسان، أُذِلّ.
اجعل لِربك كل عِزِّ ِ ك يستقِر ويثبت
فإذا اعتززت بِمن يمو  ت فإنِ عزَّك ميِّت
***
 الحسيب: الكافي. والحسيب: النِد. والحسيب: المحاسب. وليس في الوجود حسيب سِواه، فأقوى قَوِيٍّ في الدنيا لو اعتمدت عليه، ربما توفاه الله وأنت بِأمسِّ الحاجة إليه وربما تغيَّر عليك فجأةً بلا سبب، وربما تنكَّر لك. لذلك من الشِّرك ؛ أن تعتمد على غير الله، كلمة حسبي الله ونِعم الوكيل: أيْ أنّ الله يكفيني وهو القوي. هو الرزاق، هو الغني، هو العليم، هو الكريم، هو السميع، هو المجيب، هو الرؤوف، هو الرحيم، هو المُعطي، هو المانع، هو الرافع، هو الخافض، هو المعز، هو المُذل. حسبي الله ونِعم الوكيل أيْ: أنّ الله يكفيني.
 مثَلاً: إذا تعَيَّن إنسان بِوظيفة دوامها ثمان ساعات، ومعاشُه ثلاثة آلاف ليرة ؛ فهذا لا يكفي. للعيش، تجده يبحث عن عَملٍ آخر، وعن طريقة أخرى لِكَسب المال فهذا المال لا يكفيه الجِهة لا تكفي كل حاجاته إذاً يزوغ عنها إلى جِهةٍ أخرى. لكنك إذا اعتمدت على الله، كفاك، وأغرقك بالنعيم، وطمأنك، كفاك وشَرَّفك، كفاك ورفعك، كفاك وأعزَّك، فَكَلِمة حسبي الله ونِعم الوكيل مِن أفضل الأذكار، وهي من أذكار النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا سعى الإنسان لِجِهة ولم يُوفَّق فيها ؛ ماذا يقول ؟ حسبي الله ونِعم الوكيل. وإذا سلك طريقاً ثم رآه مسدوداً ؛ ماذا يقول ؟ حسبي الله ونِعم الوكيل. والمؤمن يرضى بقضاء ربه، فإذا كان مستقيماً على أمر الله، وسلك طريقاً ورآه مسدوداً، يعلم عِلم اليقين أن هذا الطريق ليس في صالح آخرته، لذلك وضع الله أمامه العراقيل والنبي عليه الصلاة والسلام عَلّمنا وكان يقول إذا جاءت الأمور على ما يريد. يقول: الحمد لله الذي بِنِعمته تتم الصالِحات. وإذا جاءت على غير ما يريد يقول: الحمد لله على كل حال. ليس في الوجود حسيب سِواه .
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾
(سورة يونس الآية: 32)
 إذْ إنه لا يوجد جِهة غير الله تُغني، إما أن تكون مع الله فأنت المكتفي، وإما أن تبتعد عنه فأنت في فقرٍ دائم. وأنت من خوف الفقر في فقر. وأنت من خوف المرض في مرض. وَتَوقُّع المصيبة مصيبة أكبر منها. حسبي الله ونِعم الوكيل، وليس في الوجود حسيب سِواه .
 و قالوا الحسيب: هو الذي انتهى إليه كل شَرَفٍ في الوجود، وهذا معنى رابِع تقول: فلان حسيب نسيب، بِمعنى مُشرَّف ومكرّم. فأول معنى للحسيب: النِّد. والمعنى الثاني: الكافي. والمعنى الثالث: المحاسب. والمعنى الرابع: الشريف. يكفيك شَرَفاً أن تنتسب إلى الله قال تعالى:
﴿ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ﴾
(سورة إبراهيم)
 ملاحظة: هذه الياء ياء الإضافة وليست ياء النسب، ياء النسب كقولك(دمشقي)نسبة إلى دمشق والله أعلم.
 هذه الياء ياء نَسَب، وأنت منسوب إلى الله عز وجل نِسبة تشريف وتكريم قال تعالى:
﴿ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ﴾
 وقال تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63)﴾
(سورة الفرقان)
 فأنت منسوب إلى ذات الله عز وجل نَسَبك الله وشرَّفك وكرَّمك قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾
(سورة الإسراء)
 فالله صانك فلا تبتذِل. ورفعك فلا تسقط. وشَرَّفك فلا تسْفل. وأعزَّك فلا تذِل. وأعطاك فلا تصدف عنه.
 وقيل: الحسيب الذي يُحاسِب عِباده على أعمالهم، وهذا المعنى مرّ قبل قليل ؛ يُحاسِب الطائعين فَيُثيبهم على طاعتِه، ويُحاسب العاصين فَيُجازيهم على معصيتهم، وهو حسيب كل إنسان. ولا تُحاسب ؛ فالله هو المحاسب، وحِسابه دقيق، ويُحاسب على أدق الدقائق، وعلى أدق الكلِمات، وعلى أدق الذرات قال تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
(سورة الزلزلة)
 وإذا أيْقنت أنه سَيُحاسبك فلا بد أن تخاف منه. وإذا خِفت منه. استقمت على أمره. وإن استقمت على أمره. أقْبلت عليه. وإن أقْبلت عليه. سَعِدت بِقُربِه. وإذا سعِدت بِقُربه اسْتَغنيت عن الدنيا وما فيها بعد أداء الأسباب، ومن عرف الله زهِد في ما سواه. فالحسيب: النِّد. والحسيب: الكافي. والحسيب: المحاسب. والحسيب: الشريف. وكل هذه المعاني لها وُجوه تليق بجلال الله وذاته.
بعض العلماء ذكر أن الحسيب فيه ثلاثة وُجوه: الأول: أنه الكافي، والعَرَب كانت تقول: نزلت بِفلان فأكرمني ما كفاني. سألَت امرأة أميراً أن يُعطِيَها من ماله فأعطاها وأجْزَل ؛ فقال له من في حضرته: لقد كان يكفيها القليل وهي لا تعرِفك فقال هذا الأمير: إذا كان يُرضيها القليل، فأنا لا أرضى إلا بالكثير. وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرِف نفسي.
 فإن قُلت الله حسيب: بِمَعنى يُعطيك عطاءً عظيماً، إذا عاش الإنسان ثلاثاً وستين سنة، وأطاع فيها الله -عز وجل -فهو عاش كَعُمُر النبي -صلى الله عليه وسلم -وبالأربعين تاب إلى الله تعالى واستقام فَيَكون قد أطاع الله تعالى ثلاثاً وعشرين سنة يستحِق جنة إلى أبد الآبِدين ؛ فَما معنى جنة إلى أبد الآبدين ؟ وما معنى الأبد ؟ العقْل لا يُمكن أن يتصوّر معنى الأبد، ذلك لأنه لا يفهم إلا حجماً معَيّناً، ووقْتاً مُعَيَّناً ؛ أما الأبد فلا يفهمه. بعض المجرات تبعد عنا أربعةً وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، والضوء يقطع بالثانية الواحدة ثلاثمائة وستين ألف كيلو، متر ضرْب ستين بالدقيقة، وضرب ستين بالساعة وضرْب أربعة وعشرين باليوم، وضرْب ثلاثمائة وست وخمسين بالسنة، ضرْب أربعة وعشرين ألف مليون سنة. كل هذا للنجم، إذا كان أحدنا في الأرض وإلى هذا النّجم أصفار وفي كل ملم متر صفر فما قيمة هذا الرقم ؟ هذا الرقم قيمته صِفر إذا قيس إلى مالا نهاية، فكل شيء تراه بعيداً في هذا الكون فهذا النجم أبعد من أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئية واحد في الأرض وأصفار إلى هذا النجم، هذا الرقم اجعلْه صورة أو بسطاً وضَعْ في مخرجه لا نهاية ؛ فقيمته صِفر. فكلما عدّ الإنسان إلى الأعلى مليار مليار مليار سنة كلما كان الأبد أكبر ؛ وهذا الأبد في النعيم ثمنه أن تطيع الله عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وهذا هو معنى المُعطي فهو يعطي ويُجزل في العطاء. خلقك لِجنة عرضها السماوات والأرض ؛ على أن تُطيعه في هذه الحياة الدنيا. ومن نِعمته أنه ما حرمك شيئاً وكل شهوة أوْدَعها فيك، جعل لك طريقاً نظيفاً للتمتع بها فَسُبحانه وتعالى ما حَرَمنا النساء بل أمرنا أن نتزوج. وما حرمنا المال بل أمرنا بالعمل، وحرَم عليك الكذب، والزنى، والخمر، والمعاصي التي لا تليق بالإنسان ؛ فهذه الطاعات ثمنها الجنة، إذاً هو المكافئ يُعطي فَيَكْفي.
 يقول سيدنا علي: يا بني ما خيرٌ بعده النار بِخيرٍ، والشر بعده الجنة بِشَرٍ، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية. فعطاءٌ في الدنيا لا يُمكن أن يسمى عطاءً ؛ لأنه ينتهي بالموت، ولا أعرف إن كانت صورة الموت واضِحة، فهذا له قريب وصديق وجار تراه بِالمغْتَسل وبعد ساعتين بالقبر. أين غُرفة النوم ؟ وسيارته ومكانته؟ ومنجزاته ؟ كل هذا انقطع، إخواننا الكرام: لا يمكن أن يُسمى عطاء الدنيا بالنسبة إلى الله عطاءً ؛ لأنها عَرَضٌ حاضِر يأكل منه البَر والفاجر، والآخرة وعْد صادِق يحكم فيه ملِك عادل.
((عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
(رواه الترمذي)
 هذا كلام مَنْ ؟ كلام من لا ينطق عن الهوى، لو أن الدنيا تعدِل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شرْبَة ماء، فإذا رأى أحدنا بيتاً ضخماً جداً، أو مَرْكبَة فخمة جداً، أو بُستاناً، أو مركزاً تِجارياً كبيراً، وقال: هنيئاً له فقد عظّم حقيراً، قال تعالى واصفاً قارون ومن اغترَّ به عندما خرج على قومه في زينته:
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾
(سورة القصص)
 فالله تعالى حسيب: أيْ يكفي العبد ويكفيه كل مُؤنته. ورد في الحديث القدسي:
(( أنْ يا عبدي كن لي كما أريد ولا تُعْلِمني بِما يُصلِحُك ))
 أيْ: لا تتكلّف وتُبْلِغني الذي يُصلِحك ؛ فأنا أعرف ما يُصْلِحك، وما يُرضيك وما يُسْعِدك. كن لي كما أريد ولا تُعْلِمني بِما يُصلِحُك، وهناك حديث آخر:
(( كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ))
 وفي حديث آخر:
(( أنت تريد وأنا أريد، فإذا سَلَّمت لي فيما أريد، كَفَيْتك ما تريد، وإن لم تُسَلِّمني فيما أريد، أتْعَبْتُك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ))
 فالحسيب: هو الكافي فإذا قُلت: حسْبِيَ الله ونِعم الوكيل ؛ يكفيك مؤونة الدنيا والآخرة، ويكفيك كل الهم، مهما ضاقت عليك السُّبُل ومهما أُحْكِمت حولك الحلقات.
ولَرُبَّ نازِلة يضيق لها الفتى  ذَرْعاً وعند الله منها المَخرجُ
نزلت فلما استحكمت حلَقاتها  فُرِجت وكان يُظَنُّ أنْ لا تُفْرَجُ
***
 وقيل:
كُن عن همومك مُعْرِضا  وَكِلِ الأمور إلى القضا
وابْشِر بِخَيْر عاجِـلٍ  تنس به ما قد مضى
فَلَرُبّ أمر مُسْخِـطٍ  لك في عواقِبه رِضى
وَلَرُبّما ضاق المضيقُ  وَلَربما اتــسع الفضا
الله يفعل ما يشــاء  فلا تكــن مُعْترِضا
الله عَوَّدّك الجمــيل  فَقِسْ على ما قد مضى
***
 أنْ تقول: حسبي الله ونِعم الوكيل، وتردد ذلك، هذا ذِكْر بِمَعْنى الله يكفيني. صِحتك بِيده، وزوجتك بِيده، والأقوياء بِيده، والضعفاء بِيده، ومن فوقك بِيده، ومن تحتك بِيده، وطعامك بِيده ورِزقك بِيده، فإذا قلت: حسبي الله ونِعم الوكيل، انتهى الأمر.
 الثاني: بِمعنى حسيب. فالله يُحاسِب خلقه يوم لِقائه فهو تعالى يُحاسِبهم في الدنيا لِيُرَبيهم، ويُحاسِبهم في الآخرة لِيُجازيهم ؛ حِساب الدنيا تربية، وحِساب الآخرة جزاء. هناك قِصص كثيرة أسْمعها من إخواننا الأكارم.
 ذكر لي أخ له معمل ألبسة، ما يلي لما علم أحد إخواننا من المسجد أنّ لي معمل ألبِسة لطَلب مني ست قِطع، فاعتَذرت منه لأنّني لا أبيع إلا بالجملة وكأنني شعرت بِالهوان فالكمية التي طَلَبها قليلة ولا تملأ العَين، فذكر لي هذا الأخ أن واحداً وثلاثين يوماً ما رأى زبوناً عنده في المعمل، عِقاباً له على هذا الصنيع، والله حاسَبَه على هذا الكِبر وهذا الاحتقار.
 وذكر لي أخ من إخواننا عن إنسان كَبُرَ وكبر حتى ملك عدداً كبيراً من الطائرات المدنية والفنادق، ولما رأى حاله هكذا قال لقد وصلت لِفوق أنا حدودي السماء ولم يمضِ على كلامه اللحظات حتى سُحب منه البِساط، وشُدّ الحبل، وقُبِضت روحه.  فالله يُحاسب وهذا المعنى الثاني. فأول معنى: الله يكافئ. والمعنى الثاني: الله يُحاسب. فعلى الإنسان أن يضبط لِسانه وجوارحه ودخْله وماله وكل حركاته لأن الله يحاسب (حسيب) والحال أنه كلما كبر عقلنا وكبر إدراكنا يجب أن يزداد خوفنا من الله وكلما صغر المرء أمام ربه فالله يُكَبِّره أمام الخلق وكلما صغرنا وتواضعنا وافتقرنا وأعلنا عبوديتنا لله عز وجل، وقلنا: يا رب أنا لا شيء، أنا جاهل، أنا ضعيف، أنا فقير، أنا لئيم يا رب، أنت الكريم، أنت الغني، أنت القوي، أنت العالم، كلما أعلنت عن ضعفك وافتقارك وعبوديتك رفعك الله، وكلما قلت أنا وأنا خفضك الله عز وجل. من أجل إعلانه للعبودية لله عز وجل، وأنه القوي، مرة ذكر أن رجلاً في أروبة قال: إذا حمل هذا الصفصاف أجاصا فأنا أُزاح عن مركزي، وبعد أيام أُزيح فجاء الناس ووضعوا الأجاص فوق الصفصاف. الله حسيب.
 من الناس من يكون حِسابه يسيراً إذا كان مؤمناً، فهو من أهل النعيم الدائم. ومنهم من يكون حِسابه شديداً على الفتيل والقِطمير وهم الكفار.
 معنى الحسيب الثالث: هو الشريف، تقول: هذا بيت حَسَب و نَسَبٍ بالتعبير الشائع. مَنْ هو الشريف ؟ هو الذي لا يرتكب المعاصي، ولا يبخل ولا يكذب ولا ينافق ولا يذل ولا يغتاب، فكلما تنزَّه الإنسان عن المعاصي صار شريفاً وليس الأمر كما في بعض البلدان التي تتوارث الشرف الأسرة الحاكمة أشراف ولا يتزوّجون إلا من أشراف من أسرتهم أو قبلتهم:
لا تقل أصلي وفصلي أبداً  إنما أصل الفتى ما قد حصل
***
 شرف الإنسان بطاعته لله وشرف المؤمن قِيامه بالليل وعِزُّه استِغناؤه عن الناس شرفك بطاعتك لله. ولا شيء آخر. فالمحاسب الكافي والشريف. والشريف: الذي له صفات الكمال والجمال والجلال. وبعض العلماء قال: " الحسيب هو الذي يكفي بِفضله، ويصرف الآفات بِطَوْله "، وقيل: هو الذي إذا رُفِعتْ إليه حوائج قضاها وإذا حكم بِقضية أبرمها وأمضاها وقيل: هو الذي يعُد عليك أنفاسك ويصرف بِفضله عنك بأسك.
 القرآن الكريم ورد فيه اسم الحسيب كثيراً قال تعالى:
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)﴾
(سورة النساء)
 فإذا كان معك مال يتيم فإن كنت في حاجة فلك أن تأكل منه بِالمعروف والعلماء قالوا: " الأكل بالمعروف: أن تأخذ حاجتك أو أجر المِثل أيهما أقل " فإذا كان مع اليتيم مئة ألف وأَعْمَلتَها في التجارة ورَبِحت عشرة آلاف تعطي خمسة لِصاحب المال وخمسة لك مثلاً. فأنت يكفيك أربعة دون الخمسة، فإذا كان يكفيك خمسة عشر ألفاً ونصيبك خمسة تأخذ الخمسة فأجر المِثل أيهما أقل هذا إن كنت فقيراً أما إذا كنت غنياً فَعَليك أن تستَعْفِف. من الذي سَيُحاسبك ؟ ومن الذي يعلم ما إذا كنت غنياً أو فقيراً ؟ هناك من تجده يحمل مال يتيم يضعه في التجارة فإن ربحت وضع ماله وإن لم تربح يقول لك: ذهبت في التجارة، هذا لا يجوز، والنبي قال:
(( لا تجعل ماله دون مالك ))
 لا تجعل ماله دريئة أو حَقْل تجارب. تجد تُجاراً معهم أموال غيرهم فإن جاءتهم تجارة ولم يكونوا واثقين منها وضعوا أموال صديقهم ويقولون لك هذه: قِسمة ونصيب والتجارة رِبْح وخسارة، وإن ربِحت أدخَل ماله في هذه الصَّفقة، فمن الذي يعرف هذه الحقائق ؟ هو الله، الحسيب الذي يحاسب، هناك حالات بالتجارة، وحالات علاقة بالنساء، وحالات اجتِماعية، فَلو كان معك أذكى إنسان على الأرض فلن يكْشِف نواياك، ولا تصرفاتك أحياناً لكن الله يعلم، فإذا جعَلت مالك في الصَّفْقات الرابحة، المعرفة الثابتة التي إذا اشتريتها فبيعها مضمون، وربحها وفير ! فمالك في هذه الصفقة. ومعك مال اليتيم. ومال اليتيم تجعله حقل تجارب أين يوجد صفقة غير مضمونة النتائج تجعل هذا المال في مثل تلك الصفقات، فإن ربحت أدخلت مالك مكان هذا المال، وإن خسرت قلت للناس وأنت معذور هذه تجارة فيها ربح وخسارة. الخلْفِيات وهذه الحقائق من يعلمها ؟ هو الله. لذلك قال تعالى:
﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
 عندما يؤمن الإنسان أن الله رقيبُه، يصبِح لديه دِقَّة في معاملاته تكاد تكون خيالية، ويجعل كل شيء في الحُسبان. سَمِعت قِصة أظن أنكم سمِعْتموها مني ؛ إنسان تُوُفِّيت خالته فقال لي: مرَّت ثماني سنوات وأنا أراها بِالمنام تَحْتَرِق، فَيَقول لها مالك يا خالة ؟ فتقول له الحليبات، وما فَهِم عليها، وكانت خالة امرأة أب وعِندها أولاد زوج فكانت تضع للحليب الذي كانت تسقيه لأولاد زوجها ماءً أما ابنها الذي من صُلْبِها فتُعْطيه حليباً كامل الدسم ؛ ثماني سنوات وهي تَلْتَهِب، فمن الذي يعرف حقيقة هذه المرأة زوجها يراها تقدم كؤوس الحليب لأولاده جميعاً ولكن يعلم الحقيقة الله عز وجل. المنام ليس حجة في أحكام الشريعة ولكن يُسْتَأْنَس به.
 فالله هو الحسيب المحاسب قالوا: لا تُحاسِب الله المُحاسب. وآخر كانت له أُخت عانِس ساكِنة بِبَيْته وكانت زوجته تُبالِغ في إهانَتِها، فقال: كنت جالِساً مرة على سرير، وزوجته إلى جانبه، وأراد أن يشرب الماء فَرَكَل أخته وقال لها: أحضري لي الماء فَبَكَت من شدة إهانته لها أمام زوجَة أخيها، وفي اليوم الثاني كان لديه سَفَر إلى حَلَب حدث معه حادث سَيْر أُصيب بِرِجْلِه اليُمنى وأُصيب بِمرض الغَرْغَرِين فَقُطِعت من أعلى الفَخِذ، وهي التي ركَل بها أخته لِيُهينها أمام زوجتِه. فإذا تكبَّر الإنسان ؛ وأكل أموال الناس بالباطل، فالله هو الحسيب الكبير، وكلما ازداد عقلك وإدراكك ازداد خَوفك من الله، المؤمن يَنْخَلِع قلبه خوفاً من الله.
 مرةً قال لي طالب: أنا لا أخاف من الله، فأردت أن أُحجّمه وقلت: يا بني الفلاَّح مرةً يأخذ ابنه الصغير إلى الحصاد وَيَضعه بين سنابِل القمح فَيَمشي ثعبان بِجانِبه فَيَضع الطفل يده على الثعبان ؛ لماذا لأنه لا يخاف منه ؟ لأنه لا يوجد لديه إدراك ؛ فكُلما ضعُف الإدراك ضعف الخوف، وكلما ازداد الإدراك ازداد الخوف. أحياناً تجد الطبيب يُبالِغ بِغَسل الفاكهة وذلك من شدة ما يراه كل يوم من الجراثيم من الأعراض الإنتانية والالتهابات المعوية والإسهالات وأنواع الأمراض ؛ فهذا الذي يراه يدعوه للمبالغة في التنظيف والتعقيم ؛ فكلما ازداد العلم ازداد الخوف من الله. والله مُحاسب. وهذا أحد كبار صُناع الحلويات في لبنان، كان يُصدّر طائرة كلَّ اليوم إلى دول الخليج، دخل يوماً إلى مصْنَعِه ولم يُعْجِبه صنيع أحد العمال فأخذ تلك العجينة ودسَّها تحت قَدَمَيْه معلماً فقال له العامل مُنَبِّها إنك ترتَدي حِذاءً فأجابه: إن الناس يأكلون من تحت قَدَمَيّ، بعد شهرين قُطِعت رِجلاه اليمنى واليسرى وهو الآن مقيم في بريطانيا، وقصص كثيرة لا تُعد ولا تُحصى وأنا أذكر قِصصاً عادِية والإنسان لو أنَّ لديه قُدرة على البحث والتنقيب والدرس لرأى العجب العُجاب. اعمل ما شِئت ؛ واعلم أنَّ حِساب الله في الدنيا حِساب تَرْبوي. أما حسابه تعالى في الآخرة فهو حساب جزائي، بالدنيا يُحاسب لِيُربي أما بالآخرة لِيُجازي، هذه الآية الأولى.
 الآية الثانية قال تعالى:
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)﴾
(سورة النساء)
 فَمَشاعر الذين يردون التحية يعلمها الحسيب وحده هل هي تحية إسلامية دينية أم من كِبر أو تواضع أو رد جميل أم من كراهية أو محبة أو بروتوكولات كما يقولون أم من أسلوب حضاري غربي ؟ هناك أشخاص لديهم القُدرة على التمثيل قدرة كبيرة جداً قالوا عن الدِّبلوماسية: هي التعبير عن أسوأ النوايا بِأجمل الألفاظ. وهي أحد تعريفاتها اللاذعة من الممكن أن تكون لك ابتِسامة شكليّة، ومصافحة حارة وأنت تغدر بهذا الذي تُصافِحه ؛ فهذا السلام ؛ وراءه محبة أو غَدْر ؟ أو إخلاص ؟ أو انتقام ؟ أو طعن بالظهر ؟ أو كراهية ؟ فمن يعرف ويعلم هذه الحقيقة ؟ وكل إنسان يقدِر على الابتِسامة، ولكن النوايا لا يعلمها إلا الله لذلك جاءت الآية الكريمة:
﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ﴾
 بعد ردّ التحيَّة، طبعاً معظم الناس السلام ويردون السلام لكن النوايا والخلفيات والحَيْثِيات وما بين السطور هذه لا يعلمها إلا الله. قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (39)﴾
(سورة الأحزاب)
 فإذا خشي الإنسان الله وحده، وتحمَّل المشاق، وتجشَّم المتاعب، لأنه خشي الله وحده، وبَلَّغ رسالته، ولم يَعْبأ برِضاء الناس. فمن الذي يعرف حجم تضحِيته ؟ وحجم ما يُعاني ؟ طبعاً من السهولة أن تُرضي الناس، وأن تنجُوَ منهم، وأن تُسْمِعهم ما يُحِبون. لكنك إذا كنت صادقاً، و مُخْلِصاً، ونطقْت بالحق، ولم تأخذك في الله لوْمة لائم، فربما أتعبك الناس وثاروا عليك وانتقدوك وطعنوا فيك ؛ والله هو الذي يعلم حجم تضحِيَتِك لذلك قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
 وقال تعالى:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
(سورة الأنبياء)
 الله يعلم أدق الأعمال، وأدق الذرات، والقِطمير، والفتيل، والنقير. رأس النواة المذبب، والقِطمير، غِشاؤها، والفتيل، الخيط بين فَلْقَتيْها، فلا تُظلمون فتيلاً ولا قِطميراً ولا ذرة ومِثقال ذرة من خردل، ولا ظُلمْ اليوم وما كان الله لِيَظلِمهم، فالله حسيب، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
(سورة آل عمران)
 قال تعالى:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾
(سورة البقرة)
 إن تكلمت أو لم تتكلم، وإن أبَحت أو لم تُبِح، وإن ذكرت أو لم تذكر، فالله سُبْحانه وتعالى سيُحاسِبك، وقال تعالى:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾
(سورة آل عمران)
 فَمهما تقلَّب عليك الناس، ومهما اجتمعوا وتآمروا فقُل: حَسْبي الله ونعم الوكيل. فكلهم بِيد الله -عز وجل -قال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)﴾
(سورة هود)
 مهما اجتمع الناس على أن يضروك، وعلى أن يُوقِعوا بك الألم، فقُل: حَسْبِي الله ونِعم الوكيل، أنت أقوى منهم بِالله. يكفينا شَرَفاً هذه الآية:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)﴾
(سورة الأنفال)
 وقال تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)﴾
(سورة التوبة)
 من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعْطيناه، ومن اكتَفى بنا عن ما لنا كنا له وما لنا، قُل: حسبي الله، يكفيني الله، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)﴾
(سورة الطلاق)
 يكفيه، فإذا كان لشخص قضية في القضاء، وكانت مُعَقَّدة وصارت مُداخلات كثيرة وخصمه قوي فإذا قال حَسْبي الله ونِعم الوكيل ؛ فالله هو الذي يُدافِع عنه، وإذا شعر بِبَوادر مرض خطرٍ عظيم وقال حسبي الله ونِعم الوكيل فالله يُزيح عنه المرض قال تعالى:
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
(سورة الشعراء)
 وهذا من أنواع الذِّكر الراقي جداً. أن تقول حسبي الله ونِعم الوكيل، يا رب التَجأت إليك واحتمَيْت بك واستعنت بك على من يُعاديني وتوكلت عليك، وأنت حسبي ورَجائي وذخري وملاذي.
 الله -عز وجل - أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ؛ قال تعالى:
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)﴾
(سورة التوبة)
 وقد أمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن نقول هذا الذكر سبع مرات في اليوم.
 الآن توجد نقطة دقيقة في الموضوع ؛ يقول أحد العلماء: " إن كِفاية الرب لِعَبْده أن يَكْفِيَه في جميع أحواله وأشغاله، وأجلّ هذه الكِفايات أن لا يُعْطِيَه إرادة الأشياء "، يا رب خِر لي واختر لي ؛ فهذه أرقى درجة من أنواع التوكل. يَسِّر لي ما فيه صلاح لي في ديني ودُنياي وهو دعاء الاستِخارة، أساساً ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك:
((عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ للَّهِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ يَقُولُ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ ))
(رواه البخاري)
 فإذا علِم العبد أن الله هو الذي يكفيه، لم يَرْفع حوائجَه إلا إليه. ويُعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم. إذا أيقنت أن الله وحده هو الذي يكفي، لا تَسْألُ غيره. فإن الله سُبحانه وتعالى سريع الإجابة لِمن انقطع إليه، إذاً أنت مُتَجِه إلى الله تعالى بكليتك ولا تُعَلّق أملك بِمن دونه فهو سريع الإجابة. وتوكل في جميع أحوالك عليه. فأما إذا كانت حاجته في حق الله خيراً محْضاً كطلب الهِداية، والاستِقامة، والرزق الحلال، والكِفاية فهذا الطلب يُجاب فوْراً لأنه في حق الله وأما إذا طلبت الدنيا فهناك وضْعٌ آخر لعلها لا تنفعك لعلها تُؤذيك وتُبْعِدك فلذلك قد يُجيبك وقد لا يُجيبك، فالأدعية المُتعَلّقة بالآخرة سريعة الإجابة. ومن علِم أن الله كافيه لا يستَوْحِش من إعراض الخَلْق ولا يأْنسُ بهم.
 يذكر الإمام الغزالي في اسم الحسيب ؛ أنّ من كان الله له حسيباً، كفاه -والكِفاية - دقِقوا - والكِفاية التي يحتاج الإنسان إليها كِفاية دوام وُجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كافٍ لِشيءٍ إلا الله سبحانه وتعالى، يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء. ليس في الكون إلا الله وحده هو الذي يكفي كل الخلائق.
 قال: فإنه وحده كافٍ لِكل شيء لا لِبعض الأشياء. وحده كافٍ يتحصل به وجود الأشياء، ودوام وجودها، وكمال وجودها، فإذا أردت الوجود، ودوام الوجود، وسلامة الوجود، وكمال الوجود، فقل: حسبي الله ونِعم الوكيل. إذا رأيت أن الرضيع يرضع من والِدته ؛ فاعلم أن الله أودع في قلب هذه الأم الرحمة وأسال من ثديِها الحليب، ولولا ذلك ما كان هذا الطفل مَكْفِياً بِأمه فإذا بدا لك أن الطفل مكفِيٌ بِأمه فهذه كِفاية الله له .
 من أدب المؤمن مع ربه ؛ أن يعلم أن الله سَيُحاسبه غداً على الكبير والصغير، ويُطالبه بالنقير والقِطمير، ومِن وراء عِلم العبد بهذا يُحاسِب نفسه إذا عَلِم أنه سَيُحاسَب، سَيُحاسِب ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه غيره، ويُطالب قلبه بالقيام بالحقوق قبل أن يُطالبه سواه، ومتى راقب العبد معنى الحسيب، وتجلّى له نور القريب، انبثق في قبله نور فإذا نفسه تُحاسبه على تقصيره في الطاعة، وتُذكِّره بحساب يوم القِيامة.
 أرسل رجل مؤمن طعاماً إلى البصرة عن طريق وكيل وقال: بِعِ الطعام بِسِعر يومه. ولما وصل هذا الوكيل إلى البصرة استدعى التجار ونصحوه أن يؤخِر البيع أسبوعاً فقط ؛ يرتفع السِّعر فأخر أسبوعاً ورَبِح أرباحاً طائلة وبشَّر مُوَكِّله بهذه الأرباح وجاء الجواب: ادفع الثمن كله لفقراء البصرة فقد دخل على مالي الشبهة ؛ فهو حبس الطعام لِيزداد سِعره فصار مُحْتَكِراً والمحتكر خاطئ هذا قول رسول الحسيب، وآخر جاءته رسالة أَّن قصب السكر قد تَلِف فاشترِ السكر، فذهب إلى السوق واشترى السكر، وبعدها ربح ثلاثين ألف دينار. وبعد ربحه تذكر أنَّ هذا الذي اشترى منه السكر ما علِم أن السكر أصابته آفة فباعه بهذا السِّعر فقال له: يا هذا قد جاءتني رسالة من غلامي أن قصب السكر أصابته آفة فَأَقِل هذه البَيْعة، فقال له أنت الآن قد بلَّغتني فقال له: كان ينبغي أن أُبَلِّغك قبل هذا وبَطُلَ شِرائي للبضاعة فقال البائع قد سامحتك على هذا، فقال: لن أقبل ولا أنام الليل إلا إذا أقلتني من هذه البضاعة.
 فكان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم حِساباً عسيراً، وهذا رجل تزوج امرأة ثم تزوج عليها خُفيةً، فلما عَلِمت الأولى سكتت ثم مات زوجها فأرسلت نصيب ضرَّتِها من الإرث فقالت لها ضرَّتها: والله لقد طلقني قبل أن يموت وليس لي عنده شيء. وذاك قال له: بِعني هذه الشاة فقال: ليست لي فقال له: قل له ماتت فقال: والله إني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ولو قلت له إنها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، عند صاحب هذه الشاة ولكن أين الله، هكذا كان السلف.
 إخواننا الكرام:
 إذا حاسبنا أنفسنا حساباً دقيقاً على الخطوات والهفوات وعلى مستوى القِرش والهفوات، سلمنا وسعدنا كان سيدنا عمر بن عبد العزيز إذا كلمه شخص بِقضية شخصية يطفئ السِّراج الذي يوقد من بيت المال، وهذا عمر رأى إبِلاً سمينة فقال: لِمن هذه الإبل فقالوا: هي لابن عمر قال: ائتوني به فقال لمن هذه الإبل فقال: هي لي اشتريتها بِمالي الحلال وبعثت بها إلى المرعى لِتسمن فماذا فعلت ؟ فقال عمر: وَيَقول الناس يا بني اِرعَوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لأمير المؤمنين، وهكذا تَسْمن إبِلُك يا بن أمير المؤمنين، هل علمت لماذا هي سمينة ؟ لأنك ابني، بِعْ هذه الإبل وخُذ رأس مالك ورُدّ الباقي إلِى بيت مال المسلمين.
 فَالله سُبْحانه وتعالى حسيب يُحاسب وحسيب يكفيك ؛ يكفيك أمر الدنيا والآخرة، وحسيب يُشرِّفك إذا عرفته ويرفع لك قدْرك، فهذا الدرس إن رفعنا إلى هذا المستوى نكُنْ قد استفدنا منه لأنَّ العلم في الدين ليس هدفاً لِذاته وإنما هو وسيلة لِسُمُوِّ النفس، بالعمل به فكلمة حسبي الله ونِعم الوكيل تقال عند كل هم وحزن وعند كل موقف عُدواني، أو ناس تآمروا عليك فقُل: حسبي الله ونعم الوكيل. والله هو الذي يُدافع عنك أقوى دِفاع ويرفعك ويُعْلي قدرك وينصرك على خصومك ؛ حسبي الله ونعم الوكيل.  فالذين عارضوا النبي أين هم ؟ في مزبلة التاريخ أبو لهب، وأبو جهل، وصفوان ابن أمية. والذين أَيَّدوه ونصروه أين هم الآن ؟ في روضات الجنات، فإيّاك أن تكون في خندقٍ مُعادٍ للدين ! وأن تتجاوز الحد إيّاك وإيّاك ! الله عز وجل حسيب ورقيب وخبير. قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾
(سورة النمل)
 وفي آية أخرى قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
(سورة الأنعام)
 أحياناً المُكذّب الضالّ المُنحرف المُعتدي والطاغي يُمهِله الله لِحِكمة يريدها تأتي ثم التي تفيد التراخي. وأحياناً يبطِش به سريعاً لِحِكمة يريدها فإذا تأخر الجواب وتأخر الجزاء جاءت " ثُمَّ " وإن جاء سريعاً ذكرت الفاء التي تفيد التعقيب.
 ومن أدعية هذا الاسم: إلهي أنت الكافي لِمن ركن إليك القدير والمُتكفِّل لكل من توكل عليك أنت أسرع الحاسبين، وغوث الطالبين، أشْهِدني نور اسمك الحسيب، حتى أتحلى بِالسر العجيب ؛ فأُحاسِب نفسي قبل أن أُحاسب، وأُطالبها بالقيام بالواجب قبل أن أُطالب، وحقِّقنا بِسِر قولك حسبنا الله ونعم الوكيل، واجعلني ممن اهتدَ سواء السبيل، وخَلِّقني بمعنى باسمك الحسيب فأقوم بِحوائج إخواني من بعيد وقريب.
 إذا ربَّيت أولادك فاكفِهم، وإن أطعمت الفقير فاكفِهِ، وإن أعطيت زكاة مالك فأعطِ الفقير حتى يكتفي، الإمام الشافعي يرى كِفايَة العمر كله، أبو حنيفة يرى كِفاية عام. خمسمائة امرأة واقفة أين هويتك ؟ بصمتك كي نعطى مئة أو مائتين، إذا أعطيت فاكْفِ، وأعطِ عطاءً جزيلاً واجعلني يا رب ممن اهتدَ سواء السبيل،، وخَلِّقني باسمك الحسيب فأقوم بِإخواني بِحوائجهم من بعيد وقريب. حتى أتحقق بالشرف والحسب أنك على كل شيء قدير