الأحد، 25 مارس 2012

موسوعة العقيدة - أسماء الله الحسنى : العفو

العفو

 مع الاسم السادس والستين من أسماء الله الحُسنى والاسم هو العفوّ.. وقبل أن نمضي في الحديث عن هذا الاسم العظيم لا بدَّ من وقفةٍ مع موضوعين، موضوع التوبة، وموضوع العفوّ.
 فالله سبحانه وتعالى فتح لعباده باب التوبة، هو يعلم أنَّ عباده يصيبون ويُخطئون، يقبلون ويدبرون، يحسنون ويُسيئون، ذلك لأنَّ الله سبحانه وتعالى ركَّب فيهم الشهوات، وما ركَّب فيهم الشهوات إلا ليرقوا بها إلى الله، لكنَّ هذه الشهوة إن لم يصحبها نورٌ من الله عزَّ وجلَّ ومنهجٌ قويمٌ تهتدي به فإنَّها مدمِّرة، فالشهوات قوةٌ محرِّكة، أو قوةٌ مدمِّرة.
 إذاً لا بدَّ من أن تكون التوبة من أجل أن تُرَمم، ولو تصوَّرنا أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يفتح باب التوبة، وإنسانٌ وقع في إساءة فماذا يفعل ؟ يزدادُ إساءةً، يفجر، لأنَّه أيِسَ من رحمة الله، لهذا يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
(سورة الزمر)
 أعظم ما في هذا الدين أنَّ الإنسان مهما بلغت إساءته، ومهما بلغت ومهما تفاقمت ذنوبه، ومهما شرد عن ربِّه، ومهما انغمس في المعاصي فلمجرِّد أن يقول: يا رب لقد تُبت إليك. يقول الله عزَّ وجلَّ: لبَّيك عبدي وأنا قبلت.
 فباب التوبةُ مفتوح لمن غلبته نفسه، لمن زلَّت قدمه، لمن طُمِست بصيرته، لم آثر الشهوة فباب التوبة مفتوح.. ماذا يُكمِّل فكرة أنَّ هذا الباب مفتوح ؟ يكمّلها أنَّ الله عفوّ.. لولا انَّه عفوّ ما فتح باب التوبة.
 أيُّها الإخوة القراء في القرآن آيةٍ كريمةٍ تتحدَّث عن التوبة.. يقول الله تعالى:
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)﴾
(سورة النساء)
 الأكمل والأولى والأصح والأصوب أنَّه لمجرَّد أن وقع الإنسان في ذنب أن يتوب فوراً إلى الله عزَّ وجلَّ:
﴿ مِنْ قَرِيبٍ ﴾
 فكلَّما قلَّت المسافة الزمنيَّة بين الذنب والتوبة كلَّما كانت التوبة أسهل، وكلَّما جهِل الإنسان أنَّ هذا ذنب كانت التوبة أسهل، فإذا علم أنَّه ذنب وفعله، ثم إذا فعله تراخى عن أن يتوب كانت التوبة أصعب، التوبة تسهُل إذا ضاقت المسافة الزمنيَّة بين الذنب، وبين التوبة، وتسهُل إذا رافقها جهل، قال الله تعالى:
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)﴾
(سورة ا لأنعام)
 لأنَّ الله عفوُّ كريم فتح لعباده باب التوبة، فالإنسان ليس له عذر في التراخي عن توبته فمهما ارتكب من ذنوب فقد قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً (48)﴾
(سورة النساء)
 يغفر كلُّ الذنوب دون الشرك بالله:
﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك ﴾
وقد قال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
 ولا يعرف قيمة التوبة إلا من ذاق طعم التوبة، حينما يتوب إلى الله يشعر إنَّ الله قبله، وأنَّ الله أنسى حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلَّها خطاياه وذنوبه.
 وبعد فإن اسم العفوّ ماذا يعني في اللغة ؟ العفوّ اسم من أسماء الله الحُسنى ورد في الأحاديث الصحيحة التي ذكَّر فيها النبيّ عليه الصلاة والسلام أصحابه بأسماء الله الحسنى، ومن هذه الأسماء اسم العفوّ.. العفوُّ مشتق من العَفْو، فالعفوُّ اسم من أسماء الله الحُسنى، والمصدر هو العَفْو، ومعنى المصدر في المعاجم اللغويَّة: القصدُ لتناولِ الشيء.
 العفْو.. القصدُ لتناول الشيء. يُقال: عافاهُ.. و اعتفاهُ، أي قصده.. العافون القاصدون، القاصدون باب الكريم يقال لهم عافون، ورد هذا في الأشعار وفي لغة العرب. هذا معنى العافون أي القاصدون العطاء.
 والمعنى الثاني.. هذا من عفو مالي: أي من حلاله وأطيبه، عفو المال حلاله وطيِّبه
والمعنى الثالث.. أعطيته عفواً.. من غير سؤال.
 والمنى الرابع.. عفا مال فلان.. أي كثُر.
 والمعنى الخامس.. العافي هو الذي يمحو ويزيل.
 خمسة معانٍ للعفو.. القصدُ، عفو المال حلاله، أعطيته عفواً من غير سؤال، عفا مال فلان أي زاد وكثُر، العافي هو الذي يمحو ويزيل، ومنه قولهم: عفت الرياح الآثار إذا محتها وأزالتها.. العفوُّ محو الذنوب، وفي الدعاء: اللهمَّ إنّي أسألك العفو والعافية. أي ترك العقوبة والسلامة.
 وبالطبع البحث المنهجي في أسماء الله الحُسنى يقتضي أن نفهم المعنى اللغوي أصلاً، وفي قاموس تاج العروس العفوُّ أقلُّ من الصفحِ، لأنَّ الصفح أبلغ من العفوِّ، والصفحُ لا تأنيب معه، قد أعفو عن إنسان وأُؤنِّبه. فقد يعفو إنسان ولا يصفح.
 الإمام الغزاليُّ رحمه الله تعالى يقول:" العفّوُّ منه العفوُّ ".. والآن قد دخلنا باسم الله الأعظم.. العفوُّ هو الذي يمحو السيِّئات.
 أحياناً يكون للإنسان في جهة من الجهات صحيفة مسجلَّة فيها سيِّئاته وسلبياته فإذا أُحرِقت، أو شُطبت، أو طُويت، أو أهمِلت، انتهى الأمر وغدا أبيض الحائف، العفوُّ هو الذي يمحو السيِّئات لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( إذا تاب العبدُ توبةً نصوحا، أنسى الله حافظيه، والملائكة، وبقاع الأرض كلُّها خطاياه وذنوبه ))
 لذلك فالمؤمن الصادق يُحدِثُ عند كلِّ ذنبٍ توبةً، وكلَّما ارتقى الإنسان تقِلُّ ذنوبه عدداً وتقلُّ حجماً، فإذا ارتقى أكثر يكادُ يبتعِدُ عن مقارفة الذنوب كلّيّة إلا ما كان عن غير قصدٍ أو عن زلةٍ لم تكن متعمَّدة.
 العفوُّ هو الذي يمحو السيِّئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريبٌ من اسم الغفور ولكنَّه أبلغ منه، فإنَّ الغُفران ينبئ عن الشرّ، بينما العفو ينبئ عن المحو.. وجدت مشكلة فغفرت ولم يعاقب الله عزَّ وجلَّ عليها، هو غفور، أما عفوُّ أبلغ من المغفرة فقد أنساها لصاحبها، ومحاها من ذاكرته، محاها من صحائفه.
 المغفرة.. ذنبٌ وقعت فيه لكن ربُّنا سبحانه وتعالى لم يُعاقبك عليه لأنَّه غفور، أما العفو.. أبلغ من الغفور، فهذا الذنب لعلَّه يؤلِمك، لعلَّك إذا تذكَّرته تستحي من الله، لعلَّه يُقلقك.. العفوُّ محا هذا الذنب كُليّةً من صفحة نفسك. فلو أنّ صحيفة مليئة بالذنوب وكلّ ذنب له عِقاب، نكتب في أسفلها: صاحب هذه الذنوب لا يُعاقب.. ونوقع في أسفلها، فمن بعد إما أن نأخذ هذه الصحيفة ونمزِّقها ونُلغي وجودها، هذا عفو، فالمغفرة ألا تعاقب على ذنب، أما العفو أن يُمحى هذا الذنب من صفحة نفسك ومن ذاكرتك، فسيِّدنا يوسف عندما التقى بإخوته الذين كادوا له حينما كان صغيراً، وألقوه في غيابة الجبّ وأرادوا له أن يموت، فعندما التقى بهم ماذا قال ؟
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)﴾
(سورة يوسف)
 هذه مغفرة.. لكن عندما قال الله عز وجل:
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾
(سورة يوسف)
﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ ﴾
 ولم يقل من الجبِّ، الآن هل غفر لهم أم عفا ؟ لقد عفا.. لأنَّه ما أراد أن يُذكِّرهم بعمله، فقد تجاهل عملهم كليّةً، لو ذكَّرهم بعمله ولم يُعاقبهم لكان غفوراً، لكنه لم يذكِّرهم بعملهم إطلاقاً، وهذا من فضل الله عزَّ وجلَّ هو عفوٌ وغفور.
 الإمام الرازي يرى أنَّ العفوَ له معنيان.. " المعنى الأول هو المحو والإزالة ".. عفت الديار إذا درست، فقد كان العرب ينصبون خيامهم في الصحراء، وهذه الخيمة يحفرون حولها خندقاً لئلا يدخل الماء إليها إذا هطلت الأمطار، ويسمّون هذا الخندق النُؤي، فإذا ارتحل العرب من مكان إلى مكان بقيت آثار الديار على شكل مستطيلات، ودوائر، ترمز إلى الخنادق التي حُفرت حول الخيام، بعد حين تأتي الرياح فتعفوها أي تمحو آثارها.. وهذا هو أصل معنى العفوّ.
 فالمعنى الأول هو المحوِ والإزالة.. يقال عفت الديار إذا دَرَسَت وانطمست معالمها، وذهبت آثارُها.. وعلى هذا فالعفو في حقِّ الله تعالى عبارةٌ عن إزالة آثار الذنوب، آثار الذنوب أي تذكُّرها، وتذكُّر الذنب يحجب عن الرب لو أنَّ الله لم يُعاقب، لكن لمجرَّد أن تذكر ذنبك تستحي من ربِّك، فمن أسماء الله الحُسنى أنَّه عفو يُنسيك هذا الذنب، وهذه من رحمة الله بنا.
 فهل هناك أحد لم يقُل كلمةً غير مناسبة طوال حياته ؟ يقول لك: ظللت أسبوعاً كلَّما ذكرت هذه الكلمة ذبتُ خجلاً.. وبعد ذلك نسيها، فلو أنّها بقيت ماثلةً أمامه لأهلكت صاحبها، فمن رحمة الله بنا أننا ننسى، والنسيان رحمة كبيرة جداً، فأحياناً يقف موقفًا حرجًا ويتكلَّم كلمةً غير لائقة، أو يسمع كلمة قاسية، جارحة فيقول لك: لم أنم الليل.. فكم ليلةً لم ينم الليل ؟ ليلةً واحدة فقط، وفي الليلة الثانية تذكَّرها ولكنَّه نام، وفي الليلة الثالثة نسيها، وبعد أسبوع نسيَها تماماً.
 لو إنَّ المواقف الحرجة، والكلمات الجارحة، والمواقف المهينة التي ساقها الله للإنسان رحمةً به لا ينساها أبداً لأهلكتهُ، لكن الله عزَّ وجلَّ يُنسي، فالنسيان من العفوّ ومن دلائل عفوه أنَّه يُنسيك هذا الذنب، ولعلَّ فناء الإنسان في القبر ومع هذا الفناء يفنى دماغه، ومع فناء الدماغ تفنى ذاكرته، ومع فناء الذاكرة ينسى ذنوبه، فإذا أحياه الله يوم القيامة يُحي نفساً طاهرةً مشرِقةً محبةً طائعةً لله، فالماضي الذي سبق إيمانه وسبق اصطلاحه مع الله يصبح نسيًا منْسيًّا.
 وقد دخلنا الآن في موضوع دقيق.. فالإنسان كانت له في الدنيا جاهليَّة ثم تاب إلى الله توبةً نصوحا، أعماله في جاهليَّته فمع أنَّه تاب منها توبةً نصوحا وغفرها الله له وأنساه إيَّاها لكنَّه إذا ذكرها يتألَّم أشدَّ الألم، أما حينما يموت المؤمن تائبًا وتفنى ذاكرته، ومع فناء ذاكرته فنيت ذنوبه أصلاً فلم يعد لها وجود، فقلب المؤمن طاهر، نفسه التي بين جنبيه طاهرة منيبة ومستقيمة ومقبلة، أما الذاكرة فقد فنيت وفنيت معها الذنوب، فيأتي يوم القيامة ولأنَّه مات تائباً لا يُذكِّره الله بذنوبه إطلاقاً.
 فقد يقول أحدهم عن نفسه إنَّه تائب منذ عشر سنوات، أو من عشرين سنة وأنا سائراً في طريق الإيمان، لكن قبل عشرين سنة لعلَّه أخطأ، أو زلَّت قدمه، فهذا الماضي في الدنيا تذكره، ولكن في يوم القيامة إن كنت قد تبْت فلا تذكره أبداً وهذا من رحمة الله بالإنسان.
 لذلك العفو في حقِّ الله تعالى إزالة آثار الذنوب بالكليَّة، فيمحوها الله من ديوان الكِرام الكاتبين، فلو فرضنا أنّ إنسانًا له صحيفة أعمال سوداء، ومن يشرف على هذه الصحائف أراد أن يُكرِمه فماذا يفعل ؟ يأتي بهذه الإضبارة فيحرقها أمامه، فلم يبقَ أصل لهذه الذنوب فقد انتهت إلى فناء، وهذا للتقريب.
 فالله سبحانه وتعالى يمحو ذنوب العبد التائب من ديوان الكِرام الكاتبين أي الملائكة الذين يكتبون، ولا يُطالبه بها يوم القيامة، ويُنسيهم إياها حتى من جذر قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكُّرها، ويُثبِّت مكان كلِّ سيِّئةٍ حسنة قال تعالى:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)﴾
(سورة الفرقان)
 يجب أن نستفيد، وأن نسعد بهذا الاسم العظيم.
 المعنى الثاني في حقِّ الله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾
(سورة البقرة)
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ ﴾
 العفوَ أي الفضل، فالله عزَّ وجلَّ يمحو ذنوب عباده ويتفضَّل عليهم بفضله، هذا أسموه التخلية والتحلية، التطهير والتعطير، العفو والرحمة، يمحو ويُكرم، يطهِّر ويعطِّر، يشفي ويزكِّي.. إذاً معنى العفو معنيان ؛ معنى سلبي، ومعنى إيجابي، السلبي المحو، والإيجابي العطاء.
 أحياناً يغسل الإنسان كأساً لها رائحة كريهة مثلاً، أو بقايا طعام، أو بقايا شراب، فإن غسلها بشكلٍ جيد وبعد أن غسلها ملأها شراباً طيباً فهذا من معاني العفو.. فالعفو لا يعني أنه محى الذنوب، وستر العيوب فقط، لا.. بل أعطاك من فضله ما شاء فوق ما محا، هذا معنى جديد للعفو أي عفا محى، وعفا أعطى، هذا من عفوِ مالي.. أي من حلالهِ وطيِّبهِ، أعطيته عفواً.. أي من دون سؤال، فمن معاني العفو العطاء، والمعنى السلبي المحو، والمعنى الإيجابي العطاء.
 وقال بعضهم " العفو هو أن تزول عن النفوس ظلمة الزلاَّت برحمته، و وحشة الغفلات عن القلوب بكرامته "، وقيل "العفو الذي أزال الذنوب من الصحائف، وأبدل الوحشة بفنون اللطائف ".. إزالة، وعطاء.
 الإمام القشيري يقول: " العفوُّ هو الذي يمحو آثار الذنوب، ويُزيلها بريح المغفرة، فهو يمحو الذنوب من ديوان الحفظة حتى إنّه يُنسيها من قلوبهم ومن قلوب المذنبين.. أو هو الذي يترك المؤاخذة على الذنوب ولا يُذكِّر بالعيوب ".
 هذه كلُّها من معاني العفو.. فما عليك إلا أن تقول يا رب لقد تُبت إليك.. وقد ورد أنَّه إذا قال العبد: يا ربِّ وهو راكع. قال الله: لبَّيك يا عبدي. وإذا قال العبد: يا ربِّ وهو ساجد. قال: لبَّيك يا عبدي فإذا قال العبد وهو عاصٍ: يا ربِّ تبتُ إليك وأنا عاصٍ. قال: لبيِّكَ ثم لبَّيك ثم لبَّيك.
 فلتوضيح الفكرة.. الأب إن كان عنده أولاد أبرار طائعون وواحد منهم كان شارداً وعاقًا، ففرح الأب برجوع ابنه إليه وتوبته إليه أضعاف مضاعفة عن فرحه بهؤلاء الأبرار، لأنَّهم سلكوا الطريق الصحيح وانتهى الأمر إلى خير، أما هذا الشارد فيتألَّم الأب له أشدَّ الألم، فإذا عاد فرح الأب بعودته، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد ))
 اسم العفوُّ ورد في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة تزيد عن تسعٍ وثلاثين آية.. ومن هذه الآيات قال تعالى:
﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (99)﴾
(سورة النساء)
 كلمة:
﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾
 أو كان الله عليماً حكيما. هذه الكينونة تفيد أنَّ أسماء الله الحسنى قديمةٌ قدم الله عزَّ وجلَّ، منذ أن كان الله كان عفواً غفورا.. منذ أن كان الله كان عليماً حكيما.. منذ أن كان الله كان على كلِّ شيءٍ قديرا، أي أنَّ أسماءه متلازمةٌ مع وجوده.
 وقال تعالى:
﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (149)﴾
(سورة النساء)
 طبعاً المقولة الثابتة: تخلَّقوا بأخلاق الله. فإذا كان الله عفواً ينبغي أن تكون أنت عفواً، إذا كان الله حليماً ينبغي أن تكون أنت حليماً فقال تعالى:
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾
 أي أنت ما تقرَّبت إلى الله بمثل أن تتخلَّق بأخلاق الله، وقد ورد في الأثر:
(( أن تخلَّقوا بأخلاق الله.))
 وفي سورة الحجّ قال تعالى:
﴿ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)﴾
(سورة الحج)
 أي حينما يُظلم الإنسان. وفي سورة المجادلة قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)﴾
(سورة المجادلة)
 أيُّها الإخوة القراء... هل أدركتم حكمة تلازم اسم العفوّ مع الغفور كثيرا ؟ الغفور لم يعاقبك، أما العفوّ أنساك الذنب كلَّه، وهذا منتهى الإكرام.
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾
 قال العلماء: ورد اسم العفو مع اسم الغفور وورد مع اسم القدير، ولله المثل الأعلى فالإنسان أحياناً لا يستطيع أن يعفو، فهناك من هو أقوى منه يحاسبه ويؤاخذه، فإن كان هناك من لا يستطيع أن يعفو، فإنّ الله عزَّ وجلَّ قال فإن الله كان عفوًّا قديرًا.. أي قدير أن يعفو عنك كلَّ الذنوب، فقد قال تعالى:
﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾
 ولذلك ورد في قوله تعالى على لسان سيِّدنا عيسى:
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)﴾
(سورة المائدة)
 فالعزيز.. أي أنَّك لو غفرت لهم فلا تستطيع أية جهة في الكون أن تسأل لما غفرت لهم ؟ لأنَّ الله سبحانه وتعالى إلهٌ عظيم ومن شأن الإله العظيم ألا يُسأل عما يفعل، فالله وحده قديرٌ أن يعفو عنك دون أن يُسأل.
 وهناك نقطةٌ بالغة الأهميَّة في طريق الإيمان، يقول لك إنسان أحياناً أنا قد تبت إلى الله من هذا الذنب، لكن عندما تكون هناك توبة عقب توبة ويعقبها توبة للذنب نفسه، فتضعف ثقة الإنسان بنفسه، وربما وقعت بينه وبين الله جفوة، والإنسان حكيم نفسه فإذا وقع انهدام بينه وبين الله، أو جفوةٌ بينه وبين الله فما العمل ؟ دققوا النظر فيما سأقوله:
 إنسان ارتكب إساءة في حقِّ إنسان، فما دامت هذه الإساءة قد ارتكبها ولم يستسمح هي حجابٌ بينه وبين هذا الإنسان، لو أنَّه قدَّم له هديَّةً ثمينة ففي الأعم الأغلب أنَّ هذه الهديَّة تُنسي الذي أساء إليه تلك الإساءة، فماذا حدث ؟ حدث ترميم وجبر، وإعادة توازن، وإعادة علاقات، وحدث محو.. وهذا معنى مهم جداً ويحتاجه كلُّ مؤمن.
 قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ))
 السيِّئة هل ينبغي أن نتوب منها أم نتبعها بحسنة ؟ فأحياناً الإنسان يقع في الذنب نفسه مرَّةً أو مرتين، ففي المرَّة الثانية يخجل ولو تاب، فما الذي يُذهب عنه الخجل ؟ أن يُتبعها بحسنة. فعوِّدوا أنفسكم أيها المؤمنون أنَّ كلَّ ذنب وقعت فيه عن غير قصدٍ بإمكانك أن تتبعه بعملٍ صالح، وهذا العمل الصالح يُنسي صاحبه هذا الذنب، واعتقد أنّ العمل الصالح الذي قام به سيفرحه.
 فإذا الإنسان عند الحج أحرم بعمرةٍ ثم تمتَّع إلى الحج، فعليه هديِّ جبرٍ، أما إذا جمع بين الحج والعمرة قارناً فعليه دم شُكرٍ، لأنَّ الله قد قوّاه ومكَّنه أن يعتمر ويتابع إحرامه إلى الحجّ ثم يحُجّ، وهذا قارن وعليه دم شكرٍ، أما إذا اعتمر ثمَّ تحلل من عمرته ولبس الثياب المخيطة وتعطَّر وأكل وشرب وحلق رأسه واغتسل وقصَّ شعره وأظافره، وفي اليوم الثامن من ذي الحِجَّة أحرم بالحجّ، يقال له هذا متمتِّع، والمتمتِّع عليه هديٌ، هديُ جبرٍ.. و القارن عليه هدي شُكرٍ.. وسائر الكفَّارات في الإسلام هدفها أنَّ هذا الشرخ الذي وقع، وهذه الهوَّة، واختلال التوازن الذي وقع يرمم بهذه الصدقة.
 وقد ورد أنَّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى ألزم نفسه أن يتصدَّق بدينار ذهبٍ عن كلِّ يمينٍ يحلفها صادقاً بها، لأنَّ الله تعالى يقول:
﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾
 في قوله تعالى:
﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)﴾
(سورة المائدة)
 فأهم شيء في هذا البحث أنَّ الله عزَّ وجلَّ عفوّ، وغفور، فالغفور لا يُعاقب.. والعفو يُنسي الذنوب لكنّك أنت حينما تزلُّ القدم بك مرةً أو مرّتين في الذنب نفسه ينشأ بينك وبين الله حجاب، وهذا الحجاب ما الذي يَهتكه ؟ العمل الصالح.. فعوِّد نفسك أن تعمل العمل الصالح كلَّما غفلت، أو أخطأت، أو تسرَّعت، أو تكلَّمت كلمةً، أو فعلت شيئاً لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ.
 لذلك قال تعالى:
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)﴾
(سورة هود)
 وقال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سِتَّةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اعْقِلْ يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أَقُولُ لَكَ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ قَالَ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلانِيَتِهِ وَإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ وَلا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وَإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ وَلا تَقْبِضْ أَمَانَةً وَلا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ))
 وفي الحديث الشريف:
(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِي اللَّه عَنْهم يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ حِينَ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ ثُمَّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مثل هَذَا الْقَيْظِ عَامَ الأَوَّلِ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى ))
 وكان سيِّدنا عمر رضي الله عنه إذا أصابته مصيبةٌ كان يقول: الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكُن في ديني، والحمد لله إذ لم تكُن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلهمتُ الصبر عليها.
 وبعد هذا الشرح الواضح فمن التخلُّق بأخلاق العفو.. أن تعفو عمن ظلمك، وأن تُعطي من حرمك، وأن تصل من قطعك، هذه أخلاق المؤمنين فقد قال تعالى:
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾
(سورة فصلت)
 سيِّدنا الصديق... إنسان افترى على ابنته السيِّدة عائشة رضي الله عنها كذباً وروَّج أنَّ ابنته زانية في حديث الإفك.. فهل هناك إساءةً أشدَّ من أن يُسيء الإنسان إلى عِرض أخيه وهي بريئةٌ وطاهرةٌ وعفيفة ؟ ومع ذلك مسطح روَّج هذه القصَّة وأشاعها في المدينة وتأخَّر الوحي في تبرئة السيِّدة عائشة ثلاثين يوماً والنبيُّ عليه الصلاة والسلام لا يدري ماذا يفعل، وسيِّدنا الصديق كان يُحسن لهذا الإنسان، فلمَّا وقع في هذه الإساءة الكبيرة الإجراميَّة نوى أن يَكُف عن الإحسان إليه فجاء قول الله تعالى:
﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)﴾
(سورة النور)
 فقد ورد في الأثر أنَّ الصدّيق عليه رضوان الله عليه:
(( عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ ﴾ لْعَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ﴾ الآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا ))
 وعاد إلى ما كان عليه وهذا شيء فوق طاقة البشر.. إنسان روَّج عن ابنته الخبر السيِّء وأرجف في المدينة، ثم يُعاتبه الله لماذا كفَّ عن مساعدته ؟ هكذا أخلاق المؤمنين... وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
 الحقيقة أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يأمرنا أن نعفو عن المسيء فحسب بل أمرنا أن نُحسن إليه، فقد قال تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾
(سورة آل عمران)
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾
(سورة آل عمران)
 وكذلك الآية الكريمة التي تقول:
﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيم (35) ٍ﴾
(سورة فصلت)
 من كان حظُّه عظيماً من الاتصال بالله عزَّ وجلَّ فليحمد الله كثيرًا، فسبحان الله عندما يعفو الإنسان عن أخيه يملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، أما حينما ينتقم منه يملأ الله قلبه خوفاً وجفوةً، فالمنتقم يُعاقب من قبل الله عزَّ وجلَّ، باللعنة والطرد من رحمته وجفوة قلبه والقلق الذي يأكل قلبه، أما الذي يعفو يملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، فما دمت قد عفوت عنه اشتريته، ولأن يربح الإنسان إنساناً خيرٌ له من أن يربح الدنيا وما فيها.
 فالإنسان حينما تعفو عنه تربحه.. فسيِّدنا النبيِّ اللهمَّ صلّ عليه أمر بقتل بضعة أشخاص لأنَّهم أساءوا إساءةً ما أساءها أحدٌ قبلهم إلى الإسلام وإلى دين الله عزَّ وجلَّ، منهم عكرمه بن أبي جهل.. فلمّا جاء عكرمةُ مسلماً تائباً مستغفراً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( جاءكم عكرمةٌ مسلماً، فإيَّاكم أن تسبّوا أباه فإنَّ سبَّ الميِّت يؤذي الحيّ ولا يبلُغ الميِّت))
 فالنبي بالغ بإكرامه ونهى عن أن يُسبَّ أبوه إكراماً له.
 فالخلاصة أنّ هذه الأسماء الحسنى ينبغي أن تزيدنا حباً بالله عزَّ وجلَّ وتخلُّقاً بهذه الأخلاق