الأربعاء، 21 مارس 2012

موسوعة العقيدة - علم التوحيد : استمداد علم التوحيد

استمداد علم التوحيد


        واستمداد علم التوحيد من الوجوب والجواز والامتناع، وقال البعض: استمداده من التّفسير والفقه والحديث والإجماع ونظر العقل، ولعلّ الاختلاف إنّما هو في التعبير واللّفظ لا في الحقيقة والمعنى؛ لأنّ الجواز والوجوب والامتناع إنّما تؤخذ من تلك المذكورات، وهذا على مذهب أهل السنّة ؛
        وهو مذهب أهل الحقّ؛ وهم الأشاعرة والماتريديّة، فلا حكم تكليفيا أو تابعا له إلاّ من الشّرع، أو يكون الاختلاف مجرد اعتبار. وأمّا وظيفة العقل، فما هي إلاّ معرفة ماهيّة وصفة الواقع ومعرفة الأمر في نفسه على حسب قدرة البشر، من دون ترتيب حكم تكليفي عليها، فنحن نستخدم العقل عن طريق النّظر في العالم الخارجيّ، للتعرّف على وجود اللـه، أي على أنّ اللـه موجود، ولكنّ وجوب الإيمان باللـه تعالى بحيث يعاقب من لا يؤمن ويثاب من يؤمن هذا إنّما يعرف من الشّرع لا من العقل، على تفصيل لطيف بين الأشاعرة والماتريديّة.
        وبناء على ذلك، نقول إن كل العلوم السابقة والمصادر المعرفية تدل فعلا على العقائد، ولكن هذا لا يستلزم عدم انبنائها على علم التوحيد، فلا يتم التصديق بالحديث إلا إذا أثبت نبوة النبي، وهذا لا يتم إلا بعلم التوحيد، ولكن بعد إثبات ذلك، يدلنا النبي عليه السلام على العقائد فعلا، وكذلك القول في القرآن، فلا يتم إثبات القرآن إلا بإثبات وجود الله تعالى ، لأنه كلامه، فلا يمكن التسليم بأنه كلام الله تعالى إلا بعد إثبات وجود الله تعالى، ومع ذلك فإن القرآن نفسه، يدل بعد ذلك على العقائد والأدلة التي يمكن أن تتبع في علم التوحيد. وكذلك يقال في الفقه.
        ومن هذا الوجه ربما قيل إن علم التوحيد يستمد منها. ولكن الحق أن استمداد علم التوحيد عموما بالفعل لا يكون منها باعتباراتها الخاصة، أي من حيث هي قرآن وسنَّة، وإنما هي بهذه الاعتبارات، منبنية على علم التوحيد.
        وأهل السنة لم يختلفوا في الإقرار بأن العقل يمكنه معرفة بعض الأحكام العقائدية، ولكنهم اتفقوا على أن التكليف بالاعتقاد لا يمكن أن يثبت إلا بالنقل، والدليل الشرعي. ولهذا فأهل السنة يستدلون على العقائد بالدليل العقلي، ومرادهم بذلك إثبات حقيقتها ومطابقتها للواقع، لا إثبات التكليف بها بالعقل. فإثبات التكليف بها يكون بالشرع كما قلنا.
        ومن هذا يعلم أنّ الذي يخوض في علم التوحيد يجب أن يكون متّسع الآفاق ذا مدارك محيطة بشتّى أنواع العلوم كما تقدّم. ومن ذلك يتبيّن لك بطلان كلام من قال: إنّ أهل السّنة لا يعتمدون إلاّ على العقل، فهذا كذب ومحض افتراء عليهم ممّن قالـه، وفي الوقت نفسه يُفْهَمُ ممّا مرّ الردّ على من يقول: لا يجوز استخدام العقل في العقائد، بل الذي يقول بذلك إنّما هو ضعيف العقل؛ فالعقل في الإسلام معتبر ولـه مكانته، والإنسان إذا أريد مدحه يكفي أن يقال: إنّه عاقل؛ فالعقل صفة مدح ولا شكّ في ذلك.
        بل نقول: إنّ للعقل مجالاً في علم التوحيد، ولكنّه محصور في أمور بيّنها أهل السّنة والجماعة كما يفهم من كلام أساطين علمائهم، وهذا الحصر ليس تحكما منهم في العقل ولكنهم لما نظروا في فعل العقل عرفوا أن لـه حدودا وجهات لا يمكنه أن يغوصَ فيها، فجعلوها لـه حدودا لا يتعداها، وهذا التحديد منهم جار على موازين العقل نفسه.
        وأمّا الذين يردّون النّظر العقليّ على اختلاف فرقهم، فأوهموا النّاس أنّ العقل ممنوع استخدامه مطلقا في الدّين، وبذلك صوّروا الدّين بصورة ليست لـه ولا هو لـها، وحقّروا من مقام العقل حتّى أربكوا عموم النّاس، وشكّكوا الذين ينظرون إلى الدّين من خارجه، وأعطوا لـهم نظرة تعيسة عن الدّين، والحقّ الذي عليه أهل السنّة، كما مرّ، هو أنّ العقل معتبر ولكنّه محدود بحدود وجوده وطبيعته، ولا تعارض بين الشّرع والعقل أصلا، ولا يجوز القول بأنّنا نقدّم العقل على النّقل، ولا بأنّنا نقدّم النّقل على العقل، لأنّ كلاّ من القولين إنّما يُبْنَى على تسليم أمر ممنوع، وهو: وجود تعارض بين العقل والنّقل، وهذا باطل قطعا كما يفهمه النّبيه. وإذ لا تعارض فلا تقديم.
        وهذا مدخل من المداخل التي صار المجسّمة يَلِجُونَها في هذه الأزمنة كما في الأزمنة المتقدّمة، فيسألون العاميّ: هل ترجّح العقل على النّقل أم النّقل على العقل؟! ومع بطلان السّؤال أصلا، كما أشرنا، إلاّ أنّ ذا العلم الساذج والعامة ينخدعون بظاهره ويبادرون بالقول: إنّنا نقدّم النقل على العقل! وإذا تمّ للمجسم أخذ هذا الجواب من المسئول، شرع بعد ذلك يدسّ آراءه الفاسدة وأفكاره الكاسدة إلى هذا المسكين بعد أن يخوّفه من عقلـه ويضعه لـه في كيس أسود مخيف، فيلقي لـه ما شاء من نصوص يفسّرها لـه كما يشاء،
        في غفلة من تنبّه ذلك المسكين، وما أن يمضي على هذا فترة من الزّمان حتّى يصبح قد أكل مأكلـهم وشرب مشربهم، فيصبح منهم وهو يعتقد أنّه من أهل الحقّ والـهدى، وبعد هذا يصعب جدّا عليك أن توصل أمرا ما إلى نفس هذا المسكين، لأنّه سلّم عقلـه إلى غيره ليقتلـه لـه، وهو راضٍ يحسب أنه يحسن صنعا، وهو لا يدري في أيّ واد يهيم، ولا في أيّ محيط يغرق. ويصبح كتلة من التعصّب والحمق والجهل والتبجّح وهو ليس ممّن يعلمون. والبعض الآخر من العوام المعتدين بأنفسهم يفضلون الإجابة الثانية فيقولون نحن نقدم العقل على النقل ويسلمون أنفسهم بعد ذلك إلى عقولـهم القاصرة وأحكامهم الجائرة، ومن هنا ينشأ التضليل والافتراق بين الفريقين فيبادر كل منهم إلى تبديع صاحبه والتبري منه.
        وفي المقابل من هؤلاء نرى القائلين بوحدة الوجود وأصحاب العرفان، يفاضلون بين العقل والكشف لا النقل هذه المرة، ويقولون إن من يأخذ علومه من العقل، لا يرتقي إلى من يأخذ علومه ومعارفه من الكشف، ويقصدون بالكشف تلقي المعارف مباشرة من الخالق بطريق الإلهام، والكشف المباشر لهم عنها. فهؤلاء أيضا يحتقرون أصحاب النظر العقلي، ويدعون أن الكشف إذا عارضه قطعي عقلي فإننا نقدم الكشف على العقل. وينشأ عن هذه الطريقة تعصب كبير أيضا، لا من حيث القول بالتجسيم، ولكن من حيث القول بوحدة الوجود ولواحق هذا المذهب. ونرى هؤلاء يتسللون إلى عقول العامة من هذه الطريقة، والعامي إذا فاضل في نفسه بين الذي يتلقى علومه مباشرة من عند الله تعالى وبين من ينظر فيها ويتوصل إليها بعقله، فإنه يرجح جانب الأول، قطعا، ولكنه يغفل عن أنه هل يوجد فعلا من يأخذ علومه ومعارفه من عند الله تعالى مباشرة غير الأنبياء، وهل هؤلاء الذين يَدَّعونَ ذلك لأَنْفُسِهِمْ هُمْ فِعْلاً كذلك؟! والحق أنه لو وجد فإنه يتعذر عليه أن ينقل هذه المعارف التي يدعيها إلا بأن يخبر غيره بما أحس به ووجده في نفسه. فالواسطة بينه وبين من يريد أن يقيم الحجة عليه إذن ليس إلا خبره الذي هو في النهاية خبر آحاد، لا حجة برهانية فيه، خاصة إذا خالف ذلك الخبر ما قامت عليه الأدلة النقلية الظاهرة والعقلية القاطعة.
        وبعد ذلك كله، فيبقى الدليل النقلي الذي يجيز لهؤلاء المعتمدين على المكاشفة والعرفان غير قائم على جواز استدلالهم بما يجدونه على أنفسهم وعلى غيرهم، فحجتهم تبقى إذن قاصرة، هذا إذا سلَّمنا كونه حُجَّةً أَصْلاً. ودوما يتجاهل هؤلاء أننا لم نحتج أصلا بخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا لقيام الحجة التي هي المعجزة على كلامه، فأين الدليل القاطع على لزوم إتباع الناس لكلامهم؟!
        فطريقة النظر العقلي التي هي طريقة المتكلمين هي الطريقة الأصوب بلا شك ولا ريب، وهي الطريقة التي بها ينتفي التعصب، وتنعدم الضلالات ولا يركن الناس إلا إلى الأمور الواضحة القطعية، فيسيرون في حياتهم على هدى وعلم قويم. ولا يتركون مجالا لأحد كي يتلاعب بهم بأوهامه التي يحسبها نصوصا شرعية أو كشوفات إلـهية