الديان
كثيراً ما يقول العلماء في كلِماتِهم: الواحد الدَّيان الذي يدين له الخلق أجْمعون، والدَّيان هو اسم من أسْماء الله الحُسنى وهو زائِدٌ كما تعْلمون عن الأسماء التِّسعة والتِّسْعين كما ورد هذا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
في اللغة الدِّين بِكَسْر الدال ؛ الدَّيْن شيء والدِّين شيءٌ آخر فالدَّين هو الجزاء والمُكافأة والدِّين هو العِبادة والعِبادة خُضوعٌ لله عز وجل غاية الخُضوع مع غاية الحب وكلُّكم يعْلم أنّ في اللغة عِبادٌ وعبيد، العِباد جمْع عبْدِ الشُّكر بينما العبيد جمع عبد القهر وكلُّ إنسانٍ عبدٌ لله عز وجل بِمعنى أنّ ناصِيَتَهُ بيد الله عز وجل وأنَّه مقْهورٌ في وُجودِه وفي اسْتِمرار وُجودِهِ وفي سلامة وُجودِه وفي كمال وُجودِه لله عز وجل ؛ وُجودُهُ مُتَوَقِّفٌ على إمْداد الله له وكذا اسْتِمرار وُجودِه وسلامة وُجودِه مُتَوَقِّفٌ على حِفْظ الله له وكمال وُجودِه مُتَوَقِّفٌ على إكْرام الله له.
إذاً عَبْد القهْر العبْد الذي لا يَمْلِك لأمْرِهِ شيئاً والعبد الذي هو في قَبْضَة الله وأقْرب شاهِد لِهذا الكلام أنَّ نُقْطَةً من الدم إذا تجمَّدَت في أحد أوْعِيَة الدِّماغ انْقَلبَت حياة الإنسان إلى جحيم وصار طريح الفِراش ؛وإذا تجمدت في مكانٍ آخر يَفْقِد ذاكِرَتَهُ ولا يعْرِف أوْلاده وفي مكانٍ ثالث يفْقِد سَمْعَهُ وبصَرَهُ فالإنسان لا يمْلِك شيئاً قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)﴾
(سورة آل عمران)
فهذا عبْد القَهْر فمن هو عبْد الشكر ؟ هو الذي عرف الله ابْتِداءً وعرف منهجَهُ اكْتِساباً وأقْبل عليه شَوْقاً وخضع إلى أمره عبودية هذا عبْد الشكر وعبد الشكر يُجمع على عِباد قال تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63)﴾
(سورة الفرقان)
أما عبد القهر يُجمع على عبيد قال تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
(سورة فصلت)
فالعِباد شيء والعبيد شيء آخر، والدِّين بِكَسر الدال العِبادة ويعني الخُضوع والطاعة والدِّين الطاعة والحِساب قال تعالى:
﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
(سورة الغاشية)
من الذي يُحاسب ؟ هو المقْهور أما القاهِر فلا يُحاسب ؛ المُوظَّف إذا فرغ صنْدوقُهُ يُحاسب لأنّهُ مقْهور ولِماذا الصندوق مكْسور ؛ يُحاسب ويوضَعُ في السِّجن فالذي يُحاسَب مقْهورٌ دائِماً فالدِّين الطاعة والحِساب والقَهْر والدِّين الغَلَبَة والاسْتِعْلاء والدِّين المِلَّة والمذهب تقول: فلانٌ دينُهُ الإسلام ؛ هذا ما ورد في معاجِم اللغة حوْل كلمة الدِّين ؛ الجزاء والمُكافَأة والعِبادة والطاعة والحِساب والقَهْر والغَلَبَة والاسْتِعْلاء والمِلَّة، أما الدَّيان فَهُو اسمٌ من أسْماء الله الحُسنى وقيل هو القهار والحافِظ وهو القاضي:
إذا جار الأمير وحاجِبــاهُ وقاضي الأرض أَسْرَفَ في القضاء
فَوَيْلٌ ثم وَيْلٌ ثمّ ويْــــلٌ لِقاضي الأرض من قاضي السـماء
قال تعالى:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
(سورة البروج)
الإنسان حينما يتوَهَّم أنَّهُ طليق وأنَّهُ يفْعل ما يريد، ففي ثانِيَةٍ واحدة تجده في قبْضَة الله.
الدَّيان صيغَة مُبالَغَة على وزْن فَعَّال وصيغة المُبالَغَة إذا اقْتَرَنَت باسمٍ من أسْماء الله الحُسنى لها معنى خاص وصِيَغُ المبالغة في أسماء الله عز وجل لا تعْني الذي نحن نعْنيه ؛ تقول: بالغ فلان أيْ يعُطي الأشياء حجْما زائِداً وفلان يزيد عن الحقيقة أشْياء كثيرة أما المُبالَغَة في حقِّ الله عز وجلّ التَّعْظيم ؛ التَّعْظيم الكمي والتعْظيم النَّوْعي.
فالدِّيان على وزْن فعَّال شدَّاد قهَّار وغفَّار ومعْنى الدَّيان الدقيق الذي لا يُضَيِّعُ عمَلاً بل يجْزي عليه بِالخير أو الشَّر ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
(( أنَّه ما أحْسن من مُسلمٍ أو كافر إلا وقع أجْرُهُ على الله في الدُّنْيا أم في الآخرة ))
فَأَيُّ عمَلٍ له جزاء ولو كان ابْتِغاء الدنيا فلَهُ جزاء في الدنيا ؛ أيُّ عمَلٍ على الإطْلاقٍ صالِحاً كان أم طالِحاً صغيراً أو كبيراً لو أنَّ الإنسان ترفَّق بِنَمْلةٍ وهو يتوَضَّأ فَنَجاها من الغرق فهذا العمل له جزاؤُهُ ولو رأى قَشَّةً في المسْجد فَحَمَلها ووضَعَها في جَيْبِهِ هذا العَمَل له جزاؤُهُ ولو أنَّهُ قبّل ابْنه فهذا العمل له جزاؤه ولو أنه ذلَّل مُسْتذِلّ فهذا العمل له جزاؤُه ؛ الدَّيان هو الذي لا يُضَيِّعُ عمَلاً قال تعالى:
﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾
(سورة محمد)
البِرّ لا يبْلى والذَّنْب لا يُنسى والدَّيان لا يموت اِعمْل ما شِئت كما تدين تُدان، كنت مرَّةً مع أحد الأصْدِقاء فارْتَكَبَ حادِث سَيْر، خلاصته أنه رجع إلى الوراء دون أنْ ينْتَبِه وكانت وراءه سيارة فَدَخَل في مؤَخِّرِتِها وكسر مصابيحَها وأتْلَف بعض أجْزائِها فَنَزَلَ صاحِب السيارة التي ضُرِبَت فَنَظَر إليه فقال: أنا أُسامِحُك اذْهب وشأْنَكَ ؛ لم أفهْم أنا الذي جرى ! فإذا بي أرى مِن صديقي دمْعَةً تنْحَدِر على خَدَّيْه، فقلت: لعله رجُلٌ مَيْسور الحال سامحك، هلاَّ وفَّرْت على جيبك ألْف ليرة أو ألْفَيْن ؟ فقال: ليس الأمر كذلك بل إنني قبل عامَيْن كنت في بلَدٍ مُجاوِر فصدمت مرْكَبَةٌ سيارَتِي وأصابَتْها بِالعَطَب وكان صاحِب المرْكبة الصادمة رجُلٌ ديِّن وزوْجَتُهُ مُحَجَّبة وكذا بناتُهُ فما أردْت أنْ أُفْسِد عليهم نُزْهَتَهُم فقُلْت له: انْطَلِق أنا أُسامِحُك فذاك العمل لم يضِع ثوابه بل بعد عامَيْن جنيت ثواب ما قدمت، وهو ما رأيته الآن ! وعلى هذا فَقِسْ.
البِرّ لا يبْلى والذَّنْب لا يُنسى والدَّيان لا يموت اعْمل ما شِئت كما تدين تُدان، وما أكْرَمَ شابٌ شَيْخاً لِسِنِّهِ إلا سَخَّر الله له من يُكْرِمُهُ عند سِنِّه فهذا شابٌ وقف بِمَرْكَبَةٍ عامة لِشَيْخٍ كبير قد تدور الأيام وتَمْضي على هذا الحادِث خَمْسون عاماً ولا بد من أنْ يَقِفَ شابٌ بِغايَة الأدب لِهذا الشَّيْخ الذي كان شاباً ويُقَدِّم له آيات التَّبْجيل والاحترام ؛ بل إنَّ القَرْض يُؤَدى وما قَوْلُكم أنَّ الله سُبْحانه وتعالى وَصَف كلَّ عَمَلٍ صالِحٍ على الإطْلاق تِّجاه أيّ مَخْلوقٍ كائِناً مَن كان بِأنَّهُ إقْراضٌ لله عز وجل قال تعالى:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾
(سورة البقرة)
حدَِّثني أخٌ أنّهُ جَهِد في إنْقاذ حياةِ هِرَّةٍ من المَوْت وفي اليوم التالي كاد ابْنُهُ أنْ يسْقُط تحت مَرْكَبَةٍ وتَشْطُرُهُ شَطْرَين لكِنَّ إِنْساناً اندفع من مَحَلٍّ تِجاري فأمسك ابنه وأنْقذه من الحادِث، البِرّ لا يبْلى والذَّنْب لا يُنسى والدَّيان لا يموت اِعْمل ما شِئت كما تدين تُدان حتى قوْله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾
(سورة فصلت)
﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾
هو فعل أمرٌ يُفيد التَّهْديد فَكُلُّ شيءٍ له ثَّمَن وكُلُّ عمَلٍ له جزاء إنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثواباً ولِكُلِّ سيِّئةٍ عِقاباً وما من عَثَرَةٍ ولا اخْتِلاجِ عِرْقٍ ولا خدْشِ عودٍ إلا بِما قدَّمت أيْديكم وما يَعْفو الله عنه أكثر قال تعالى:
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
(سورة الشورى)
لكن نحن نرى حوادِث كثيرة مُتَفَرِّقة لا نعْلم خلْفِياتِها ومُقَدِّماتِها ولا نعْلم الفُصول الأولى من هذه القِصَّة وقد تنْتهي هذه القِصَّة بِحادِث مُؤْلم وبِمُصابٍ كبير أو بِإتْلاف مالٍ وقد تنْتَهي بِتَدْمير إنسان ولكن لو أنَّ لك نَفَساً طويلاً ومُتابَعَةً دقيقةً وتَقَصَّيْتَ أحْوال ما يُصيب الناس لَوَجَدْت العجب العُجاب وَلَوَجَدْتَ يد الله تعْمل في الخَفاء وَلَوَجَدْت يد الله فوق أيْديهم قال تعالى:
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾
(سورة الأنفال)
قال: " الدَّيان في صِفَة الله عز وجل هو المُجازي والذي لا يُضَيِّع عمَلاً بل يَجْزي بالخير والشرّ "، وقيل: " هو فَعَّال من الفعل دانَ الناس يدينهم أيْ قَهَرَهم على الطاعة " وهنا القَهْر قَهْرٌ تَرْبَوي، لو فَرَضْنا: ابن مُشاكِس وأبٌ حازِم وهذا الأب حمَلَ ابْنه على الدِّراسة إلى أنْ صار إنْساناً ذا مَكَانة مَرْموقَة في المُجْتَمَع وهو من رحمة أبيه الشديدة حمل ابنه على طاعته فهذا الحَمْل مُؤَداهُ إلى الخير عِنْدَئذٍ ينْقلب الشعور بِالقهْر إلى شُعورٍ بِالرِّضى والامْتِنان.
دِنْتُهُم فَدانوا ؛ أخْضَعْتُهم فَخَضَعوا وقد جاء في الحديث الشريف وهو من أدق الأحاديث :
(( عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
(رواه ابن ماجة والترمذي)
دان نفْسَهُ أيْ ضَبَطَها وأخْضَعَها وأَلْزَمَها كلمة التقْوى وحمَلَها على طاعة الله وجعلها مُسْتَقيمَةً:
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ثُمَّ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
العاجِز يقول لك: نسْأل الله تعالى أنْ يرْحَمَنا وأنْ يَغْفِر لنا ونحن مُقصِّرون ونحن عبيد إحْسان ولسْنا عبيد امْتِحان ولا تَسَعُنا إلا رحْمة الله عز وجل ؛ يقول هذا وهو كلامٌ حق لكن يُراد به الباطِل ؛ فهو لا يخاف الله ولا يَنْزَجر ولا يأْتَمر بِما أمر الله ولا يحْمِل نفْسَه على طاعة الله ولا يَحْرِص على رِضْوانِه وهو يُطْلق لشهواتِهِ العِنان ويُرْخي لِنَفْسِه الحَبْل ويقول: نحن عبيد إحْسان ولسْنا عبيد امْتِحان وهذا هو العاجِز الذي أتْبَعَ نفْسَه هواها وتمنى على الله الأماني، الكَيِّس من دان نفْسَه والقِصَّة المعْروفة التي ذكَرْتُها لكم كثيراً.
السَّمَكاتُ الثلاث التي رآها أحد الصيادين فقد توَعَّد أنْ يرْجِع مع صديقِه لِيَصْطاد هذه السَمَكات فَسَمِعتْ السمكات قَوْلَهُما قال: هذه السمكات كيِّسَة والثانية أكْيَسُ منها والثالثة عاجِزة أما أكْيَسُهُنّ فإنها ارْتابَتْ وتخَوَّفَتْ وقالت: العاقِل يَحْتاط للأمور قبل وُقوعِها ثمّ إنها لم تُعَرَّج على شيءٍ حتى خَرَجَت من المكان الذي يدْخل منه الماء من النهْر إلى الغَدير فَنَجَتْ وأما الكيِّسَة الأقل عقْلاً وذكاءً فَبَقِيَت في مكانِها حتى عاد الصيادان فذَهَبتْ لِتَخرج من حيث خرجَت صديقَتُها فإذا بِالمَكان قد سُدَّ فقالت: فَرَّطْت وهذه عاقِبَة التفْريط غير أنّ العاقل لا يقْنَط من منافع الرأي ثم إنها تماوَتَت فَطَفَتْ على وَجه الماء فأخذها الصياد ووضَعها على الأرض بين النهر والغدير فَوَثَبَت في النهر فَنَجَتْ وأما العاجِزة فَلَمْ تزَل في إقْبالٍ وإدْبار حتى صيدَتْ وهذه السَّمَكات الثلاث تُمَثِّل ثلاثة نماذِج بشَرِيَّة ؛ إنسان يحتاط للأمور قبل وُقوعِها وإنسانٌ يحتاط لها حين وُقوعِها وإنسانٌ لا يَحْتاط لها لا قبل وُقوعِها ولا حين وُقوعِها ولا بعد وُقوعِها.
قال تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾
(سورة الكهف)
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ فَقَالَ مَا قُلْتَ قَالَ قُلْتُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))
(رواه أحمد)
(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ))
الخُنوع والاستسلام والضَّعْف وعدم السَّعْي وعدم التدْبير وهذا النَّمط الكسول والمُسْتَسْلِم والمُسْتَخْذي هذا النمط يلوم الله عليه:
(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))
لو أنَّ إنساناً أُصيب بِمَرضٍ شديد جداً قبل الامتحان ماذاَ يفْعل ؟ هذا قهْر الله عز وجلّ ولا تقُل حسْبِيَ الله ونِعْم الوكيل إلا إذا غُلِبْت على أمْرك ؛ على الإنسان أنْ يسْعى وليس عليه إدْراك النَّجاح والله أيها الإخوة ؛ هذا الحديث وحْدَهُ لو فَهِمَهُ المُسْلِمون في شتى أقْطارِهم ولو فهِموا أبْعادهُ لَكانوا في حالٍ غير هذا الحال وينْتَفي عندئذٍ عنهم الكَسَل والتَّواكُل والاستسلام والانهزام والخُنوع والخُضوع ؛ هو ليس بِيَدَك شيءٌ وإنما بِيَد الله كلُّ شيءٍ فإذا كنت مع الله كان الله معك وإذا استعنت به أعانك وإن اسْتَنْصَرْتَهُ نصَرك وإنْ اسْتَهْدَيْتَهُ هداك وإن اسْتَرْشَدْتَهُ أرشَدَك وإنْ اسْتَلْهَمْتَهُ ألْهَمَك:
أوحى الله تعالى إلى داود: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات بمن فيها إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأرسخت الهوى من تحت قدميه، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، وغافر له قبل أن يستغفرني.
لذلك قالوا: إذا كان الله معك فَمَن عليك وإذا كان الله عليك فمن معك.
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ))
أكثر الناس الآن يعيشون وقْتَهُم ولحْظَتَهم ويوْمَهُم وساعَتَهم ويُعْطون أنفْسَهُم ما تشْتَهي أما الغد فلا يُفَكِّرون فيه إطْلاقاً ؛ فمِن علامات العاقل الفذ أنَّهُ يعيش الغد ومِن علامات الأقلّ عَقْلاً أنَّهُ يعيش الحاضِر ومن علامات الجاهِل أنَّهُ يتغَنى بِالماضي
ألْهى بني تغْلِبٍ عن كلِّ مكْرُمَةٍ قصيدةٌ قالها عمرو ابن كلثوم
فالجاهِل يتغَنى بِالماضي والأقل عقلاً يعيش لحْظَتَهُ والعاقِل جداً يعيش المُسْتَقْبل.
لذلك هناك من يُخَطِّط لِمُسْتَقْبَلِهِ وهناك من تكون حياتُهُ رُدود فِعْلٍ دائِماً، يكون الفِعْل من خَصْمِهِ ويُفْرض عليه مكان وزمان الفِعْل ومُهِمَّتُهُ ردّ الفِعل ؛ فهو إنسانٌ ضعيف لا يُخَطِّط للمُسْتَقْبل أما المؤمن فإنه يعيش المُسْتَقْبل وساعة فِراق الدنيا وهذه الساعة التي يغْفَل عنها الناس قال تعالى:
﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
(سورة ق)
أما الصحابة الكِرام فقد قال أحدهم: والله لو كُشِف الغِطاء ما ازْدَدَت يقيناً وقال أحد الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله كأني بِأهل الجنة يتنعَّمون وبِأَهل النار يتصايَحون فقال عليه الصلاة والسلام: عبدٌ نوَّرَ الله قلْبَهُ بالإيمان عَرَفْتَ فالزم ؛ فالمؤمن يعيش المُسْتَقْبل والمصير وهذه الساعة التي لابد منها ما نجا منها أحدٌ لا نبِيّ ولا ملِك ولا غنيّ ولا قويّ ولا ضعيف ولا صحيح ولا مريض ولا عاجِز ولا وسيم ولا دميم... ساعة المَوْت المؤمن يسْتَعِدّ لها بِالعَمَل الصالح بِإنفاق عِلْمِه ومالِهِ ووقْتِهِ وعضلاتِهِ وخِبْراتِه وطاقاتِهِ وبِكُل ما يمْلك ؛ يسْتَعِدّ لِهذه اللحْظة كي يكون القبر رَوْضَةٌ من رِياض الجنّة فإن لم يسْتَعِدّ للقبر أصْبح القبر حُفْرَةً من حُفر النار، قال تعالى:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾
(سورة غافر)
في الحديث الشريف أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام دعا على قَوْمٍ فقال: اللهم دِنْهُم كما يدينونا " أيْ اجْزِهِم بِما يُعاملون به من قِبلهم، طبْعاً كلمة: مالك يوم الدين كلمة كبيرة جداً فَيَوْم الدين يومُ الدَّيْنونَة وأسْماء الله الحُسنى كلُّها مُحَقَّقة في الدنيا أما اسم العادِل يُحَقَّق في الدنيا ويبْدو أشَدّ جلاءً في الآخرة ؛ هناك تَسْوِيَة حِسابات وهناك غنيٌّ وفقير وهناك مُسْتَغِلّ ومُسْتَغَلّ ومُحْتالٌ ونصاب وطاغِيَةٍ وظالِم وهناك من يغْتَصِب أمْوال الناس وهناك من يغْتَصِب أعْراضهم ويَحْتال عليهم بِذَكائِهِ أو بِقُوَّتِهِ والمُؤدَّى واحد إما احْتِيالاً أوْ قَهْراً ؛ فهذا الذي أخذ ما ليس له متى سَيُحاسَب ؟.
سَمِعْتُ مرَّةً من أحد الدعاة مثلاً أعْجَبَني ؛ لو أنَّ أحداً كان في مَسْرَحِيَّة - ليس هذا من باب الإقْرار - ثمَّ أُرْخِيَ السِّتار لم تجد أحداً قام من مكانه، لِماذاَ ؟ لأنه ما انتهت المَسْرَحِيَّة فكُلّ بداية لها نِهاية وكُلّ مُقَدِّمة لها نتيجة ؛ وهذا الذي اغْتَصَب وسرق أمْوال الناس بِالباطِل متى توزن له الأعمال ؟ إنها توزن يوم الدِّين ؛ حيث توفى كل نفس ما كسبت، هذا اليوم إذا غَفَلْنا عنه نحن أشْقى الأَشْقِياء، قال تعالى:
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
(سورة الفاتحة)
هناك سؤال وهو أَلَيْسَ الله هو مالك الدنيا ؟ وهل معنى مالك يوم الدِّين أنَّهُ لا يمْلِك الدنيا ؟ الجواب: لا فَهُو تعالى يمْلِك الدنيا والدين والآخرة لكن في الدنيا من يَدَّعي أنَّه مالِكُها فَهُناك من يدَّعي أنَّ الأمر بِيَد فلان وأساساً مُعْظم الذين وقَعوا في الشِّرك الخَفيّ يَرَوْن الناس ولا يرَوْن الله عز وجل ويرَوْن أنَّ الأَقْوِياء بِيَدِهم الحلّ والعَقْد والعطاء والمَنْع والإعْزاز والإذْلال وبِيَدِهم الحياة والموت فيما يبْدو لهم وهناك من يدَّعي أنَّ الأمر بِيَدَه في الحياة الدنيا وهو المُشْرك لكن في الآخرة لا يسْتطيع أحَدٌ أنْ يدَّعي أنَّ الأمر بِيَدِه هناك آيةٌ تُشْبِهُ هذه الآية قال تعالى:
﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾
(سورة الشورى)
بِحَسَب الظاهر إن الأمور صارتْ إلى الله ؛ فَبِيَدِ من كانت ؟ كانت بِيَد الله فما معنى هذه الآية إذاً ؟ في الدنيا الأمر بِيَد الله وحْده وليس لأحد من الأمر شيء إلا أنَّ هناك في الدنيا من يدَّعي من الناس أنَّ الأمر بِيَدِه أما في الآخرة يبْدو الأمر جَلِياً أنَّهُ بِيَد الله عز وجل ولا أحد يدَّعي أنَّ الأمر بِيَدِهِ فَهِي قضِيَّةٌ نِسْبِيَّة.
إذاً مالك يوم الدِّين يومٌ لا يمْلِكُهُ أحدٌ أما أنت في الدنيا قد تجد أنَّ إنساناً قُتِل وآخر قُهِر وذاك أُخذ مالُهُ والقوِيُّ هو الذي أخذ ماله ؛ هناك في الدنيا من يدَّعي أنَّ الأمر بِيَدِه أما في الآخرة لا يسْتطيع أحدٌ أنْ يدَّعي أنَّ الأمر بِيَدِه فهو مالك يوم الدين وهناك قِراءة ملِكِ يوم الدِّين فالمالك هو الذي يمْلك ولا يَحْكم والملِك هو الذي يحْكُم ولا يمْلِك والله ملِكٌ ومالِك يَمْلِك ويحْكُم أنت أحْياناً تنتفع بشيء ولا تمْلِكُ رقَبَتَهُ وقد تمْلِكُ رقبَتَهُ ولا تنْتَفِع به والشيءُ الثالث أنَّك قد تمْلِكُهُ وتنْتَفِعُ به ولا تمْلِكُ مصيرهُ لكنَّ الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين وملك يوم الدين ويمْلِك كلَّ شيءٍ خلْقاً وتَصَرُّفاً ومصيراً.
ابن عباس رضي الله عنه: يفسِّر معنى قول الله عز وجل: مالك يوم الدّين يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حُكماً كَمُلْكِهِم في الدنيا، حيث كانوا يضعون أيديهم على الكثير ويمتلكونه ويوم الدين يوم الحِساب للخلائق وهو يوم الآخرة يدينُهُم بِأعْمالِهم، إنْ خيراً فَخَيْرٌ وإنْ شراً فشَرٌّ إلا من عفا الله عنه.
العلماء يقولون: " تخصيص المُلك بِيَوم الدين لا ينْفي عما عداه " وهذه نُقْطة دقيقة جداً فإذا قلْنا: الله مالك يوم الدّين لا يعْني أنَّهُ لا يَمْلِك الدنيا لكن في هذا اليوْم يتَّضِح لكل إنْسان أنَّهُ تعالى مالك يوم الدين أما في الدنيا فيتَّضِح للمؤمنين فقط أنَّ الله مالك يوم الدين، فما الفرق بين المؤمن والمُشْرِك ؟ المؤمن يرى أنَّ الله وحْده هو الفَعَّال بينما المُشْرِك يرى أنَّ آلِهِةً كثيرةً تفْعل ما تريد.
أَيُّهُما أبْلَغ: أن تقول مالك أم ملك ؟ قال بعْضُهُم إنَّ مالِك أبْلغ في مدْح الخالق من ملِك وملِك أبْلَغُ في مدْح المخلوقين من مالِك فالملِك لا يمْلك لكنَّه يحْكم فهو لا يمْلك سمْعه ولا بصره ولا دِماغَهُ ولا شرايينه ولا دمه ولا قلْبه ولا أمْعاءه فهو لا يمْلك شيئاً لكنَّهُ يحْكم فإذا أردْت أنْ تمْدح إنْساناً فقُل له ملِك أما إنْ أردت أنْ تثني على الله عز وجل فهو تعالى المالك قال تعالى:
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
لذلك الأبلغ في الثناء على الله عز وجل أنْ تقول: مالك يوم الدِّين والأبلغ في مدْح الإنسان أن تقول ملِك، في الحديث الشريف:
((يقْبض الله الأرض يوم القِيامة ويَطْوي السماء بِيَمينه ثم يقول أنا الملِك وأين مُلوك الأرض ))
كان في الأندلس ملِك شهير جداً كان ملِكاً على أكبر مُقاطعة في إسْبانيا اسمُهُ ابن عبَّاد وكان ذا عِزٍّ وشأْنٍ وسُلطان وكان ذات يوم يتمشى في حديقة قصْره فرأى بِرْكَة ماءٍ وقد أثَّرت فيها الرِّيح فَشَكَّلت خُطوطاً مُتعارِضَة وكأنَّها زَرَد فقال هذا الملك وكان شاعِراً: نسَجَ الرِّيح على الماء زرد، فلَما أراد أنْ يُتَمِّمَ البيت ما اسْتطاع وتعَثَّرَتْ به شاعِرِيَّتُهُ وكانت وراءهُ جارِيَة فقالت له:
نسج الرِّيح على الماء زرَد يا له دِرْعاً منيعا لو جمَد
فَأُعْجِب بها وتَزَوَّجَها وأَكْرمها أيَّما إكرام لأنها زوْجة ملِك واشْتَهَت يوْماً أنْ تعيش حياة الجواري كما كانت قبل أن يتزوجها الملك، وأنْ تدوس في الطِّين فجاء لها بِمِسْكٍ وكافور ومزَجَهُما بِماء الوَرْد وجعل من المِسْك والورد طيناً وقال هذا هو الطِّين فَدوسي فيه ثمَّ جاء ملِك من مُلوك إفريقيا اسْمه ابن تاشْفين وغزا إسبانيا ووضَع كلَّ هؤلاء المُلوك في السِّجن مُلوك دُوَل الطوائف والتاريخ يرْوي هذه القِصَّة فهذا الملِك صار سجيناً وصار فقيراً ومُعَذَباً وشَكَتْ بناتُهُ الجوع وزوْجَتُهُ العرِيّ وضاقَتْ به هذه الجارِيَة ذرعاً إلى أنْ صارَت تقسو عليه وقالت له مرَّةً: ما رأَيْتُ منك خيراً قطّ فقال لها ولا يوْم الطِّين فاسْتَحْيَتْ وسكَتَتْ.
لِهذا ورد في بعض الأحاديث أنَّ النِّسْوة غير المؤمنات يَكْفُرْنَ العشير إذا أحْسَنْتَ إلى إحْداهُنّ الدهْر كُلّه ثم رأَتْ منك شيئاً قالت: لم أرَ منك خيراً قطّ ؛ وإنْ قُلْتَ لها كلِمة قاسِيَة لا تنْساها إلى الأبد أما كلُّ الإكْرام تنْساه هذه المرأة ما عرَفَتْ ربَّها وأَيُّما امْرأةٍ لا تشْكر لِزَوْجِها وهي لا تسْتَغْني عنه ترِحْ رائِحة الجنَّة.
(( عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ))
[ سنن الترمذي ]
والنبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( إني أكْره المرأة تخْرج من بيْت زوْجِها تشْتَكي على زوْجِها ومن صِفات المرأة المؤمنة أنَّها سِتِّيرة ))
وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام فيما يرْويه عن ربِّه:
((عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول: " أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك وملك الملوك قلوب الملوك بيدي، وإن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة فساموهم سوء العذاب، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع، أكفكم ملوككم))
وفي القرآن الكريم قال تعالى:
﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)﴾
(سورة البقرة)
فالإنسان يوصَف بِأَنَّهُ ملِك وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلّم:
(( عَنْ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ عَبْد ِالرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا ثُمَّ ضَحِكَ فَقَالَتْ لِمَ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأَخْضَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَثَلُهُمْ مَثَلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ فَضَحِكَ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ أَوْ مِمَّ ذَلِكَ فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَتِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَلَسْتِ مِنَ الآخِرِينَ ))
[ صحيح البخاري ]
هناك سؤال وهو: كيف نقول مالك يوْم الدِّين و يوْم الدِّين لم يأْتِ بعْد ؟ يُجيب الإمام القُرْطبي عن هذا التساؤل فيقُول: اعْلم أنَّ مالك اسم فاعل من ملِك ومن ملَكَ يَمْلِكُ واسم الفاعِل في كلام العرب قد يُضاف إلى ما بعْده بِمَعنى الفِعل المُسْتقْبل ويكون عندهم هذا كلاماً سديداً ومَعْقولاً صحيحاً كَقَوْلِك: هذا ضارِب زيْدٍ غداً أيْ سَيَضْرِبُهُ غداً واللغة العامِّيَة كذلك تُشير إلى هذا المعنى.
إذاً إذا قُلْنا مالِك يوْم الدِّين أيْ الله جلّ جلاله حينما يأتي ذاك اليوم فلا مالِك سِواه، وعلى كلٍّ إنَّ لِكُلِّ سيِّئَةٍ عِقاباً ولِكُلِّ حسنَةٍ ثواباً واعْملوا ما شِئتم فالبِرُّ لا يبْلى والذَّنبُ لا يُنْسى والدَّيانُ لا يموت اِعْمل ما شِئت كما تدينُ تُدان والدَّيان هو الذي لا يُضَيِّع على مخْلوقٍ عملَهُ.
لي صديق يُقيم بِبَلَدٍ عربي له قريبٌ حالُهُ وسَط من حيث التَدَيُّن والأخلاق والاسْتِقامة وله أوْلاد أقَلُّ من الوَسَط من حيث البِرّ وهذا القريب أصيب بِمَرَضٍ قبل وفاتِه فَرَأى الناس من بِرّ أبْنائِهِ به الشيء الذي لا يُصَدَّق فلا هو يسْتَحِقّ هذا البِرّ ولا أولادُهُ في هذا المُسْتوى الراقي ؛ من الذي جعَلَهم يُقْبِلون على خِدْمَتِهِ بِشَكْلٍ لا يوصَف ؟ فهو وسَطٌ في تدَيُّنِه واسْتِقامتِهِ وفي أُبُوَّتِهِ وأوْلادُهُ أقَلّ من الوسَط في أخْلاقِهم وتَدَيُّنِهم أما حينما مرِضَ مرَضاً عُضالاً أقْبلوا على خِدْمَتِهِ إقْبالاً مُنْقَطِع النظير حتى أصْبَحَت خِدْمَتُهُم له مضرب المثل فهذا الصديق بقِيَ أشْهُراً يُحَلِّل هذا الموضوع إذْ يصْعُبُ تفْسيرُه وتفْسير هذه القِصَّة أنَّ هذا المريض كان باراً بِأبيه فبرّه أولاده، البِرّ لا يبْلى والذنب لا يُنسى.
إخواننا الكِرام: كلُّ عمَلٍ له جزاؤُهُ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فَشر الدَّيان هو الذي يدين خلْقه أيْ يُخْضِعُهُم أو يُجازيهم ويكافئهم أو يَحْمِلهم على طاعَتِه أو يُحاسِبُهم فالله سُبحانه وتعالى هو المُحاسِب والشيء الدقيق أنَّ الله تعالى له أوامِر تَكْليفِيَّة وأوامر تَكْوينِيَّة.
وهذا أخٌ كان له أُخْتٌ عانِس ويُبالِغ في إهانَتِها هو وزَوْجته وينفجر أمام أولادِهِ وزوْجَتِه عليها ويؤنبها وهذه الأخت صابرة ليس لها إلا هذا الأخ، وفي إحدى الليالي كانت جالِسَة على الأرض وهو على كُرسي وزوْجَتُهُ إلى جَنْبِهِ فأراد أنْ يشْرب كأس ماء فَرَكَلَ أُخته بِرِجْلِه وقال: ائتني بِكأس ماء، وفي اليوم التالي سافر فوَقَعَ ضحية حادث فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ التي ركل بها أخته من أعلى الفَخِذ، فالله هو الدَّيان وهذا رجل آخر كان يقود مَرْكبة في الطريق فوَجَد كلْباً صغيراً يقْبَع في زاوِية الطريق ففَكَّر هذا السائِق أن يُجَرِّب براعَتَهُ في السِّواقة فقَطَع يدي الكلْب دون أنْ يقْتُلَهُ وأطْلق ضَحْكَةً اسْتِهْزائِيَّة، أقَسَم لي رجل أعْرِفُهُ وهو عندي صادِق وكان يرْكب مع هذا الإنسان أنه في الأسبوع الثاني و في اليوم نفسه من الأسبوع التالي انْفجرت معه عجلة السيارة فأَوْقَفَها على الطريق لِيُصْلِحها ورفع السيارة بِجِهاز الرَّفْع وفَكَّ العجلَة وفي أثناء فكِّ العجَلَة من مكانِها اخْتَلَّ جِهاز الرفْع ووقَعَتْ السيارة على يدَيْهِ عند الرّسغين وإلى أنْ وصَل إلى المُسْتشْفى اسْوَدَّت يداه فاضْطُرَّ الطبيب إلى قَطْعِهِما ؛ هو الدَّيان وهو الواحد الدَّيان والبِرُّ لا يبْلى والذَّنبُ لا يُنْسى والدَّيانُ لا يموت اعْمل ما شِئت كما تدينُ تُدان