الرحمن الرحيم
مع الاسم التاسع والعشرين من أسماء الله الحسنى والاسم هو الرحمن الرحيم، وقد عدَّ بعض العلماء هذا الاسم: اسم الله الأعظم لقوله تعالى:
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(110)﴾
(سورة الإسراء)
والحقيقة أن الرحمة التي نراها في الكون ما هي إلا تجسيد لاسم الرحمن ولابد أولاً من بعض التفاصيل وبعض التعريفات المتعلقة بهذين الاسمين ليتضح الفرق بين الاسمين منذ البدء، ولعل أحداً يسأل هذا السؤال: ما الفرق الدقيق بين الرحمن وبين الرحيم ؟ على كُلٍ سيأتي هذا تفصيله في ثنيات عرض الموضوع.
الرحمن الرحيم كما يقول الإمام الغزالي: " اسمان مشتقان من الرحمة ".
والرحمة تستدعي مرحوماً كما أن العلم يقتضي المعلوم، والرحمة تقتضي المرحوم ولا مرحوم إلا وهو محتاج، الإله لا يكون مرحوماً هو راحم، أما المخلوق فهو مرحوم لأنه ضعيف، ولأنه عاجز، ولأنه فقير لأن قيامه ليس بذاته بل قيامه بغيره، إذاً هو مرحوم، والعبد مرحوم لأنه عبد، والرب راحم لأنه رب، وأيُّ إنسان خرج عن دائرة العبودية ينسىَ أنه في حاجة ماسة إلى رحمة الله عز وجل، وهؤلاء الذين قالوا استغنينا عن رحمة السماء من قبل، جاءتهم سبع سنوات عجاف، مادمت عبداً فأنت مُفتقر إلى الله عز وجل، ما دمت عبداً فلا بد من أنك بحاجة إلى الرحمة، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير.
الشخص الذي تنقضي بسببه حاجة المُحتاج، من غير قصد أو إرادة وعناية بالمُحتاج، لا يُسمى رحيماً، قد تنقضي حاجتك عن طريق شخص فهذا الشخص ما أراد أن يرحمك، ولا يريد أن يرحمك ولن يريد أن يرحمك، لكنه بشكل أو بآخر جاءت الرحمة عن طريقه من دون أن يدري، وهذه الجهة، ولو أنَّ الرحمة جاءتك عن طريقها، لا تُسمى رحيماً لأن من لوازم الرحيم أنه يريد أن يرحم، لذلك قالوا: " رب ضارّة نافعة ".
أي أحياناً يوجد شخص يسوق الله لك الخير على يديه وهو لا يريد، بل هو يريد أن يوقع بك الأذى لكن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الإرادة الخبيثة في صالحك، إذاً الشيء الذي تنقضي بسببه حاجة المُحتاج من غير قصد ولا إرادة ولا عناية بالمُحتاج هذا الشيء لا يُسمى رحيماً. من عناصر الرحمة أن فاعلها يُريد الرحمة، هذا ينقلنا إلى موضوع دقيق هو أنك أحياناً لِسبب ما لا تريد أن ترحم، فلست رحيماً، أجل، لست رحيمـاً إلا إذا أردت وفعلت.
إذاً: والذي يدعي أنه يريد قضاء حاجة المُحتاج ولا يقضيها إن كان قادراً على قضائها لا يسمى رحيماً، لأنه لم يقضِها، ولو أراد إذاً وتمّت الإرادة لوفّى بها، وإن كان عاجزاً فقد يُسمى رحيماً باعتبار هذا الشعور الإنساني لكن هذه الرحمة ناقصة لأنها لم تتوج بالعمل.
إذاً من خلال هذا التعريف الدقيق أنت لن تكون رحيماً أي لن يرضى الله عنك ولن تكون عِندَ الله مقبولاً، ولن تكون عند الله محظياً، ولن يرفعك الله في درجات القُرب إلاّ إذا أردت وفعلت، أردت أن ترحم الناس وفعلت ما أردت، لذلك قالوا: "المعروف بالتمام ".
أحياناً تُعَزِّ مصاباً وتتباكى أمامه وتُعبّر عن مشاعرك الإنسانية ولا تُقَدّم شيئاً وهو مصاب، فما قيمة هذه المشاعر ؟ وما قيمة هذه الأحاسيس؟ وما قيمة هذه الدموع ؟ ما قيمة هذه المصافحة الحارة إن لم تقدم له شيئاً ؟ ما الذي يأسر قلبه ؟ إحسانُك.. أعرف أشخاصاً آخرين توفي والدهم وأتي الأقرباء الأغنياء ليعزوهم وليقدموا لهم أحرَّ المشاعر وأشدَّ المشاعر حُزناً وفي النهاية انصرفوا إلى بيوتهم وما قدّموا شيئاً.
فلذلك هذه المشاعر التي يُحِسُ بها الإنسان إن لم يتبَعْهَا عمل طيّب مع القدرة عليه لا قيمة لها، فقيمتها بما يتبَعْهَا من عمل طيب، هذه المشاعر لا قيمة لها ولا يُؤخذ بها يوم القيامة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنِ اسْتَجَارَ بِاللَّهِ فَأَجِيرُوهُ وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ ))
(سنن النسائي)
أي أنَّ هذه العبارات الحارة هذه العبارات الرنانة، العبارات الدافئة إن لم يتبَعْهَا بذل وعطاء وعناية فلا قيمة لها، أحياناً يأتي الابن لزيارة أمه يُقبّل يدها ويُقبّل قدمها وينصرف إلى بيته وإلى أولاده وإلى زوجته ولا يُقدّم لأُمِهِ شيئاً إلا هذه العبارات المعسولة، هذا العمل لا يُعتدُّ به لأنه مبني على موقف ذكي وليس موقفاً فيه تضحية مادية.
قال العلماء: إنما الرحمة التامة أن تُفيض عطاءك على المُحتاج، أن تريد وأن تفعل حتى تُسمى رحيماً، ولا تنسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( تخلقوا بأخلاق الله ))
الله سبحانه وتعالى رحيم، يعني إذا أمَّنت حاجات الناس، مثلاً لك أقرباء أسبغت عليهم، أعطيتهم مما أعطاك الله عز وجل، قدّمت لهم بعض الحاجات في أوقاتها المناسبة، في أيام الشِدة كنت معهم، فهذا الذي يرقى بك عند الله عز وجل.
الآن: هُناك رحمةٌ عامة، وهناك رحمةٌ تامة، الرحمة التامة ما توافرت فيها الإرادة والعمل، الرحمة العامة ما أصابت المُستحق وغير المُستحق، يعني أحياناً تهطل أمطار غزيرة، هذه الأمطار تُفيد الناس جميعاً، فهذه الرحمة العامة، لكن الرحمة الخاصّة لا ينالُها إلاّ المُستحق.
أضرب لكم مثلاً يُقرِّب المعنى، أب له خمسة أولاد، كل هؤلاء الأولاد يأكلون الطعام على المائدة، وكلهم يلبسون ثياباً، وكلهم ينامون على أَسرّة وثيرة وفي غُرف دافئة، الأب يُعطي كل أولاده بالتساوي فرحمته عامة، لكن أحد هؤلاء الأولاد على قُرب شديد من الأب فهو يبر أباه براً شديداً وإخلاصه لأبيه ملموس، وذو وفاء متميز، فالأب أحياناً يَخُصّ هذا الابن بأشياء خاصّة.
يعني كما قال الله في الحديث القدسي:
(( عبدي لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ))
مؤمن، وغير مؤمن تأكل وتشرب وتستمتع بالطعام والشراب والماء البارد والدفء والبرودة والمناظر الطبيعية، وتستمتع بالأهل والأولاد، وفي كل بيت أولادٌ صغار، والآباء يستمتعون بأبنائهم الصغار بحركاتهم وسكناتهم ولكن أن يتجلّى اللهُ على قلبك، وأن يملأ قلبكَ نوراً، وأن يُقرِبَكَ إليه، هذه رحمة خاصّة، هذه لا ينالُها إلا المُستحق، فلله في خلقه رحمة عامة ورحمة خاصة، الرحمة العامة ينالها كل الناس قال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
(سورة البقرة)
يعني أن تستمتع بالحياة، وأن تأكل ألذَّ الطعام، وأن تسكن في بيتٍ مريح، وأن تكون لك زوجة تروق لك، وأن يكون لك دخلٌ وفير وأن تشعر أنكَ متفوق على الناس، فإيّاك أن تظن هذه رحمة، لأنَّ الله يُعطي الدنيا لمن يُحب ولمن لا يُحب، هذه رحمة عامة ينالُها كلُّ الناس:
((عبدي لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك))
تأكل وتشرب وتستمتع بالأهل والأولاد والطعام والشراب والبيت المريح والدفء والمكانة والسُمعة، والتألُّق والنجاح، والتفوق، فليسَ هذا إيثاراً في الحقيقة، الإيثار أن يَخُصَكَ الله برحمةٍ خاصّة:
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾
(سورة يوسف)
الرحمة الخاصّة أن يتجلّى الله على قلبك، فتمر عليك ساعة لا تعدلها الدنيا وما فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: لي ساعة مع ربي لا يسعني فيها نبي مرسل ولا ملك مقرب، أبيت عند ربي يطعمني ويسقينِ.
أيها الأخ الكريم: اسأل نفسك هذا السؤال، عطاؤك من الله من أي نوع، قد يكون العطاء من نوع عطاء قارون، إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحة لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقد يكون عطاؤك من نوع عطاء فرعون، ولكن البطولة أن يكون عطاؤك من نوع عطاء سيدنا موسى، وسيدنا يوسف:
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)﴾
(سورة يوسف)
هناك اجتباء، وهناك تقريب وهناك مقعد صدق عند مليك مقتدر وهناك نور يقذفه الله في قلبك، فترى به الخير خيراً والشر شراً هناك شعور أن الله يحبك، هناك مشاعر لو وزعت على أهل بلد لأسعدتهم، إنّ رجلاً من إخواننا الكرام ذهب لأداء فريضة الحج ولما عاد، قال لي كلمة وأظنه صادقاً فيما يقول: قال لي: والله ليس في الأرض من هو أسعد مني.. مبالغة، إلا أنه قال إلا أن يكون أحدٌ أتقى مني، وهو فقير ولا يملك من الدنيا سوى نقير، ومع ذلك أقسم بالله أنه ليس في الدنيا من هو أسعد منه إلا أن يكون أحدٌ أتقى منه، هذه الرحمة الخاصة، يعني قد يعطيك المال ويجعل قلبك ممتلئاً بالقلق، قد يعطيك الصحة وتكون أشقى الناس قد يبوئك أعلى مكانة في المجتمع ولا تكون عند الله مقبولاً، حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام لسيدنا معاذ بن جبل قال:
أخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبي مسلم رضي الله عنه قال: لقيت معاذ بن جبل رضي الله عنه بحمص فقلت: والله إني لأحبك لله. قال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((المتحابون في الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، هذا عطاء أن يحبك سيد الخلق " اِرْمِ سعد فداك أبي وأمي هذا خالي فليُرِني أحد خاله ))
يعني إذا كانت لك مع الله مودة، سَهَرُ الليالي، غَضُّ البصر إنفاق الأموال، حضور مجالس العلم، في هذه الأجواء الباردة والطرقات الصعبة، حينما تسعى بشدة على رجليك إلى مجلس علم، حينما تتفقد اليتامى والفقراء والمساكين في ظلمات الليل، حينما تشمر وتنهض للعمل الصالح، حينما تقدم شيئاً ثميناً لأخيك المؤمن، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا ))
هذه الجهود المتتابِعة، المتراكمة، الكثيرة المديدة، هذه الجهود تتوج بما يسميه العارفون بالله بتجليات إذ يتجلى الله بها على قلبك فتشعر بالسعادة، لو جلست مع أناس مقطوعين عن الله عز وجل لرأيتهم مقهورين، لرأيتهم ضائعين، لرأيتهم شاردين، لرأيتهم حائرين، رأيت أمرهم فُرُطاً، رأيتهم متشككين، رأيتهم متشائمين، رأيتهم متمزقين، ترى الدنيا عندهم عريضة لكن الله حرمهم من سعادة القُرب.
وما أكثر ما ذكرت هذه الواقعة وكررتها: هذا الذي وقع في منزلق طفيف فوقع في الحجاب عن الله عز وجل، فصار ينتظر مصيبة بحسب ما يعلم، فلما تأخرت المصيبة ناجى ربه فقال يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني، فوقع في قلبه أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ ألم أحرمك لذة مناجاتي.
هذه الجهود لها مردودها الطيب، فمثلاً شاب في مُقتبل الحياة من المسجد إلى البيت إلى العمل، بينما بقية الشباب في سهراتهم المنحطة وفي أفلامهم الخسيسة وفي مزاحهم الرخيص، وفي لعبهم للقِمار، وفي إطلاق كلمات السوء في الطرقات للفتيات، أنت من البيت إلى المسجد ومن العمل إلى المسجد، من تلاوة القرآن إلى حديث رسول الله، ومن خدمة زيد إلى خدمة عبيد، هذا الإنسان مع هذه الجهود الكبيرة، عندئذ يجعل الله قلبه مستقراً لأنواره.
لذلك:
(( أولياء أمتي إذا رُؤوا ذكر الله بهم ))
بمجرد أن تقع عينك على مؤمن صادق الإيمان يُحس الناظر برعشة في قلبه، كأنه تذكر الله عز وجل، هكذا قال عليه الصلاة والسلام.
(( أولياء أمتي إذا رُؤوا ذُكر الله بهم ))
هذا الموضوع يُذكِرُنا بمعيّة الله العامة والخاصّة ما دُمنا قد تحدثنا عن رحمة الله العامة، العامة موجودة لجميع الناس، العامة أن تتنفس الهواء وتشرب الماء وتأكل الطعام، وتنام على فراش، والقلب منتظم والرئتان والكليتان، والعضلات والأعصاب والأولاد في البيت والزوجة والعمل، هذه رحمة عامة، هذه يستوي فيها المؤمن وغير المؤمن وقد تجد غير المؤمن متفوقاً كثيراً في هذه الأنواع على المؤمن، ولكن الرحمة الخاصة، حينما يُلقي الله في قلبك نوراً، حينما يُعلِّمُكَ الله، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه، حينما يُلهِمُكَ الله سواء السبيل، حينما يُلِهِمُكَ الله رشدك، حينما يُقيّض الله لك مَن حولك لتكون معهم في معيّة وفي صحبة طيبة، حينما يجعل الله بركة في مواقعه وعند أهل الحُفّاظ لا عند أهل الجحود، هذه رحمة الله عز وجل، هذا يذكرنا بمعيّة الله العامة ومعيّته الخاصة، وذكرت من قبل أن الله مع كل مخلوق كائناً من كان بدليل قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
(سورة الحديد)
مع المؤمن والكافر والمُلحد والشقي والسعيد والعاصي والطائع والخسيس والقذر والنظيف والطاهر، مع كل هؤلاء، لكن هناك آيات:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)﴾
(سورة التوبة)
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)﴾
(سورة البقرة آية 153)
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)﴾
(سورة المائدة)
البطولة أن تنال معيّته الخاصة، والبطولة أن تنال رحمته الخاصة، الرحمة العامة، أنت كأب لو أن أحد الأولاد لا سمح الله ولا قدّر كان عاقّاً وقاسي الكلمات وحاد النظرات، هو متجهّم دائماً يرد الكلمة بعشر كلمات يأتي وقت الطعام تقول له بلسان المبغض: اجلس كُلْ، كُلْ لكني لا أحبك كُلْ، خُذْ ما تريد، خذ كل هذه الحاجات، لكن الابن البار نظرة حانية من أبيه لا تُقدّر بثمن، نظرة حانية منه، كلمة رضي الله عنك، هذه من قلب ممتن هذه لا يعدلها شيء، فلذلك أيها الإخوة القراء البطولة لا أن تنال رحمته العامة كأن تستنشق هواء وتأكل وتشرب وتنام وتتزوج وتعمل وتكسب المال، هذه قدر مشترك بين جميع الناس، لقول النبي الكريم:
(( إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ))
لكنَّ الشيء الذي يجب أن تسعى إليه هو رحمتَه الخاصة، بأن يُعلِمُكَ، وأن يُلقي في قلبك نوراً، وأن يُعلِمُكَ من تأويل الأحاديث، أن يُلهِمُكَ الحِكمة، أن تضع الشيء المناسب بالقدر المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب مع الشخص المناسب، قال تعالى:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾
(سورة البقرة)
أن يُعلِمَكَ وأن يُؤتيك الحكمة، وأن يرزُقُكَ طيباً، وأن يستعملك صالحاً، وما أكثر ما أذكّر أخوتي وجلسائي بالفكرة التالية:، إن رأيتُ إنساناً له عمل شريف يخدم به المسلمين أقول له: " إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك ".
لك مهنة شريفة مشروعة، تخدم بها الناس، تتقاضى أجراً معتدلاً تنصحهم، هذا عمل شريف، وظفك الله في بعض الوظائف الدينية جعلك تعلم الناس التجويد، فهذا جميل، جعلك تعلم الناس الفقه فهذا أجمل جعلك تعلم الناس القرآن، وجعل الخير على يديك، فهذه قاعدة، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما استعملك.
انظر عملك، هل أساسه الرحمة بالناس أم الإضرار بهم، أساسه بث الأمن في الناس أم سلب الأمن من الناس أساسه العطاء أم الأخذ، أساسه الطمأنينة أم القلق أساسه أن ترحم أم أن تقسو، فلذلك يعني هناك أشخاص لو عُرِضَ عليهم مبالغ فلكية، على أن يكونوا في أعمال تقوم على إيذاء الناس لا يرضون.. بل يقول: معاذَ الله، الله الغني، الله الكريم، أنا أعيش على آلام الناس أنا أبني مجدي على أنقاضهم، أأبني غناي على فقرهم وأبني طمأنينتي على قلقهم، وأبني حياتي على موتهم، معاذَ الله، الله الغني.
إذاً: الرحمة الخاصّة مشروطة بالطاعة والمجاهدة وبذل المال ومعاونة الضعيف ورحمة اليتيم، ومعاونة الأرملة، وتفقّد الجيران وحضور مجالس العلم وغض البصر والذِكر والتلاوة، هذه قنوات تصلك من خلالها الرحمة الخاصّة وتشعر أنك إنسان متميّز، لك عند الله مكانة هذه المكانة تتبدى في اللُطف، وفي الحِفظ وفي الرعاية، لذلك قالوا معية الله الخاصة: النصر والتأييد والحفظ والتوفيق، تشعر بها، تلمسها بيديك فحينما يكون شخص أثيراً عند شخص ذي مكانة تراه يشعر بشعور عجيب كأنه فوق الناس جميعاً، فهو قريب من شخص مهم، وإذا التقطتْ له صورة بصحبة تلك الشخصية ازدهى نفْساً وتعاظمَ ويقول مثلاً البارحة كنا معاً على العشاء، فكيف إن كانت لك مع خالق الكون مودة ؟ قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
(سورة مريم)
كيف إذا كان اللسان طليقاً في ذكر الله، كيف إذا كان البيان ساطعاً في فهم كلام الله أو في تفسير كلام الله عز وجل، فيا أيها الإخوة القراء الكرام رحمة الله الخاصّة، تحتاج إلى مجاهدة، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ))
جهاد النفس والهوى..
الآن هناك شيء سنسميه تحفّظاً ؛ الإنسان إذا رَحِمَ إنساناً يقول لك تمزَّق قلبي لمنظره وبؤسه، فقد ترى طفلاً صغيراً واقفاً على قارعة الطريق الساعة الحادية عشرة في البرد الشديد ليبيع الخُبز أو غيره، ألا تشعر برحمة ؟ ألا تُحِسُ بتمزّق ؟ أين أهله ؟ لعلهم محتاجون فالواجب التخفيف عن هؤلاء وهذه رحمة. إن المسلم إنسان يمتلئ قلبه بالرحمة ويدرك أنه من لا يَرحم لا يُرحم.. فإذا شعر رجل أنه سبب في شقاء الآخرين أو أنه يستطيع أن يخفف عن الآخرين آلامهم وبؤسهم ثم لم يفعل هذا الشعور يشقيه إلى الأبد...
التعليق: الإنسان عندما يقف أمام حالة بائسة يُحِسُ أنه يكاد يتفطُّر قلبُهُ، يُحِسُ أنه يتمزق في أعماقِهِ، يُحِسْ بمشاعر رحمةٍ معينة، يا ترى رب العالمين، هل تعتريه هذه المشاعر، لا !! هو منزّه عن هذا لأنه إله، لكنه يرحم كل خلقه.
والشيء الثاني: عندما الإنسان يرحم مخلوقاً معذّباً فإنما يرحمه حتى يُريح نفسه مما اعتراه من مشاعر منغصة، فهذا ضعف فيه، لكنَّ الله عز وجل يرحم لمصلحة المخلوق لا لمصلحة الراحم، نقطتان مهمتان يعني مشاعر الرحيم من بني البشر فالله سبحانه وتعالى مُنزّهٌ عن مثل هذه المشاعر، وحينما تندفع لرحمة مخلوق فاندفعك هذا كي تستريح، إذاً هذه الرحمة معلولة، أنت بهذا العطاء تبتغي راحة نفسك، لكنَّ خالق الكون يرحم مخلوقاته ليرحمهم، لا يرحمهم ليتخلّص من شعور محصن اعتراه لا... فالله عز وجل مُنزّه عنه.
ثم إننا نلج باب موضوع دقيق جداً ؛ الفرق بين الرحمن والرحيم.
فبعض العلماء قال: الرحمن في ذاته، اسم من أسماء ذاته والرحيم في أفعاله وبعضهم قال الرحمن في الدنيا والآخرة، على كلٍ القضية تحتاج إلى تفصيل وإيراد أمثلة، أُم وأب، وابن يده اسودّت، هذا مرض الموات وعلاجه قطع يد الابن، الأُم ترفُض أشدَّ الرفض أن تُقطَع يده، الأب يُصر أشدَّ الإصرار على قطع يده فأيهما أشدُ رحمة ؟ الأم تبكي وتصرخ، والأب ساكت مُصِرّ على قطع يده، لأن الأب عالم بالعقابيل والأم مُصِرَّة على عدم قطع يده، الحقيقة الأب أشد رحمة لأنه بهذا الضرر المحدود ينفع كامل البدن، فيخلصه من أن يسري الداء ويتفشى في سائر الجسم، أما الأم فرحمتها المؤقتة بابنها تكون قد أودت به وأوردته المهالك فمعنى رحمن:
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45)﴾
(سورة مريم آية 45)
وهذا سؤال كبير جداً، يا أخي الله رحيم، وهذه الزلازل وهذه الفيضانات، وهذه المجاعات، وهذه الحروب الأهلية في العالم وهذا القهر وهذا الفقر وهذه الأمراض الخطيرة، يحتار في أمرها المرء ويذهل دونها فهذه كلها التي تؤذي عينك مصدرها من الرحمن، لأنَّ الرحمن يشمُل الدنيا والآخرة، الإنسان إذا مرض فهذا من مصائب الدنيا فقط ؛ فالفقر مُؤلم والمرض مُؤلم، والحرمان مُؤلم، والقهر مُؤلم، والذُلْ مُؤلم، أما إذا كان هذا الحرمان سبباً لعطاء مديد إذا كان هذا الإضرار سبباً لنفع طويل، إذا كان هذا القبض سبباً لبسط كثير، فهذا إذاً ضُرُّ لمنفعة لذلك إذا رأيت شيئاً أمراً مؤذياً فاعلم أن الله سبحانه وتعالى يَضُرّ لِينفع، ويأخُذ لِيُعطي ويبتلي لِيَجزي، ويُذِل لِيُعِز، ويقبض لِيَبسِط لذلك أجمل كلمة قالها بعض العارفين: " الشر المطلق لا وجود له في الكون ".
ما معنى الشر المطلق ؟ الشر الذي يُبتغى لذاته.
الأب الطبيب العالم الذي قلبه يمتلئ رحمة يصر على قطع يد ابنه، يتلافى الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، هذا المثل يجب أن يكون واضحاً جداً عند الإخوة القراء الأكارم؛ كل أنواع المصائب في الدنيا، كل أنواع الرزايا كل أنواع الابتلاء، هذا كله ضرر أقل تلافياً لضرر أشد هل هناك آية قرآنية تؤكد هذا المعنى، قال تعالى:
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾
(سورة السجدة)
الله عزَّ وجل رحيم ورحمن، رحيم يمتعك بالصحة، رحيم يمنحك المال، رحيم يوفر المأوى، رحيم يبث فيك الراحة النفسية، لكنه رحمن ينظر إلى آخرتك فيأخذ بيدك للعمل الصالح، وينظر إلى هذه الحياة الأبدية لتسعد بها، التي سوف تحياها، ولمصلحة هذه الحياة الأبدية ربما يُذهب كل مالك.
ذات مرةٍ قال لي شخص وأَقْسَم: أن له بيتاً تزيد مساحته عن خمسمائة متر، وله حدائق يقوم على أمرها والعناية بها موظفون وما أدخل إلى بيته فاكهة إلا بكميات كبيرة، وعنده طباخ وعنده خدم وعنده حشم وله ثلاث مركبات، وله تجارة واسعة وعنده معمل ألبسة، وبعد حين رأيته في بعض أحياء دمشق الفقيرة، قال أنا أنام على طاولة التفصيل وآكل من هذه العلبة، بلا صحن، كيف سُلب ماله كله.. قصة طويلة فإزاء هذه الواقعة هل نحن أمام رحمن أم رحيم ؟، رحمن، لأنَّ هذا الشيء لمصلحة آخرته، كان لا يصلي، وكان يشرب الخمر، ويعتدي على أعراض الناس باعترافه الشخصي، فأراد الله عز وجل أن يَرُدَّهُ إليه سلبه كل المال. واللهِ الذي لا إله إلا هو، كل قصة تسمعها، تُعد هي بنفسها قرآناً لأنه ماذا قال الله عز وجل:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
فكأن هذه الحادثة تُجسّد هذه الآية، لذا أيها القارئ الكريم أن البطولة تأتي رَبَّك طوعاً، وأن تأتيه راغباً، وأن تأتيه مختاراً، وأن تأتيه بمبادرة منك، أن تأتيه وأنت صحيح، أن تأتيه وأنت شاب، أن تأتيه وأنت لك مكانة، أن تأتيه وأنت في وظيفتك لا بعد التقاعد، بعد أن ولّت الدنيا وأصبحتَ هرماً، يتنقل من مسجد إلى مسجد لعله يبحث عن مكان مريح، وأنت في كامل عافيتك البدنية والمالية أغدُ إلى بيت الله واسع إلى مرضاة اللهَ.
رحمن الدنيا والآخرة، من أجل سعادتك في الآخرة قد يصرف عنك الدنيا كلها، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، لكن اُدع الله عز وجل أن يرزقك الدنيا والآخرة، والدعاء القرآني:
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)﴾
(سورة البقرة)
إنّ الله عز وجل يقول:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)﴾
(سورة النساء)
إنّ الإمام الغزالي له كلمة رائعة جداً يقول:" لعلك تقول ما معنى كونه تعالى رحيماً وكونه أرحم الراحمين، والرحيم لا يرى مبتلى ولا مضروراً ولا معذباً ولا مريضاً وهو يقدر على إماطة ما بهم إلا ويبادر إلى إماطته، والرب سبحانه وتعالى قادر على كفاية كل بلية، ودفع كل فقر وغمة، وإماطة كل مرض، وإزالة كل ضر والدنيا طافحة بالأمراض والمِحن والبلايا، وهو قادر على إزالتها جميعها ".
لماذا لا يفعل ؟.. هُنا السؤال.. كم مصيبة في الأرض، كم ضائقة، كم من حالات صعبة جداً والله قادر وبيده كل شيء، كُنْ فيكون، قال الجواب: إنَّ الطفل الصغير قد تَرُقُّ له أمه فتمنعه من الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهراً، والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته، وأن الأم له عدو في صورة صديق.
الرحيم مع الجهل عدو في صورة صديق، أحياناً يقول الأب لابنه سأدعه ينبسط، فبعَثُه إلى إنكلترا وأعطاه مائتي ألف، أب ميسور اذهب يا بني وانبسط، هذا عدو.. إذا عاد الابن زانياً أو عاد شارباً للخمر أو عاد وهو يحتقر أمَّته ويرى أن أولئك الذين كان عندهم هم الذين يحيون وحدهم في هذه الدنيا، وانتهى دينه إلى ضياع نهائياً، فهذا الأب عدو في صورة صديق، وكل إنسان يدعوك إلى أن تستمتع بالدنيا ولكن على حساب طاعة الله عز وجل فهذا عدو بصورة صديق.
لذلك ربنا عز وجل يقسو أحياناً لمصلحة آخرتك، قد يقول قائل: مصيبة، نعم ؛ تصيب الهدف، وأنا أقول دائماً الله عز وجل إذا أراد أن يداوي مخلوقاً يعلم كيف يداويه ومن أي زاوية أرد يداويه، من المكان الصعب، من المكان الحرِج، من حيث هو مطمئن، يُؤتى الحذر من مأمنه، لا ينفع حذر من قدر.
طبيبُ قلبٍ في أمريكا، عدَّ الجريَ هو الوقاية التامة للقلب وألَّفَ مقالات وأجرى محاضرات وهو يجري في اليوم ساعتين أو أكثر وكأن الجري هو إله يحميه من كل مرض، مات وهو يجري.
الجري مفيد جداً، وليس هذا غلطاً، لكن حينما ألّهَ الجري وعدَّه هو السبب الكافي والشافي، فالله عز وجل خيّبَ ظنه.
ترى أحياناً إنساناً باختصاصه يُصاب، ما هو السبب ؟ لأنه متَّكل على اختصاصه متَّكل على علمه، متَّكل على خبرته، فجاءه من مكان طمأنينته، من مكان أمنه.
هذا الموضوع دقيق الدلالات جداً، الله سبحانه وتعالى خلقك للآخرة، لذلك يمكن أن يضحي لك بدنياك كلها، من أجل آخرتك، لكن أنت إذا كنت مُفلحاً وموفقاً اطلب منه، واضرع إليه أن يجمع لك بين الدنيا والآخرة، يعني إئته طوعاً، ارغب فيما عنده حتى يُطمئِنُكَ في الدنيا والآخرة هذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
إن الآية التالية يجب ألاّ تبرح أذهانكم أيها القراء الكرام اطلاقاً لا بنطوقها ولا بمضمونها:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾
فالله غني لماذا يُفقرك ؟ لماذا يُضيّق عليك إلا حُباً بك ورحمة بك ودفعاً بك إلى باب عبوديته.
الكلمة اللطيفة كما قال بعضهم: الألم القليل إذا كان سبباً لِلذّةٍ دائمة ليس شراً بل هو خير.
قالوا: الرحيم هو الذي يريد الخير للمرحوم، وليس في الوجود شر إلا وضمنه خير، شرٌ مطلق لا يوجد في الكون.
مثلاً فتح البطن واللهِ عمل مزعج، إنسان أدخل المستشفى فأحضر الطبيب مشرطاً وذَبَحَ اللحم، نفر الدم، أخذتَ الملاقط، لقطتَ الأوعية كلها، أتيتَ بالمشدات شددْتها، دخلتَ للزايدة استأصلتها، هذا عمل ظاهره فيه قسوة ودماء، ولكن باطنه رحمة، لأنها إذا أهمل ثم انفجرت مشكلةٌ كبيرةٌ جداً، كالتهاب الزايدة فيبادر ذووه مباشرةً إلى المستشفى، أرحم الناس وأقرب الناس يقول: مباشرةً إلى المستشفى هناك فتح بطن، وقطع، ووصل، وخياطة، وتخدير، طبعاً هذه الرحمة ما دُمتَ تفهم أن كل المصائب التي تأتي هي من نوع فعل الطبيب الرحيم فأنت على حق.
لذلك ؛ أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد والسيئة بمثلها وأعفو وأنا أرحم بعبدي من الأم بولدها.
وبعد، فقبل أن أختم البحث، هناك سؤال يلح علينا: إن خَطَرَ لك نوع من الشر لا ترى تحته خيراً، أو خَطَرَ لك أنّ تحصيل ذلك الخير كان ممكناً من دون اتباع أساليب الإيلام ؟ فماذا تفعل.
إنْ رأيت مصيبة هينة وأمرها بسيط، وإذا بدا لك نوع من الشر لا ترى تحته خيراً أو خطر لك أنه كان من الممكن أن يكون هذا الخير من دون ذلك الشر ؟ ما الجواب.. قال العلماء: فاتَّهم عندئذٍ عقلك القاصر وقل أنا فهمي محدود وعقلي قاصر عن رؤية الغد، مستحيل أيها الإخوة مستحيل أن تكون مصيبةٌ بالأرض بلا سبب، أو بلا خير ضمني، أو بلا هدف نبيبل، أو بلا غاية عُظمى، لكن الشر المطلق لذات الشر فهذا شيء لا يُمكن أن يكون له وجود في الكون كله، فكل شيءٍ وقع أراده الله، وكل شيءٍ أراده الله وقع وإرادة الله عزَّ وجل مُتعلقة بالحِكمة المُطلقة وحِكمته مُتعلقة بالخير المُطلق، والدليل:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
(سورة آل عمران آية 26)
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾
لم يقل والشر، الإعزاز خير، الإذلال خير إيتاء المُلك خير، سلب المُلك خير، أما إذا قلت إِن هذا الشر لا خير تحته أو لا خير وراءه، قالوا فإنّ: هذا مما تقصر العقول عن معرفته.
لقد أسمعت لو ناديت حيـــــاً ولكن لا حياة لمن تنادي
ونار لو نفخت بها أضــــاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
***
يعني إذا شخص آتاه الله عِلماً وبصيرةً وآتاه قُدرةً على تفسير المصائب تفسيراً يليق بذات الله عز وجل وأسمائه الحسنى، فهو راضٍ بقضائه وقدره، ويرى يد الله تعمل في الخفاء، ويرى يد الله فوق أيدي الناس، فإذا الإنسان ابتعد عن التوحيد يقع في آلام لا تُحتمل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلَاءَكُمْ وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا ))
(سنن الترمذي)
إنّ الإنسان إذا لم يُوّحد يقع في شقاء لا نهاية له، والتوحيد ألاّ ترى مع الله أحداً، وأن ترى كل شيء ينتهي إلى خير،
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾
وأن تدعو الله عزَّ وجل أن يرحمك في الدنيا والآخرة، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة