الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : الصمد

الصمد

مع الدرس الحادي والستين من دروس أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم هو اسم الصمد، وكلُّكم يقرأ سورة الإخلاص:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)﴾
(سورة الإخلاص)
 فالصمد ؛ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى، ورد في الأحاديث الشريفة ومعنى الصمد: القصدُ.
 وفي حديث معاذ بن عمرو بن الجموح في قتل أبي جهل قال: فصمدّتُ له.. أي قصدّته حتّى أمكنتني منه غِرّة.
 هذا المعنى الأول في اللغة.. الصمد: القصدُّ.. صمدّتُ له: قصدّتُه.. والصمدُ: السيِّدُ المطاع الذي لا يقضى من دونه أمر، سيِّد متمكِّن، مطاع، أمره نافذ.. وأصمد إليه الأمر: أسنده إليه.
 ويقول بعض علماء اللغة: " إنَّ الصمد في اللغة له وجهان: أنّه فعلٌ بمعنى مفعول ".. أي مقصود، صمدّتُ إليه أي قصدّته، أو هو المقصود، أي السيِّدُ المقصودُ. المصمود في الحوائج: أي المقصود في الحوائج. ونقول ضمن قوسين " إذا أحبَّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه"
 هناك شخص أنا أسمِّيه، وقد سمّاه الأوّلون العفريت النفريت.. يتملَّص من كلِّ عمل، يتملَّص من كلِّ عبء، يتملَّص من كلِّ موعد، يتملَّص من كلِّ بذل، ومن كلِّ عطاء، يأخذ ولا يُعطي، وإذا أردّت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا، أو من أهل الآخرة، فاسأل نفسك السؤال الدقيق: ما الذي يفرحك ؟ أن تعطي أم أن تأخذ.
 أهل الدنيا يفرحهم أن يأخذوا، وأهل الآخرة يفرحهم أن يُعطوا. وهذا مقياسٌ دقيق، حتّى إنَّ العرب في لغتهم يسمّون الذين أَعْطَوا: ارتاحوا، يسمّى هذا الإنسان أريَحيّ. هو أشدُّ كرماً من الكريم ؛ يرتاح في العطاء. يعطي ليستريح، فإذا كنت من أهل الإيمان -ودققوا في هذه الكلمة - المؤمن حياته مبنيَّةٌ على العطاء، وغير المؤمن حياته مبنيّةٌ على الأخذ.
 والذي يعطي فإن الله جلَّ جلاله يعطيه، أنفق بلالُ ولا تخشىَ من ذي العرش إقلالاً. عبدي أنفق، أُنفق عليك.
 وهناك في القرآن كريم آيات عديدة -تزيدُ عن ثمانية آيات -تؤَكِّد أنَّ كلَّ نفقةٍ يعوِّضها الله أضعافاً مضاعفة فقد قال تعالى:
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾
(سورة سبأ الآية: 39)
 هذا كلام خالق الكون. فالصمد ؛ بمعنى المصمود: أي المقصود في الحوائج كلِّها. وإذا أحبَّ الله عبداً جعل حوائج الناس إليه. والمؤمن لا يتأثَّر لو طرق بابه في اليوم مئات مرَّة، لو اتصلوا به عشرات المرّات، لو تزاحم الناس على بابه لا يتأثّر ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلك تأخذ، على أن يجعلك تقف ذليلاً أمام باب إنسان، فإذا مكَّنك الله ؛ أعطاك صحَّةً، أعطاك مالاً، أعطاك مكانةً، أعطاك شيئاً يمكن أن تنفقه لا تبخل به، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقرِّك على النعم ما بذلتها، فإذا منعتها منعها عنك. والعرب تقول: بيتٌ مصمود: إذا قصده الناس في حوائجهم.تجد في الأسر رجلاً يسمّونه الآن عميدَ الأسرة، يقصده كلُّ أطراف الأسرة في زواجهم، في أعمالهم، في وظائفهم، في حلِّ مشكلاتهم، في كلّ ما من شأنه أن يتدخَّل من أجله، هذا الإنسان محترم. وقال بعض اللغويون الصمد ؛ هو الذي لا جوف له، أي الشيء الأصم. حجر لو نقرته لا يعطيك صوتاً، فهو صَمَدٌ أي أصمّ. أما العلبة الفارغة لو ضربتها تحدث صوتاً، فالصمد هو الذي لا جوف له.
 وقال بعض متأخِّري اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار، بمعنى ثقيل، ولا يدخله شيءٌ ولا يخرج من شيء، لا دخول ولا خروج ولا استقرار.. هو الصمد.. هذا كلُّه معنى كلمة الصمد في اللغة.
 أما الصمد إذا كان وصفاً لله عزَّ وجلَّ، أو كان اسماً من أسمائه، فقال: الله سبحانه وتعالى صمدٌ ؛ لأنَّ الأمور أُسندت إليه، يعني الأمور رجعت إليه وهذا المعنى ورد في القرآن الكريم فقد قال تعالى:
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾
(سورة هود)
 أحياناً تجد في دائرة أو مؤسسة أو معمل أو مدرسة، تبقى على حالها رجلاً قوياً لا يستطيع أي موظَّف أن يبتَّ في قرار، أو يتّخذ أي قرار، ما لم يرجع إليه فالأمر كلُّه بيده، خيوط كلِّ الموضوع مجموعةٌ بيده، فالله سبحانه وتعالى إذا قلنا أنّه صمد ؛ أي أنَّ الأمور كلَّها أصمدت إليه، أي أسندت إليه.
 فما قولك أيّها الأخ الكريم إذا كان الأمر كلُّه بيد الله، أتسأل غير الله ؟ أو هل تتوجّه إلى غير الله ؟ أتعلِّق الأمل على غير الله ؟ أتخاف من غير الله ؟.. أبداً.
 فقد سألني أحدهم مرّة: ما الذي يقوّي سيري إلى الله ؟ قلت له: التوحيد. ما الذي يقوّي إخلاصي ؟ التوحيد، ما الذي يقوي عزيمتي ؟ التوحيد. ما الذي يبعدني عن الشرك ؟ التوحيد. وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد. وكلُّكم يعلم أنّ القرآن كلّه من دفته إلى دفته، من فاتحته إلى سورة الناس ؛ كلّه حول التوحيد والدليل قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾
(سورة الكهف)
 هذا هو الدين.. بل إنَّ فحوى دعوة الأنبياء جميعاً من دون استثناء هو التوحيد، والدليل قوله تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
(سورة الأنبياء)
 الدين كلّه عقيدة التوحيد والعبادة ؛ وحِّد.. واعبدْ، فزت بالدنيا والآخرة، وجمعت المجد من كلِّ أطرافه.
 قال: الصمد في وصف الله تعالى ؛ هو الذي أسندت الأمور إليه، فلم يقضِ فيها غيره. وهو الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد. فانظروا إلى هذه الفكرة الدقيقة: الأمور راجعةٌ إليه.. إذاً هو المقصود كنتيجة طبيعيّة.
 فأنت بشكل طبيعي وعفوي، إذا دخلت إلى دائرة بحاجة إلى موافقة على طلب تسأل بيد من هذه الموافقة ؟ فإذا قيل أنّها بيد المدير العام؟ فلا يمكن أن تبذل ماء وجهك لغيره، ولا يمكن أن تسأل غيره ؛ لأنَّك أيقنت أنَّ الأمر بيد فلان، ما دام الأمر بيده أنت قصدّته. من أين يأتي القصد ؟ من التوحيد.. إن وحّدت، تتجه إلى الله.
 لكن كفكرة إخواننا الكرام … بعض الآيات والأحاديث.. كفكرة سهلة، وإدراكها سهل، وشرحها سهل، لكن أن تعيشها هنا المشكلة.. أن تعيشها.. فيا ترى هناك مشكلة مزلزلة عشتها؛ فأن ترى فلاناً هو الذي أوقعك بها، أو فلاناً من الناس هو الذي خلَّصك منها، فهذا هو الشرك، فأفكار التوحيد أفكار سهلة وليست معقَّدةً، أما ممارسات، فهذه تحتاج إلى جهد كبير.
 إخواننا الكرام: التوحيد محصِّلة جهودك الكبيرة في طريق الإيمان. فأحياناً يقول لك عن سعر العملة.. ؛ محصِّلة الإنتاج الزراعي، والصناعي، والتجاري، وترشيد الاستهلاك، والقدرة على جلب رأسمالات من بلاد أُخرى، ورواج المبيعات، والثروات الباطنيّة، أي ألف عامل وعامل يدخل في تحديد سعر العملة. كذلك كلُّ عوامل الإيمان محصِّلتها التوحيد. وقال العلماء: " الصمد ؛ هو الدائم الباقي بعد فناء خلقه "، فقد قال تعالى:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
(سورة الرحمن)
 وقال بعض العلماء: " هو الذي خلق الأشياء كلَّها، ولا يستغني عنه شيء ".
 بحسب تركيب الجسم المعقَّد جداً ؛ فالقلب وما به من -دسّامات، وأذنين، وبطينين، ومراكز توليد الكهرباء - والأوعية، والشرايين، والأوردة.. والكبد، والبنكرياس، والغدد الصمّاء ومفرزاتها -بنسب دقيقة جداً - وبلازما الدم... قلت: والله، المعجزة أن يستيقظ أحدنا لا يشعر بشيء.. فهذه هي المعجزة، من شدّة تعقيد الجسم ودقّته، فالإنسان يسلم جسمه من المرض هو المعجزة.
 أيّ نسبة تتغيَّر الحياة لا تطاق، لو أنَّ الكُليّة قصَّرت في وظيفتها تزداد نسب - الأوريه - في الدم، ومن مضاعفاتها ضيق، وتوتُّر عصبي، وردود فعل عنيفةٌ جداً.
 الملح إذا زاد، يؤثِّر على الدم، وإذا أصبح الدم لزجاً، يتجمَّد فوراً. والتجمُّد يعني الشلل، أو فقد البصر، أو فقد الذاكرة، فالإنسان شديد، الله هو الذي خلق الأشياء كلَّها لا يستغني عنه شيء. الإنسان يربّي ابنه وعندما يكبر يستقل عن أبيه، وقد يغدو أقوى من أبيه وقد يغدو أغنى من أبيه، وقد يصبح أبوه بحاجةٍ إليه. الله الذي خلق كلُّ شيء، وكلُّ هذه الأشياء لا تستغني عنه.
 الإمام الرازي له تعريفات أُخرى لاسم الصمد يقول: " الصمد ؛ هو العالم بجميع المعلومات ".. هذه إشارة دقيقة.. فالإنسان إذا نقصته المعلومات ضعف وضعفت قوَّته، فأحد أسباب القوَّة ؛ المعلومات الدقيقة. فالإنسان إن كان يحتلَّ موقعاً قيادياً ؛ إذا كانت معلوماته غير دقيقة، أو ناقصة، أو غير كاملة، يضعف مركزة، فأحد أسباب القوّة ؛ أن لا يغيب عنك شيء.  وهذه صفةٌ لله عزَّ وجلَّ، فالإنسان قد يعلم شيئاً وقد تغيب عنه أشياء.
قل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً  حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
***
 فالله سبحانه وتعالى من معاني اسم الصمد: أنَّه يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء.
 وقيل: الصمد ؛ هو الحكيم.. أولاً: يعلم كلَّ شيء، لكن مع هذا العلم أفعاله فيها حكمة، فالحكمة هي أحد الأدلَّة الكبيرة على وجود الله.. فقد يكون هناك أشياء متراجحة.. فإذا أنت خاطبت إنساناً فهل من الممكن أن ترفع الصوت إلى درجة ليسمع من مئتي متراً ؟ فلا يكون هناك حكمة. أو أن تهمس همساً من على بعد خمسة أمتار بحيث لا يسمعك، فلا بدَّ من أن ترفع الصوت إلى درجة ليصله. فتعيير الصوت بحيث يصل إلى السامع دون أن يتجاوزه كثيراً، ودون أن يقصِّر عنه ؛ هذه هي الحكمة.  فالحكمة ؛ وضع الأشياء في أماكنها. والحكمة ؛ أن تفعل الشيء المناسب، في الوقت المناسب، في القدر المناسب، للشخص المناسب على الشكل المناسب، فالله سبحانه صمد هو حكيم..
 وقال: الصمد ؛ " هو السيِّد الذي عظم سؤدُده "، أي مجدُه.
 وقيل: الصمد.. " هو الخالق للأشياء، فإنَّ كونه سيِّداً يقتضي ذلك".
 تعريفات أُخرى للصمد، فعندما يقرأ الإنسان في صلاته:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾
 هذه المعاني كلُّها ينبغي أن ترد إليه. فالإنسان يتدبَّر في كلام الله عزَّ وجلَّ، ويتأمّل في المعاني الدقيقة التي يقرأها فيخشع قلبه، ويرقى إلى الله عزَّ وجلَّ بهذه المعاني.
 قيل: الصمد ؛ " هو المقصود إليه في الرغائب، المستغاث به عند المصائب ". وقيل: الصمد ؛ " الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ".
 الإنسان يشاء ولا يفعل، لا يستطيع، الله عزَّ وجلَّ وصف ذاته بقوله تعالى، فالإنسان يريد تحقيق قضيّة ما لا يستطيعها.
ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركه  تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ.
***
 أما الله عزَّ وجل:
﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)﴾
(سورة البروج)
 فقد تجد إنساناً يحبَّك ولك عنده مكانة كبيرة، وتلجأُ إليه فيقول لك: والله لا أستطيع كان بإمكاني قبل هذا الوقت. كان هناك شاغراً وظيفيّاً وقد سُدّ هذا الشاغر، كان هناك شخصاً أعرفه نقل من منصبه، على أنَّك أثيرٌ عنده يعجز عن مساعدتك.
 الدين أساساً صلة بالله. التجاء إلى الله. وغير المؤمن يلتجئ إلى إنسان، يعني إمّا أن تكون عبداً لله، أو إمّا أن تكون عبداً لعبد الله. فالله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وما دام يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه إذاً ؛ هو المقصود، هو القوي، هو الغني، هو القهّار.
 وقال بعض العلماء: " الصمد هو الماجد الذي لا يتمُّ أمرٌ إلا به "، وقيل: الصمد.. " الكبير، الذي ليس فوقه أحد ".
 ففي ذات مرَّة سُئِل أحدهم فقالوا له: هناك من أكبر منك ؟ فقال: نعم، والأكبر هناك من هو أكبر منه ؟ وأكبر وأكبر وهكذا.. والله أكبر من الجميع. وأنا مع الله. فالأكبر ؛ هناك من هو أكبر منه. فإن كنت عالماً ؛ فهناك أعلم منك، وإن كنت قوياً، فهناك أقوى. وإن كنت غنياً، فهناك أغنى. أما الكبير الذي ليس فوقه أحد، هو الله ؛ بالقدرة والعلم والغنى، فإذا كنت مع الله، فأنت أقوى الناس، وأنت أغنى الناس، وأنت أعلم الناس.
 وقيل: الصمد.. " الكامل في كلِّ الصفات، فيدخل فيه الكمال في العلم والقدرة والحكمة والغنى ".
 وقيل الصمد.. " الذي يحتاج إليه كلّ أحد، وهو مستغنٍ عن كلِّ أحد ".
 الإنسان الغني يحتاجه الناس، وهو محتاج الناس من أجل أن يأكل، ومن أجل أن ينام، مهما كنت غنياً أنت بحاجة لكلِّ الناس، بحاجة لمن يقدِّم لك رغيف الخبز، بحاجة لمن يمسح لك سيّارتك، بحاجة لمن يمدد لك الكهرباء في البيت، فالغني يحتاجه الناس، ولكنّه في المقابل يحتاج الناس. أما الصمد.. هو الذي يحتاجه كلُّ مخلوق ؛ وهو مستغنٍ عن كلِّ أحد، يحتاجه كلُّ أحد، وهو مستغنٍ عن كلُّ أحد.
 وقيل: الصمد.. " هو الذي تقدَّست ذاته عن إدراك الأبصار والعِيان.. وتنزَّه جلاله عن أن يدخل تحت الشرح والبيان " فالأبصار والحواس لا تستطيع أن تُدركه، هذا الصمد والشرح مهما كان لا يفي بجلاله، وقيل: -كما قلت قبل قليل- الباقي بعد خلقه لا يموت، ولا يورث، هو الذي يرث الأرض ومن عليها، المطلق الأزلي، الأبدي، الذات الكاملة.
 وقيل: الصمد.. " الذي لا ينام، ولا يسهو، ولا يغفو ".
 أحياناً تجد برّاداً -ثمنه عشرون أو ثلاثون مليوناً -ومنقلباً على الطريق، وسبب ذلك أنّ السائق قد نام وهو يقود السيّارة، والنوم سلطان ولكنَّ الله تعالى قال يصف نفسه:
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾
(سورة البقرة)
 وقيل: " إنَّ الصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج، ويقصد إليه في الرغائب "، وقال القشيريّ: " الصمد هو الذي لا يزول أبداً ".
 هذه المعاني كلُّها مما وردت في ثنيّات الكتب التي تحدَّثت عن أسماء الله الحُسنى، أو فسَّرت كلامه جلَّ جلاله، كلُّ هذه المعاني تشير إلى اسم الصمد.
 لله عزَّ وجلَّ وصف نفسه بهذا الاسم ليكون مقصد عباده. أحياناً يسأل الإنسان قوياً، لكن القوي لا يرغب أن يلبّي الحاجة، فقد يحرج لكي يلبّي لك حاجتك، لكن الله عزَّ وجلَّ عندما قال لعباده: يا عبادي، أنا صمد في قوله تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾
 أي اقصدوني، إذاً هناك فرقٌ بين الله جلَّ جلاله،ّ وبين العبد فهو يغضب عليك إن لم تسأله:
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدم حاجةً.. ... وسل الذي أبوابه لا تغلقُ
الله يغضب إن تركت سؤاله  وبُنَيَّ آدم حين يُسأل يغضب
***
 لله قال لك: أنا صمد، أي اسألني، وهذا معنى قول النبيّ الكريم في الحديث الصحيح:
(( عَنِ الأَغَرِّ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ مُذْنِبٍ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ قَالَ نَعَمْ ))
(مسند الإمام أحمد)
 وهنا يقول الإمام الغزالي: الله جلَّ جلاله اختار هذا الاسم لذاته، ليقصده عباده في المهمات في دنياهم وفي دينهم.
يقولون لك: دنيا.. نعم ولكن هناك دنيا ضروريَّة للآخرة ؛ ففي الدعاء الشريف: اللهمّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا.
 وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا: إذا كان الإنسان صحَّته طيِّبة، ومعه مال يكفي حاجاته، وله أهل محصَّن، وله أولاد، فهذه دنيا لكن صالحة، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا.  فالنبي واقعي، وهناك حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
(( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يتزوَّد منهما معاً فإنَّ الأولى مطيَّةٌ للثانية ))
 وقال بعض العارفين: " إنّ من أراد أن يتحلّى بأخلاق الصمد، فليقلل من الأكل والشرب، وليترك فضول الكلام، ويداوم على ذكر الصمد ".
 ألم نقل قبل قليل: الصمد هو الذي يحتاجه كلّ شيء، وهو مستغنٍ عن كلِّ شيء. فكلَّما كان الإنسان شرهاً يريد أن يأكل، وأن يلبس، وأن يسكن، وأن يتزوَّج، وشرهاً للشهوات، ابتعد عن التخلُّق بأخلاق الصمد، لكن يقول أحد الأدباء:
 لي صديق كان من أعظم الناس في عيني
 وكان رأس ما عظَّمه في عيني، صغر الدنيا في عينيه.
 أي أن تتأدَّب بهذا الأدب ؛ تصغر الدنيا في عينيك - فكان خارجاً عن سلطان بطنه.. كيف ؟ قال: لا يشتهي ما لا يجد ولا يُكثر إذا وجد.. كلام معيار دقيق..كان لا يشتهي مالا يجد الأكثر إذا وجد، تجد المؤمن مؤونته خفيفة، وظلَّه خفيفاً، وحاجاته خفيفة. بل إنَّ النبيّ- عليه الصلاة والسلام- وصف الزوجة الصالحة بأنَّها قليلة المؤونة ؛ أي طلباتها قليلة تقنع بالقليل. ففي الحديث:
(( عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مؤونَةً ))
(مسند الإمام أحمد)
 والله أعرف رجالاً كثيرين جداً دمرتهم زوجاتهم. زوجاتهم حملنهم على أكل المال الحرام، وكُشِفوا وسُرِّحوا وعوقبوا وسجنوا ؛ هذا معنى قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ﴾
(سورة التغابن)
 تحمله على كسب المال الحرام. أما الصحابيَّة الجليلة كانت تقف مودعةً زوجها قبل ذهابه إلى عمله وتقول له: يا فلان، اتَّقِ الله بنا فنحن بك، نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام.
 من أراد أن يتحلَّى بأخلاق الصمد فليقلل من الأكل والشرب وليترك فضول الكلام، أي الهذر.. من كثر كلامه كثر خطؤه.. فكان صاحب هذا الأديب خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثر إذا وجد، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة، فلا يتكلَّم بما لا يعلم، ولا يماري فيما علم، وكان لا يُدلي بحُجَّةٍ إلا إذا رأى قاضياً فهماً، وشهوداً عدولاً، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جدَّ الجد فهو الليثُ عادياً.
 فالتخلُّق بأخلاق الصمد.. أن تُقلل تعلُّقك بالدنيا، أن تُقلل تعلُّقك بحوائج الدنيا..قال دخلت امرأة إلى سوق من أرقى الأسواق في بعض المدن، فالأصناف التي فيه لا تُعدُّ ولا تُحصى، قالت هذه المرأة: يا إلهي كم هي الحاجات التي لا يحتاجها الإنسان !!
يقولون لك: فلان فقير، الفقير ساكن في بيت آكلاً وشارباً ولابساً، ولكن مقياس الفقر والغنى -الكماليّات ؛ الأشياء الثانويَّة، فعندما يقنع الإنسان بالقليل يكون غنياً.
 وكنت أقول دائماً: هناك فقر القدر، وهناك فقر الكسل.. فقر الكسل مذموم، لكنَّ فقر القدر مقبول. وهناك غنى البطر، وهناك غنى الكفاية، أسع لغنى الكفاية لا لغنى البطر. وأقبل فقر القدر، وارفض فقر الكسل.. فالفقر الذي أسبابه الكسل ينبغي أن ترفضه ؛ لأنَّ علوَّ الهمَّة من الإيمان. أما الفقر الذي أسبابه القدر ينبغي أن ترضى به ؛ لأنَّ هذه مشيئة الله. إن سعيت إلى المال لا تسعَ إلى غنى الترف والبطر، بل اسعَ إلى غنى الكفاية: اللهمَّ من أحبَّني فاجعل رزقه كفافاً.
ومَنْ تخلَّق بأخلاق الصمد ؛ عليه أن يُكثر من ذكر الصمد. مِنْ أحبَّ السور إلى النبي سورةُ الإخلاص.. وقد ورد في بعض الأحاديث أنّها تعدِل ثُلث القرآن سورة الإخلاص، فنلاحظ في شهر رمضان ترك الإنسان الطعام والشراب تصفو نفسه.
 قال: ومما نستفيد من اسم الصمد ؛ أنَّ المؤمن يعرف جيِّداً أنَّ الله هو الذي يُطعِمُ ولا يُطعَم.. فإذا كان الله وحده هو الذي يُطعم ؛ توجَّه إليه وتوكَّل عليه، ورغب فيما عنده وأيِسَ مما في أيدي الناس.
 من عرف أنَّ الله دائمٌ لا يزول، زهد في حطام الدنيا. كلَّكم يرى رأي العين الإنسان عندما يغتني، كلُّ هذا المال لا يستطيع أن يأخذ منه شيئاً إلى القبر.. فإذا توقَّف القلب قال الطبيب لأهله: لقد انتهى ومات، وعظَّم الله أجركم، فكتبوا النعوات وقاموا بتشييعه، وهذا الميِّت لم يعُد يملك شيئاً من الدنيا، ولا أدقَّ الأشياء ولا أخصَّها، ولا غرفته ولا أثاثه ولا مقتنياته الشخصيَّة، فإذا الإنسان أنَّ الله حيٌّ لا يموت، وأنَّ الله لا يزول، وأنَّ الله باقٍ على الدوام، وأنَّه الباقي بعد فناء خلقه تعلق به وحده لأنه الباقي وغيره فاني.
 موضوع الحوائج.. فلا تتعلَّق بالفاني، ولكن تعلَّق بالباقي. فهناك بيوت جميلةً جداً، وهناك أذواق رفيعة، الإنسان يشتهي أن يسكنها ولكنَّها هل تدوم ؟ لا.. لا تدوم، فلا بُدَّ من أن يخرج منها أُفقيّاً.. مرَّةً واحدة ولا يعود أبداً. والمشكلة أن توازن بين البيت وبين القبر فهناك تجد بوناً شاسعاً. وهذا هو مصير كلّ حي، فإذا الإنسان أنَّ اللهَ صمدٌ، بمعنى أنَّه المقصود، يقصده. وإذا أيقن أنَّ الله هو الصمد بمعنى الباقي، لا يتعلَّقُ بالفاني – وطبعاً هذه الأشياء مهمَّةً جداً في الدرس ـ فالآن التطبيق العملي نتيجة هذه التعريفات.. في عندك باقي عندك فاني، فمن تعلَّق بما سوى الله ؛ فعنده خبزٌ مؤلمٌ جداً ؛ وهو أنه يفارقه لا بدَّ من الفراق.  عش ما شئت فإنَّك ميِّت، وأحبب من شئت فإنَّك مفارق، إن أحببت هذه الزوجة، لا بدَّ من وقتٍ تفارقها أو تفارقك. إذاً كما قال عليه الصلاة والسلام:
((لو كنت متَّخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكرٍ خليلي، ولكن أخٌ وصاحبٌ في الله.))
 الآن الأدب الثالث.. من أدب المؤمن مع هذا الاسم ألا يقصد بحوائجه غير الله، وألا يُعوِّل إلا على الله.
 ألا يقصد إلا الله، وألا يضع الآمال إلا بالله ؛ وهذا معنى الحديث الشريف:
(( لا يخافنَّ العبدُ إلا ذنبه، ولا يرجونَّ إلا ربّه ))
 الاستدلال الرابع: أن يتخلَّق الإنسان بهذا الاسم، فيجعل نفسه مقصوداً من قبل الناس للخير، معيناً لهم على حوائجهم، أي إذا الإنسان فتح بابه، واستقبل أصدقاؤه وإخوانه وأحبابه وأقرباؤه وجيرانه، وقام بحل مشكلاتهم، وأعانهم على حياتهم، ووفَّق بينهم، وزوَّج أعذبهم، وأصلح فيما بينهم، فإذا كان مقصوداً في حوائج الناس فقد تخلَّق بهذا الاسم. ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم لعباده))
 أيَّها الإخوة... الإنسان إذا تفكَّر في خلق السماوات والأرض، يرى جانباً من عظمة الله عزَّ وجلَّ، وقد يرى أسماؤه الحُسنى وصفاتِه الفُضلى، ظاهرةً في الكون، ظهوراً بيِّناً واضحاً، فالله سبحانه وتعالى يحتاجه كلُّ مخلوق، يحتاجه كلّ شيء في كلِّ شيء، إذاً هو المقصود، وهو باقٍ على الدوام. إذاً تعلَّق بالباقي لا بالفاني. وكُلَّما خففت من شهواتك ومتطلِّباتك ورغباتك، اقتربت من خالقك. وكلَّما فتحت بابك للناس لتقضي حوائجهم، تخلَّقت بهذا الاسم.. أربع تطبيقات عمليّة لهذا الاسم الصمد:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾