الباعث
الدرس الثاني والسبعين من دروس أسماء الله الحُسنى، والاسم اليوم الباعث.. وقد ورد هذا الاسم في أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الصحيحة التي ذكر فيها أسماء الله الحُسنى.
البعث في اللُغة.. الإثارةُ والإنهاض.. يقال: بعث بعيره فانبعث أي استنهضه فنهض.. أنهضه، وبعثه أرسله، وانبعث فلانٌ لشأنه أي سار لشأنه، بعث الناقة أثارها، بعث فلاناً من نومه أيقظه، البعث بعث الجنود إلى الغزو، البعث هو الجيش، البعث الإحياء من الله عزَّ وجلَّ، البعث: النشر. هذا ما ورد في معاجم اللغة حول معنى كلمة البعث كمصدر في اللغة.
وأما الباعث في حقِّ الله تعالى.. فلهذا الاسم معانٍ كثيرة، ومن هذه المعاني أنَّ الله سبحانه وتعالى باعث الخلق يوم القيامة كما يقول في سورة الحجّ، قال تعالى:
﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)﴾
(سورة الحج)
أي أنَّ الله سبحانه وتعالى يُنهض الموتى من قبورهم ليحاسبهم، وقد قال تعالى في سورة الزلزلة:
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)﴾
(سورة الزلزلة)
هذا هو البعث.. فالمؤمن يؤمن بيوم البعث.
المعنى الآخر لاسم الباعث أنَّ الله جلَّ جلاله باعث الرسل إلى الخلق، يقول تعالى في سورة النحل:
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً﴾
(سورة النحل)
إنهاض الناس من قبورهم باعث، وإرسال الرسل إلى الناس كافَّةً باعث.
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً﴾
والمعنى الثالث أنَّه تعالى يبعث عباده على الأفعال المخصوصة أي أنَّ الله عزَّ وجل يُلهم الإنسان في حركاته وسكناته.. وذلك بالطبع لصالحه مكافأةً أو تأديباً.. قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
(سورة يونس)
ألم يقل النبيُّ عليه الصلاة والسلام:
((حَدَّثَنَا حَيْوَةُ أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو ابْنِ الْعَاصِ يَقُولا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ))
هذا التقليب لصالح العباد، فالإنسان أحياناً يُلهَم أن يتحرَّك، يُلهَم أن يسير في هذا الطريق، يُلهم أن يشتري، يُلهم أن يبيع، وقد يستجيب أحياناً لوسوسة الشيطان. والله سبحانه وتعالى لا يسمح لفعلٍ إلا إذا كان فيه صالحٌ للعبد نفسه، الله تعالى يُقلِّب قلوب العباد بين إصبعيه.
فمثلاً لو أنَّ الإنسان اختار طريق الحق أو اختار طاعة الله عزَّ وجلَّ، أو اختار التوبة النصوح، ربُّنا سبحانه وتعالى يشرح له صدره، شَرْحُ صدره إعانةٌ لهذا العبد على طاعة ربِّه فقد قال تعالى:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) ﴾
(سورة الكهف)
فالإنسان مثلاً إذا تحرَّك نحو الله قليلاً فالله سبحانه وتعالى يبارك حركته ويشجِّعه ويشرح له صدره ويُعينه على طاعته، ألم يُجمَع القرآن كلُّه في الفاتحة ؟ ألا تُجمَع الفاتحة في آية
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
ولو أنَّ الإنسان اختار طريق الباطل، أو طريق الشهوة، أو طريق المكاسب الماديَّة، أو طريق الأذى، فالله سبحانه وتعالى كيف يُعينه على أن يبتعد عن هذا القرار ؟ يجعل صدرَّهُ ضيِّقاً حرجاً كأنَّما يصَّعد في السماء كما ورد في قوله تعالى:
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾
(سورة الأنعام)
فهنا وقفة دقيقة.. إن اتخذت قراراً صحيحاً شرح الله لك صدرك وهو بهذا أعانك على متابعة هذا القرار، وإن اتخذت قراراً خاطئاً ضيَّق الله عليك نفسَك.
﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾
لعلَّك ترتدع عن متابعة هذا القرار.
فالله سبحانه وتعالى حينما جعل قلوب العباد بين إصبعيه ما جعلها كذلك إلا ليعين عباده على الخير، وليبعدهم عن الشرِّ، فالباعث أحياناً هذا الانشراح، والمثبِّط هذا الضيق، فالله سبحانه وتعالى يبعث عباده على الأفعال المخصوصة.
هناك معنى آخر: إنَّ الله سبحانه وتعالى أمر ونهى وكلَّف، وأعطى الإنسان حريَّة الاختيار، ولو أن الإنسان اتخذ قراراً خاطئاً وتابع خطأه إلى ما لا نهاية حتى جاءه الموت وهو متلبِّسٌ بالمعصية والكفر، لاستحقَّ جهنَّم إلى أبد الآبدين، هذا محض العدل، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى رحيم يربِّي هذا العبد، فلو أنَّه اتخذ قراراً خاطئاً وأراد أن يُؤدِّبه بعثه إلى عملٍ يستحقُّ عليه عقاباً شديداً.. إذا أراد ربُّك إنفاذ أمرٍ أخذ من كلِّ ذي لبٍ لُبَّه.
فمثلاً: إذا اتخذ إنسانٌ قراراً في أن يؤذي الناس، كأن يَغُشَّهم في بضاعته، وأن يغتصب بعض أموالهم، وحاز هذا المال ؛ فلو أنَّ الله تركه إلى نهاية المطاف لاستحقَّ النار، لكنه يتحرَّك حركةً خاطئة فيبعثه إلى عملٍ يستحقُّ عليه العقوبة كي يؤدَّب، فقد قال تعالى:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾
(سورة الأنعام)
إذاً إنَّ الله تعالى يبعث عباده على الأفعال المخصوصة إما تحقيقاً لاختيارهم، أو تأديباً لهم، أو مكافأةً لهم، فلو إنساناً أدَّى زكاة ماله يبعثه لشراء صفقةٍ رابحة، يُعوِّض عليه كلَّ ما دفع، و إنسان آخر بخل أن يُزكِّي ماله يبعثه إلى صفقةٍ خاسرة.
فالله عزَّ وجلَّ يبعث.. بالمعنى الأول يُحقق لك اختيارك، وبالمعنى الثاني يُكافئك على حسن اختيارك أو يؤدِّبك على سوء اختيارك، هذا التسيير الأول.. لتحقيق الاختيار.. أما الثاني لدفع ثمن الاختيار.
التسيير الأول هو أن تحقق اختيارك.. أما التسيير الثاني تسيير تربوي فإما أن يشجع وإما أن يعاقب، وهذا هو معنى يبعث عباده على الأفعال المخصوصة.
يبعث من في القبور.. ينهضهم.
يبعث الأنبياء والمرسلين.. يرسلهم.
يبعث عباده على الأفعال المخصوصة.. أي يخلق الإرادات والدواعي في قلوبهم.
والمعنى الرابع.. أنَّ الله سبحانه وتعالى يبعث عباده عند العجز بالمعونة والإغاثة.
فالإنسان بين حالين لا ثالث لهما، حال الاعتداد بالنفس كما حدث للصحابة الكرام يوم حنين فقد قال تعالى:
﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا﴾
(سورة التوبةالآية: 25 )
وحال الافتقار إلى الله مثلما حدث للصحابة الكرام في بدر فقد قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
(سورة آل عمرانالآية: 123 )
أنت بين حال الاعتداد بالنفس أن تقول: أنا، وبين حال الافتقار إلى الله أن تقول: الله، إن قلت: أنا تخلَّى عنك، " فلم تغن عنكم شيئاً .
﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾
والحالة الثانية حال أن تقول: الله وعندها يتولاَّك الله بالرعاية والتوفيق. في حياة كلٍ منا كل يوم عشرات الدروس، إن قلت: أنا تخلَّى الله عنك، وإن قلت: الله: تولاَّك ورعاك وأيَّدك ونصرك وأعانك وألهمك وحفظك ودافع عنك، شتَّان بين أن تقول: الله، وبين أن تقول: أنا، ولا يخفى عليكم أنَّ.. أنا، ونحن، ولي، وعندي أربع كلماتٍ مهلكات، فقد قالها إبليس فأهلكه الله في سورة ص مخاطباً ربه:
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾
(سورة ص)
وقال قوم سبأ فأهلكهم الله تعالى:
﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾
(سورة النمل الآية: 33 )
وقال فِرعون فأهلكه الله:
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾
(سورة الزخرف الآية: 51)
وقال قارون فأهلكه الله:
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾
(سورة القصصالآية: 78 )
المعنى الرابع.. أنَّ الله سبحانه وتعالى يبعث عباده عند العجز بالمعونة والإغاثة، وعند الذنب بقبول التوبة.
هذا مجمل المعاني التي وردت في الكتاب والسنَّة عن اسم الباعث، وقيل: الباعث.. الذي يبعث مَن في القبور، باعثُ السّاكنِ، ساكنٌ يبعثه الله فيتحرَّك، كلُّ شيءٍ ساكن يبعثه الله فيتحرَّك، فالنبات في الشتاء ساكن يكون حطباً، ويأتي الربيع فيبعثه الله فيزهر ويورق ويُثمر، بعض الحيوانات تنام في الشتاء ويأتي فصل الصيف فيبعثها الله.
البذرة.. فيها رُشيم، فيها جُذَير، فيها سُويق، فيها حياةٌ يمكن أن تُخزِّنها آلاف السنوات، القمح الذي وجد في الأهرامات زُرِع فأنبت وقد مضى عليه ستَّة آلاف عام، فلما وضعت هذه البذرة في الأرض بعثها الله، نبتت..
وهذا معنى اسم الباعث مطلقاً.. باعث الساكن، شيء ساكن فيتحرَّك.
باعث الهمم.. فالإنسان أحياناً تضعف نفسه فإذا استعان بالله عزَّ وجلَّ أعطاه همةً، وأعطاه قوةً وأعطاه اندفاعاً، لذلك فالمؤمن الصادق يدعو ويقول:
" اللهمَّ تبرَّأت من حولي وقوَّتي والتجأت إلى حولك وقوَّتك ياذا القوَّة المتين".
يقول الإمام الغزاليّ: " الباعث.. هو الذي يحيي الخلق يوم النشور ويبعث من في القبور، ويحصِّل ما في الصدور ".
كلُّ أعمالك مسجَّلةٌ عليك، سوف نُبعث ونراها أمامنا واحدةً واحدة فقد قال تعالى:
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) ﴾
(سورة الإسراء)
والبعث هو النشأة الآخرة، فالنشأة الأولى في الدنيا، والنشأة الآخرة يوم القيامة.
أيُّها الإخوة... قال بعض العلماء: " الإنسان أحياناً يتوهَّم أنَّ الموت عدمٌ وأنَّ البعث إيجادٌ ابتداءً "، والحقيقة غير ذلك، الإنسان يموت ولكنَّه في القبر إما أن يكون من أهل النعيم، وإما أن يكون من أهل الجحيم، إما أن يكون القبر روضةً من رياض الجنَّة، وإما أن يكون القبر حفرةً من حفر النيران، والدليل قوله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) ﴾
(سورة آل عمران)
الموت ليس فناءً ونهايةً ومن ثم يوم القيامة فيه بدءٌ جديدٌ لا -بل هناك حياة برزخية، ألم يقل الله عزَّ وجلَّ:
﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)﴾
(سورة غافر)
مضى على عذابهم أكثر من ستَّة آلاف عام وإلى يوم القيامة غُدوّاً وعشياً، هذه الآية أصلٌ في عذاب القبر أو عذاب البرزخ مطلقاً.
أيُّها الإخوة... الموتى إما أن يكونوا أشقياء، وإما أن يكونوا سعداء، إن كانت أعمالهم سيِّئة كانوا أشقياء في القبر وإلى يوم القيامة، وإن كانت أعمالهم صالحة كانوا سعداء في القبر وإلى يوم القيامة، لذلك فإن القبر كما قلت قبل قليل روضةٌ من رياض الجنَّة، أو حفرةٌ من حفر النيران.
ورد في بعض الأحاديث الشريفة:
(( أنَّ روح الميِّت ترفرف فوق النعش تقول.. يا أهلي يا ولدي لا تلعبنَّ بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرُم فأنفقته في حِلِّه وفي غير حلِّه، فالهناء لكم والتبعة عليّ ))
الإنسان بعد الموت كما ورد في السنَّة والسيرة يسمع ويرى، ألم يخاطب النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قتلى بدر قال: يا فلان يا فلان سمَّاهم بأسمائهم واحداً واحداً، قال: إني وجدتُّ ما وعدني ربِّي حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربُّكم حقا ؟ ولما قيل له: يا رسول الله كيف تُنادي قوماً قد جيَّفوا !! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنَّهم لا يجيبونني.
((قالت عَائِشَةَ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأُولَئِكَ الرَّهْطِ فَأُلْقُوا فِي الطُّوَى عُتْبَةُ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ جَزَاكُمُ اللَّهُ شَرًّا مِنْ قَوْمِ نَبِيٍّ مَا كَانَ أَسْوَأَ الطَّرْدِ وَأَشَدَّ التَّكْذِيبِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا جَيَّفُوا فَقَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَفْهَمَ لِقَوْلِي مِنْهُمْ أَوْ لَهُمْ أَفْهَمُ لِقَوْلِي مِنْكُمْ ))
(مسند الإمام أحمد)
إذاً الإنسان يحيى فإذا جاء الموت.. أي عمليَّة انفصال نفسه عن جسده عن روحه.. روح الإنسان هي القوَّة المحرِّكة، وجسده وِعاؤه، ونفسه ذاته. النفس خالدةٌ إلى أبد الآبدين، إما في جنَّات النعيم وإما في أعماق الجحيم، فقد قال تعالى:
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾
(سورة الزخرف)
فأنت خُلقت لتبقى، إما في نعيمٍ مقيم وهذا ما نرجوه إن شاء الله تعالى، وإما في جحيمٍ لا يُطاق ولا يُحتمل، فلذلك عندما يُؤثر الإنسان الدنيا على الآخرة يكون أحمق وغبياً.
مَن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
إني وجدت ما وعدني ربِّي حقا، فهل وجدتُّم ما وعد ربُّكم حقاً؟ خاطبهم.. أحدهم ألِّف كتاباً اسمه الحياة بعد الموت.. وكان الباعث على تأليف هذا الكتاب أنَّ مريضاً توقَّف قلبه أمداً طويلاً ثم عاد ونبض، فذكر هذا الإنسان كيف أنَّه تصوَّر أعماله كلَّها، وكيف أنَّ نفسه ابتعدت عن جسده، وكيف أنَّه ندم على أعماله السيِّئة، هذا الوصف جعل مؤلِّف الكتاب يتحرَّك إلى أكثر المشافي وأراد أن يأخذ تقاريراً مشابهةً عن هذه الحالات، وقام بجمع هذه التقارير وألَّفها في كتاب.
والملخَّص.. أنَّ الإنسان حينما يموت تبتعد نفسه عن جسده، المؤمن يستعرض حياته كلَّها طيلة حياته، ويُقيِّم أعماله كلَّها وفق مقياسٍ واحد هو مدى ما ينفع بها عباد الله، ويرى أن أعماله ولو عظمت إن لم ينتفع بها أحد فلا قيمة لها فإن خير عباد الله أنفعهم للناس.
فالإنسان حينما يُدقق، أو حينما َيعلمُ علم اليقين أنَّه سوف يدخل في القبر، وأنَّ هذا القبر حياةٌ برزخيَّة تسبق الحياة الأُخرويَّة، وأنَّ هذه الحياة في القبر نعيمٌ أو جحيم ينبغي ان يعُدَّ ألف مرَّة قبل أن يقترف المعصية.
الإمام القُشيري يقول: " الباعث.. هو الذي يبعث الخواطر الخفيَّة في الأسرار، فمن دواعٍ ما يبعثها إلى الحسنات، ومِنْ دواعٍ ما يبعثها إلى السيِّئات "
كما قلت قبل قليل.. العمل أساسه إرادة، الإرادة تتحرَّك بالباعث والباعث هو الله سبحانه وتعالى يبعثنا إلى أعمالٍ اخترناها صالحة، أو إلى أعمالٍ اخترناها سيِّئة، فلذلك حينما قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
(سورة البقرة)
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾
ما هو الكسبُ ؟ أنت حينما تقول: أنا سأُصلِّي هذا هو الباعث، هذا هو الكسب. الله سبحانه وتعالى يُمِدُّك بقوةٍ منه، فالله جلَّ جلاله حينما يراك تريد أن تُصلِّي يعينك على آداء الصلاة، هو الذي يحقق أفعال العباد، الأفعال بيد الله، والإنسان يملك الانبعاث، يملك الإرادة، يملك الاختيار، يملك الكسب، وما سوى ذلك من خلق الله عزَّ وجلَّ وهذه هي عقيدة أهل السُنَّة والجماعة.
وقيل: " الباعث... هو الذي يبعث الهمم إلى الترقّي في ساحات التوحيد".
فالإنسان أحياناً إذا وصل إلى مستوى معيَّن ولم يتجاوزه إلى مستوىً أعلى قد يصاب بالسأم والضجر والملل.. من لم يكن في زيادة فهو في نقصان، فقرار الهُدى قرارٌ مستمرٌ فكلَّما ازددت علماً ارتقيت عند الله، وكلَّما ارتقيت عند الله ارتفع مستوى عملك، وكلَّما ارتفع مستوى عملك زاد إقبالك، فهي سلسلة متتابعة، فالذي يبقى في مرتبةٍ واحدة هذا معرَّض بأن يقول: مللت، والله سبحانه وتعالى لا يملّ حتى تملّوا، فإذا لم يكن هناك ازدياد علمي ورقي علمي فلن يكون رقي عملي، ولن يكون هناك عمل صالح ترقى به. وربَّما انعكس هذا سلباً على مكانة الإنسان عند الله عزَّ وجلَّ.
وقيل: الباعث.. هو الذي يبعثك على عليَّات الأمور "، أي إذا أراد ربُّك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك.
الحقيقة أيُّها الإخوة، أن هناك في الدين حقيقة خطيرة جداً، أنت لا شيء، أنت ضعيف، أنت فقير، أنت جاهل، ولكنك إذا أقبلت على الله أصبحت عالماً، وإن أقبلت على الله عزَّ وجلَّ أمدك بقوةٍ من عنده، إن أقبلت على الله علمك مالم تكن تعلم.
فالإنسان بذاته ضعيف، أمّا بالله فهو قوي، بذاته جاهل، أمّا بالله فهو عالم بذاته ضعيف وجاهل وفقير، أمّا بالله فهو غني.
وبعد فملخص التوحيد ألا ترى مع الله أحداً، وألا ترى لنفسك شيئاً، حينما تفتقر ذاتُك إلى الله، تستحق كل مكرمة.. لذلك قالوا: الأبواب إلى الله كثيرة، وباب الانكسار: هو أعظم هذه الأبواب، فكلما ازددت افتقاراً إلى الله، رفعك الله إلى أعلى المراتب، والأمر هو أمر متعلق بالتوحيد. كلما رأيت أن الله هو الإله العظيم الذي لا نِدّ له وهو الواحد، وهو المعطي، هو المانع، هو المغني، هو الممد، هو القابض، هو الباسط، هو المعز، هو المُذل، تتوحد وجهتك.
أيها الإخوة... من أين يأتي الإخلاص ؟ من التوحيد، هناك علاقة بين التوحيد والإخلاص كلما ازددت توحيداً ازددت إخلاصاً، لأنه مادام هناك جهات أخرى تعطي وتمنع، ترفع وتخفض، تعز وتذل، فأنت موزع وبين ما تعتقده في هذه الجهات من أنها تعطي وتمنع، أما إذا أيقنت يقيناً قطعياً أن كلَّ الجهات عاجزة وهي لا تعطي ولا تمنع، لا ترفع ولا تخفض، لا تعز ولا تذل، وأيقنت أن الله هو وحده لا شريك له، وبيده كلّ شيء، إليه يرجع الأمر كلّه، عندئذٍ تعبده وتتوكل عليه.
أيها الإخوة.. ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
(سورة الشعراء)
أحدُ أكبرِ أسباب عذابات النفس، أنْ تدعوَ مع الله إلهاً آخر، وأحد أكبر أسباب الخوف أن تشرك بالله مالم ينزِّل به سلطاناً، فمثلاً قال الله تعالى:
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾
(سورة الأحزاب الآية: 26 )
الرعب متعلِّق بالشرك، فهذا قانون، أنت تخاف بقدر ما تبتعد عن التوحيد فإذا وحدَّت الله عزَّ وجلَّ نُزع من قلبك الخوف، لأن أمرك كلَّه بيدي الله.. ولذلك فالإنسان إذا وحَّد أخلص وإذا أخلص ارتقت همته
ورد أن اصنعِ المعروف مع أهله، ومع غير أهله، فإن أصبت أهلَهُ أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله.
الموحِّد لا يعلّق أهمية على ردود فعل الناس، أما غير الموحد فإن أسدى إليهم معروفاً ولم يتلقَ إستحساناً أو ثناءً يتألم، أما الموحد إنْ أسدى إلى الناس معروفاً فهو يدرك أنَّ ما فعل ذلك إلا ابتغاء وجه الله.. قال الله تعالى:
﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) ﴾
(سورة الليل)
إخواننا الكرام التوحيد طريق مختصر، والإخلاص مسرِّع، إلاّ أن التوحيد كلمة واحدة وتلخَّص الإيمان كلّه، وتلخص العمل كلّه، وتلخص مجاهدة النفس والهوى كلّه، والتوحيد ملخص معرفتك بالله كلّها، وهو الهدف الكبير لهذا الدين، والآية الكريمة تقول:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ﴾
(سورة الأنبياء)
إذاً: الباعث أيضاً هو الذي يبعثك على عليَّات الأمور، ويرفع عن قلبك وساوس الصدور، وهذا من تعريفات اسم الباعث.
وقيل: " الباعث الذي يصفيّ الأسرار عن الهوس، ويسمو بالأفعال عن الدنس "، أيْ أنّ الله عزَّ وجلَّ إن أقبلتَ عليه طهَّر قلبك من الأدران.
لقد ذكرت اليوم نقطة دقيقة.. ذلك أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
(سورة آل عمران الآية: 159)
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
الباء باء السبب أي بسبب رحمةٍ استقرت في قلبك. يا محمد من خلال اتصالك بالله لنت لهم، فلما لنت لهم التفوا حولك، وأحبّوك وأقبلوا عليك.
لو أن الإنسان انقطع عن الله خلا قلبه من الرحمة، فكان فظاً غليظاً، فلما كان فظاً غليظاً انفضَّ الناس من حوله، فهل بالإمكان أن نستنبط قانوناً ؟ القانون: هو اتصالٌ.. رحمةٌ.. لينٌ.. التفافٌ، انقطاعٌ.. قسوة.. غلظة.. انفضاض، هذا هو القانون.
إن اتصلت بالله عزَّ وجلَّ تستقر الرحمة في قلبك، مُنْعَكَسُ هذا الاستقرار لين، وتواضع وإيناس وذوق، عندئذٍ يجتمع الناس حولك فلو أن القلب أقفر من الاتصال بالله عزَّ وجلَّ، أصبح قاسياً وعندئذٍ يصبح فظاً غليظاً، وينفض الناس من حوله.
ويا أيها الإخوة الكرام... هناك حقيقة أحبَّ أن أضعها بين أيديكم: هي أن الدعوة إلى الله ليست المعلومات وحدها، بل هي الشرط اللازم لها، إن المعلومات شرط لازم وغير كافِ، لكنَّ القلب الكبير الذي يسع الخلق، القلب الكبير الذي يرحم الخلق، والقلب الكبير الذي يتواضع للخلق، القلب الكبير الذي يعطف على الخلق، هذا القلب هو أساس الدعوة إلى الله، لأن أصحاب النّبي عليه الصلاة والسلام أحبوه حباً لا يوصف.
سيدنا ربيعة حينما أراد أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهت خدمته ذات ليلة وأمره أن ينصرف، بقي على عتبة دارهِ حتى الفجر من شدة التعلُّق به، ما معنى ذلك؟ التعلُّق له علاقة بالكمال كلّما كنت أكثر كمالاً تعلَّق الناس بك، وكلما ابتعدت عن الله عزَّ وجلَّ انخفض مستوى الكمال، وعندئذٍ ينفضَّ الناس من حولك.
قيل: " الباعث هو الذي يبعثك على عليَّات الأمور ويرفع عن قلبك وساوس الصدور، والباعث هو الذي يصفِّي الأسرار عن الهوس وينقي الأفعال من الدنس ".
وقيل: " الباعث.. باعث الرسل بالأحكام، فبعث الله النبييّن مبشرين ومنذرين، وباعث الموتى بالقيام ".
قال الله تعالى:
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾
(سورة البقرة الآية: 56 )
وباعث النيام بيقظةِ الأجسام.. الإنسان ينام، ما هو النوم ؟ موتٌ مؤقَّت، قال الله تعالى:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾
(سورة الزمر الآية: 42 )
النوم موت مؤقت، لهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه، يقول:
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ عَنْ فِرَاشِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ إِزَارِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ بَعْدُ فَإِذَا اضْطَجَعَ فَلْيَقُلْ بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ فَإِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ))
(سنن الترمذي)
وكان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ يقول:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ))
ما من يومٍ إلا وينادي يابن آدم أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
ولقد ورد في بعض الأدعية: أن لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً ولا بورك لي في طلوع شمس يومٍ، لم أزدد فيه من الله قرباً، والإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه.
إذاً يبعثك من نومك، أي إذا استيقظ الإنسان ينبغي أن يعلم أن الله سمح له أن يعيش يوماً جديداً.. إذاً فهو يبعث الموتى، ويبعث الرسل، ويبعث النيام، ويبعث كلَّ ساكن.
عند الإمام الغزالي تجد أن حقيقة البعثِ.. هي إحياء الموتى بإنشائهم نشأةً أخرى.
والحقيقة كما قلت لكم دائماً، أنَّ أسماء الله سبحانه وتعالى محققةٌ كلها في الحياة الدنيا، كلُّ الأسماء الحُسنى الكون مظهرٌ لها، إلا أن اسم العدل لا يتحقق كاملاً إلا في الدار الآخرة لأن الله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده لتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت.
في الدنيا قد يعاقب الله بعض المسيئين عقاباً تربوياً تأديبياً لبقية المسيئين، وقد يكافئ الله بعض المحسنين، مكافأةً تشجيعيةً لبقية المحسنين، ولكن قد تجد مسيئاً لا يعاقب، ومحسناً لا يكافأ ، لأن الحياة الدنيا دار عمل، ودار ابتلاء، ودار تكليف، أما الجزاء الأوفى، والحساب الكامل والرصيد في الآخرة.. قال الله تعالى:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
(سورة آل عمران الآية: 185 )
أي فأنت في دار عمل، ثم هناك دار جزاء، هنا عمل ولا جزاء، وفي الآخرة جزاء ولا عمل، أنت في دار تكليف، والآخرة دار تشريف، فإذا اختلطت عندك الأمور، وإذا ظننت أن الدنيا دار تشريف، وأن القوي مكرمٌ، والغني مكرمٌ، وقعت في وهمٍ كبير.
((عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ))
(سنن الترمذي)
أنت في دار ابتلاء، لا دار قرار، الآخرة هي دار القرار، والآخرة هي دار الجزاء، الآخرة هي دار النعيم، الآخرة هي الدار التي تُؤتى فيها ما تشتهي بدون عمل.. قال تعالى:
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
(سورة ق)
أما الدنيا فهي دار سعي، لا بدّ من أن تسعى حتى تصل، لذلك الله عزَّ وجلَّ قال:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾
(سورة النجم)
فحقيقة البعث عند الإمام الغزالي: هو أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى بإنشائهم نشأةً أخرى.
الإمام الغزالي يقول: " الجهل هو الموت الأكبر " أيْ الجاهل يفعل في نفسه مالا يستطيع عدوه أن يفعله به، والعلم هو الحياة العُليا، أيْ أعلى درجات الحياة أن تعرف الله، وأدنى درجات الموت أن تجهله فلا تعرفه، وقد ذكر الله تعالى العلم والجهل في القرآن وسماهما، حياةً وموتاً.. قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
(سورة الأنفال)
﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
أي كنتم موتى بالجهل ثم أحياكم بالعلم، وكنتم موتى بالبعد وأحياكم بالقرب، كنتم موتى بالضياع فأحياكم بالوجدان، كنتم موتى بالإدبار فأحياكم بالإقبال، كنتم موتى بالتفلُّت فأحياكم بالانضباط.
لذلك فإن العلماء يقولون في تفسير هذه الآية: " إن أعلى درجات الحياة أن تعرف الله وأن تتصل به "، فقد قال تعالى:
﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
ليس مَنْ مات فاستراح بميتٍ إنما الميتُ ميت الأحياء.
***
سيدنا علي يقول: " يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة، يا بني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق ".
يقول الإمام الغزالي: " الجهل هو الموت الأكبر والعلم هو الحياة العليا وقد ذكر الله تعالى الجهل والعلم في القرآن فسماهما حياةً وموتاً ".
هناك معنى يضيفه الإمام الغزالي: " أنه مَنْ رقَّى إنساناً من الجهل إلى العلم، ومن البعد إلى القرب، ومن الإدبار إلى الإقبال، فقد أنشأه نشأةً أخرى "، هناك نشأة حيوانية: جسم، قلب رئتان ومعدة أمعاء فم سمع بصر يتحرك يأكل ينام يتزوج، هذه حياة لا تليق بالإنسان، إلا أنّ هناك حياة أرقى، أن تفكر وأن تعرف الله وأن تعرف منهجه وأن تعرف من أين.. وإلى أين.. ولماذا ؟ هذا أكبر سؤال، فعندما يعرف الإنسان سرَّ وجوده وغاية وجوده ويعرف ربّه ويعرف منهج ربّه، وأن هذه الحياة حياة دنيا، إعدادية لحياة عليا أبدية عندئذٍ يصبح في أعلى درجات الحياة.. قال تعالى:
﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
قالوا: هذا هو التعليم الحق.. نقل الناس من الموت إلى الحياة، من الجهل إلى العلم، من الإدبار إلى الإقبال، من الضياع إلى الوجدان، فهذه رتبة الأنبياء والمرسلين، ومن ينوب منابهم من العلماء الصادقين لذلك قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) ﴾
(سورة فصلت)
أيها الإخوة... اسم الباعث لم يرِد في القرآن الكريم بصيغة الباعث ولكن ورد بصيغة الفعل.. قال الله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(60)﴾
(سورة الأنعام)
هذا الاسم ورد:
﴿ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾
أي أن تبعث من النوم إلى اليقظة، وهو المعنى الأول، وفي سورة النحل قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
المعنى الثاني: إرسال الأنبياء.
وفي سورة الإسراء قال تعالى:
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً(79)﴾
(سورة الإسراء)
وفي سورة الكهف قال تعالى عن أهل الكهف:
﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) ﴾
(سور الكهف)
وفي الحج:
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) ﴾
(سورة الحج)
المعاني كلها التي وردت عن اسم الباعث وردت في هذه الآيات.. وفي سورة التغابن قال تعالى:
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)﴾
(سورة التغابن)
أيها الإخوة... هناك نقطة دقيقة، فالله عزَّ وجلَّ عندما قال:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) ﴾
(سورة الفيل)
بربكم من منكم رأى هذه الحادثة ؟ لا أحد. لعل أحدهم يقول: لو أن الله عزَّ وجلَّ قال: ألم تصدق، ألم تسمع، بدل قوله: ألم تَرَ.
العلماء قالوا: " إنَّ إخبار الله عزَّ وجلَّ لمصداقيته المطلقة ينبغي أن يقع منك موقع الرؤية، إن مصداقية الله عزَّ وجلَّ في أخباره ينبغي أن تقع هذه الأخبار منك موقع الرؤية، بل إن الفعل الماضي الذي يستخدم في القرآن الكريم في التعبير عن المستقبل كقوله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾
(سورة المائدة الآية: 116)
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾
هذا لم يقع بعد.
﴿ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾
استخدام الفعل الماضي من أجل أن يقع هذا الخبر في نفسك موقع الوقوع الحتمي اليقيني، أتى أمر الله فعل ماض فلا تستعجلوه إذاً، لم يأتِ. أتى أمر الله فلا تستعجلوه، الفعل الماضي حينما يعبر به عن المستقبل وحينما يقول الله عزَّ وجلَّ:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
أي ينبغي أن تقع أخبار الله التي أخبرك بها في كتابه موقع اليقين الشهودي.
أيها الإخوة... بقي من الدرس فقرةٌ أخيرة وهي ما حَظُّ العبد من هذا الاسم الباعث ؟ كيف أن الله سبحانه وتعالى يبعث الموتى ؟ والإنسان قبل أن يعرف الله ميت، فإذا أحيا قلبه بالمعرفة، وبالطاعة فكأنه تخلَّق بأخلاق الله هذا أول معنى.. ففي الآية الكريمة قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)﴾
(سورة الأنعام)
وفي سورة النحل قال تعالى:
﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)﴾
(سورة النحل)
فالعبد إذا سعى لمعرفة الله، وطاعته والإقبال عليه، والإستنارة بنوره، فقد بعث نفسه من الموت إلى الحياة، هذا من تخلُّق أخلاق العبد باسم الباعث.
التخلّق الثاني: المتخلّق باسم الباعث ينبغي أن يبعث نفسه دائماً كما يريد مولاه فعلاً وقولاً أي أنْ تأتي أفعاله مطابقة لكتاب الله.
((عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ))
(مسند الإمام أحمد)
قالوا: الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنّبي صلّى الله عليه وسلّم قرآن يمشي.
فمن تطبيقات اسم الباعث على العباد أنّهُ مِن تأدُّبِ العبد باسم الباعث أن يبعث نفسه بما يُرْضي ربَّه، وأن يجعل أعماله متوافقةً مع منهج ربَّه.
الأدب الثالث: مِن أدب المؤمن مع اسم الباعث أنه إذا تحقق وأيقن، أن الله سبحانه وتعالى يبعث الناس بعد الموت ثم يجزيهم بالثواب والعقاب، فعندئذٍ يشغل وقته كلّه بطاعته، والتزود للدار الآخرةِ وتصفُّحِ أعماله ومحاسبة نفسه حساباً دقيقاً.
يروي ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يضع عند النوم يده اليمنى تحت خدِّه الأيمن ثم يقول: اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وكان يقول وعند الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
أيها الإخوة الكرام... اسم الباعث من أسماء الله الحُسنى، يبعث الله الرسل، يبعث الله من في القبور، يبعث الله العباد لأعمالٍ تحقق اختيارهم ثم تربيهم، ويبعث الله تعالى كلَّ ساكن، وأدب المؤمن مع الله عزَّ وجلَّ بالنسبة لهذا الاسم كما ذكرت قبل قليل أن يبعث نفسه دائماً كما يريد فولاه فعلاً وقولاً