البر
مع الاسم الواحد والسبعين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم هو اسم البَرّ.. البَرُّ اسمٌ من أسماء الله الحُسنى ورد في الأحاديث الشريفة التي أُدرجت فيها أسماء الله تعالى.
والبرُّ.. هذه الكلمة باؤها مثلَّثة.. ومعنى ذلك أي أنَّ هناك بَرٌ، وبُرٌ، وبِر، فالبُرُّ هو القمح.. والبِرُّ هو الإحسان.. والبَرُّ هو اليابسة في الأصل، أما البَرّ إذا كان إسماً من أسماء الله الحُسنى هو بالفتح، أي فاعل البِرّ، والبِرّ هو الإحسان، أي المحسن فقد قال تعالى:
﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾
(سورة الطور)
أي هو المحسن.
البِرُّ هو الصِلة، والمعروف هو الخير، المبالغة في الإحسان، البَرُّ هو المُحسن، فلان ٌ بارٌ بأبويه إذا كان محسناً لهما، البَرُّ من الخلق من تتوالى منه أعمال البِرّ، فهناك مبالغة فمن تتوالى منه أعمال البِر من الخلق يسمَّى براً، أما إذا كان هذا الإسم منسوباً إلى الله عزَّ وجلَّ فالبرُّ هو مطلق الإحسان.
البِرِّ بالكسر.. الصلة والإحسان، فلان يبَرُّ والديه أي يصلهما بإحسانه، وفلان يبَرُّ رحمه أي يصلهم، والصلة العطاء مع اتصال، عطاء مع زيارة، والله جلَّ جلاله يقول:
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾
(سورة الممتحنة)
هذه الآية أيُّها الإخوة القراء دقيقة المعنى جداً، قد تلتقي في عملك وفي محيطك، وقد تلتقي مع أقربائك بنماذج لا يُناصبونك العِداء، ولا ينكرون عليك تديُّنك، بل إنَّهم أضعف من أن يتمسَّكوا بما أنت عليه، هؤلاء يُقدِّرونك لكنهم ليسوا ملتزمين، لم يصطلحوا مع الله بعد، لم يقبلوا عليه ليسوا ملتزمين لكنَّهم لا يُناصبونك العداء، بل يقدِّرون فيك هذا الاتجاه الطيِّب، هذا التديُّن الصادق، مثل هذه النماذج من الناس فمن الجريمة أن تُسيء إليهم، هؤلاء يقدِّرون منصفون، يتمنَّوْن، وهم غير ملتزمين، فلا تعنِّفهم، لا تناصبهم العِداء بل أمِل قلوبهم نحوك استمل قلوبهم إليك، لقوله تعالى:
﴿ لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾
أن تبَرُّهم أي أن تُحسنوا إليهم، فإذا لم يكن يصلّي ولكنه لا يُعاديك، أنت إن أحسنت إليه حملته على الصلاة، أنت إن أحسنت إليه حملته على حضور مجلس علم، أنت إن أحسنت إليه حملته على الطاعة.
لذلك من الحُمق الشديد أن تجد إنساناً غير ملتزم لكنَّه لا يعاديك ويقدِّر فيك تدُّينك، يكبر فيك استقامتك لكنَّه لم يصطلح بعد مع الله، هذا النموذج ينبغي أن تُحسن إليه، وينبغي أن ترعاه، ينبغي أن تُمِدَّ إليه يد المساعدة، ينبغي أن يرى فيك تواضُعاً، وانفتاحاً وإحساناً لأنَّه قد ورد في الحديث القدسي: أن يا داوود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم فإنَّ النفوس جُبِلت على حبِّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وليثق القارىء الكريم أنّ كثيرا من المؤمنين ممّن هم أرقى مستويات الإيمان سبب إيمانه وإلتفاته إلى الله وإقباله عليه موقفٌ أخلاقي من مؤمنٍ، فإنَّه يوم كان متفلِّتاً وغير ملتزم التقى بمؤمن فأحسن إليه وتلطَّف معه وأكرمه فانشرح قلبه للإيمان.
فقد قرأت قصَّة عن عدَّة فتيات في بلد عربي اشتُهر بالفن، فهؤلاء الفتيات تُبن إلى الله عزَّ وجلَّ وتحجَّبن واصطلحن معه، وشكَّلن مجتمعاً صغيراً واعتزلن الفن، إحدى اللواتي لم تستقمن ولم تصطلح مع الله ولم تتُب بعد تاقت إلى أن تعرف حياة هؤلاء النسوة اللواتي اصطلحن مع الله، فذهبت لزيارتهن.. والنقطة الدقيقة في هذه القصَّة أنَّهنّ رحبن بها واستقبلنها ورأت بأُمِّ عينها مجتمع الصدق والوفاء والحب والاستقامة والطهر والعفاف والالتزام، ولأنَّهُنَّ استقبلنها ورحَّبن بها وأرينها ما هنَّ عليه من تواصل، ومن حب، ومن وئام، ومن مودَّة، ومن عفاف ومن طهر، انضمَّت إليهن، حينما طرقت بابهُن لم تكن ملتزمة، لو رفضنها وطردنها لبقيت شاردةً، بقيت بعيدةً في سكة التيه والضلال.
فأقول وبهذه الدقَّة.. عليك إذا إنسان ليس ملتزماً إطلاقاً أراد أن يزورك أراد أن يلتقي بك، أراد أن يرى على أيِّ شيءٍ أنت، فينبغي أن تفتح له صدرك وأن تُرحِّب به، وينبغي أن يرى من كمالك ومن تواضُعك، ومن كريم خصالك ومن حبِّك له، هذا الموقف الأخلاقي هو الذي سوف يجُرُّه إليك، هذا الموقف المتواضع هو الذي يحمله على التوبة، ورحم الله القائل:
أحسن إلى الناس تستعد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان.
***
أنت لم تكن ملتزماً وقد منَّ الله عليك واصطلحت معه وأقبلت عليه، ألا تُحبُّ أن يكون الخير عاماً ؟ كيف كنت بعيداً عن الالتزام وجاء أُناسٌ تتقرَّب منك وحملوك على طاعة الله، كما فُعِل بك افعل مع غيرِّك، كما ذكَّرك الله ذكِّر غيرك، كما أحسن الله إليك أحسن إلى عباده، كما أنعم الله عليك بنعمة الهدى أنعم على عباده بنعمة الهدى، لا تكن مغلقاً، لا تكن محدوداً، لا تكن متعصِّباً، لا تكن متشنِّجاً من هؤلاء غير الملتزمين، فماذا يحدث لو رأوا منك الكمال.
أبو حنيفة النعمان له جار يغني طيلة الليل، بحيث يعكّر على الإمام ليله، ولا يستطيع أن ينام، ويقول:
أضاعوني وأيُّ فتىً أضاعوا.. ليوم كريهةٍ وطِعانِ خلسِ.
***
أُلقي القبض عليه فذهب أبو حنيفة إلى السجن يشفع له، فلمّا رأى السجَّان أبا حنيفة النعمان بمهابته يأتي ليشفع لجاره فأطلق سراح كلَّ من في السجن إكراماً له، وفي طريق العودة إلى البيت قال: يا فتى هل أضعناك ؟ تقول دائماً أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا فهل أضعناك.. فكان هذا الموقف الأخلاقي سبب توبته.
يروى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان له جارٌ يؤذيه أبلغ الأذى، وفي أحد الأيام انقطع عنه أذاه.. فمعنى ذلك أنَّه مريض.. فذهب إلى عيادته، فكانت هذه العيادة سبب إيمانه وإسلامه واصطلاحه مع الله.
فالبطولة لا أن تكون مكافئاً.. ليس الواصل بالمكافئ، لكنَّ الواصل من إذا قطعه الناس وصلهم، بطولتك لا أن ترُدَّ على زيارةٍ بزيارة، أو هديَّةٍ بهديَّة، أو لقاءٍ بلقاء، أو وليمةٍ بوليمة فليس لك فضل بذلك، أما البطولة أن تبادر، ألم يقل النبيُّ عليه الصلاة والسلام:
(( أمرني ربِّي بتسع.. خشية الله في السرِّ والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أُعطي من حرمني ))
هذا الذي يقرب الناس إليك، وهذه الآية دقيقة دلالتها جداً قال تعالى:
(( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ))
(( أَنْ تَبَرُّوهُم))
أي أن تحسنوا إليهم، وما دمنا في هذا الموضوع أذكر لكم آيةً أخرى يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾
(سورة المائدة)
﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا ﴾
لا تحملَنَّكم عداوة قومٍ.. وأعداؤكم هم الكفَّار.. على ألا تعدلوا معهم.
﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
إن عدلتم معهم قرَّبتموهم إلى الله، وتقرَّبوا منكم، أما إن ظلمتموهم أبعدتموهم عن الله.
فلو أن إنساناً يصلِّي وأساء لنفَّر الناس من دينه، أو إنساناً يصوم وأساء نفَّر الناس من دينه، إنسان يؤدِّي زكاة ماله لو أساء نفَّر الناس من دينه، فأنت إما أن تكون مقرِّبًا، وإما أن تكون منفِّرًا، إما أن تكون جامعًا، وإما أن تكون مفرِّقًا.
وفي سورة آل عمران قال تعالى:
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
(سورة آل عمران)
﴿ الْبِرَّ ﴾
مطلق عطاء الله، إحسانه لكم في الدنيا، إحسانه لكم في الآخرة، سعادةٌ تملأُ القلب، صِحّةٌ تحفظ الإنسان، هيبةٌ تعين الإنسان على معيشته، كلُّ أنواع الخير ينطوي تحت بكلمة البر
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾
أي إذا توهَّمت أنَّ الجنَّة ركعتان تؤدِّيهما ودرهمان تنفقهما وانتهى الأمر عند ذلك الحد وأفعل بعدها ما تريد فأنت مخطىء كل الخطأ.. لا.. إنَّ سلعة الله غالية، إنَّ سلعة الله غالية،إنَّ سلعة الله غالية فاسمع قول الله تعالى:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾
الشيء النفيس، الوقت الثمين، المال الذي جمعته من كدِّك الحلال، الشيءُ الذي بذلت جهداً فيه للوصول إليه، هذا ينبغي أن تُنفقه..
﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
شاهد آخر: الحجُّ المبرور، ونحن لا زلنا في كلمة البِر، والبَر، والبُر.. اسم الله تعالى البَرُّ.. أي المحُسن لأنَّه يعطي البِر ويعين عليه وهو الإحسان، الحجُّ المبرور هو الذي لا يخالطه شيءٌ من المآثم، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ ))
أي حجٌ لم يخالطه إثم، لا رفث، ولا فسوق، ولا جدال في الحج.. والحجُّ المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنَّة فقد قال تعالى:
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ(197) ﴾
(سورة البقرة)
البِر.. التقوى، وهذا من معاني البر فقد قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾
(سورة المائدة)
وقيل البر.. التقوى.. التوسُّع في فعل الخير، وقيل إسمٌ جامعٌ لكلِّ الطاعات، ولكلِّ أعمال الخير المقرِّبة إلى الله، أو إسمٌ جامعٌ لمرضيِّ الخصال.. وهذا شيء دقيق جداً فالتقوى.. إسمٌ جامعٌ لكلِّ الطاعات، إسمٌ جامعٌ لكلِّ القربات، إسمٌ جامعٌ لكلِّ الخصال الفاضلة، إسمٌ جامعٌ لكلِّ الأفعال المرضية.. والبر هو التقوى، وفي قاموس تاج العروس.. البر خيرُ الدنيا والآخرة.
خيرُ الدنيا ما يُيَسِّره الله تعالى للعبد من الهدى والصِّحة وراحة البال والطُمأنينة والرِزق النفسي، وفيها من السرور والسعادة والهيبة، وفيها الزوجة الصالحة والأولاد الأبرار والدخل الحلال.
وخير الآخرة.. الفوز بجنَّة الله وما فيها من النعيم المقيم، النعيم الدائم، ومن حورٍ عين، ومن وِلدانٍ مخَلَّدين، من جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، من فواكهٌ وهم مكرمون، وفيها النظر إلى وجه الله الكريم، والفوز برضوان الله عزَّ وجلَّ الذي هو أكبر من كلِّ شيءٍ في الجنَّة فقد قال تعالى:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) ﴾
(سورة التوبة)
فالبِر اسم جامع لخيريّ الدنيا والآخرة.
النبيُّ عليه الصلاة والسلام حينما قال:
(( عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ إِنَّ الْكَذِبَ لا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلا هَزْلٌ وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً جِدٌّ وَلا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيًّا ثُمَّ لا يُنْجِزُ لَهُ قَالَ وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ لَنَا لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَلا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ))
خير الدنيا والآخرة منطو بكلمة البر.. فقد قال تعالى:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
عليكم بالصدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وأرقى أنواع الصدق أن تكون صادقاً مع الله، ثم يلي ذلك أن تكون صادقاً مع نفسك، ثم يلي ذلك أن تكون صادقاً مع الناس.
أن تكون صادقاً مع الله.. فأنَّك إذا عاهدَّته على التوبة ألا تنتكس بعد التوبة، وإذا عاهدَّته على الطاعة ألا تعصيه بعد العهد، وإذا قبَّلت الحجر الأسود وفاوضَّته وزرفت عنده الدموع، وعاهدته وقتها ألا تعصيه في بلدك، الصدق أن تنفِّذ هذا العهد.
إنَّ الصدق يهدي إلى البر... أي إلى الصلاح، إلى خير الدنيا، إلى خيري الدنيا والآخرة، إلى الخير المطلق.
قال العلماء: زمزم هذا النبع الذي تفضَّل الله به على السيِّدة هاجر وعلى المسلمين من بعد ذلك، يسمَّى هذا النبع برَّةً.. لكثرة منافعها وكثرة مائها وسعة خيراتها.
البَر أبلغ من البار.. نقول مثلاً علاَّمةٌ وعالم، العلاَّمة أبلغ، البر أبلغ من البار وإن كانا بمعنى واحد وهو المحسن، فلو قلنا: فلان بارٌ بوالديه. وأما إذا قلنا: فلان بَرّ أي تتالى بِرُّه، وتوالى إحسانه، وكثر عطاؤه، وكثر خيره وطاب، البر أبلغ من البار.
أما البرُّ في حقِّه تعالى فهو فاعلُ البِرِّ والإحسان، يحسن إلى عباده بالخير، فالله عزَّ وجلَّ لماذا خلق الخلق ؟ خلقهم ليسعدهم، خلقهم ليحسن إليهم، خلقهم ليكرمهم، أصل الخلق إحسان، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: إني والإنس والجنَّ في نبإٍ عظيم.. أخلق ويُعبد غيري، أرزق ويشكر سواي.
مشروع الكون كلِّه هدفه الإحسان فقد قال تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
(سورة هود)
فالبَرُّ.. في حقِّه تعالى أي فاعل البِرِّ والإحسان، يحسن إلى عباده بالخير.
والإمام الغزالي يقول: " البَرّ.. المحسن بالبِرِّ المطلق "، فأحياناً المصيبة إحسان فتجد إنساناً شارداً غافلاً تائهاً ومنحرفاً، والله عزَّ وجلَّ بَرّ أي إحسانه مطلق يسوق له بعض الشدائد ليحمله على التوبة، وإذا حمله على التوبة وتاب إليه قبله وأكرمه، فأحياناً كلُّ مصائب الدنيا تنطوي تحت اسم البَر.
طفل يتيم تُوفِّي والده وله جار محسن، لمحة مرَّةً يسرق فاكهةً من دكان، فأمسك بيده وعنَّفه ووبَّخه وذكَّره بالقيم الأخلاقيَّة وصار يتابعه، إلى أن انضبط هذا الطفل وتابع دراسته وكبرت سنُّه ونجح في حياته، فبقي سنواتٍ عديدة يقول: لولا هذا الإنسان المُحسن الذي أدَّبني ونبَّهني وراقبني وعنَّفني ما كنت فيما أنا عليه.
وكذلك الله سبحانه وتعالى يكشف لعبده المؤمن يوم القيامة عن كلِّ شيءٍ ساقه له في الدنيا من متاعب، لا شكَّ أنَّ هذا الإنسان يذوب من شدَّة الامتنان إلى الله عزَّ وجلَّ.
﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾
لا أريد أن أطيل في هذا الموضوع لكن كل مسلم يعلم لولا أنَّ الله تداركه باللطف، وبالتأديب أحياناً، وبالتخويف أحياناً، أحياناً مرضٌ يبدو أنَّه عُضال، أحياناً فقرٌ مدقع، أحياناً إنسانٌ قاهر يُضَيِّق عليه هذه كلُّها تضيقاتٌ تنطوي على الرحمة ويؤكِّد هذا قول الله عزَّ وجلَّ:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾
(سورة الأنعام)
قيل: البَر.. هو الذي لا يصدر عنه القبيح. وهذا التعريف سلبي، فالبر لا يمكن أن يصدر عنه شيءٌ قبيح.
وقد ذكر الإمام الرازي أقوالاً: " البر.. هو الذي منَّ على المريدين بكشف طريقه وعلى العابدين بفضله وتوفيقه ".
أي أنّ عابداً منَّ الله عليه بقبول العبادة، سالك إلى الله يسَّر له الطريق إلى الله، وأنّ إنسانًا أراد الإحسان مكَّنه من الإحسان، البر المحسن يعطي كُلاً سؤله فقد قال تعالى:
﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)﴾
(سورة الإسراء)
قيل: " البَر.. هو الذي منَّ على السائلين بحسن عطائه، وعلى العابدين بجميل جزائه.
وقيل: " البَر.. الذي لا يقطع الإحسان بسبب العصيان ".
إذا قال العبد: يا ربِّ وهو راكع. قال له الله: لبيك يا عبدي فإذا قال: يا ربِّ وهو ساجد. قال له: لبَّيك يا عبدي. فإذا قال: يا ربِّ وهو عاصٍ. قال الله له: لبَّيك ثم لبَّيك ثم لبَّيك.
وأنت حينما ترى أمًا لها ابنٌ شارد عنها بعيد، ولها أولاد بَررة معها دائماً، كلُّ قلبها مع الشارد، كلُّ تعلُّقها مع الشارد، فإذا عاد هذا الشارد إليها فيوم عودته عيد عندها، لذلك الله عزَّ وجلَّ كما في الحديث الشريف: لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من الضالِّ الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد.
وقيل: " البَر.. هو الذي يحسن إلى السائلين بحسن عطائه، ويتفضَّل على العابدين بجزيل جزائه، لا يقطع الإحسان بسبب العصيان وهو الذي لا يصدر عنه القبيح، وكلُّ فعله مليح ".
مرَّةً ثانية.. البَر هو الله عزَّ وجلَّ، أما البِر هو خير الدنيا والآخرة، لذلك من الأدعية اللطيفة: اللهمَّ اجعل نعم الآخرة متَّصلة بنعم الدنيا، فهناك حالات رائعة جداً.. كإنسان متَّعه الله بالصحَّة، ومتَّعه بالعمر المديد، ومتَّعه بالعمل الصالح، ومتَّعه باليقظة الفكريَّة، ومتَّعه بالحب فلما توفي انتقل إلى الجنَّة، هذه النعم العظيمة في الآخرة اتصلت بنعم الدنيا، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
اسم البَر ورد في القرآن مرَّةً واحدة فجاء في سورة الطور:
﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾
﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ ﴾
هم في الجنَّة الآن ويتحدَّثون عن ربِّهم
﴿ نَدْعُوهُ ﴾
في الدنيا.
﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾
أي بَرٌ رحيمٌ بنا في الدنيا والآخرة.
ورد مشتق هذا الإسم في سورة مريم، في قوله تعالى:
﴿وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً (14)﴾
(سورة مريم)
وفي السورة نفسها ورد على لسان سيدنا عيسى:
﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً (32)﴾
(سورة مريم)
معنى ذلك أنَّ الإنسان إذا أراد الله تأديبه في حياة أمِّه ربَّما كان بعضُّ هذا التأديب لأمِّه. لذلك ورد في الأثر القدسي أنَّه إذا ماتت الأم قال الله سبحانه وتعالى:
(( عبدي ماتت التي كنا نكرمك لأجلها، فاعمل صالحاً نكرمك لأجله.))
أي أنَّ جزءًا من إكرام الله لك في حياة أُمِّك من أجل أُمِّك، لأنَّ الله إذا أدَّب عبده في حياة أُمِّه نصف التأديب لأمِّه.
فأحياناً أباً يتألَّم من ابنه فيدعو عليه، فإذا استجاب الله دعاءه تألَّم ألماً أشدَّ.. فلا تتمنّ ذلك..
﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾
أيُّها القارىء الكريم... شعور الأب حينما يكون ابنه شارداً منحرفاً، شقياً، بعيداً عن الدين شعور أسًى لا يوصف، فقد يتألَّم ألماً يوجعه ويقعده، لو أنَّ الدنيا كلَّها بيديه وانفقها من أجل أن يصلُح ابنه لفعل، فمن رزقه الله ابناً صالحاً، وطاهراً، منيباً، مصلياً، عفيفًا، سلوكه حسن هذا الأب عليه أن يُقبِّل الأرض شكراً لله عزَّ وجلَّ.
سبحان الله فالإنسان كلَّما تذلل إلى الله ارتقى عند الله، فمنذ يومين أخ كريم له مشكلة كبيرة جداً، فلجأ إلى قيام الليل، يصلّي قيام الليل وفي السجود دعا ربَّه لحلِّ هذه المشكلة والقصَّة من أغرب القصص حُلَّت بشكلٍ هيّن ولا عنت فيه، وقد ذكر لي التفاصيل ومن غير المعقول أن تُحلُّ بهذه الطريقة، ومن شدَّة تأثُّره وبينما هو يجلس في المسجد قام وسجد لله عزَّ وجلَّ شكراً.
فالمؤمن إذا أصابه خير، أو له مشكلة حُلَّت، له قضيَّة فُرجت، أو شبح مصيبة أزيح عنه، أو شيء ناله، وقام وصلَّى لله صلاة الشكر وسجد فهذا من مكارم الأخلاق، فقد تأثَّرت.. قام وسجد وشكر الله على حلِّ هذه المشكلة
﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾
ورد هذا الإسم مشتقاً في آيةٍ ثالثة في سورة عبس قال الله تعالى:
﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)﴾
(سورة عبس)
فالبَر أي المحسن، مطلق الإحسان.. يجوز أن تقول فلان بَرٌ سعيد.. فالنبي قال:
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللَّهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ ))
قال العلماء: يجوز أن تقول فلان بَر.. فالعبد يكون براً بقدر ما يفعل من البر، وأفضل إنسان عليك أن تبرُّه أبوك وأمُّك ومن علَّمك ومن زوَّجك، فقد أتألَّم أشدَّ الألم من صهر يناصب عمَّه العِداء، فقد زوَّجك ابنته وربَّاها عشرين سنة، أطعمها وأسقاها وأكرمها وعالجها وأدّبها وقدمها لك هديَّة، فليس لك هماً بعد ذلك إلا إغاظته، فهذا منتهى اللؤم.
لذلك قالوا: أبٌ أنجبك، وأبٌ زوَّجك، وأبٌ دلَّك على الله.
أبٌ أنجبك.. الأب النسبي، وأبٌ زوَّجك.. وهو عمَّك والد زوجتك، وأبٌ دلَّك على الله وهو من أخذ بيدك إلى الهداية، فهذه الزوجة التي عندك في البيت، وهذا أبوها فإن أسأت إليه أسأت إليها، فليس هناك إنسان إلا وهو يحبّ أمَّه وأباه، فإذا أسأت إلى أُمِّها وإلى أبيها أسأت إليها، فإذا أردتَّها أن تموت في حبِّك وأنت تسيء إلى أُمِّها وأبيها فهذا فعل إنسان غبي، واعلم أنّها لن تحبِّك، فإذا أردّت أن تُكافئها على إخلاصها بإخلاصٍ أكرم أبويها.
أُعلِّمه الرماية كلَّ يومٍ فلما اشتدَّ ساعده رماني
وكم علَّمته نظم القوافي.. فلما قال قافيةً هجاني
***
إذا لم يكن في الإنسان خير لأمِّه وأبيه ولمن علَّمه ولمن زوَّجه فليس فيه خير لأحد، لأنَّ هؤلاء لهم فضلٌ كبير.
وقد ذكرت ذات مرَّة مثلاً افتراضيًا والفقرة الأولى فيه واقعيَّة.. شخص يمشي في الطريق رأى حركة داخل كيس أسود في حاوية للقمامة، فأمسك به فإذا بطفل ولد لتوِّه.. وهذه القصَّة وقعت، وهذا الطفل ابن زنى أُلقي في الحاوية.. فأخذه إلى المشفى وعالجه واعتنى به وأحضره إلى بيته، وجعله أحد أفراد أسرته وأدخله المدرسة، فاجتاز المراحل الدراسيَّة من ابتدائي وإعدادي وثانوي فنبغ فأدخله كلِّية الطب، ثم أرسله إلى أمريكا، وجاء بشهادة بورد وزوَّجه ابنته واشترى له عيادة وأعطاه رأس مال، واشترى له جهازها، واشترى له سيَّارة وبيتاً وفي ذات يوم كان عمُّه يمشي في الطريق فرأى صهره يركب مركبته، فقال له: يا فلان أوصلني إلى البيت. إنّ هذا الطبيب اللامع الذي كان داخل كيس أسود في الحاوية لو أنَّه تردد في تلبية طلب عمِّه ثانية واحدة لكان في حقِّه مجرماً.
سيِّدنا عبد الله بن رواحة عندما رأى صاحبيه قد استُشهِدا قال:
يا نفس إلا تُقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتي
إن تفعلي فعلهما رضيتي وإن تولَّيتي فقد شــقيتي.
***
لو حسبنا الوقت الذي قال فيهما البيتين لكان ثلاثين ثانية.. تردد، فلما قال النبي:
(( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قُتل، وإنّي لأرى مقامه في الجنَّة، ثم أخذها أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى مقامه في الجنَّة، ثم سكت.. فقال أصحاب النبي: ما فعل عبد الله ؟ فقال: ثم أخذها عبد الله فقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه.))
درجته نزلت لتردد لعدة ثوانٍ.. ثم مات شهيداً، إحسان الله كبير جداً، فإذا ترددت في خدمة إنسان بإنفاق، أو بصدقة، أو ترددْت بأداء صلاة، أو بحضور مجلس علم فهذه مشكلة كبيرة.
قالوا: من أدب المؤمن مع هذا الإسم العظيم.. أن تكون أعماله كلُّها خيِّرةً، أي يتخلَّق بأخلاق هذا الإسم، إن فعل هذا غُرِست محبَّته في قلوب العباد.
ألوان بِرِّ الله لعباده كثيرة.. قال بعض العارفين: " سبحان ربِّي الحنان المنَّان، الذي منَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، والذي منَّ على المؤمنين بأن جعلهم من أصحاب اليمين، وهو الذي ألهمهم القيام بالأعمال الصالحة، وهو الذي رزقهم القبول، وقبول أحسن ما عملوا، وهو الذي يتجاوز عن سيِّئاتهم".
فالله عزَّ وجلَّ عطاؤه كبير لذلك قيل:
وجدناك مضطّراً فقلنا لك: أدعُنا نُجبك..فهل أنت حقاً دعوتنا ؟
دعوناك للخيرات أعرضّت نائياً فهل تلقى من يحسن لمثلك مثلنا ؟
فيا خجلي منه إذا هو قال لي: أيا عبدنا ما قرأت كتابنا ؟
أما تستحي منّا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عُتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعا ً وتنظر ما به جاء وعدنا
إلى متى أنت باللذات مشغولُ وأنت عن كلِّ ما قدَّمت مسؤولُ
***
قال العلماء: حظُّ العبد من هذا الإسم البَر أن يكون مشتغلاً بأعمال البِر، كما قال العلماء: " تخلَّقوا بأخلاق الله ".
الله عزَّ وجلَّ بَر.. أي محسن، أنت ينبغي أن تشتغل بأعمال البِر، وقد جمع الله أعمال البِر في آيةٍ واحدة في سورة البقرة قال الله تعالى:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾
(سورة البقرة)
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾
لا بدَّ من أن تقتطع من وقتك وقتاً كي تؤمن بالله.
فالجانب الاعتقادي..
﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾
أما الجانب العملي أوَّله البذل..
﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾
أما العبادات الشعائريَّة..
﴿ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾
وأما العبادات الأخلاقيَّة..
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ ﴾
ولعلَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلَّم مستلهما هذه الآية قال:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا وَفِي الْبَاب ))
قال العلماء: من شرط البر أن تبذل الأحسن.. كما قال الله تعالى:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾
وفهمكم أيها القراء الكرام كفاية..
﴿ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾
أحياناً أغلى شيءٍ عليك الوقت ينبغي أن تنفقه في سبيل الله، أحياناً أغلى شيءٍ عليك مكانتك يجب أن توظِّفها في خدمة الحقّ.
أيُّها القارىء الكريم... قال العلماء: من تخلُّق العبد بهذا الاسم أن يكون مشتغلاً بأعمال البِر واستباق الخيرات.. وهناك معنى سلبي.. وألا يضمر الشرَّ لأحد وألا يؤذي أحدًا، فإنَّ البَر هو الذي لا يؤذي.
(( عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبيَّ صلّى الله عليه وسلَّم يقول: البِرُّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديَّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تَدين تُدان ))
أي أنَّ المؤمن معطاء، وغير المؤمن أخَّاذ، المؤمن بالتعبير الحديث اتخذ قرارًا إستراتيجيًا أن يُعطي.. يُعطي من وقته ومن ماله ومن خبرته، والكافر بُنيته مبنيَّة على الأخذ.
لا زلنا في الحديث عن أدب المؤمن مع اسم البَر.. قالوا: المؤمن متى عرف أنَّ الله هو البَرُّ الرحيم ينبغي أن يكون باراً بكلِّ أحد كما يقول الإمام القشيري، لا سيَّما بوالديه لحديث: رضا الربِّ في رضا الوالدين، وسخْطه في سخطهما.
حُكي عن موسى عليه السلام لما كلَّمه ربُّه رأى رجلاً في أعلى مكانةً عند الله فتعجَّب من علوِّ مكانته، فقال: يا رب.. بِمَ بلغ هذا العبد ذاك المكان !؟ فقال: إنَّه كان لا يحسُد عبداً من عبادي على ما آتيته، وكان براً بوالديه.
لأنَّ الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)﴾
(سورة الإسراء)
قالوا: من كان الله باراً به عصم عن المخالفات نفسه، وأدام بفنون اللطائف أُنسه ووفَّر في طريقه اجتهاده، وجعل التوفيق زاده، وجعل قصده سداده، ومنبع سلوكه إرشاده وأغناه عن أشكاله بأفضاله، وحماه عن مخالفته بيمن إقباله.
هذا الإسم متعلِّق بالإحسان، بالحركة، فأحياناً تجد المؤمن له خصائص عقائديَّة، أو خصائص أخلاقيَّة، وكذلك خصائص سلوكيَّة، أي أنَّك حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ماذا فعلت ؟
أنواع البِر لا تُعدُّ ولا تُحصى، فهناك المساكين والفقراء، وهناك العناية بالأيتام والأرامل، وهناك معاونة العجزة، وأيضاً هناك الدعوة إلى الله، والأمرّ بالمعروف، وتعليم العلم وتعلُّم العلم، فأنواع البرّ لا تعد ولا تحصى، فالاسم حركي، أي أنّ هذا الإسم متعلِّق بأعمالك الصالحة، ولا تنس أن حجمك عند الله بحجم أعمالك الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾
(سورة الأحقاف)