الاثنين، 12 مارس 2012

موسوعة الفقه - باب القصاص : تمهيد


 جرائم القصاص : تمهيد


وهي الجنايات التي تقع على النفس أو على ما دونها من جرح أو قطع عضو، وهذه هي أصول المصالح الضرورية التي يجب المحافظة عليها صيانة للناس وحفاظا على حياتهم الاجتماعية.
.المحافظة على النفس:
.كرامة الإنسان:
ان الله سبحانه كرم الإنسان: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وجعله خليفة عنه، وزوده بالقوى والمواهب ليسود الأرض، وليصل إلى أقصى ما قدر له من كمال مادي واترقاء روحي.
ولا يمكن أن يحقق الإنسان أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا توفرت له جميع عناصر النمو، وأخذ حقوقه كاملة.
وفي طليعة هذه الحقوق التي ضمنها الإسلام: حق الحياة، وحق التملك، وحق صيانة العرض، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق التعلم.
وهذه الحقوق، واجبة للانسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن لونه، أو دينه، أو جنسه، أو وطنه، أو مركزه الاجتماعي.
قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «أيها الناس، أن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله، وعرضه».

.حق الحياة:
وأول هذه الحقوق وأولاها بالعناية حق الحياة، وهو حق مقدس لا يحل انتهاك حرمته ولا استباحة حماه.
يقول الله سبحانه: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} والحق الذي تزهق به النفوس.
هو ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله عن ابن مسعود رضي الله عنه: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا}.
ويقول سبحانه: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}.
والله سبحانه جعل عذاب من سن القتل عذابا لم يجعله لاحد من خلقه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: «ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل». رواه البخاري ومسلم.
ومن حرص الإسلام على حماية النفوس أنه هدد من يستحلها بأشد عقوبة.
فيقول الله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}.
فبهذه الآية تقرر أن عقوبة القاتل في الآخرة العذاب الاليم، والخلود المقيم في جهنم، والغضب واللعنة والعذاب العظيم.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا توبة لقاتل مؤمن عمدا.
لأنها آخر ما نزل، ولم ينسخها شئ، وإن كان الجمهور على خلافه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق» رواه ابن ماجه بسند حسن عن البراء.
وروى الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، لاكبهم الله في النار».
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله».
ذلك أن القتل هدم لبناء أراده الله، وسلب لحياة المجني عليه، واعتداء على عصبته الذين يعتزون بوجوده، وينتفعون به، ويحرمون بفقده العون، ويستوي في التحريم قتل المسلم والذمي وقاتل نفسه.
ففي قتل الذمي جاءت الأحاديث مصرحة بوجوب النار لمن قتله.
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهدا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها بوجد من مسيرة أربعين عاما».
وأما قاتل نفسه فالله سبحانه وتعالى يحذر من ذلك فيقول: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}.
ويقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».
وروى البخاري عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار والذي يقتحم يقتحم في النار».
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه: حرمت عليه الجنة». رواه البخاري.
وثبت في الحديث: «من قتل نفسه بشئ عذب به يوم القيامة».
ومن أبلغ ما يتصور في التشنيع على القتلة بالاضافة إلى ما سبق أن الإسلام اعتبر القاتل لفرد من الافراد كالقاتل للافراد جميعا، وهذا أبلغ ما يتصور من التشنيع على ارتكاب هذه الجريمة النكراء.
يقول سبحانه: {أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
ولعظم أمر الدماء وشدة خطورتها، كانت هي أول ما يقضى فيها بين الناس يوم القيامة كما رواه مسلم.
وقد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل انتقاما منه، وزجرا لغيره، وتطهيرا للمجتمع من الجرائم التي يضطرب فيها النظام العام، ويختل معها الأمن.
فقال: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون}.
وهذه العقوبة مقررة في جميع الشرائع الالهية المتقدمة.
ففي الشريعة الموسوية جاء بالفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج: أن من ضرب إنسانا فمات فليقتل قتلا، وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالا فمن قدام مذبحي تأخذه ليقتل، ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا، وإن حصلت أذية فأعط نفسا بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وجرحا بجرح، ورضا برض وفي الشريعة المسيحية يرى البعض أن قتل القاتل لم يكن من مبادئها مستدلين على ذلك بما ورد بالاصحاح الخامس من إنجيل متى من قول عيسى عليه السلام: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له خدك الآخر أيضا.
ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين.
ويرى البعض الآخر أن الشريعة المسيحية عرفت عقوبة الاعدام مستدلا على ذلك بما قاله عيسى عليه السلام: ما جئت لانقض الناموس، وإنما جئت لاتمم.
وقد تأيد هذا النظر بما ورد في القرآن الكريم: {ومصدقا لما بين يدي من التوراة}.
وإلى هذا تشير الآية الكريمة: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص} ولم تفرق الشريعة بين نفس ونفس، فالقصاص حق، سواء أكان المقتول كبيرا أم صغيرا، رجلا أم امرأة.
فلكل حق الحياة، ولا يحل التعرض لحياته بما يفسدها بأي وجه من الوجوه، وحتى في قتل الخطأ، لم يعف الله تعالى القاتل من المسئولية، وأوجب فيه: العتق، والدية، فقال سبحانه: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا}.
وهذه العقوبة المالية إنما أوجبها الإسلام في القتل الخطأ احتراما للنفس حتى لا يتسرب إلى ذهن أحد هوانها، وليحتاط الناس فيما يتصل بالنفوس والدماء، ولتسد ذرائع الفساد، حتى لا يقتل أحد أحدا ويزعم أن القتل كان خطأ.
ومن شدة عناية الإسلام بحماية الأنفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدب الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سبب حقيقي يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت، ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة.

القصاص بين الجاهلية والإسلام:

قام نظام القصاص في العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسئولة عن الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في المجتمعات العامة.
ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في هذه المطالبة توسعا ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه.
وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني عليه شريفا أو سيدا في قومه.
على أن بعض القبائل كثيرا ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي بأنفس الكثير من الابرياء.
فلما جاء الإسلام وضع حدا لهذا النظام الجائر، وأعلن أن الجاني وحده هو المسئول عن جنايته، وهو الذي يؤخذ بجريرته فقال: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يأولي الالباب لعلكم تتقون}.

.إذا اختاروا القصاص دون العفو:
قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لاحدهما طول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وأمرهم أن يتبارأوا انتهى.
والآية تشير إلى ما يأتي:
1- أن الله سبحانه أبطل النظام الجاهلي، وفرض المماثلة والمساواة في القتلى.
فإذا اختاروا القصاص دون العفو، فأرادوا إنفاذه، فإن الحر يقتل إذا قتل حرا، والعبد يقتل إذا قتل عبدا مثله، والمرأة تقتل إذا قتلت امرأة.
قال القرطبي: وهذه الآية جاءت مبينة حكم النوع إذا قتل نوعه فبيتت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الآخر.
فالآية محكمة، وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} إلى آخر الآية.
وبينه النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل اليهودي بالمرأة. قاله مجاهد.
2- فإذا عفا ولي الدم عن الجاني فله أن يطالبه بالدية على أن تكون المطالبة بالمعروف، لا يخالطها عنف ولا غلظة، وعلى القاتل أداء الدية إلى العافي بلا مماطلة ولابخس.
3- وهذا الحكم الذي شرعه الله من جواز القصاص والعفو عنه إلى الدية تيسير من الله ورحمة حيث وسع الأمر في ذلك، فلم يحتم واحدا منهما.
4- فمن اعتدى على الجاني فقتله بعد العفو عنه، فله عذاب أليم، إما بقتله في الدنيا أو عذابه بالنار في الآخرة.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: كان في بني اسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية
{فمن عفي له من أخيه شئ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان. {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} فيما كتب على من كان قبلكم.
5- وقد شرع الله القصاص لأن فيه الحياة العظيمة، والبقاء للناس، فإن القاتل إذا علم أنه سيقتل ارتدع، فأحيا نفسه من جهة، وأحياء من كان يريد قتله من جهة أخرى.
6- وقد أبقى الإسلام جعل الولاية في طلب القصاص لولي المقتول على على ما كان عليه عند العرب.
يقول الله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا}.
والمقصود بالولي هو من له القيام بالدم، وهو الوارث للمقتول، فهو الذي له حق المطالبة دون السلطة الحاكمة، فلو لم يطالب هو بالقصاص فإنه لا يقتص من الجاني.
والسلطان: التسلط على القاتل، وإنما كان ذلك كذلك مخافة أن يصدر العفو من غير رضا منه، وهوالذي اكتوى بنار الجريمة فتثور نفسه ويعمد إلى الاخذ بالثأر، ويتكرر القتل والاجرام.
7- قال صاحب المنار معلقا على هذه الآية: فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع.
فإن من الناس من يبذل المال الكثير لاجل الايقاع بعدوه.
وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة.
ويوطن النفس على قبول حكم المساواة، إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم القصاص في النفس ليس كل اعتداء على النفس بموجب للقصاص، فقد يكون الاعتداء عمدا، وقد يكون شبه عمد، وقد يكون خطأ، وقد يكون غيرذلك.
ومن ثم وجب أن نبين أنواع القتل، ونبين النوع الذي يجب القصاص بمقتضاه.